الإثنين 19 / ذو الحجة / 1446 - 16 / يونيو 2025
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"سورة مريم وهي مكية.

وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة - ا -، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي، وأصحابه".

حين بعث المشركون إلى النجاشي رجلين، فكان مما ذكرا للنجاشي أن يسألهما في المسيح - عليه الصلاة والسلام -، فقرأ عليه جعفر صدر هذه الصورة.

"بسم الله الرحمن الرحيم

كهيعص ۝ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ۝ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ۝ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [سورة مريم:1-6].

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا، وقرأ يحيى بن يعمر: ذَكْرَّ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا، وزكريا بمد ويقصر قراءتان مشهورتان، وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة".

الحروف الثلاثة تمد ست حركات.

وقوله - تبارك وتعالى -: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ قال: "أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا" هذا المعنى من أوضح ما قيل في تفسير هذا الموضع من كتاب الله - تبارك وتعالى -، والذي اختاره كثيرٌ من المحققين منهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، والمقصود بذلك ما حصل من إجابة الله له حينما سأله الولد، ودعى بهذا الدعاء الذي ذكر الله - تبارك وتعالى -: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا.

"وقوله: إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله كما قال قتادة في هذه الآية: إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً: "إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله"، وهذا المعنى الذي ذكره - رحمه الله - الأقرب في سبب إخفاء هذا الدعاء، الله يقول: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55]، ويقول: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الأعراف:205]، فرفع الأصوات في الدعاء - الرفع الزائد - من الاعتداء في الدعاء، وهو مناف للأدب مع الله - تبارك وتعالى -، فإذا وجد من يؤمن على دعائه فإنه يرفعه رفعاً يسمعه، وأما إذا كان يدعو ربه بمفرده فإن الله يسمع السر وأخفى، فمن التأدب مع الله - تبارك وتعالى - ما ذكر هنا: إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً وهذا بخلاف قول من قال: إنه أخفاه؛ لئلا يلام على طلبه الولد في غير وقته، لأنه بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر؛ فكيف يطلب الولد، أو قول من قال: بأنه وقع منه هذا الدعاء أو النداء الخفي لأنه كبير، وضعيف، وكبره وضعفه هذا يعجزه عن رفع الصوت، وما حاجته إلى رفع الصوت والله - تبارك وتعالى - سامع لدبيب النمل، وما دون ذلك، وما فوقه، والدعاء أو النداء الخفي أبعد عن الرياء، وأقرب في التأدب مع الله .