يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] الآية.
هناك قال الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:89] يعني يستنصرون أنه سيبعث نبي، ثم بعد ذلك يتبعونه، فيقتلون هؤلاء الذين كانوا يتوعدونهم به من الأوس والخزرج وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة البقرة:89، 90] حسدًا للنبي ﷺ وللعرب أن تكون النبوة والوحي فيهم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].
وهنا وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو محمد ﷺ جاءهم بالحق والقرآن الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى- وهو معجز في ألفاظه، وقد تضمن البراهين الساطعة على أنه من عند الله -تبارك وتعالى- ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثله، وهو مصدق لما معهم من كتبهم، مما جاء في التوراة والإنجيل أنها من عند الله وأن هؤلاء الأنبياء الذين بعثوا فيهم أنهم أنبياء الله الكرام.
وكذلك أيضًا هو مصدق لما معهم مما قصّ الله -تبارك وتعالى- عليهم من القصص فيما لم يُحرف من كتبهم، مما شهد لصحته القرآن، وهو مصدق لما معهم أيضًا في كونه على وفق ما جاء الخبر به في كتبهم من صفته -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك لما جاءهم هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت النتيجة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ نبذوه وطرحوه، وهو كتاب الله -تبارك وتعالى- وجعلوه وراء ظهورهم في غاية الإعراض كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ شأنهم شأن من لا علم له ولا بصر، فلم ينفعهم ذلك العلم، وما أنزل عليهم من الكتب، مع كثرة ما جاءهم من الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولما جاءهم رسول نُكر الرسول هنا وهذا التنكير يفيد التعظيم، فهو رسول عظيم من عند الله -تبارك وتعالى- فذلك التنكير يفيد تفخيم شأن هذا الرسول الذي كان ينبغي أن يعظم ويصدق، وأن يؤمنوا به، ولكن للأسف فعلوا خلاف ذلك.
وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فهذه اللام يسمونها لام التقوية، دخلت على مفعول (مصدق)؛ لتقوية دلالة ذلك التصديق، يعني تصديق ثابت محقق مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ومع ذلك قابلوه بالتكذيب، ونبذوه وراء ظهورهم.
وتأمّل قوله -تبارك وتعالى- في ذكر موقفهم من هذا الرسول، ومما جاء به: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] فذكر هذا الوصف لهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فيه تشنيع عليهم، هم أهل كتاب فنبذهم لا يكون كنبذ غيرهم ممن لا بصر له ولا علم، ولا عهد له بكتاب.
فهؤلاء أهل كتاب، ثم يتعاملون مع الكتاب المنزل والوحي بهذه الطريقة؛ ولهذا يقال: على قدر المقام يكون الملام، فاللوم الذي يلحق هؤلاء أعظم مما يلحق غيرهم من الجهال، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] يعني كيف يقولون هذا وهم يتلون الكتاب؟ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم المشركون مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فهؤلاء أصبحوا في حال من الاستواء مع المشركين الذين لا عهد لهم بالعلم، ولا بصر لهم بالكتاب، فقالوا كمقالتهم.
وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ولم يقل: نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب: الكتاب الذي جاءهم، وإنما قال: كِتَابَ اللَّهِ فهذا فيه زيادة في تفخيم شأن هذا الكتاب، وزيادة في التشنيع على هؤلاء اليهود، فالذي نبذوه إنما هو كتاب الله -تبارك وتعالى- ونبذ كتاب الله كفر محقق، وعمل في غاية القبح والشناعة كِتَابَ اللَّهِ فأبرزه بهذه العبارة، وكان يمكن أن يقال: ولما جاءهم كتاب من عند الله، عُرف أنه من عند الله، نبذوه وراء ظهورهم، لم يقل ذلك، وإنما قال: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هؤلاء كما يقال: الشر عليهم أكبر، هم أهل كتاب وهكذا يتعاملون مع الكتاب المنزل، ثم أيضًا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وهذا الكتاب كما قال في أول الآية: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حينما يقال: من عند الله، فهذا يعني أنه حق ثابت، وأنه يجب عليهم الإيمان به، وأن يعظموا هذا الكتاب، فهو ليس من عند أحد من البشر، لا من الرسول ﷺ ولا من غيره.
ثم أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ نبذوه، ولم يقل: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وإنما عبر بالنبذ، وكذلك أيضًا ذكر معه ما يُورث اليأس من هدايتهم وقبولهم واستجابتهم، فلم ينبذوه عن يمينهم أو شمالهم، وإنما نبذوه وراء ظهورهم، ومن نبذ الكتاب وراء ظهره، فإنه لا يرجَّى منه هداية ولا رجوع، ولا ارعواء، فهو في غاية الشرود، فهذا يصور شدة الإعراض الذي كانوا عليه، فمن أعرض عن شيء تجاوزه، فخلفه وراء ظهره.
وذكر هذا الجملة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يدل على تأكيد بعد هذا المتروك عنهم، تقول: فلان جعلنا وراء ظهره، فلان جعل أصحابه وراء ظهره، فلان جعل وصيتي وراء ظهره؛ لما تقول: ترك وصيتي، قد يكون نسي أو غفل، وقد يرجع إليها، لكن لما تقول: جعل وصيتي وراء ظهره، وجعل نصيحتي وراء ظهره، معناه: أنه في غاية الإعراض، فهذا لا يلقاه أبدًا، ذاك الذي جعله خلف ظهره، فجعل الظهر وراء، فقال: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فهذا كله يفيد المبالغة في تصوير هذا الطرح والنبذ مع الإعراض الكامل.
فهذه الإضافة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كالبيانية؛ لأن الوراء لا يكون إلا في الخلف، كما يقال: في القفا وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] القفو الاتباع، والذي يتبع غيره يكون في قفاه، ويمشي في قفاه؛ ولهذا فسر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] بالغيبة والنميمة؛ لأنها تقال في قفا الإنسان، والواقع أن ذلك يشمل هذا ويشمل غيره وَلا تَقْفُ يعني تتبع، فلما كان المتبع لغيره يسير خلفه، يعني في قفاه، صار كل من يتبع ما لا علم له به من شائعة، وأخبار، ودعوات مضللة، ومذاهب منحرفة، كل هذا يكون بهذه المثابة، قد قفا ما ليس له به علم.
