قوله: وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ كلمة السلام هذه يحتمل أن يكون المراد بها التحية، ويحتمل أن يكون المراد بالسلام الأمان، وابن كثير - رحمه الله - يقول: "أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال"، وهذا الذي اختاره ابن جرير أيضاً، وفسره بعضهم كابن عطية بالسلام المعروف التحية، وهذه التحية في معناها وما تضمنته هي تضمنت إلقاء هذا الاسم الكريم على الناس، وكلمة السلام متضمنة للدعاء بالسلامة، كما تتضمن الإخبار بذلك، فكأن المسلم يؤمن الناس منه، وأنه لا يصل إليهم مكروه من قبله، هذه ثلاثة أشياء.
وعلى قول ابن عطية أنها التحية المتعارفة؛ يمكن أن يقال أيضاً هذه التحية المتعارفة تتضمن تأمينه، وتسليمه من الآفات، والشرور، والقول بأن ذلك هو الأمان هو الذي قال به الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.
كلام الإمام سفيان الثوري - رحمه الله - يبين سبب تخصيص هذه المواضع الثلاث بالذكر، والإنسان حينما يفارق بطن أمه يفارق المحل الذي اعتاده، وألفه، ويخرج إلى عالم جديد، وحينما يموت يفارق ما ألفه من الوطن، والأهل، والعشيرة، والدار؛ إلى عالم آخر هذا أمر يستوجب الوحشة، وحينما يقوم من قبره، ويخرج إلى عالم آخر؛ يحتاج إلى الآمان.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قال الله - تعالى -: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، وقوله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم:33]، قيل: ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح - صلوات الله عليهما - بهذه الأوقات الثلاثة؟
فَسِرُه - والله أعلم - أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب، ومواطن الوحشة، وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة؛ فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد، وطلبها أهم، والنفس عليها أحرص، لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها، موطِّن النفس على صحبتها، وسكناها؛ إلى دار هو فيها معرض للآفات، والمحن، والبلاء؛ فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها، وشدائدها، ولأوائها، ومحنها، وأفكارها؛ كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه | إلى هذه الدنيا إذا هو يولد |
تجد تحته سراً عجيباً كأنه | بكل الذي يلقاه منها مهدد |
وإلا فما يبكيه منها وإنها | لأوسع مما كان فيه وأرغد |
ولهذا من حين ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك، ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول، وهو الذي أدركه الأطباء، والطبائعيون، وأما ما أخبر به الرسول ﷺ فليس في صناعتهم ما يدل عليه، كما ليس فيها ما ينفيه، فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت، ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً، وتمثيلاً، وإلا فالأمر أعظم من ذلك، وأكبر، وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء، ولا نسبة لما قبله من الدور إليه، وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله؛ فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد.
فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها، واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار، وكنوز العلم، والمعارف؛ التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها، وتأمل ما في السلام من الزيادة على السلامة من الأنس، وذهاب الوحشة، ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس، إلا ما قدمه من صالح عمل، وعند موافاته القيامة مع الجمع العظيم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها، فأي موطن أحق يطلب السلامة من هذه المواطن.
فنسأل الله السلامة فيها بمنه، وكرمه، ولطفه، وجوده، وإحسانه"[1].
- بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزية (2/393-394).