"قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [سورة مريم:73-74].
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة، بينة الحجة، واضحة البرهان؛ أنهم يصدون، ويعرضون عن ذلك، ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً أي: أحسن منازل، وأرفع دوراً، وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث أي: ناديهم أعمر، وأكثر وارداً، وطارقاً، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل؟ وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبراً عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، وقال قوم نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:53].
ولهذا قال تعالى راداً على شبهتهم: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً، ومناظر، وأشكالاً، وأمتعة.
قال الأعمش وعن أبي ظبيان عن ابن عباس - ا -: خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً قال: "المقام المنزل، والنَّدِيُّ: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر"، وقال العوفي عن ابن عباس - ا -: "المقام: المسكن، والنَّديُّ: المجلس، والنعمة، والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم، وقص شأنهم في القرآن: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [سورة الدخان:25-26]، فالمقام: المسكن، والنعيم، والنَّديُّ، والمجلس، والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29]، والعرب تسمي المجلس النادي".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً، خَيْرٌ مَّقَاماً هذه الكلمة فيها قراءتان متواترتان، قرأها ابن كثير بضم الميم خَيْرٌ مُّقَاماً، وقراءة الجمهور: خَيْرٌ مَّقَاماً، وبعض أهل العلم يقول: إن القراءتين بمعنى واحد، وبعضهم يقول: إن قراءة الضم: خَيْرٌ مُّقَاماً أي مكان الإقامة، وقراءة الفتح: خَيْرٌ مَّقَاماً يعني: منزلةً، ومسكناً، وقوله: أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً فسره فقال: المقام: هو المسكن، والنعيم، والندي: المجلس، والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29] يعني: النادي وهو المكان أو المنتدى، أو المجلس الذي يجتمعون، ويجلسون فيه.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، والقرن مضى الكلام عليه، ويقول: أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم، فالمتعاصرون أهل الزمان الواحد يقال لهم: قرن، وإن اختلف العلماء في تحديد القرن من حيث السنين، فتجدون الكلام في هذا في غير كتب اللغة، وتجدونه أيضاً في شرح قوله ﷺ: خير القرون قرني[1] ما المراد به هل يحد بأربعين سنة أو أكثر، وقوله - تبارك وتعالى -: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا يقول: أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً، ومناظر، وأشكالاً، وأمتعة، والأثاث: بعضهم يفسره بالمال بأنواعه من الدواب، والأرقاء المماليك، والفرش، والمتاع، وبعضهم يفسره بمتاع البيت خاصة، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وهذا هو المستعمل في عرفنا، ولكنا عرفنا - كما هو معلوم - لا يفسر به القرآن؛ لأنه قد يكون من الأعراف الحادثة، والقاعدة: "أن القرآن لا يفسر بعرف حادث"، وبعضهم يفسر ذلك بالجديد من الفرش، وبعضهم يفسره باللباس خاصة، وهذا أبعد هذه الأقوال - والله تعالى أعلم -.
يقول: وَرِئْيًا رئياً في قراءة نافع وابن عامر: وريًّا، من غير همز، وقراءة الجمهور: ورئياً، بالهمزة، وبعض أهل العلم يقولون: إن قراءة ابن عامر ونافع من قبيل التسهيل للهمز، بمعنى أن القراءتين ترجعان إلى شيء واحد أي: ريًّا سهلت فيها الهمزة فقط، وإلا فهي كلمة رئيا، وهذا رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، وبعضهم فرق بين القراءتين في المعنى، ففسر قراءة رئيا بالهمز بأنه المنظر، والهيئة، وما تراه العيون، فزادوا على غيرهم فيه، وكانوا أحسن من هؤلاء كما زعموا، وقراءة: وريًّا أن ذلك يقال: للارتواء، والحسن، تقول: فلان ريان، أو مرتوي من ماء الحياة، أو من الشباب، أو من النظارة؛ أو نحو ذلك، يعني أن العافية والنعمة قد ظهر أثرها على أبدانهم، أما أولئك فيظهر عليهم من الضعف، والشحوب، كما قال الله عن فقراء المهاجرين: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة:273]، وأحسن ما فُسِّر به - والله أعلم - ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ أي: ما يظهر على وجوههم، وعلى هيئتهم، ولباسهم من الشحوب، والضعف الذي يدل على حاجتهم، وفقرهم، فالإنسان يعرف بهيئته إذا كان مريضاً، أو كان خائفاً، أو كان مكتئباً، أو كان مجهداً، فالوجه مرآة يظهر عليه ما بحال الإنسان، وإن كان هذا الظهور يتفاوت؛ فأهل الفراسة يعرفون ما لا يعرف غيرهم سواء كان ذلك بطريق الصناعة، والمعرفة، والخبرة، أو كان ذلك مما يعطيه الله لهم هبةً؛ لذلك تجد الذين يُطَبِّبون بطب غير الطب الحديث، إنما الطب الذي كان من قرون متطاولة، ولا زال في بعض البلاد في المشرق يعرفون من الوجه، ومن الكف؛ علل الإنسان.
فمن العين يعرف هذا الإنسان ما به، ويحدده بدقة - وليس مثل أصحاب الدورات الذين يقولون: من توقيعك أعرفك، ومن خطك؛ هذا الكلام لا قيمة له، هؤلاء خرَّاصون - بل هذا علمٌ يدرس فمثلا: إذا كان البياض من الناحية اليمنى عند دائرة السواد فهذا يعني كذا، وإذا كان في الجهة اليسرى فهذا يعني كذا، وإذا كان أعلى فهذا يعني كذا، وإذا كان أسفل .. وإذا كان دائرة لونها كذا فهذا يعني كذا من العلل... إلخ، فيخبرك بدقة، وهكذا يُعرف ما عند الإنسان من فرح، أو حزن من وجهه، وهذا يظهر لكل أحد، فالشاهد: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا بعضهم يقول: أبشارهم، وأجسادهم مرتوية من الشباب، والنظارة كما قال الله عن المنافقين: وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4] فأجسامهم في غاية النظارة، والحسن.
فرئياً: ما تراه العيون من الحسن في اللباس، والهيئة، والمنظر، وفي قراءة غير متواترة قرأ بها بعض الصحابة، وبعض التابعين؛ كابن عباس، وأبي بن كعب، وسعيد ابن جبير وزِيَّا بالزاي، هم أحسن أثاثاً وزيا، والمقصود بالزي يعني الهيئة الحسنة.
- مسند البزار: (2/149) برقم: (4508)، بهذا اللفظ، وأصله في البخاري بلفظ: خيركم قرني... (2/938) برقم: (2508)، وخير أمتي قرني...، و(3/1335) برقم: (3450) وخير الناس قرني... (3/1335) برقم: (3451)، وفي مسلم: بلفظ: خير أمتي القرن الذين يلوني... (4/1962) برقم: (2533) ونحو ما في البخاري.