وقال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101] هم يعلمون، ولكن بفعلهم هذا صاروا بمنزلة من لا يعلم، وتأمل هذا الصنيع منهم، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- بعده: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] فإن هؤلاء تركوا ما هم بصدده من الحق الذي جاءهم، وما كان يجب عليهم من اتباعه، والاهتداء به، والانتفاع بهذا النور المبين، والهدى الكامل، فتركوه، ونبذوه وراء ظهورهم، فماذا كانت النتيجة؟ هل صار هؤلاء في حال من الاهتداء، أو البقاء على هداية، أو التمسك بكتابهم؟
الجواب: لا، وإنما وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102] فيُؤخذ من هذا أن من ترك ما هو بصدده من الاشتغال بما ينفعه ابتلي بالاشتغال بما يضره، هؤلاء تركوا كتاب الله، والنتيجة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ العكس تمامًا، يعني أن كتاب الله -تبارك وتعالى- واتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا هو الهدى الكامل، الذي يقابله الظلام والسواد الحالك هو اتباع السحرة.
يعني الرسول في طرف، والساحر في الطرف الآخر تمامًا، الساحر حينما يوغل بالسحر، فإن ذلك يعني أنه قد أوغل في الكفر والضلال واتباع الشياطين، لا يكون الساحر حاذقًا متمهرًا بالسحر إلا إذا كان عظيم الكفر بالله ، فالشياطين تطلب منه أشياء من عبادتها، وتقديم القرابين، والتدنس بأنواع الفواحش وبأقبحها، وكذلك التلوث بالنجاسات، وتلويث المصاحف -أعز الله كتابه وأعز من يسمع- بدم الحيض، والأنتان، فكلما أوغل في هذا كان في السحر أبرع، فإذا وجد السحر فثمة الظلمة والشر والنجاسات الحسية والمعنوية والشياطين، وإذا وجد النبوة والرسالة والكتاب، وأنوار الوحي هناك تشرق الهدايات.
ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله: بأنه متى أشرقت أنوار النبوة تلاشت الظلمات: ظلمات السحر والشعوذة والضلال والبدع والأهواء، ومتى ضعفت أنوار النبوة كثر السحر وذاع وشاع، فهذا أمر مشاهد معلوم، فالبلاد التي تضعف فيها أنوار النبوة يكثر فيها السحرة والمردة والطوائف المنحرفة، وأهل البدع والضلالات، والبلاد التي تشرق فيها أنوار النبوة يتلاشى ذلك جميعًا، فهؤلاء تركوا النور والهدى والحق الذي أمروا باتباعه، فابتلوا بالاشتغال بأسوأ الأشياء؛ ولذلك يُؤخذ منه، وهذا المعنى ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره، وذكره في كتابه القواعد الحسان، وعقد له ترجمة خاصة، بأن من ترك ما هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده.
ولذلك فإن الإنسان إذا لم يشتغل بقراءة القرآن وسماعه، وذكر الله -تبارك وتعالى- اشتغل بالألحان، وسماع الأغاني والمعازف، فإذا كان الإنسان لا يشتغل بكتاب الله وتلاوته وتدبره، ويجد قلبه عند ذلك، بدأ يبحث عن أشياء أخرى، من القصائد الملحنة، ونحو ذلك، فإذا كان لا يُرقق قلبه بالقرآن كما هو مشاهد، فبعضهم يبحث عن ترقيق القلب بسماع القصائد الحزينة التي تحكي مآسي، أو تحكي وفاة أو فاجعة، أو نحو ذلك، فهذا يرثي أمه بقصيدة حزينة، وهذا يرثي ولده الذي وقع له كذا وكذا من الأمور التي تجلب الحزن، مع أن هذا الحزن غير مطلوب؛ لماذا يجتر الإنسان أحزان غيره، وقد سمعتُ بعضهم يصرح بهذا، ويقول: بأن لديه الرغبة في البكاء، لكن هذا الرغبة في البكاء للأسف ليست من رقة القلب، أو الخوف من الله وإنما هي رقة عبثية.
وقل مثل ذلك أيضًا فيمن لم ينفق ماله في سبيل الله ومرضاته وطاعته، ابتلي بإنفاق الأموال فيما يضره، فإذا جاء الحج قال: الحملات غالية، وإذا جاءت الأضاحي قال: الأضاحي غالية، وهكذا يترك الحج والعمرة والنفقة في سبيل الله والصدقات، وتجد مثل هذا يذهب ويسافر، وحينما يجد فرصة، وينفق أضعاف هذا على أسفار لا تبرأ بها ذمته، ويذهب إلى بلاد تظهر فيها أنواع المنكرات، ولا يستطيع أن يغيرها، يذهب إليها برجله، ويقطع آلاف الأميال لربما بحجة أنها سياحة، وترى عجبًا من هؤلاء الناس، وسؤالات ترسل غريبة وعجيبة.
وهناك من يسأل ويجادل في أن أصل ذلك البلد كان للمسلمين، ثم أخذه الكفار، فهل نبقى على الأصل فنذهب إليه؟ لأن زوجي يقول: لا نذهب إلا إلى بلاد مسلمين؟ وصلنا إلى هذا الحد، فهؤلاء الذين ينفقون هذه الأموال الطائلة الواقع أنهم سلطوا نفقتهم على ما يضرهم، وتركوا ما ينفعهم، فإذا اشترى الإنسان الأضحية، أو حج، أو نحو ذلك، قيل: هذه مصاريف كثيرة، وهذه نفقات كبيرة، ولكن حينما يذهب ويتحدث ويرسل الصور من هناك في الأماكن التي يذهب إليها يعجب الناس بهذا، ويقولون: ما شاء الله، أين هذا؟ يا ليتنا كنا معكم، ولا تجد من يعاتب، ويقول: كيف تنفق الأموال في هذا؟ ولماذا تذهب إلى هذا المكان؟ ولا يحل لك هذا السفر، بل الإعجاب، ولربما كان الأفضل من هؤلاء هو الذي يدعو له بالبركة؛ لئلا يصاب بالعين؛ لأنه يغبطونه، فترك الإنفاق في سبيل الله، وترك الحج، وهذه الأيام تدخل العشر التي هي أفضل عشر في العام، والبعض يتهيأ للسفر إلى أين؟ إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، إلى حيث أنواع الشرور والمنكرات، ولربما يبتز ويسرق، ويتعرض للأخطار، ومع ذلك تجد هذا الإصرار على هذا السفر.
وقل مثل ذلك أيضًا من ترك قراءة الكتب النافعة من كتب العلم النافع، ابتلي بقراءة الكتب الضارة التي تحرك الغرائز، من هذه التي يسمونها بالروايات، أو الكتب التي تثير الشبهات في النفوس، وتجد عند بعض الدور المشبوهة في المعارض الدولية خلقًا من ضعفاء العقول، قد تجمهروا عند تلك الدار، فإذا أتيت ونظرت وإذا بهؤلاء قد تجمعوا على كتب ضارة مشبوهة تورث الشبهات والشكوك في الدين، أو تحرك الغرائز، وينفقون فيها الأموال، وما إلى ذلك.
