الأحد 27 / ذو القعدة / 1446 - 25 / مايو 2025
أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُوا۟ عَهْدًا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله ﷺ، وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد ﷺ، قال: "والله ما عهد إلينا في محمد، وما أخذ علينا ميثاقاً"، فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم [سورة البقرة:100].
وقال الحسن البصري، في قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100] قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ونبذوه؛ يعاهدون اليوم، وينقضون غداً.
قوله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم النبذ معناه الطرح، تقول: نبذت الثوب، ونبذت العهد، بمعنى التخلي عنه، وطرحه فهم ينقضون العهد.
وقوله: فَرِيقٌ مِّنْهُم: الفريق بمعنى الطائفة.
وقوله - تبارك وتعالى -: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ عند التأمل فيها نجد أنها تحتمل معنيين - والله تعالى أعلم -، فتحتمل أن يكون المراد أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي أن بل بمعنى (لا) أي أنه  أضرب عن الكلام الأول، وقال: لا ينقضه فريق منهم، وإنما ينقضه أكثرهم أو كلهم.
وقد يراد بالكثرة الكل، وقد يكون على ظاهره، فيكون إضراباً عن الكلام الأول، نبذه فريق منهم بل نبذه أكثرهم، فيكون ذلك بنبذ العهد.
ويحتمل أن يكون المعنى أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ثم قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بمعنى أن هذا النبذ للعهد لا يكون منهم جهلاً منهم بأن ذلك النبذ يحرم عليهم، وإنما أكثرهم لا يصدقون بالله، ورسله، فيكون المعنى أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بحيث لا يفعلون ذلك اعتقاداً أن ذلك يحل لهم، وإنما لكون أكثرهم غير مؤمنين بالله، ورسله.
والخلاصة أن المعنى الأول هو أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بل الذين يفعلون ذلك هم أكثرهم وليس فريق منهم فقط.
والمعنى الثاني أنهم حينما ينقض فريق منهم العهد لا يفعلونه اعتقاداً بحله، ولكن لكفرهم، ولعدم تصديقهم؛ نبذوا هذه العهود.
وعلى المعنى الأول يبقى إشكال وهو كيف نحمل قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ، ومن هنا يمكن أن يكون المعنى الثاني بهذا الاعتبار أكثر ملائمة للسياق، والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالمعنى الأول ليس ببعيد إذ إنه يمكن أن يفسر هكذا: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يعني (لا) وإنما ينبذه أكثرهم.
لاَ يُؤْمِنُونَ أي لا يؤمنون بالله، وإنما يكفرون به بنقض هذا العهد، وبهذه يمكن أن يدفع الإشكال في المعنى الأول.
ويمكن أن يكون قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ تعليل لما وقع منهم من نقض العهد، وأنهم لا يفعلون ذلك جهلاً أو اعتقاداً بحله، وإنما لانخرام إيمانهم، ولعدم إيمانهم بالله.
وأما على القول الأول فيكون قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ يعني أنهم لا يلتزمون العهود، فالذي يحصل منهم نقض العهد، فيكون ذلك كفراً منهم نتيجة لنقضهم للعهود.
والمقصود أن تفتق ذهنك في تأمل القرآن، والنظر في معانيه، فلربما كان الإنسان يقرأ ولا يخطر في باله شيء من ذلك، ولو سئل عن المعنى لتوقف، والله المستعان.

مرات الإستماع: 0

"أَوَكُلَّما الواو للعطف، قال الأخفش: زائدة."

يعني الواو للعطف أَوَكُلَّمَا الهمزة للاستفهام، والواو للعطف، وقال الأخفش: زائدة. يعني إعرابًا يعني أكلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم.

"نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نزلت في مالك بن الصَيْف اليهودي، وكان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد[1]."

هذا من جهة سبب النزول لا يصح أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ هذا عام في العهود، وليس فقط في مقالة قالها واحد منهم كمالك بن الصيف أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا هذا شأنهم، وهذه عادتهم، وديدنهم أنهم ينقضون العهود.

  1. تفسير الطبري (2/400).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله -تبارك وتعالى: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100] فهم مع كفرهم، واتصافهم بالفسق، فإن آثار ذلك ظاهرة عليهم، بادية في تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم ومزاولاتهم، فهم أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:100] يقول: ما أقبح حال هؤلاء في نقضهم للعهود، فكلما عاهدوا عهدًا طرح ذلك العهد فريق منهم، ونقضوه، فتراهم يبرمون العهود اليوم، وينقضونها غدًا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما جاء به النبي ﷺ.

أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا فالهمزة للإنكار، و(كلما) تدل على التكرار، يعني أن هذا ديدنهم وعادتهم المستمرة، ولا يكون ذلك عارضًا وإنما هو شيء دائم مستمر كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نبذه أي طرحه، وعبّر هنا بالنبذ الذي يدل على طرح بغير مبالاة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذا إضراب يدل على أن ما صدر منهم من هذا النبذ للعهود، ونقض ونكث العهود والمواثيق كان بسبب عدم إيمانهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والإيمان له آثاره التي تظهر على صاحبه، فالإيمان كما قال النبي ﷺ : الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[1] فالوفاء بالعهود إيمان، والأمانة إيمان، والشهادة بالحق إيمان، فهؤلاء حينما انتفى الإيمان عنهم ظهرت آثار ذلك عليهم بنقض العهود.

فالإيمان الصحيح له آثاره السلوكية على أصحابه والمنتسبين إليه ولا بد، فإن هذا الإيمان يحملهم على مقتضياته وفروعه وشرائعه وأعماله التي منها الوفاء بالعهود، وأداء الأمانات، هؤلاء لما انتفى عنهم الإيمان ظهر منهم أضداد ذلك من نقض العهود، وهذا يُؤخذ منه على كل حال ما يتصل بالإيمان، وآثاره السلوكية. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم: (9) ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم: (35).