الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
ثُمَّ نُنَجِّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوا۟ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً ۝ ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [سورة مريم:71-72].

روى جابر بن عبد الله قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: "الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم[1]، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر وغيرهم من الصحابة وأرضاهم".

قوله - تبارك وتعالى -: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا لأهل العلم كلام كثير في معنى الورود، والقول الذي ذكره أن الورود هو المرور على الصراط، ويستدل به على هذا الحديث، وهو قول من أشهر الأقوال، وكما قال الله - تبارك وتعالى -: عن موسى ﷺ: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ [سورة القصص:23] ليس معنى ذلك أنه دخل في الماء، وإنما أشرف عليه، فالورود يحتمل معنى الدخول، ويحتمل معنى الإشراف على الشيء بمعنى أنهم يمرون على الصراط، أو أنهم يشرفون على النار، وينجيهم الله منها، فلا يدخلونها؛ قال هذا بعض أهل العلم.

وبعضهم يفسره بالدخول، وهذا قال به طوائف من أهل العلم، واختاره ابن جرير، ويستدلون عليه أيضاً ببعض الأدلة قد يحتجون ببعض ما صح عن رسول الله ﷺ في تفسير الورود بالدخول، وكذلك في قوله - تبارك وتعالى -: ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً يعني أن الجميع يدخل وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً فهم دخلوا، ويبقى الكفار، وبعضهم يقول: الورود بالنسبة للكفار هو الدخول، وبالنسبة للمؤمنين يكون بمعنى المرور على الصراط دون الدخول.

وبعضهم يفسر ورود المؤمن وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا بمعنى بعيد، وهو ما يصيبه من الحمى، فالنبي ﷺ أخبر أن الحمى من فيح جهنم، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا أي يناله منها ما يناله من الحمى ونحو ذلك، فهذا تأويل بعيد، ولعله أبعد هذه الأقوال.

ويبقى أن القولين الأقوى، والأقرب، والأشهر؛ أن الورود بمعنى المرور على الصراط، أو بمعنى الدخول.

"وروى أحمد أيضاً عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كان رسول الله ﷺ في بيت حفصة فقال: لا يدخل النار أحد شهد بدراً، والحديبية قالت حفصة: أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا؟ فقال رسول الله ﷺ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية[2]".

مثل هذه الأحاديث: لا يدخل النار يحرم على النار، تدل على أن من الناس من لا يدخل النار، فإذا فسر الورود بمعنى الدخول فإن ذلك قد يخالف ظواهر هذه الأحاديث، وهذا ما احتج به من قال: بأن الورود هو المرور على الصراط، وهي أدلة قوية.

"وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم[3]".

قوله ﷺ: إلا تحلة القسم فسره بعض أهل العلم بقوله - تبارك وتعالى -: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا أي قسماً لازماً واجباً، وبعضهم كابن القيم - رحمه الله - يرد هذا ويقول: الآية ليس فيها قسم، وكذلك الشنقيطي في أضواء البيان، وإنما العرب تعبر بذلك عن الشيء اليسير تقول مثلاً كما قال كعب بن زهير يصف ناقته وسرعتها يقول:

تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ

فقوله: "مسهن الأرض تحليلُ" يعني لا تكاد تلمس الأرض من سرعتها، إلا تحلت القسم أنها تمشي على الأرض لا تطير في الهواء، ومعروف أن الشيء إذا أسرع جداً لا يكاد يلمس الأرض، فالشاهد أن تقول مثلاً جلست تحلت القسم، أو مثلاً تعبر عن الشيء القليل اليسير الذي لا يذكر تقول: كتحلة القسم، فابن القيم والشنقيطي - رحمهما الله - يحملان الحديث على أن الآية ليس فيها قسم.

"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: "ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها".

وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود : في قوله: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً قال: "قسماً واجباً"، وقال مجاهد: حتماً، قال: "قضاء"، وكذا قال ابن جريج، وقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار، والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم؛ نجى الله - تعالى - المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط، وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة، والنبيون، والمؤمنون؛ فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولاً من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم يخرج الله من النار من قال يوماً من الدهر: "لا إله إلا الله" وإن لم يعمل خيراً قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً".