وهكذا يجني الإنسان الضرر على نفسه، ويشتري الضلال بماله، ولربما يتحدث كثيرون عن قراءة الغربيين لكثرة القراءة عندهم مثلاً، وأنهم يقرأون في كل مكان، في محطة القطار، وفي الطائرة، وفي المطار، وفي السيارة، وفي المسبح، وفي كل حين، والواقع ليس المعيار هو القراءة، فهم يقرأون ماذا؟ يقرأون أشياء ضارة، فقراءتهم هذه تركها أولى بهم وأنفع لهم، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: من الناس من يكون حال السكر أفضل له من حال الإفاقة؛ ولما مر بقوم من التتر يشربون الخمر، وأراد أصحابه أن ينكروا عليهم نهاهم، قال: هؤلاء إذا سكروا لم يقتلوا، ولم ينتهكوا الأعراض، ونحو ذلك.
يعني اشتغلوا بسكرهم، لكن إذا أفاقوا انتهكوا الأعراض، وقتلوا النفوس، فمن الناس من يكون السكر أفضل له من الصحو، ومن الناس من يكون النوم أفضل له من اليقظة، كما يقال: نوم الظالم عبادة، وهي عبارة قد لا تكون صحيحة، لكن لا شك أن نوم المفسد أفضل من يقظته.
وهكذا -أيها الأحبة- حينما نترك القراءة فيما ينفعنا، ثم بعد ذلك نجد هذا الاعتكاف الطويل على وسائل التواصل، يقرأ الإنسان ما هب ودب ودرج، ولربما يشاهد أشياء لا تحل، ويسمع أشياء لا تحل، ويقرأ أشياء تضره ولا تنفعه، لو كنا نقرأ وكانت المصاحف بأيدينا كما نحمل هذه الأجهزة لصرنا من أعبد الناس، وأتقى الناس، لو اشتغلنا بكتاب الله كما نشتغل بهذه الأجهزة، والنظر فيها والقراءة، تجد الرجل في المسجد وهو خارج من المسجد ينظر، كل إنسان قد أخرج جواله يقرأ الرسائل التي جاءت في وقت الصلاة، لو كنا هكذا مع القرآن لتغيرت أحوالنا.
وقل مثل ذلك أيضًا حينما يقبل الإنسان على أمر يضره، ويترك ما ينفعه، وهذا باب واسع، والله المستعان، فإذا نظر الإنسان في حاله، وحال من حوله، رأى من ذلك أشياء كثيرة.
فعلى العبد أن يبادر ويستجيب لأمر الله ويقبل على ما ينفعه، وقد فسّر بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] حملوه على معنىً غير المشهور، ومن هؤلاء بعض المحققين في التفسير، حيث قالوا: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كما يقول ابن جرير: أنه باشتغاله بهذه الصلاة قد اشتغل عن الفحشاء والمنكر لا أن الصلاة تكون وازعًا له، وإنما هذا الاشتغال بالصلاة هو في الوقت نفسه تشاغل عن الفحشاء والمنكر، والنفس إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية.
إن الشباب والفراغ والجده |
مفسدة للمرء أي مفسده. |
فهذا المعنى ذكره ابن جرير واختاره، وإن كان الأقرب -والله أعلم- المعنى الآخر، وهو أنها تنهى، مع أنها إشغال فيدخل هذا المعنى فيه، فالنفس تحتاج إلى إشغال بالطاعة، وبالمعروف وبالخير، وهذا اللسان إذا لم يشغل بذكر الله اشتغل بالغيبة والنميمة، وإذا لم يجالس الإنسان الأخيار، وتركهم بأي حجة أنهم ليس لهم اهتمام بالعلم كانت النتيجة ما هي؟ أن تتفرغ له الشياطين، ويجلس مع البطالين، وربما يشاهد القنوات بحجة أنه يتابع الأخبار، ثم ما يلبث أن تتحول حاله -نسأل الله العافية- إلى شيء من المسخ، حتى قد يصل الأمر به إلى الاشتراك في قنوات إباحية مشفرة، ويدفع المال، وكانت القضية في البداية، هي مشاهدة أخبار، ومتابعة الأحداث، وترك الأخيار وصحبة الأخيار بحجة: ليس عندهم اهتمامات علمية، والآن ظهرت الاهتمامات العلمية: بترك الصلوات، والنظر إلى الحرام، وتضييع حدود الله هذا يوجد.
وقل مثل ذلك في الذي يترك حضور الدروس العلمية، ومجالس العلم، والدورات الشرعية، وتجده يتهافت ربما بأموال طائلة على حضور دورات في البرمجة العصبية، ودورات في الطاقة، وأشياء يُؤخَذ بها ماله، ويتبع فيها الأوهام، ويدخل عليه من المفاسد في الاعتقاد والتصور ما لا يدركه، ولا يفهمه، والله المستعان.
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء اليهود لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، فكان مقابلتهم لذلك أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، فلما ترك هؤلاء ما ينفعهم ابتلوا بالاشتغال بما يضرهم، فقال الله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].
فهؤلاء اليهود اتبعوا ما تتلوا أي ما تتحدث به الشياطين على عهد سليمان إبان ملكه وَاتَّبَعُوا يعني: اليهود مَا تَتْلُوا ما تحدث به الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: إبان ملكه وفي عهده وسليمان كان بريئًا من هذا السحر وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ أي: أنه لم يشتغل بالسحر، ولم يكن له اتصال به، ولم يكن ذلك التسخير الذي حصل لسليمان للريح وتسخير الشياطين، وما إلى ذلك، لم يكن ذلك بسبب تعاطي السحر، كما كذبوا على سليمان فهؤلاء الشياطين كفروا.
وهذا من المواضع المشكلة التي كثر الكلام فيها في التفسير، فقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ على عهده، وزمان ملكه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ما كفرهم؟ قال: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فقوله: وَمَا أُنزِلَ (ما) هذه تحتمل أنها نافية، يعني أن السحر لم ينزل على الملكين ببابل، ويحتمل أنها موصولة بمعنى الذي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والذي أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فهذا الموضع ينضاف إليه قوله: الْمَلَكَيْنِ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ هل هم ملائكة؟
بعض العلماء يقولون: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ملَك لغة في الملِك، فهم من ملوك الدنيا، من البشر وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وأنها لغة يقال: ملَكٌ وملِكٌ للملك من الناس، وعلى هذا ينتفي الإشكال فيما يتعلق بالملائكة؛ لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهذا موضع إشكال على القول بأن هذا السحر أنزل على ملكين من الملائكة، والذين قالوا: إنهما ملكان من الملائكة بعضهم قال: إن (ما) نافية وَمَا أُنزِلَ لم ينزل عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وبعضهم قال: بل موصولة، والذي أنزل على الملكين ببابل، وهؤلاء حينما يوجه إليهم هذا السؤال: كيف يقع ذلك من ملائكة؟ قالوا: ابتلاءً وفتنة للناس، والله -تبارك وتعالى- جعلهما موضع ابتلاء للناس واختبار؛ ولهذا قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.
