الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَٰلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي: فاضطرها، وألجأها الطلق؛ إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه، وقد اختلفوا فيه فقال السدي: "كان شرقي محرابها الذي تصلي".

وقوله: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ يقول: إنه منقول من جاء، فصار فأجاء، لكن لما نقل تغير المعنى فصار بدلاً من أن يكون جاء الشيء مثلاً بمعنى أقبل أو نحو ذلك، صار بعد النقل فأجاء بمعنى ألجأ، أجاءه كذا أي ألجأه واضطره إلى كذا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ يعني ألجاءها المخاض إلى جذع النخلة، ذكر هذا بعض المفسرين - والله تعالى أعلم -، وكبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - يفسره بقريب من هذا فيقول: أصله جاء بها فحذفت الباء، فعوض عنها بالهمزة، ويقول: ما كان من هذا القبيل، تقول: مثلاً جاءت الحاجة بزيد، فإذا حذفت الباء وتقول: أجاءت زيد الحاجة يعني ألجأت زيد الحاجة، هكذا ذكر ابن جرير - رحمه الله -.

والمخاض أصله الحركة الشديدة، ولهذا تكرير اللبن يقال له المخض، فحركت الجنين في البطن عند خروجه قيل لها: المخاض لهذا السبب - والله أعلم -، والمراد بالمخاض هي أعراض الولادة، آلام الولادة، وما يعرف بالطلق، فألجأها المخاض إلى جذع النخلة، والجذع يقال لأصل الشجر اليابس، وبعضهم يقول نخلة يابسة ليس فيها ثمر، وبعضهم يقول أشياء أخرى - فالله تعلى أعلم - بهذا، وبعضهم يقول: إن جذع النخلة لما كان جذعاً خشاً فيه الكرب، والحامل تحتاج شيء تتمسك به، أو شيء من شدة ما تجد من آلام الولادة؛ كل هذا لا دليل عليه - فالله أعلم -.

"فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ فالفاء - وإن كانت للتعقيب - لكن تعقيب كل شيء بحسبه كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً [سورة المؤمنون:12-14]، فهذه الفاء للتعقيب بحسبها، وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوماً، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحج:63] فالمشهور الظاهر، والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له "يوسف النجار"؛ فلما رأى ثقل بطنها، وكبره؛ أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها، ونزاهتها، ودينها، وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال: "يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي"".

هذه من الروايات الإسرائيلية.

"وقد اختلفوا فيه فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس، وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق".

هذا قول وهب بن منبه وهو أشهر من يروي الإسرائيليات، ولا يكون ذلك شرقي المسجد وإنما إلى ناحية الجنوب، ولو كان هذا القول صحيح لا اتخذت مكاناً شرقياً، ثم بعد ذلك لما جاءها المخاض انتبذت مكاناً قصياً، وهذا المكان القصي الله أعلم به.

"وفي رواية عن وهب: "كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم"، قلت: وفي أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس ، والبيهقي عن شداد بن أوس أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس، وقد ورد به الحديث إن صح.

وقوله تعالى إخباراً عنها: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى، وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة؛ تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا أي: قبل هذا الحال، وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً أي: لم أخلق ولم أك شيئاً؛ قاله ابن عباس - ا -.

وقال قتادة: وكنت نسياً منسياً أي: شيئاً لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا".

قول ابن كثير - رحمه الله - هنا بأن هذا يدل على جواز تمني الموت مبني على مقدمة وهي مسألة شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا، هذه الشريعة جاءت مبينة موضحة لهذا الأمر، النبي ﷺ قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي[1]، فقوله: لا يتمنين أحد كم الموت بضر نزل به ظاهر ذلك العموم، ثم أرشد النبي ﷺ في آخر الحديث أن الإنسان إذا كان لا بد له من تمني الموت فإنه يقول: اللهم أحييني ما كانت الحياة خير لي، وتوفني ما كانت الوفاة خير لي؛ لأن الإنسان لا يدري ما هو الخير بالنسبة إليه في عاقبة الأمور، ونهايتها، وإنما ذلك إلى الله - تبارك وتعالى -، لكن مسألة تمني الموت تكلم عليها أهل العلم، وما جاء عن بعض الآثار المنقولة في هذا المعنى عن بعض الصحابة ، وكذلك ما جاء عن النبي ﷺ أنه قال عند موته: بل الرفيق الأعلى[2]، وهذا لم يكن من النبي ﷺ تمنياً للموت، وإنما خُيِّر فاختار ما عند الله - تبارك وتعالى -، اختار الانتقال من هذه الحياة إلى الحياة الآخرة، ومحصل كلام أهل العلم من المحققين منهم الحافظ ابن حجر وجماعة بأن تمني الموت يجوز إذا خاف الإنسان على دينه من الفتنة، وأن قول النبي ﷺ: لا يتمنين أحدكم الموت بضر نزل به يُحمل على الجزع فيما يتعلق بما يحصل للإنسان من مرض، أو مصيبة تقع في دنياه أو نحو هذا؛ فهو منهي عن تمني الموت.

أما إذا خاف على نفسه الفتنة فإنه يمكن أن يتمنى الموت، وقد نُقل عن عمر مثل هذا، وجاء عن جماعة غير هذا حتى بعض من جاء بعدهم الإمام أحمد كان في آخر حياته يقبض يده ويبسطها ويقول: "لو كانت نفسي بيدي لأطلقتها"، وذكر أنه يتمنى الموت، وورد جواز تمني الموت عن جماعة إذا خاف الإنسان على دينه من الفتنة - والله تعالى أعلم -.

وأما قول الله - تبارك وتعالى -: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً قال: "أي شيء لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا" يذكر أهل العلم في معناه بأنه الشيء الحقير الذي لا قيمة له، فالشيء الذي لا يأبه به، ولا يعتد به؛ يُقال له: نسي، يقولون: بأن العرب إذا أرادت أن ترتحل من مكان قالوا: "تفقدوا أنسائكم" يعني الأشياء الحقيرة التي لا يتلفت إليها يعني كالعصا، والسوط ونحو ذلك من الأمور اليسيرة، التي جرت عادة الناس أنهم لا يلتفتون إليها، ولا يضمونها إلى متاعهم، فإذا ذهبوا لربما تركوها لحقارتها، أو لم يتذكروها، وكنت نسياً منسياً كنت شيئاً لا يذكر - والله تعالى أعلم -.

  1. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، برقم (5990)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، برقم (2680)، من حديث أنس .
  2. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته، برقم (4176)، من حديث عائشة - ا -.