الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا هذا قبل أن يأتيها الملك، وقبل أن تحمل بعيسى - عليه الصلاة والسلام -.

يقول الله - تعالى -: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ۝ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ثم بعد ذلك حصل لها هذا الحمل فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ[سورة مريم:23]، ثم هل المخاض جاءها في نفس المكان الشرقي الذي اتخذته، أو أنها بعد ما حملت ذهبت إلى مكان آخر، - الله تعالى أعلم -، ذهبت شرقي المسجد، ومدة الحمل الذي حملته عامة المفسرين يقولون: إنها بقيت تسعة أشهر المدة المعهودة، وبعضهم يقول: ثلاثة أيام، وبعضهم يقول: ثلاث ساعات، وبعضهم يقول غير هذا، وكل هذا لا دليل عليه، وبعضهم يقول: فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ إن الفاء للتعقيب المباشر، فدل على أنه لما نفخ فيها الملك حصل لها الحمل ثم الولادة، وأن مدة ذلك لم تَطُل، وأن تعقيب كل شيء بحسبه مثل قوله: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17]، والمكان الشرقي فيه بُعد عن المسجد.

يقول: "واتخذوا ميلاد عيسى قبلة" يعني لهذا السبب اتخذوه قبلة، وبعضهم يقول: إنهم اتخذوا المشرق قبلة؛ لأنه مطلع الأنوار، لا من أجل أن المسيح - عليه الصلاة والسلام - ولد هناك، وكثير من تلك المنقولات يقولون أن عيسى ﷺ ولد في بيت لحم، ولهذا فإن النصارى إلى اليوم يعظمون تلك الناحية، لكن بسبب اتخاذ قبلة النصارى إلى المشرق بعضهم يذكر هذا، وبعضهم يقول: لأنه مطلع الأنوار - فالله تعالى أعلم -.

ولشدة العداوة بين النصارى وبين اليهود تركوا قبلتهم، واليهود كانوا يستقبلون التابوت، وينقلونه معهم من مكان لآخر، التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصاروا يستقبلونه في كل مكان يذهبون إليه، يحملونه في حروبهم فإذا وضعوه استقبلوه، وصلوا إليه، فإذا جاءوا وضعوه على الصخرة، ثم بعد ذلك صاروا يصلون إليه، فلما ذهب ذلك عنهم استقبلوا تلك الناحية؛ صاروا يستقبلون الصخرة، فالنصارى لشدة بغضهم لهم جعلوا هذه الصخرة محلاً للمزابل، فلما جاء عمر وفتح بيت المقدس بدأ بنفسه، وأمر أن تزال هذه الأشياء التي كان يلقيها النصارى من الأقذار لا تعظيماً لهذه الصخرة؛ وإنما هو أذى أمر بإزالته مما كان يصنعه النصارى باليهود - والله تعالى أعلم -، والنصارى لا شك أنهم متعبدون بالتوراة، فنبذوا التوراة، وتركوها، وصاروا يعملون بشريعة لفقوها، أو بقانون ونظام لفقوه وسموه الأمانة العظمى.

"وقوله: فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً أي: استترت منهم، وتوارت، فأرسل الله - تعالى - إليها جبريل فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً أي: على صورة إنسان تام كامل.

قال مجاهد والضحاك، وقتادة وابن جريج، ووهب بن منبه والسدي في قوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا يعني جبرائيل ".

قوله: رُوحَنَا الإضافة إضافة تشريف، أضافه إلى نفسه روحنا من باب التشريف كما تقول: بيت الله ونحو هذا، وبعضهم يقول: قيل له الروح لقيام الحياة الحقيقة بسبب ما وكل به من الوحي، فالله سمى الوحي روح، - والله تعالى أعلم -.

"قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً أي: لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب؛ خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً أي: إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولاً بالله ".

هذا الظاهر المتبادر إن كنت تقياً يعني إن كنت تتقي الله - تبارك وتعالى -، وبعضهم يقول: إِن كُنتَ تَقِيّاً لذلك يعني تتقي ذلك بالاستعاذة، إذا استعذت بالله منك، والأول أولى، أما ما قيل من الأقوال البعيدة المتكلفة فهذا لا ينبغي الالتفات إليه، وهي في غاية التناقض كقول من يقول: بأن قولها تقياً إن كنت تقياً هذا رجل يسمى بذلك اسمه تقي، وكان تقياً، وكان من الصالحين، وبعضهم يقول عكس هذا يقول: إنها أرادت رجلاً فاجراً يسمى بهذا الاسم خافت أن يكون هو، فقالت: إن كنت تقياً يعني إن كنت فلان المسمى بهذا الاسم، وهذه تكلفات لا حاجة إليها - والله المستعان -.

"روى ابن جرير عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ۝ قَالَ إِنّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ أي: فقال لها الملك مجيباً لها، ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين ولكني رسول ربك، أي بعثني الله إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً، وعاد إلى هيئته، وقال: إِنّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ليهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً".

هذا الكلام لا دليل عليه، والمراد بقوله: عاد إلى هيئته ليس المقصود عاد إلى هيئته الملائكية، وإنما عاد إلى هيئته يعني انتفض، ثم بعد ذلك سكن، ثم خاطبها مرة أخرى هذا هو المراد.

قال: إِنّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ليهَبَ لَكِ وهذه القراءة متواترة قرأ بها أبو عمر، وأيضاً هي عن نافع عن طريق ورش ليهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً وهي واضحة في المعنى أن الذي يهب الغلام الزكي هو الله ، وأما القراءة الأخرى لأهب لك غلاماً زكيا، لأهب لك لا شك أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - لا يهب من عند نفسه، وإنما ذلك إلى الله - تبارك وتعالى -، لكن لما كان الذي أرسله هو الله عبر بذلك؛ لأنه هو السبب، وهو الآمر بالنفخ، فأضاف ذلك إلى نفسه بهذا الاعتبار أن الله أرسله فنفخ فيها، فكان الحمل والولد، وهو من باب السبب، فما أطلق على عيسى - عليه الصلاة والسلام - بأنه كلمة؛ وذلك أنه كان بالكلمة قال الله له: كن فكان، فصار ذلك من باب إطلاق السبب على المسبب.