وأما ما يُذكر من الإسرائيليات في هذا، وهي كثيرة فهذا لا يليق بمكان الملائكة -عليهم السلام- ولا يصح أن يُحدث به، ولا أن يُذكر في كتب التفسير، وليس بداخل في قوله ﷺ في الرخصة: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإن الحديث عن بني إسرائيل فيما لم يرد في كتابنا وفي شرعنا ما يصدقه، أو يكذبه، أو فيما ورد في كتابنا مما يشهد له، أما ما نعلم أنه كذب، فهذا لا يصح أن يُحدث به.
وبعض أهل العلم وهو الذي ذهب إليه القرطبي -رحمه الله- وليس هذا موضع تفسير، لكن لأن هذا الموضع مشكل، حتى نفهم الفوائد التي سأذكرها منه؛ لأن الفوائد والتدبر يبنى على فهم المعنى، فإذا لم نتصور المعنى لم تكن هذه المعاني المستخرجة مسددة، فالقرطبي يقول: الآية فيها تقديم وتأخير وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت، وهي أسماء شياطين، التي ذكرت فيما بعد، قالوا: هذا من المؤخر الذي موضعه التقديم وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ثم نفى عن الملكين وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ.
وأما هاروت وماروت التي بعدها قالوا: هي متعلقة بقوله قبل: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ أي: هاروت وماروت، وهذا إنما حمله عليه هو أن هؤلاء إن قيل: بأنهم ملائكة، فكيف يقال: إنهم يعلمون الناس السحر؟ ويُشكل على هذا المعنى القاعدة المعروفة: أن الأصل في الكلام الترتيب، وأنه لا يلجأ إلى دعوى التقديم والتأخير، فمهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح، وعلى وجهه من الترتيب، كما في الآية فهو مقدم على دعوى التقديم والتأخير؛ لأنه خلاف الظاهر، فالإشكال يدور حول هذه المسألة، وحول هذه القضية وهي: أن الملائكة كيف يقع منهم هذا؟
فالذين جوزوه قالوا: ابتلاءً واختبارًا، وما جاء في بعض المرويات الإسرائيلية لا يصح أن يذكر، ولا شأن لنا به، ولكن لو قال قائل: أن (ما) هنا نافية وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ولكن أيضًا هذا الجواب لا يخلو من إشكالات قوية ترد عليه، فالله أعلم.
وعلى كل حال فهؤلاء الذين يقولون: بأن ذلك كان على ملائكة، وأن ذلك من باب الابتلاء والاختبار، يقولون: إن أسماء هؤلاء الملائكة: الأول: هاروت، والثاني: ماروت، وهذا قول في هذه المسألة؛ ولذلك لا تجدون هذا من الأسماء المحفوظة المتفق عليها في أسماء الملائكة: هاروت وماروت، قالوا: هذا كله من باب الابتلاء للعباد، وأن هؤلاء الملائكة كانوا ينصحون من قصدهما، فيقولون: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ اختبار فَلا تَكْفُرْ يعني بتعلم السحر، أو تعاطيه.
ويقول الله : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا يعني: هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ السحر له حقيقة، وهو يؤثر بإذن الله فيقتل، ويُمرض، لكن بإذن الله، ولا يقع شيء في الكون إلا بإذن الله، لكن الله جعل في بعض الأشياء أسبابًا، وجعل فيها من الخواص التي يتسبب عنها الخير أو الشر ما هو معلوم مشاهد.
وأيضًا يحصل بسببه ما ذكر هنا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ يعني: ما يسمى عند الناس بالصرف، فيتزوج الرجل المرأة ليس بها بأس، ثم بعد ذلك يفاجأ بأن هذه المرأة لا يمكن أن يقربها، أو أن يمسها، إما أن يكون النفور منه، وإما أن يكون النفور منها، وإما أن يكون منهما، وقد يخيل إليه أشياء، وقد يخيل إليها أشياء، وقد تجد رائحة لا تطاق منه، وقد تراه في صور قبيحة من صور حشرات، أو حيوانات كريهة، أو نحو هذا، فلا تطيق قربه، وقد يحصل ما هو أبلغ من ذلك، فقد تصطك عظامها، فلا يستطيع أن يصل إليها، ولا أن يجامعها بحال من الأحوال، وقد تجرى لها العمليات، ثم بعد ذلك يرجع كل شيء إلى حاله التي كان عليها، فيمتنع عليه الاقتراب منها، فهذا يكون من قبيل السحر، وقد يصاب بالجنون بسبب السحر، وقد يصاب ببعض الأورام بسبب السحر، وغير ذلك من الأمور، نسأل الله العافية للجميع، وأن يكبت السحرة والأشرار إنه عزيز قدير.
فهذه الآية تدل على ثبوت أثر السحر، لكنه لا يُؤثر بنفسه، فكل شيء بمشيئة الله وقدرته وإرادته، كما قال الله : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فمن الناس من يعمل له السحر، ولكن ذلك لا يُؤثر فيه، إما لوجود مانع كالتحصن بالأذكار، فلها أثر عجيب في تحصين صاحبها من أعمال السحرة، وقد يكون ذلك بأمر آخر.
ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ يعني: هذا السحر يضر، فهو من العلوم الضارة، ومن ثم فإنه لا يجوز تعلمه بحال من الأحوال، فهو من العلوم المحرمة الفاسدة، فتعلمه حرام، وهذه الآية نص في هذا، وقد تكون بعض الأشياء فيها ضرر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] الجبان يصير شجاعًا، والبخيل يصير جوادًا إذا سكر، فيجود بالمال والإنفاق والبذل، ولا يقف في وجهه أحد، في أرض المعركة، فهذه منافع، لكنها قليلة في مقابل المضار إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فهذه مضار كبيرة.
فالعلماء كالشاطبي -رحمه الله- يقولون: بأنه لا يوجد في الدنيا مفسدة محضة خالصة، يعني من كل وجه، وإنما ذلك في الآخرة في النار، واللذات في الدنيا التي هي المصالح يقولون: لا تخلو من شائبة، يعني من المفاسد، ويقصدون بالمفاسد الآلام، يعني ما يشوبها من تعب وجهد، حتى الصلاة هي مصلحة عظمى، وصلة بين العبد وربه، لكن هي شاقة، وفيها مشقات، من النهوض لها، والقيام من النوم، ومن قصد الجمع والجماعات، ونحو ذلك؛ ولهذا قال الله : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] فلا يوجد راحة كاملة، وكما يقال: مصلحة خالصة من كل وجه إلا في الجنة، الجنة هي التي لا يوجد فيها أدنى تنغيص، وما فيها أي تعب، ولا أي ألم، ولا أي مشقة.
