السبت 19 / ذو القعدة / 1446 - 17 / مايو 2025
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُوا۟ رَبِّى عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ۝ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ۝ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [سورة مريم:46-48].

يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ يعني إن كنت لا تريد عبادتها، ولا ترضاها؛ فانته عن سبها، وشتمها، وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك، وشتمتك، وسببتك وهو قوله: لأرْجُمَنّكَ قاله ابن عباس - ا - والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم.

وقوله: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهراً، وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً، وقال السدي: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال: أبداً، وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس - ا -: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قال: سوياً سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة، وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي، ومالك وغيرهم، واختاره ابن جرير".

فقوله: لأرْجُمَنّكَ فسره هنا بالشتم، والسب، والرجم يأتي بهذا المعنى، ومن ذلك قولنا: الشيطان الرجيم، أن الرجيم فعيلٌ يمكن أن يكون بمعنى فاعل أي أنه راجم، يرجم الناس بالوساوس، والأفكار، والخواطر السيئة، ويمكن أن يكون بمعنى مرجوم، أي أنه يرجم بالسب، والشتم، والطرد، واللعن، وما أشبه ذلك.

والذي عليه عامة المفسرين بأن المعنى لأرْجُمَنّكَ أي بالقول بالسب، والشتم وما إلى ذلك، يعني أنه يسمعه ما يكره، وتحتمل معنى آخر وهو أن يكون الرجم بالحجارة، وقد يكون هذا هو المتبادر الذي يسبق إلى الذهن؛ ولهذا فسره بعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - باعتبار أن معاني القرآن تحمل على الظاهر المتبادر الذي يسبق إلى الأذهان، وقال: وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قول من قال بأن المقصود به دهراً، وقول من قال: زمناً طويلاً هذا معنى واحد، فهما قولان.

وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً أي: اهجرني زمناً طويلاً، والمعنى الآخر وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً أي: ابتعد وأنت سالم حتى لا يصيبك مني مكروه.

"فعندها قال إبراهيم لأبيه: سَلاَمٌ عَلَيْكَ كما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، ومعنى قول إبراهيم لأبيه سَلاَمٌ عَلَيْكَ يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه، ولا أذى؛ وذلك لحرمة الأبوة، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك، ويغفر ذنبك، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا قال ابن عباس وغيره: لطيفاً، أي في أن هداني لعبادته، والإخلاص له.

وقال السدي: الحفي الذي يهتم بأمره، وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام، وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل، وإسحاق - عليهما السلام - في قوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [سورة إبراهيم:41]، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله - تعالى -: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ [سورة الممتحنة:4] الآية، يعني إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بيَّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ إلى قوله وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:113-114]، وقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: أجتنبكم، وأتبرأ منكم، ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وَأَدْعُو رَبِّي أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ".

قوله: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي يقول الحافظ - رحمه الله -: "يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى" يعني بمعنى سلام عليك أي أمنة لك، فيكون المراد معنى السلام وليس التحية، فإنك حينما تقول لإنسان: "السلام عليكم"، قيل: هذا إخبار أنك تؤمنه، وقيل: دعاء تدعو له بالسلامة - والأقرب والله أعلم - أنه يجمع الأمرين هو من جهتك إخبار لك منه بالأمان، ومن جهة أخرى هو دعاء له بالسلامة، وهذا يقال في الكلام في اسم الله السلام، فإنه السالم من كل عيب ونقص، وبعضهم قيده بالمستقبل من أجل أن يكون القدوس، أو السالم من كل عيبٍ، ونقصٍ؛ في الماضي، والحاضر، ومن معانيه أيضاً السلام الذي سلَّم خلقه، وسلموا من ظلمه إلى غير ذلك من المعاني.

ويمكن أن يكون المراد به أي أمنة لك مني لا يصلك مني شيئاً تكرهه، فأبوه توعده بالرجم، وطالبه بالهجر، وهو يقول: سلام عليك، أي أمنة لك مني لا ينالك مني، ولا يصلك مكروه.

والمعنى الثاني وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين سلام عليك: يعني التحية، أن المقصود به التحية تحية توديع، ومتاركة، بمعنى أن الجاهل من الناس كما قال الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63] فهم لا يقفون معهم، ولا ينزلون إلى حدهم، ولا يبادلونهم الإساءة بالإساءة، وإنما يُعرضون ويترفعون فيكون بمعنى تحية التوديع، والمتاركة؛ سلامٌ عليكم.

ويحتمل أن يقال فيه كما سبق بمعنى الأمنة يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أما أنا فلا ينالك مني مكروه، ولا أذى"، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، ويقول: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً قيل: يعني لا يخيب دعائي، وبعضهم يقول: عاصياً، وهذا الدعاء قال بعضهم: أدعو ربي أن يهب لي الولد يعني الذي يكون فيه العوض، والسلوة عنكم بعد فراقكم، ولهذا وهبه الله إسماعيل، وإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب - عليهم الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول: أدعو ربي، يعني لأبيه بالهداية.

والله أطلق ذلك، والدعاء تارة يراد به دعاء العبادة، وتارة يراد به دعاء المسألة، وبينهما ملازمة، فكل داعٍٍ دعاء عبادة بصلاته ونحو ذلك، فهو سائل، وطالب يطلب الأجر، وكل من رفع يديه يدعو ربه، ويسأل؛ فهو في هذا عابد، فإن الدعاء عبادة من أجل العبادات.