هناك القاعدة تقول: بأن الحكم المعلق على وصفٍ يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالنجاة تحصل للذين اتقوا بحسب ما عندهم من التقوى، وقد ذكر الإمام الشنقيطي - رحمه الله - الأقوال في ورود النار، وناقشها فقال - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً:

"اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال:

الأول: أن المراد بالورود الدُّخول، ولكن الله يصرفُ أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.

الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط؛ لأنه جسر منصوب على متن جهنم.

الثالث: أن الورود المذكور هو الإشراف عليها، والقرب منها.

الرابع: أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية، وقد قدمنا أمثلة لذلك، فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس - ا - استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك، وإيضاحه: أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول، فاستدل بذلك ابن عباس على أن الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول لدلالة الآيات الأخرى على ذلك كقوله تعالى: يقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [سورة هود:98]، قال: فهذا ورود دخول، وكقوله: لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:99]، فهو ورود دخول أيضاً، وكقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً [سورة مريم:86]، وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ[سورة الأنبياء: 98]، وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في أن الورود الدخول.

واحتج من قال بأن الورود: الإشراف، والمقاربة بقوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ... [سورة القصص:23] قال: فهذا ورود مقاربة، وإشراف عليه، وكذا قوله تعالى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ... [سورة يوسف:19]، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ

قالوا: والعرب تقول: وردت القافلة البلد؛ وإن لم تدخله، ولكن قربت منه، واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۝ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:101-102] قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها؛ فالورود غير الدخول.

واحتج من قال: بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين: حر الحُمَّى في دار الدنيا بحديث: الحُمَّى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج وأرضاهم، ورواه البخاري أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس - ا -، قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له -:

"قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة:

الأول: هو ما ذكره ابن عباس - ا - من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

الدليل الثاني: هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه - تعالى - لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم، وفاجرهم؛ بقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً بيَّن مصيرهم، ومآلهم؛ بعد ذلك الورود المذكور بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا أي نترك الظالمين فيها، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: ونذر الظالمين فيها، بل يقول: ونُدخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى.

وكذلك قوله: ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا، قوله: ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ.

الدليل الثالث: ما روي من ذلك عن النَّبي ﷺ قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: "أخرج أحمد وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله - ا - فذكرت له ذلك، فقال - وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه -: صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يبقى بر، ولا فاجر؛ إلا دخلها: فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فِيها جثياً[4]" ا. هـ.

وقال ابن حجر في الكافي الشافْ في تخريج أحاديث الكشاف في هذا الحديث: "رواه أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد قالوا: حدثنا سليمان بن حرب، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى، والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكم في النوادر، كلهم من طريق سليمان قال: حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فسألنا جابراً فذكر الحديث أتم من اللفظ الذي ذكره الزمخشري، وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبي سمية عن جابر" ا. هـ.

وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يدخلونها جميعاً ثم ذكر الحديث المتقدم، ثم قال ابن كثير - رحمه الله -: غريب ولم يخرجوه.

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له -: "الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن؛ لأن طبقته الأولى: سليمان بن حرب، وهو ثقة إمام حافظ مشهور، وطبقته الثانية: أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة، وهو ثقة، وطبقته الثالثة: كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ، وهو ثقة، وطبقته الرابعة: أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب: وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث، لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن، وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس، وآثار جاءت عن علماء السلف .

كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة ، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون: إنه ورود دخول، وأجاب من قال: بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء:101] بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم، ولا حر منها؛ كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في الكلام على هذه الآية الكريمة.

وأجابوا عن الاستدلال بحديث: الحمى من فيح جهنم[5]، بالقول بموجبه، قالوا: الحديث حق صحيح، ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع، لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة، وليس في حرارة منها في الدنيا، لأن أول الكلام قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً إلى أن قال: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى، والقراءة في قوله: جِثِيّاً كما قدمنا في قوله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً"[6].