فهنا قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ [سورة البقرة:102] فقد يكون الشيء يضر، وفيه نفع، وقال: وَلا يَنفَعُهُمْ كما سنذكر في الفوائد المستنبطة.
وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني: أنهم تعاطوا هذا مع علم، وجاء بالتحقيق بـ(قد) أي: علموا يعني هؤلاء اليهود أن من تعاطى السحر لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني أخذه واختاره واستعاض به ونحو ذلك مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعني: ما له في الآخرة من نصيب، ومن ليس له في الآخرة خلاق نسأل الله العافية، فمعنى ذلك: أنه كافر، والله يقول في أعمال الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] ويقول: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [سورة إبراهيم:18] أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور:39] فهذا الساحر مشرك كافر؛ ولهذا في نفس الآية: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] فلا تكفر، يعني: بتعلم السحر وتعاطيه.
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ يعني: ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر، عوضًا عن الإيمان، واتباع الكتاب المنزل، والرسول الذي أرسل إليهم -عليه الصلاة والسلام- لو كان لهم علم ينفع، ويثمر العمل، فنزّلهم منزلة من لا علم له أصلاً لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وقبلها قال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ لكن لما كان هذا العلم لم يورث عملاً نزّله منزلة المعدوم، فقال: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هم يعلمون، ولكن هم غير موفقين، حصل لهم علم الإرشاد، ولم يحصل لهم علم التوفيق والهداية.
فالفائدة الأولى -أيها الأحبة- هي التي أشرت إليها في الليلة الماضية، توطئة للكلام هنا، وأشرت إليها آنفًا في المناسبة بين الآية السابقة وهذه الآية: أن الإنسان إذا أعرض عن الوحي الذي تلاه الله على رسوله ﷺ ابتلي بأضداد ذلك من اتباع الشياطين بدلاً من اتباع المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- يترك أطهر الخلق، ويتبع أسوأ الخلق، فهذه سنة ماضية، والجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [سورة الزخرف:36] فالذي يعرض عن ذكر الله ويتعامى عنه، يُسلط عليه شيطان، يكون هو قرينه، ويصده عن سبيل الله وطاعته ومرضاته.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقد أشرت إلى كلامه إشارة في الليلة الماضية: لما كان من العوائد القدرية، والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله، وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل، وقد ذكرت في الليلة الماضية أمثلة كثرة لهذا.
فهكذا هؤلاء اليهود كما يقول الشيخ -رحمه الله: لما نبذوا كتاب الله، اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان، حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان كان يستعمله، وبه حصل له الملك العظيم وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102].
وقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ لاحظ لفظة (الاتباع) التابع يكون خلف المتبوع، فهؤلاء رضوا لأنفسهم بعد أن اصطفاهم الله على العالمين وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [سورة المائدة:20]جعل فيكم أنبياء، ولكن في الملك قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا بعض المفسرين يقولون: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا جعل الملك فيهم، فأضافه إليهم جميعًا، وبعضهم يقول: من كان له خادم ومسكن وراحلة، ونحو ذلك، فهو ملك، بعد أن كان هؤلاء في حال من الذل والمهانة لفرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة، ويذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، يبقي البنات على قيد الحياة من أجل الابتذال والامتهان والخدمة للفراعنة.
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ و(ما) تفيد العموم، وهذا يدل على أنهم انساقوا بالكلية، فانخلعوا من ربقة الدين، ثم بعد ذلك صاروا عبدة لهؤلاء الشياطين، متبعين لهم في كل شيء، وهكذا الساحر، فإنه لا يبرع بهذا السحر -كما أشرت في ليلة مضت- إلا إذا كان أتبع للشياطين، وهذا الاتباع يكون فيما تأمره به الشياطين، فيصدر عنه من الأقوال والأفعال والأحوال ما يصير معه عبدًا لهؤلاء الشياطين، نسأل الله العافية، وهذا مزلق خطير.
يعني من الناس من قد يدخل في هذا باستدراج، تستدرجه الشياطين، وقد يقع هذا الاستدراج بأن يلج إليه من بوابة الرقية أولاً، ثم ما تلبث به هذه الشياطين أن تتلاعب به، فتصور له أنه له من المهابة والمكانة والمنزلة، وأن الجن والشياطين يخافون منه غاية الخوف، ثم بعد ذلك قد يتظاهر بعض هؤلاء أنه قد أسلم وتعهد بالخروج، ثم يعرض عليه بعد ذلك الخدمة، أو المرافقة، أو الحماية، وبعض هؤلاء قد يغتر بهذا، ويصدقهم.
ومعلوم أن هؤلاء الشياطين كما قال شيخ الإسلام: أنهم أهل كذب وفجور فيتلاعبون به، وهو لا يعلم حال هذا الذي يكلمه ما هو؟ فيقول له: بأنه أسلم، وقد يقول له: بأنه من ملوك الجن وكبرائهم، ثم بعد هذا يصدق هذا المسكين، ثم يتعامل مع هؤلاء باعتبار أنه يتعامل مع الجن المسلمين، وهؤلاء لا يقدمون له شيئًا إلا بمقابل، فيقدمون له بعض الخدمات في البداية استدراجًا، وقد يخبرونه بأخبار الله أعلم بها، وقد يعالجون، وقد يفتح بعضهم عيادات، وقد يجري عمليات غير مرئية بزعمه، وقد يخبرونه عما بهؤلاء المرضى، ويأتي هذا الخبر موافقًا لما قاله الأطباء إن كان الأطباء قد عرفوه، وقد يخبرونه بشيء لا يعرفه الأطباء فيقولون: هذا مسحور، وعمل له السحر في اليوم الفلاني، وفي المكان الفلاني، وعمله فلان، والسحر موجود في المكان الفلاني، قد يصدقون وقد يكذبون، ويوقعون بين الناس الشحناء والعداوة والبغضاء، ثم هكذا شيئًا فشيئًا، حتى يجد هذا الإنسان نفسه في النهاية لا يستطيع أن يتمنع من هؤلاء، أو أن يرد لهم طلبًا، أو أن يعصي لهم أمرًا، فيبدأ الابتزاز، وهكذا يُسلب الإيمان، ويتحول إلى ساحر، وكان في أول أمره من الرقاة، فهذا من المزالق الخطيرة.
ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- فيما أخبر به عن هؤلاء اليهود وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].
