"وقوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري: "وجعلني معلماً للخير"، وفي رواية عن مجاهد: "نفاعاً".
وروى ابن جرير عن وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: "لقي عالم عالماً هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله ما الذي أُعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ أينما كان"".
قوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ "قال عن مجاهد وعمرو بن قيس والثوري "جعلني معلماً للخير"، وهذا اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بأن تعليم الخير هو البركة، وأن الله هكذا أيضاً وصف كتابه بأنه مبارك، وهو الذي يستقى منه العلم والهدى، وما إلى ذلك.
فالذي يعلم الناس الخير هو ينشر الهدى، ويحصل به النفع للناس في العاجل والآجل، وجعلني مباركاً هنا يقول: عن مجاهد: "نفاعاً" يعني ينفع حيث وجد، وبعضهم قال: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا من قبيل اختلاف التنوع من قبيل التفسير بالمثال، فالمبارك من أهل العلم من يقول: إن أصله من بروك البعير، فهو يدل على الثبات، والاستقرار، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أي ثابتاً على دين الله لا أتلون، ولا أتقلب، كل مرة بجلد جديد، ووجه جديد، ورأي جديد، ومذهب جديد؛ هكذا قال بعضهم، وبعضهم يقول وهم الأكثر: بأن البركة بمعنى النماء، والزيادة، فبعضهم يقول: معناه جعلني عالياً في ازدياد أينما كنت، فحيث ما حل فهو في زيادة، وابن القيم رحمه يقول: "من استوي يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن إلى زيادة فهو حتماً إلى نقصان"، فيزداد في كل يوم جديداً من العمل الصالح، والعلم النافع، والعطاء، والخير؛ فهذا المبارك، يعني كثير البركة، فنفعه عام في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعليم وما يبذله وما يقدمه للناس فيحصل لهم ألوان المنافع، كل هذا داخل فيه.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: في قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ: "قال سفيان بن عيينة جعلني مباركاً أينما كنت قال: معلماً للخير، وهذا يدل على أن تعليم الرجل الخير هو البركة التي جعلها الله فيه، فإن البركة حصول الخير، ونماؤه، ودوامه، وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الأنبياء، وتعليمه؛ ولهذا سمى سبحانه كتابه مباركاً كما قال تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [سورة الأنبياء:50]، وقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [سورة ص:29]، ووصف رسوله بأنه مبارك كما في قول المسيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ فبركة كتابه، ورسوله؛ هي سبب ما يحصل بهما من العلم، والهدى، والدعوة إلى الله"[1].
والمعنى - والله أعلم - أوسع من هذا، حتى بركة القرآن أوسع من هذا، بركة القرآن ليس فقط في العلم، وإنما حتى في طب الأبدان، وما يحصل من البركة للمشتغلين أيضاً به، ولهذا قال بعض أهل العلم: "اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات" وهذا شيء مشاهد، وإذا أردت أن تعرف أثر القرآن، وبركة القرآن؛ انظر إلى مناشط النساء في التحافيظ، وما فيها من البركة، الأعمال التي لا تستطيع أن تفسرها إلا ببركة القرآن، وانظر إلى عمل غيرهم، فهذا كتاب مبارك من اشتغل به، ودعا إليه، وتعلمه؛ غمرته البركات.
هذه حجة على أهل القدر الذين يقولون: الإنسان يخلق فعله، فعيسى ﷺ يخبر عن حاله وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، والزكاة بعضهم يقول: هي زكاة المال باعتبار أن هذا هو الظاهر المتبادر لاسيما إذا قرنت مع الصلاة؛ فإنها تأتي بمعنى زكاة المال، وبعضهم يقول: هي زكاة النفس؛ لأن عيسى ﷺ لم يكن يدخر شيئاً، فكيف يزكي إلا إذا قصد بذلك الصدقة - فالله تعالى أعلم - أوصاه الله بالصلاة، والزكاة إذا كان عنده ما يزكي به، وكون عيسى ﷺ ما كان يدخر شيء هذا من المنقول عن بني إسرائيل - فالله أعلم -.
- مفتاح دار السعادة، للإمام ابن القيم الجوزية (1/174).