هذا الحديث لو صح فهو نص في تفسير الآية بمعنى الدخول، والتفسير إذا صح عن النبي ﷺ فإنه لا يصح العدول عنه، لكن توثيق ابن حبان ليس على مرتبة واحدة، وأحسن من تكلم على هذا المعلمي - رحمه الله - في التمكين، وجعل توثيق ابن حبان على نحو خمس مراتب، فابن حبان - رحمه الله - ربما يوثق المجاهيل، لكن من الناس من وثقهم وهم من شيوخه، أو ممن عرفهم، وهذا القول تؤيده أدلة، ولكن يشكل عليه النصوص الواردة بأنه يحرم على النار من فعل كذا، أو لا يلج النار من فعل كذا، فهذه يصعب الجواب عليها - والله أعلم -.

سؤال:

لما قال: "يخرجون من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيراً قط" بعض الناس يستدل بهذه النصوص مفردة عن غيرها فيدافع عن أرباب البدع المكفرة، فيقول: هؤلاء إن قالوا لا إله إلا الله ولم يعملوا خيراً قط؛ إلا أنهم يدخلون الجنة، فبم يرد على هؤلاء - رعاك الله -؟

يرد على هذا القائل بأنه يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، فـ"خيراً" نكرة في سياق النفي فتشمل كل ما يصدق عليه أنه خير، فهل قول: لا إله إلا الله خير أو ليس بخير؟ فلا يستطيع أن يقول بأنها ليست بخير، لا بد أن يقول هو خير، والنفي هنا نكرة في سياق النفي لم يعملوا يفيد العموم، فكيف استثنى لا إله إلا الله؟ يعني هل يمكن أن يقول: بأنه يخرج من النار من لم يقل: لا إله إلا الله؟ هذا لا يمكن، ولا بد أن يقول: بأنه لا يتصور إسلامه إلا إذا قال: لا إله إلا الله، إذاًَ هذا العموم لم يعملوا خيراً قط فيه استثناء، وهو أنه ليس على ظاهره، بل لم يعملوا خيراً قط يزيد على القدر المنجي الذي يتحقق به الإيمان الصحيح، ولا بد من الإقرار، والتصديق الانقيادي مع قول لا إله إلا الله، وإلا فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله، فلم تنفعهم لا إله إلا الله، والله يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145]، والفرق بين المنافقين وبين أبي لهب، وأبي جهل وأمثال هؤلاء واضح، بأن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام، يقولون: لا إله إلا الله، فلم تنفعهم؛ لأنهم لم يحصل لهم التصديق، والإقرار، والإذعان القلبي.

ولا بد مع الانقياد القلبي، والإذعان؛ السلامة من الناقض لهذه الكلمة، فإذا قال: لا إله إلا الله، ثم أعلن ردته، أو جاء بما ينقضها؛ فإن لا إله إلا الله لا تنفعه، وأيضاً ننظر في الأدلة فنجد أن هناك أشياء من لم يعملها فإنه لا يكون مسلماً، أو لا يكون مؤمناً العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة[7]، فلا بد من قدر من العمل، فالإيمان قولٌ واعتقاد وعمل، فالمقصود لم يعملوا خيراً قط، إذا استثنيت قول لا إله إلا الله فهذا عمل، إذا استثنيت التصديق الانقيادي فهذا عمل، فيبقى هذا العموم ليس على ظاهره، وإنما المقصود به أنهم لم يعملوا خيراً قط يزيد على القدر المنجي من الإيمان، حقيقة الإيمان مركبة من قول لا إله إلا الله؛ لأنه لا يكون مؤمناً إلا بها، ومن التصديق الانقيادي ولا بد من قدر من العمل - والله أعلم -.

  1. رواه البخاري، بأرقام متعددة منها (773)، كتاب صفة الصلاة، باب فضل السجود، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (182).
  2. رواه أحمد في المسند برقم (27042)، وقال محققوه: صحيح، والطبراني في المعجم الكبير برقم (358)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2482).
  3. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب، برقم (1193)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم (2632).
  4. رواه عبد بن حميد في مسنده برقم (1106)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (364)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (4761).
  5. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم (3088)، ومسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم (2210).
  6. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للإمام الشنقيطي (3/477-480).
  7. رواه النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم (463)، والترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2623)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجة، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1079)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4143).