فذكرنا في الليلة الماضية معنى هذه الآية الكريمة، والعلاقة بينها وبين ما قبلها، وهو أنّ من ترك ما ينفعه، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فهؤلاء تركوا اتباع الكتاب المنزل، والنبي المرسل، فابتلوا بالاشتغال بالسحر، واتباع السحرة.
ومن جملة الفوائد: ما يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا فنلاحظ هنا: أنه قدّم نفي الكفر عن سليمان ثم أثبت كفر الشياطين، يعني لم يقل: ولكن الشياطين كفروا، ولم يكفر سليمان وذلك بتقديم الأهم؛ لأن هؤلاء قد نسبوا السحر إليه، وأنه إنما سُخر له ما سُخر بسبب السحر، فقال الله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ فنفى التهمة عنه، فهذا من باب تقديم الأهم.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الشياطين هي التي تعلم الناس السحر؛ وذلك أنه إنما يتحصل بالتقرب إليهم بألوان التقربات، من دعائهم من دون الله وطاعتهم، والذبح لهم، وتقديم القرابين، وفعل أنواع المنكرات والمدنسات.
وقد ذكرت أمثلة لذلك، فيرتكبون القبائح، ويعملون ما يعملون من الرقى التي فيها ألفاظ الشرك، وتلويث المصاحف، وتدنيس أسماء الرب -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك من الأعمال القبيحة، ولا يمكن لهؤلاء الشياطين أن يقدموا لهذا الساحر هذه الخدمات إلا بهذه الجنايات، التي يذهب معها دينه وإيمانه، وهذا من جملة استمتاع الإنس بالجن، والجن بالإنس، كما قال الله تعالى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128].
فمن استمتاع الجن بالإنس ما يحصل لهم من القرابين، والاستعاذة بهم، حيث كانوا يقولون: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، وما يحصل لهم من أنواع التقربات والشركيات والنذور والذبائح، وكذلك استمتاع الإنس بتحصيل بعض مطالبهم، فيحصل مقصود الساحر، وربما جاءوا له بالمال، وربما سرقوه، وهكذا يفعلون أشياء قد ينتفع بها هذا الساحر انتفاعًا قريبًا، ولكنه يخسر خسارة محققة.
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ كأنه تفسير لكفرهم، وهذا يدل على أن تعليم الناس السحر لا يجوز، وأنه كفر، كما أن تعلم السحر كفر لا يجوز، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فتعلم السحر وتعليمه كفر، فكما أن الملائكة -عليهم السلام- لا تعاون إلا الأخيار من الناس المشبهين بهم في الفضائل والطاعة والقربة إلى الله والنزاهة والطهر، فتعينهم الملائكة، وتثبتهم أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12].
فالملائكة تنزل على أهل الإيمان، وتنزل عليهم بالسكينة، ويحصل أيضًا منهم المعونة في أرض المعركة، والنبي ﷺ أخبر عن مجالس الذكر، وذكر من فضلها في القوم الذين يجتمعون في بيوت الله فقال: إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة فالسكينة تنزل على أهل الإيمان، كما قال الله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [سورة التوبة:26] وهم الملائكة -عليهم السلام.
فإذا كانت الملائكة تتنزل بالسكينة والطمأنينة، ويحصل على أيديهم بأمر الله من المعونة لأهل الإيمان، فكذلك أيضًا الشياطين فهم لا يعاونون إلا من شاكلهم في الكفر والضلال والفساد والنجاسة الحسية والمعنوية، وبهذا يظهر البون الشاسع والفرق الواسع بين السحرة والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء من أولياء الله -تبارك وتعالى.
ويُؤخذ من هذه الآية: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] أنّ الله -تبارك وتعالى- قد ييسر أسباب الفتنة والمعصية امتحانًا لعباده، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذه الصيود بالنسبة للمحرمين، وكذلك في أرض الحرم لما كان يحرم على هؤلاء صيدها ابتلاهم الله بها، بحيث: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يعني: تصل إليه اليد، فلا يحتاج إلى رمي بالسهام، ونحو ذلك لبعده، وإنما يأخذه باليد، وكذلك يناله بالرمح، وكما أتى النبي ﷺ في طريقه إلى مكة على ظبي حاقف، والظبي الحاقف هو الذي قد مال عنقه على جانبه، كما يفعل الظبي إذا نام، فقال النبي ﷺ: لا يريبه أحد فكانوا على كثرتهم يمرون به، ولم يتعرض له أحد، والنفوس -كما هي العادة- تستفز إذا رأت الصيود، وهذا ظبي حاقف نائم بجوارهم يمرون وينظرون إليه، فهذا من الابتلاء تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ.
وهكذا -أيها الأحبة- فقد تقرب أسباب الفتنة والشر: من الصور المحرمة، والمشاهد الإباحية والسيئة، التي تكون قريبة المأخذ والمنال، تتعرض للإنسان حينما يتابع أو يشاهد مقطعًا لتلاوة كلام الله أو لمحاضرة، أو موعظة، أو نحو ذلك لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] حيث لا يراه أحد، ولا يطلع عليه أحد، فهي فتنة واختبارًا، فهي نكتة سوداء، إن شاء جعل ذلك في قلبه.
وقل مثل ذلك فيما ابتلى الله به بني إسرائيل؛ وذلك في القرية الذين كانوا يعدون في السبت، فكانت الحيتان في يوم السبت تأتيهم شرعًا على الشاطئ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163] فكان ذلك ابتلاءً واختبارًا، فلم يصبروا، وحملهم القرم، وهو شدة التوقان للحم، إلى أن اعتدوا، ووضعوا الشباك في يوم الجمعة، وأخذوها في يوم الأحد.
فقد تيسر أسباب المعصية، وتكون قريبة المأخذ والمنال لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [سورة ق:33] فالمسألة ليست سهلة، وما عند الله لا ينال بالأماني، فتختبر قلوب العباد، ويختبر إيمانهم ويقينهم بهذا، ومثله، وأشباهه لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذا هو المحك الذي يتبين فيه رسوخ الإيمان وصدقه، والخوف من الله -تبارك وتعالى- أما في الظاهر وأمام الناس فقد يتماسك الإنسان، ويكون على حالة مرضية، ولكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها.
ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنه يجب على الإنسان أن ينصح، وأن يبذل النصيحة، وأن ينهى عن المنكر، ولو كان مواقعًا له وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] وعليه أن ينصح أيضًا ولو كان هذا النصح يوجب ترك الناس له، فقد يقول لهؤلاء الناس: بأنهم يجدون بغيتهم من العلم والنفع والفائدة عند العالم الفلاني، فالناس يتوجهون إليه، ويتعلمون منه، ومثل هذا يسلم من التبعة، ويستريح ويشتغل بذنوبه، فليست القضية والعبرة بكثرة الجماهير، وكثرة الناس والمتابعين، وإنما هو النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، أن ينصح لهم، أيًّا كان موقعه.