فقوله: وَأَدْعُو رَبِّي يمكن أن يحمل على المعنيين، أدعو ربي أي أعبد ربي، وأسأل ربي، ولم يحدد الله - تبارك وتعالى - شيء فهو يسأل ربه من خير الدنيا والآخرة، وعَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا بسؤاله أو بعبادته شقياً، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ".

فـ"عسى" التي يذكرها العلماء كما جاء عن ابن عباس وغيره عسى من الله واجبة، يعني إذا كانت في وعد الله، وفي كلامه هو - تبارك وتعالى - ليست من كلام أحد من المخلوقين هذه التي يقولون عنها بأنها واجبة يعني متحققة الوقوع، قالوا هذا جرياً على لغة العرب، فالعظيم إذا أراد أن يعد عِدة فإنه يخرج ذلك مخرج الترجي، فيقول: عسى أن يحقق لك ما أردت، وهو يقصد الوعد الجازم، وهذه عسى التي تكون من الله، فإذا صدرت من مخلوق مثل هنا عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا الأصل أنها ليست واجبة؛ لأن الذي بيده مقاليد الأمور، ويملك السعادة، وخلاف السعادة هو الله - تبارك وتعالى -، ولهذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال بأن ذلك موجبُ لأنه سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ يقصد أن دعائه، أو رجائه مستجاب، عسى ألا أكون أرجو ألا أكون بدعاء ربي شقياً، فكذلك هو لن يشقى بدعاء ربه،  باعتبار أن دعاء النبي مجاب، ولو قيل بأنه دعاء بالهداية فإن ذلك لم يتحقق، أو استغفر له، ولو قلنا بأن المقصود وأدعو ربي أي لك بالمغفرة، فالله - تبارك وتعالى - نهاه عن هذا، ولا يوجد دليل على أن الدعاء كان بالهداية، والمغفرة.

فـ"عسى" من الله ليس المقصود إذا وردت في القرآن، وإنما إذا كانت صادرة من الله بوعده هو عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الممتحنة:7] هنا القلوب بين أصعبين من أصابعه - تبارك وتعالى -.

والأسلوب في كلام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مع أبيه لأهل العلم كلام كثير عليه، وفيه الأدب في المخاطبة مع الكبير سواء كان والداً، أو معلماً، أو عالماً، أو كان أميراً، رئيس قبيلة، أو نحو ذلك، فخطاب مثل هؤلاء ينبغي أن يكون بأدب ولطف، والله قال لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا [سورة طه:44]، وذلك هو الأدعى إلى القبول، وللإمام ابن القيم الجوزية - رحمه الله - كلاماً قيماً في مخاطبة إبراهيم أباه حيث قال: "قول إبراهيم الخليل لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [سورة مريم:42] ابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره ولم يسمه باسمه، ثم اخرج الكلام معه مخرج السؤال فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ولم يقل لا تعبد، ثم قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [سورة مريم:43] فلم يقل له إنك جاهل لا علم عندك، بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً وهذا مثل قول موسى لفرعون: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [سورة النازعات:19]، ثم قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [سورة مريم:45] فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه، كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" فذكر لفظ المس الذي هو ألطف من غيره، ثم نكر العذاب، ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار، ولا القهار فأي خطاب ألطف وألين من هذا، ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس:20-22] ونظير ذلك قول نوح لقومه: يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ۝ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ۝ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى [سورة نوح:2-4].

وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن، إذا تأملته وجدته ألين خطاب، وألطفه، بل خطاب الله لعباده ألطف خطاب كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ يدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [سورة الحج:73]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة فاطر:5]، وتأمل ما في قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [سورة الكهف:50] من اللطف الذي سلب العقول، وقوله: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [سورة الزخرف:5] على أحد التأويلين أي نترككم فلا ننصحكم، ولا ندعوكم، ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم، وأسرفتم"[1].

ومثل هذا يحتاج إليه في التعليم، والدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على المخالفين إذا كان المقصود بذلك هو دعوتهم، واستمالت قلوبهم، وتقريبهم إلى الحق، وصرفهم عن الباطل، إذا كان هذا المقصود فلا بد أن يكون بطريقة تأخذ بمجامع القلوب، وتستميل النفوس، ولا يجدون فيها ما ينفرهم.

أما إذا كان المقصود كسرهم، وبيان عوارهم، وجهلهم للناس، وليس المقصود هو دعوتهم؛ فمثل هذا يمكن يستعمل فيه أسلوب القسوة، ولهذا موسى - عليه الصلاة والسلام - لما خاطب فرعون بهذا الخطاب اللطيف ولم يُجدِ معه؛ قال له كلاماً قوياً: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [سورة الإسراء:102]، فالخطاب يجب أن يكون يخدم الهدف الذي يهدف إليه المتكلم أو الكاتب، ولا ينقضه؛ لهذا قالوا عن ابن حزم - رحمه الله - بأنه يصك صك الجندل، وينشق المخالفين الخردل، ويريدهم أن يقبلوا منه، لا يمكن هذا سيما إذا كان المخاطب له منزلة مثل الوالد أو نحوه.

فأحد طلاب الثانوية يقول لأبيه لما خاف عليه فمنعه من صلاة الفجر في المسجد خوفاً عليه، قرأ عليه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]، وقال: أنت ممن يمنع مساجد الله، ومثل هذا الخطاب لا يليق، وهكذا الذي ينكر على والديه بمنكرات أو بأسلوب فظ غليظ، وبعض الناس يرى أن هذا من القوة في الحق، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم هكذا يظن، وهذا غير صحيح.

  1. بدائع الفوائد، للإمام ابن القيم الجوزية (4/207-209).