الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ إِبْرَٰهِيمَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ۝ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [سورة مريم:41-45].

يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن، الذين هم من ذريته، ويدَّعون أنهم على ملته، وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه؛ كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً أي: لا ينفعك، ولا يدفع عنك ضرراً".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ الواو عاطفة فهذا معطوفٌ، - والله تعالى أعلم - على ما قبله وهو قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ أنذرهم يوم الحسرة، واذكر في الكتاب إبراهيم يعني واتل على قومك هؤلاء نبأ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كما قال الله - تبارك وتعالى - في الآية الأخرى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [سورة الشعراء:69] فهو مفسر به، إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا هذه صفة لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهي معترضة، والتقدير: واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه: يا أبت، هذا هو المتلو، لكن هذا من وصف إبراهيم ﷺ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا و"إنَّ" هذه تدل على التوكيد، كما أنها تدل أيضاً على التعليل، كأنه يقول: واتل عليهم نبأ إبراهيم؛ لأنه كان صديقاً نبياً تتلو عليهم خبره، إذ قال لأبيه هذا هو خبر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو ما وقع له مع أبيه ومع قومه، وقوله: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا هذه صيغة مبالغة، فهي تدل على كمال الصدق، والتصديق، فالصدِّيقية منزلة عالية لمن كمل صدقهم، وتصديقهم، وأبو بكر يلقب بالصدِّيق لهذا، والله قال عن مريم: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75]، ويقول: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، فإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان متصفاً بذلك مع ربه - تبارك وتعالى -، فالله ابتلاه وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124] فهذا من تصديقه مع ربه ، ولما أمره بذبح ولده، ووحيده؛ صدَّق ذلك، فكما قص الله خبره أنه سلم لله - تبارك وتعالى -، وقال لابنه: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [سورة الصافات:102]، وهذا لا شك أنه كما وصفه الله بلاء مبين، وهكذا - عليه الصلاة والسلام - حينما نابذ قومه، وترك الأهل، والوطن، والعشيرة، والهجرة في سبيل الله هي من أجلى، وأعلى؛ صور الولاء والبراء من المشركين بالهجرة عنهم، ومفارقة الأوطان، فترك أهله، ووطنه، وعشيرته؛ لله، وفي الله، هذا من كمال تصديقه مع ربه .

إضافة إلى كماله صدقه، ولهذا قال النبي ﷺ: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات[1]، وهذا فسره أهل العلم، وقالوا: بأن ذلك كله على سبيل التعريض والتورية، وعلى كل حال فمن كمل في الصدق مع الله ، وفي كمال الإيمان ونحو ذلك، وكان أيضاً صادق اللهجة كما فسره بعض السلف، صادقاً في القول في كلامه، وخبره، وإخباره، فهذا يقال له صديق.

أبو بكر ما ذكر له أن النبي ﷺ قال شيئاً إلا قال: صدق، وفي قصة المعراج لما جاؤوا إليه فقال: "إن كان قال فقد صدق" فلُقِّب بالصديق؛ لكثرة تصديقه للنبي ﷺ، بالإضافة أيضاً إلى صدقه في القول، وجاء في صفته: أنه ما زاد عليهم بفضل صلاة، ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلبه، ولهذا أخبر النبي ﷺ أنه وزن بالأمة غير النبي - عليه الصلاة والسلام - فرجح أبو بكر ، فهذا معنى الصديق: الكامل في التصديق، والكامل في الصدق.

  1. صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله - تعالى -: واتخذ الله إبراهيم خليلاً [النساء:125] (3/1225) برقم: (3179).