الأحد 18 / ذو الحجة / 1446 - 15 / يونيو 2025
يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ۖ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي قال مجاهد وقتادة والسدي: "أراد بالموالي العصبة"، ووجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده؛ ليسوسهم بنبوته وما يوحي إليه، فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة، وأجلُّ قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه".

يقول تعالى: وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أراد بالموالي العصبة" أي: من الوارثين، وهذا لا يخالف قول من قال: هم الورثة، فإن ذلك يرجع إلى شيء واحد، وبعضهم يقول: الموالي هم الأعوان، فكلمة المولى تطلق ويراد بها الناصر، وتطلق ويراد بها السيد، وتطلق ويراد بها المولى الأدنى وهو الرقيق أو المعتق، والمراد بها هنا من يرثه، خفت الموالي من ورائي: عصباته، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن المقصود من خوفه أنه خاف ألا يلو الأمر من بعده ولاية حسنة صحيحة، يسوسون الناس فيها بما يرضي الله - تبارك وتعالى - فيكون ذلك سبباً لتضييع الدين، وذهاب كثير من الحق، فسأله ربه وارثاً يرثه النبوة، ويرث من آل يعقوب العلم، والنبوة، هذا وجه ذكره الحافظ ابن كثير في ترجيح هذا القول على وهم من توهم، بأن المقصود وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ يعني من وراثتهم المال؛ وهذا بعيد، والوجه الأول في استبعاده: أن هذا لا يظن بنبي أنه يدعو ربه وفي هذا السن أن يرزقه ولداً من أجل أن يحول بين عصباته وبين الميراث، هذا لا يظن بآحاد الناس فضلاً عن نبي كريم من أنبياء الله - تبارك وتعالى -، فالأنبياء لا يعبأون بالدنيا، ولا يقع في نفوسهم مثل هذا من كراهية نفع وخير لقراباتهم، وأن الأنبياء لا يورثون كما قال النبي ﷺ: لا نورث، ما تركناه فهو صدقة[1]، ويمكن أن يضاف إلى ذلك وجوه أخرى في الجواب ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعضها، كما أشار إلى أنه كان يعمل نجاراً، ومن كانت هذه مهنته، ويأكل من عمل يده؛ لا يظن به أن يملك من الأموال الشيء الكثير الذي حمله على أن يدعو هذا الدعاء، الغالب أن عنده ما يكفيه، ويحصل به الكفاف من هذه الصنعة، أو المهنة.

"(الثاني) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً - ولا سيما الأنبياء -، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

(الثالث) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة، وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: نحن معشر الأنبياء لا نورث[2]، وعلى هذا فتعين حمل قوله: فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي على ميراث النبوة، ولهذا قال: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، كقوله: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع، والملل؛ أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة".

لفظة: نحن معاشر الأنبياء بهذا اللفظ تكلم عليها أهل العلم، والحافظ ابن حجر ذكر أنها لا تثبت بهذا اللفظ، ويمكن أن يضاف إلى هذا هذه الأوجه الثلاثة الذي ذكرها الحافظ ابن كثير أن زكريا وقع في دعائه أنه قال: يرثني ويرث من آل يعقوب وآل يعقوب في ذلك الأثناء في وقت زكريا كانوا قد انقرضوا منذ زمن طويل، ومن جاء من ولد زكريا فإنه لا يرث آل يعقوب وراثة مال، ذهبت أموالهم، فبيَّن زكريا وبين يعقوب - عليهما الصلاة والسلام - مدة طويلة، فلا يقصد بهذا وراثة المال؛ وإنما يقصد بذلك وراثة النبوة، والدين، وأما قول من قال أنه قصد بيعقوب رجل آخر غير يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فهذا في غاية البعد.

"قال مجاهد في قوله: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ كان وراثته علماً، وكان زكريا من ذرية يعقوب، وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال: ويكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء، وقوله: وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً أي: مرضياً عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه، وخلقه".

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو المشهور، وهو الذي اختاره ابن جرير وغيره، والآية تحتمل معنى آخر وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً أي راضياً بقضائك، وقدرك.

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله ﷺ ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي ﷺ، برقم (3508)، ومسلم، كتاب اللقطة، باب حكم الفيء، برقم (1758).
  2. رواه الترمذي، كتاب السير عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في تركة رسول الله ﷺ، برقم (1610)، بلفظ قال النبي ﷺ: لا نورث ما تركنا من صدقة ...، وأحمد بلفظ: إنا معشر الأنبياء لا نورث... برقم (9972)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والنسائي في السنن الكبرى برقم (6309).