الطبيب قد يقول للمريض أو المرضى: بأن المستشفى الفلاني أو الطبيب الفلاني أحذق منه في علاج هذه العلل، فيذهب الناس إليه، ويتركون هذا وقد يخسر، ولكن عليه أن ينصح، وكذا البائع والتاجر ينصح للناس، ويقول لهم: البضاعة الفلانية أجود من هذه التي عندي، فيذهب الناس ويشترونها، فهذا يبيع سلعة، أو طعامًا، أو دواءً، أو طيبًا، أو عسلاً، يُرشد إلى غيره، إن كان يعلم أن هناك ما هو أجود من هذا، فهذا من مقتضى النصح.
وأما أصحاب المنكرات، فلا شك أن صاحب المنكر يجب عليه أن ينكر؛ ولهذا قالوا: على أصحاب الكؤوس، يعني المجتمعين على شرب الخمر أن ينهى بعضهم بعضًا عن المنكر، وهم يشربون مع بعض، فهذا لا يعفيهم، فإن الامتثال واجب، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فإذا ضيع الامتثال ضيع واجبًا، فإن ذلك لا يسوغ له أن يضيع الواجب الآخر الذي هو الأمر والنهي، فإن هذا من الواجبات، فلا يجمع بين ترك واجبين.
ويُؤخذ من قوله تعالى: حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فتنة هذا مصدر، وقد جاء مفردًا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ مع أن قائل ذلك اثنان، يعني لم يقل: نحن فتنتان، أو فاتنان، وإنما قالوا: فِتْنَةٌ وذلك أن المصدر يصدق على الواحد والاثنين والجمع، فحملها عليهما من باب المبالغة، كأنها نفس الفتنة إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فلم يقولوا: إنما نحن سبب فتنة، أو نعلم اختبارًا وفتنة، وإنما قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ بالمصدر كأنهم صاروا نفس الفتنة.
ويُؤخذ من القصر بـ(إنما) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ يعني أنه ليس لهما شأن في هذا التعاطي، وتعليم السحر سوى الفتنة، من أجل أن ينصرف الناس عن هذا، يقول: ليس هناك شيء آخر إنما هي فتنة، يعني ما حاجتك لهذا؟ انصرف وابتعد عنه.
وكذلك أيضًا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فالذي يتعلم السحر ويتعاطاه يكفر، فهو من العلوم الفاسدة الضارة، فالعلم منه ما هو نافع، وهو نوعان: علم الدين، وهذا هو الأكمل والأشرف على تفاوت فيه أيضًا، فالعلم بما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته أشرف من غيره، كذلك العلم المتعلق بكلامه (التفسير) أشرف من غيره، فالعلوم الشرعية تتفاوت، وهناك علوم نافعة مباحة، كالحساب، والزراعة، والنجارة، والصيدلة، والطب، والعلوم، وما يسمى بالعلوم، ونحو ذلك، فهذه علوم نافعة مباحة، وهناك علوم لا تنفع ولا تضر، يعني لا يستكثر منها الإنسان.
وقد ذكر بعض أهل العلم أمثلة على ذلك في الشعر، ونحوه، وهناك علوم ضارة: كالفلسفة والسحر، وما يسمى بالطلسمات، وما يسمى بعلم السيمياء، ونحو ذلك، فهذه علوم ضارة، وكذا: علم الكلام الذي حذر منه السلف الصالح، على تفاوت في الضرر، فمن أضرها علم السحر، عن طريق الشياطين، ولا يتم للساحر -السحر الحقيقي- مطلوبه إلا بهذا، وإلا فيوجد نوع هو من قبيل خفة الحركة، أو معرفة خواص المواد، وليس بسحر حقيقي، مبناه على الحيل، ومعرفة خواص المواد، ونحو ذلك.
ولهذا قالوا: من طلب المال بالكيمياء أفلس، الكيمياء قديمًا وليست حديثًا، فقديمًا كانوا يحاولون أن يغيروا بالكيمياء خواص المواد، كتحويل الأحجار والمعادن الخسيسة إلى معادن نفسية، يعني يحولون الحديد إلى ذهب، فيبحثون عن ذلك الإكسير الذي يحصل به هذا التحول، وهذا لا يمكن، لكن قد يلبسون على الناس، ويموهون عليهم بمعرفة خواص المواد، فهذا ليس بسحر حقيقي، ولكن السحر الحقيقي الذي يكون عن طريق الشياطين، فهذا هو الكفر، والثاني محرم ولا يجوز.
وقد يكون هذا السحر الحقيقي هو من قبيل سحر التخييل، فتسحر أعين الناس، فيُرى الرمح يدخل من بطنه، ويخرج من ظهره، ويُرى يشق بطنه، وتخرج أمعاؤه، هذا يفعله بعض شيوخ الضلالة من المنتسبين إلى الولاية بزعمهم، وتجد لهم من الأتباع من يصدقهم، وتغرز السكاكين في رأسه، ويمتلئ رأسه بالسكاكين، ولا يتأثر، وربما يضرب بالحديد والسيوف وبالسلاح الناري ونحو ذلك، ولا يتأثر، والواقع أن هؤلاء يموهون على الناس، وتارة تتلبس بهم الشياطين فلا يصل إليه من ذلك شيء.
ويدخل في هذا هؤلاء الذين يسمون بالسرك، والرجل الذي يسمى بالبهلواني، ونحو ذلك، فيأكل النار، ويقضم الجمر، ويأكل الزجاج، ويمشي على المسامير، وينام عليها، وتطأه السيارة ولا يتأثر، ونحو ذلك، فهذا هو من قبيل تعاطي هذه الأمور والشعوذة، ولا يجوز النظر إليهم، ولا الوقوف عندهم، ولا يستضاف هؤلاء، ولو كان ظاهرهم الصلاح، فإن السحرة كثيرًا ما يكون لهم لحى، وليست العبرة باللحية، ولا بالهيئة، وإنما العبرة بما عليه الإنسان.
فهذا الذي يقول: إن عنده قدرات، ويستضافون هنا وهناك، ويأكل أمام الناس الجمر، فهذا لو رأيته لقرأت عليه وهو يفعل هذا، ولا يستطيع أن يفعل منه شيء، ولو أنه ضرب وأنت تقرأ عليه لمات، يعني لو ضرب بالسلاح وأنت تقرأ لمات وهلك، ولو كان يفعل هذه الأشياء يُخرج الناس من جوفه، أو نحو ذلك، وقرأت لتعطل كل شيء، وهذا أمر مشاهد ومجرب، وبعض هؤلاء يجتمع عليه فئام من الناس يضربونه بالحديد، ولا يصل إليه من ذلك شيء، ويأتي من يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فيطير كما تطير الورقة اليابسة في الريح هو ومن معه، وقبل ذلك يضربونه أشد ما يستطيعون من الضرب، ولا يصل إليه شيء، فهو ساحر.
