السبت 17 / ذو الحجة / 1446 - 14 / يونيو 2025
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ۝ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [سورة مريم:8-9].

هذا تعجب من زكريا حين أجيب إلى ما سأل، وبُشِّر بالولد، ففرح فرحاً شديداً، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومع أنه قد كبر وعتا أي: عسا عظمه، ونحل، ولم يبق فيه لقاح، ولا جماع، والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً، وعسا يعسو عسواً وعسياً".

قول ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ قال: "هذا تعجب من زكريا حينما أجيب إلى ما سأل، وبشر؛ ففرح فرحاً شديداً، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد" فوجه التعجب الصادر من زكريا - عليه الصلاة والسلام- ما قاله بعض العلماء تعجب من قدرة الله ، كيف يأتي هذا الولد وأنا قد بلغت من السن عمراً طويلاً، وهذا وجه قريب، وبعضهم يقول: إن تعجبه من جهة أنه كيف سيحصل له هذا الولد من أي وجه، وهو الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله تعالى - لكنه ما أبان عنه بصورة يفهم القارئ منها حقيقة مراده، وذلك أنه قصد - والله تعالى أعلم - أنه أراد أن يستفسر هذا الولد سيأتيني من زوجتي هذه العاقر، أو من غيرها؛ أنا يكون لي هذا الغلام، وهذا الولد هل هو من هذه الزوجة العاقر؟ أو من غيرها؟ وهل سيكون ذلك بأن يرد إلى سن الشباب فيحصل هذا الولد أو لا؟ وذكر بعضهم معنى آخر فقال: بأنه وسوس له الشيطان، ولبس عليه؛ فلم يستبن هل هذه البشارة هي من وسوسة الشياطين، أو أنها من الوحي، وهذا بعيد؛ وذلك أن نبياً كريماً من أنبياء الله - تبارك وتعالى - مثل زكريا لا يلتبس عليه الوحي بوسوسة الشيطان، والذين قالوا بهذا القول قالوا: "ولأجل ذلك أراد آية ليفرق فيها، ويعرف أهي من الله، أو من الشيطان"، وهذا بعيد.

وقوله: "مع أنه قد كبر وعتا أي عسا لحمه، وعظمه، ولم يبق فيه لقاح، ولا جماع، العرب تقول للعود إذا يبس: عتا يعتوا، عتياً وعتواً، وعسا يعسو، عسواً وعسياً"، فكل متناهٍ يعني وصل إلى الغاية سواء في السن، أو الفساد، والإفساد، أو الكفر يقال: له عاتٍ، يقال: عتا إذا تقدم به العمر جداً، يقال: عتا فهو عاتٍ، وعسى فهو عاسٍ، وذلك يعبر عنه اليبوسة، والتناهي في الكبر أيضاً، فالكبير يحصل له هذا النشاف فيبقى في نهاية الأمر غالباً تذهب نضارته، ويبقى جلده على عظامه، تذهب نظراته، وما في هذا الجسم من الأمور التي كانت تحسنه من الامتلاء، ونحو ذلك؛ فينكمش جلده على عظمه.

"قَالَ: أي الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ أي: إيجاد الولد منك، ومن زوجتك هذه لا من غيرها، هَيّنٌ أي: يسير سهل على الله، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً كما قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [سورة الإنسان:1]".

فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقرر المعنى الذي أورده من وجه تعجب زكريا - عليه الصلاة والسلام - من أي وجه يأتي الولد فيقول: "من زوجتك هذه لا من غيرها".

ومن أهل العلم من قال: أن وجه هذا التعجب هل سيكون من هذه الزوجة أو من زوجة أخرى شابة يتزوجها، أو يرد إلى سن الشباب مع زوجته هذه، وقوله: كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ المفسرون يذكرون أوجه كثيرة، وأقرب هذه المعاني ما ذكره جماعة منهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - قال: كَذَلِكَ أي: الأمر كذلك أنك قد بلغت من الكبر عتياً، وأن امرأتك عاقر، ثم ابتدأ كلاماً مستأنفاً: قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ، فالولد خلقه وإيجاده، وهو علي هين، وقد خلقت من قبل ولم تك شيئاً - والله أعلم -.