الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۝ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ۝ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ۝ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ۝ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ۝ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [سورة مريم:16-21].

لما ذكر تعالى قصة زكريا وأنه أوجد منه في حال كبره، وعقم زوجته؛ ولداً زكياً، طاهراً، مباركاً، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى - عليهما السلام - منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة، ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران، وهاهنا، وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ليدل عباده على قدرته، وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ وهي مريم بنت عمران من سلالة داود .

وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله - تعالى - قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران، وأنها نذرتها محررة أي تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً [سورة آل عمران:37].

ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات، المشهورات بالعبادة العظيمة، والتبتل، والدُّؤُوب، وكانت في كفالة زوج أختها، وقيل خالتها؛ زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ فذُكِر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران، فلما أراد الله - تعالى -، وله الحكمة، والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً أي: اعتزلتهم، وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.

عن ابن عباس - ا - قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله - تعالى -: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً، واتخذوا ميلاد عيسى قبلة".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا المقصود بالكتاب القرآن، وبعضهم يقول: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أي: هذه السورة فهي من القرآن، وقد ذكر الله خبرها في هذه السورة كما في آل عمران، والكتاب إذا أطلق فالمراد به القران، ومن قال بأن المراد هذه السورة فإن المراد لا يخرج عن هذا، وإنما ذكر خاصاً من المعنى حيث أن الله - تبارك وتعالى - أورد ذكر خبر مريم في هذا السياق الذي بعده.

يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وكانت في كفالة زوج أختها، وقيل خالتها"، بعضهم يقول: بأن زوجة زكريا هي أخت مريم، وبعضهم يقول: هي أخت لأمها، لأن زوجت زكريا هي خالتها، والصحيح أنها أختها، والدليل على ذلك أن النبي ﷺ في حديث المعراج لما ذكر يحيى وعيسى ذكر بأنهما أبناء الخالة، والأصل في مثل هذا أن يحمل على الخؤولة القريبة، وما ذكر عن بعض السلف مما هو متلقى عن بني إسرائيل من أن ذلك أنها أخت لأمها لا دليل عليها - والله تعالى أعلم -.

قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام"، وهذا لا يخص أولو العزم بالخمسة، وإنما يستدل من قال هذا بالجمع بين الآيتين قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35]، مع قوله - تبارك وتعالى -: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى:13]، ووجه الجمع بينهما غير ظاهر من جهة هذا المعنى - والله أعلم -، فقوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35] هذا أمر له بالصبر، كما صبر أولوا العزم ولم يذكر هؤلاء، وفي الآية الأخرى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ... هذا فيما يتعلق بالتشريع، فذكر هؤلاء الخمسة وهم من كبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولكن تخصيص هؤلاء الخمسة يحتاج إلى دليل، ولا أعلمه، وأولوا العزم من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم أصحاب العزائم العظيمة - والعلم عند الله -.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا قال: "أي اعتزلتهم، وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس"، وأصل الانتباذ يقال للطرح، والمباعدة، انتبذت منهم مكان شرقياً أي تباعدت، والمكان الشرقي هنا يقول: "شرقي المسجد المقدس"، وهذا قال به كثير من المفسرين، وبعضهم يقول غير هذا في أقاويل متعددة لا دليل على شيء منها، وإنما ذلك مما تلقي عن بني إسرائيل.

وسبب هذا الانتباذ غير مذكور هنا، ولا في سورة آل عمران، وبعضهم يقول: بأنها تنحت؛ لأنه جاءها المحيض، وبعضهم يقول غير هذا؛ فالعلم عند الله .

وقوله هنا: "إني لأعلم خلق الله عن ابن عباس - ا - بأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة"، ويقول: "لأنها تنحت وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس".