الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَحَنَاناً مّن لّدُنّا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَحَنَاناً مّن لّدُنّا يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة: رحم الله بها زكريا، وقال مجاهد: وَحَنَاناً مّن لّدُنّا، وتعطفاً من ربه عليه.

والظاهر من السياق أن قوله: وحناناً معطوف على قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً أي وآتيناه الحكم، وحناناً، وزكاة، أي: وجعلناه ذا حنان، وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة، وميل".

الحنان معناه: الرحمة، والتعطف، وبعضهم يقول: بأنه مأخوذ من حنين الناقة لولدها؛ حنت لولدها، وهي تفعل ذلك تعطفاً عليه، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا ذكر قولين المعنى الأول وَحَنَاناً مّن لّدُنّا أي أن ذلك من صفة الله ، ومن أسمائه كما ذكره بعض أهل العلم وَحَنَاناً مّن لّدُنّا أي: أن الله آتاه رحمة منه رحمه بها، فيكون ذلك صادراً من الله، والمعنى الثاني: أن ذلك معطوفاً على وآتيناه الحكم صبياً، آتيناه الحكم وآتيناه الحنان، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن ذلك يعود إلى الله - تبارك وتعالى - أي أن الحنان صادر من الله إلى يحيى وهو يقول: رحمة منا، ومحبة له، وعليه عامة المفسرين وهو أن قوله: وَحَنَاناً مّن لّدُنّا أنه معطوف على قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً آتيناه الحكم وحناناً يعني أعطيناه حناناً أي رحمة يرحم بها والديه، وقراباته، ويرحم بها الناس، وهذا يكون من الكمالات التي أعطاه الله إياها يعامل الناس برحمة يجدها في قلبه، وكثير من الناس قد لا يكون كذلك قد نزعت الرحمة من قلبه، أو هي ضعيفة لا يتعامل مع الناس بتعامل لربما يكون فيه شيء من القسوة، أو لربما يتعامل معهم تعاملاً مادياً صرفاً من غير أن يجد لهم من نفسه تعطفاً وحناناً ورحمة، فلا شك أن النبي حينما يكون موصوفاً بهذا الوصف فإن ذلك هو الكمال، والله قال عن النبي ﷺ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]، وتجدون في القرآن كثيراً: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [سورة الكهف:6]، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] وما شابه ذلك كل ذلك من رحمته ﷺ بهم، وهذا أدعى إلى قبول الناس، فالناس يميزون بين الصادق الذي يشعر بهم، ويشعر بآلامهم، وهمومهم، وبين غير هذا، فالذي يشتغل بالدعوة إلى الله ، أو يشتغل بالطب؛ هذان ينبغي أن يكون الواحد منهم أولى الناس بهذه الأوصاف، فالناس يأتون إلى الأطباء بآلامهم فيحتاجون إلى الكلمة الحانية، والداعية الذي يعالج علل الناس أيضاً يعالج قلوبهم بحاجة إلى هذه الرحمة والإشفاق على هؤلاء، وأولى الناس بهذا هم الضعفاء في المجتمع، ومن له حق كالوالدين، ولهذا قال الله عن السائل، واليتيم: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۝ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [سورة الضحى:8-9].

"وقوله: وَزَكَاةً معطوف على وحناناً، فالزكاة الطهارة من الدنس، والآثام، والذنوب، وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح، وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي، وقال العوفي عن ابن عباس: وَزَكَاةً قال: بركة".

قال: وَزَكَاةً "معطوف على حناناً" أي: آتيناه الحكم، وآتيناه الحنان الذي يرحم به الناس، وآتيناه زكاة، والزكاة تأتي بمعنى الطهارة، والنماء، فهنا يقول: "فالزكاة الطهارة من الدنس، والآثام، والذنوب، وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح، وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي"، وهذا كله يرجع إلى شيء واحد بمعنى الطهارة قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [سورة الشمس:9] أي: طهر نفسه، وهذبها بطاعة الله .

فتزكية النفوس تكون بالإيمان، والعمل الصالح، فمن فسره بالعمل الصالح فهذه هي تزكية النفس، ومن فسره بأصل المعنى فقال: وَزَكَاةً يعني طاهرة، فإنما تكون الطهارة بالعمل الصالح، فهذا كله من قبيل الاختلاف في التنوع، ومن نظر إلى المعنى الثاني في الزكاة وهو النماء قال: بركة، والبركة هي النماء، والزيادة، فالأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوله: وزكاة يعني تزكية، وطهارة من الأدناس، أدناس الشرك، والذنوب، والمعاصي.

"وقال: وَكَانَ تَقِيّاً طاهر فلم يهم بذنب، وقوله: وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة، وزكاة، وتقياً؛ عطف بذكر طاعته لوالديه، وبره بهما، ومجانبته عقوقهما قولاً، وفعلاً، أمراً، ونهياً".

هذه نتائج لما سبق لـ وَكَانَ تَقِيّاً هذا بناء على ما أعطاه الله من الزكاة، ويزكيهم أي يطهرهم، ويهذب نفوسهم من الأدناس، والأرجاس.

يقول: وَكَانَ تَقِيّاً "أي طاهر فلم يهم بذنب"، قوله هذا جاء في بعض الأقوال المروية عن بعض السلف أنه لم يهم بذنب، وقوله تعالى: وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً هذا نتيجة ما أعطاه الله من الحنان، والجبار يأتي لمعاني متعددة، وقوله: وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً هذا نتيجة كونه تقياً.

وكلمة جبار في اللغة تأتي بمعنى الطويل يقال: نخلة جبارة، وتأتي بمعنى الجبر الذي هو جبر الكسير والضعيف، ويأتي بمعنى القهر والعسف، والتسلط من الجبروت، والذي يظلم الناس، وقد يقال للذي يقتلهم بغير حق، ولهذا جاء في ما وقع لموسى - عليه الصلاة والسلام - لما جاء إلى المدينة فوجد إسرائيلي مع قبطي يقتتلان قال: أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:19]، فالشاهد وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً المقصود أنه إنسان متسلط من غير حق، والظالم الذي يهضم حقوق الناس، ويعاملهم بالقهر، والعسف.