"قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنّمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّاً [سورة مريم:81-84].
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلة عِزّاً يعتزون بها، ويستنصرونها، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا، فقال: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أي: يوم القيامة، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5-6]، وقال السدي: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أي: بعبادة الأوثان".
فقوله -تبارك وتعالى-: وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "يعتزون بها، ويستنصرونها"، وقيل: أعوان، وقيل: شفعاء، وقيل: يمتنع بهم من عذاب الله - تبارك وتعالى -، وهذه الأقوال متقاربة، فهم اتخذوا هؤلاء من أجل أن يمتنعوا بهم من عذاب الله إما بشفاعة، أو بنصر، أو غير ذلك.
والضمير في قوله - تبارك وتعالى -: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً يحتمل أن يكون راجعاً إلى العابدين حيث أنهم سيكفرون بعبادة من عبدوهم، ويحتمل أن الضمير يرجع إلى المعبودين حيث أنهم سيكفرون بعبادة من عبدهم، ويتبرؤون منهم، والآية تحتمل هذا وهذا كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ، ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أي يوم القيامة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ"، وكلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا باعتبار أن قوله: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أنه يرجع إلى المعبودين، يكفرون بعبادة العابدين، فهم عبدوهم رجاء الشفاعة، والعز، والنصر من أجل أن يمنعوهم، ولكن ذلك المطلوب لن يتحقق، بل إن هؤلاء المعبودين سيتبرؤون ممن عبدهم، ويكونون عليهم ضداً، فهذه الآية وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ، وهكذا في قوله: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [سورة القصص:63]، وهكذا في قوله: فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة النحل:86]، وهذا هو المعنى الأقرب، وهو المتبادر، وهو الذي اختاره جمع من المحققين كابن جرير وطائفة، ويؤيده قاعدة: "أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها"؛ لأن القول الآخر الذي أشار إليه نقله عن السدي قال: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ "أي بعبادة الأوثان" يعني أن العابدين يتبرؤون، ويكفرون بهؤلاء المعبودين في يوم القيامة، وهذا يدل عليه قوله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم يقولون: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، وقول الله : انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الأنعام:24]، فهم يتبرؤون من هؤلاء المعبودين في يوم القيامة حينما لا يجدون عندهم بغيتهم، وهكذا في قوله عنهم: بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا [سورة غافر:74]، فهذا القول الذي قاله السدي كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ: "أي بعبادة الأوثان" فيكفرون يعني العابدين، ويكونون عليهم ضداً على هذا القول، يكونون عليهم ضداً أي: أن الأوثان تكون عليهم، أو أن المعبودين يكونون على العابدين ضداً.
هذه الأقوال ترجع إلى معناً واحد وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً الأصل أن المضادة تأتي بمعنى المخالفة يكونون عليهم ضداً، فحينما يكون خصماً له كما قال هنا: "خصماء أشداء في الخصومة"، فالمضادة تعني المخالفة، فإنهم يتحولون بدلاً من أن يكونوا لهم عزاً، يتحولون إلى أن يكونوا خصماء، وأضداد، وأعداء، كل هذا يرجع إلى شيء واحد؛ بخلاف ما أملوا، ورجوا.