فهؤلاء قد يستعرضون للناس أمام السواح، وفي أماكن تجمع السواح في بلاد تظهر فيها أنواع المنكرات والشرور والكفر، ونحو ذلك، ويقصدها كثير من الجهلة والمتنزهين هناك.
ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].
فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ نفي النفع في السحر، كما قلنا من قبل: فليس فيه نفع مطلقًا، وقد نفى هذا النفع بعد قوله: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ففيه ضرر، بل هو ضرر، وليس فيه نفع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ تأكيد لضرر السحر؛ لئلا يتوهم أنه ضرر معه شيء من النفع، فيكون من قبيل عطف التأسيس، وليس بعطف التوكيد، يعني هو ليس بمجرد توكيد، هو يفيد التوكيد، ولكن يؤسس لمعنىً جديد، يعني لو كان السحر مثلاً في ضرر ونفع قد يُتوهم هذا، فالله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ.
فقد يقول قائل: وفيه نفع، سكت عنه، فهنا حينما قال: وَلا يَنفَعُهُمْ فمن الأشياء ما تكون ضارة، ولكن فيها نفع، فينظر بعض الناس إلى جانب النفع الذي فيها، ولو كان قليلاً، فيتعاطاها ويتبعها؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اتباع الأهوال والضلالات، ونحو ذلك: بأن الباطل قد يكون معه شائبة من الحق، فيكون ذلك داعيًا إلى اتباعه من قبل بعض الناس ومعنى ذلك: أنه لو كان باطلاً من كل وجه لما تبعه أحد؛ ولما قبله أحد، لكن يكون فيه شائبة، فتعلق به بعض النفوس، فكما في الخمر والميسر، قال الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] فالعبرة بما غلب في هذه الشريعة.
وكما ذكرنا من قبل بأنه لا يوجد في الدنيا مصالح خالصة صرفة، ليس فيها شوب، لا يوجد هذا، وإنما العبرة بالغالب؛ ولذلك فإن الشريعة إنما تنظر إلى هذا الغالب، ولا تنظر إلى المفسدة المرجوحة القليلة في المصالح الغالبة، ولا تنظر إلى المصالح القليلة في المفاسد الراجحة؛ ولهذا يقول صاحب المراقي:
وانظر تدلي دوالي العنب |
في كل مشرق وكل مغرب. |
يعني ما قال أحد بتحريمه، العنب يعصر منه الخمر، فهذه مفسدة، فما دُفعت هذه المفسدة بتحريم العنب، وزراعته وبيعه، فهؤلاء الذين يتعاطون هذه الصنعة، ويعصرون العنب للخمر، هم قلة بالنسبة لمنافع العنب العامة، فلم يحرم بيع العنب، ولا زراعته مع وجود هذه المفسدة.
النبي ﷺ قال عن البقر: ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء فالمقصود بذلك أن لحومها تتضمن داءً، لكن هذا لا يعني أن المنافع العامة منتفية، فهذا الداء، وإن كان موجودًا فيها، إلا أنه لم يصل إلى أن يكون غالبًا؛ ولهذا امتن الله بها على عباده وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:144] هذا بعد قوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فهذه من جملة الأنعام بالإجماع.
فوجود مفسدة في المصالح الغالبة لا يُؤثر فيها المنع والتحريم، فالشارع حكيم، فما غلبت مصلحته فهو حلال، وما غلبت مفسدته فهو حرام؛ ولهذا فإن العلماء يمثلون لهذا بأمثلة كثيرة في باب سد الذرائع، وفي نوع من طرق استخراج العلة في القياس، وهو ما يسمونه بالمرسل، فمثل هذا الشارع سكت عن هذه الأشياء، فهي على الإباحة مثلاً، أو أنه صرح بإباحتها، فيكون ذلك بدليل نصي نقلي، فكل ذلك باعتبار أن الغالب المصلحة، كما أنه يحرم ما غلبت مفسدته، ولو وجد فيه بعض المنافع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ هذا يفيد التأسيس، يعني لم يحرمه الله باعتبار أنه يضر مع وجود منافع، السحر ليس فيه منافع، فهو يضر، ولا ينفع.
وكذلك أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] وليس له نصيب، بمعنى أنه يكون كافرًا، كما سبق، فيُؤخذ من قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان علمه كالعدم، يعني كان بمنزلة الجاهل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] نزلهم منزلة من لا يعلم، بعد أن أثبت لهم العلم؛ لأن ذلك العلم لم ينفع، ولم يؤثر امتثالاً، فصار بمنزلة العدم، فنزلهم منزلة الجاهلين، فقال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
فالعبرة -أيها الأحبة- ليست بكثرة المعلومات والحفظ، وإلا فاليهود قد ذمهم الله وذم أحبارهم لما لم يورثهم ذلك امتثالاً وعملاً، وهكذا حينما يستوي طالب العلم مع العامة فيما يأتي ويذر، بل قد يكون إقباله على الطاعات أسوأ وأضعف من إقبال كثير من العامة عليها، وقد تجد بعض العامة يتسابقون على الصف الأول، أو الصلاة خلف الإمام، أو نحو ذلك، وقد تجد بعض طلبة العلم يأتي مسبوقًا، ونحو ذلك، فهذا علم لا ينفع، وقد تجد بعض العامة يحرص على العبادات المتنوعة في هذه العشر يجد ويجتهد ويتصدق ويصوم هذه العشر، ونحو ذلك، وتجد طالب العلم بطالاً، لا يرفع بذلك رأسًا، ولا يتغير من حاله، ولا من كسله، فالصلوات تفوته، ولا صيام، ولا زيادة صدقة، ولا تكبير، فما فائدة العلم إذا كان الإنسان بهذه المثابة؟
والنبي ﷺ قد استعاذ من علم لا ينفع، فيكون حجة عليه، بل قد يطلب لنفسه المخارج والحيل، فيتعلم أن هذه المسائل فيها خلاف، أو يتتبع الشواذ، كما نسمع في هذه الأيام، وتُرسل هذه الرسائل، وتطير في النار: صيام يوم عرفة لا يشرع! فهناك من يقول هذا، وصيام الست لا يشرع، وهلم جرًا، فقد يجد أن هذه الأشياء تلبي حاجة في نفسه، فيترك، حتى صيام عرفة، وصيام عاشوراء إذا وافق يوم السبت، وصيام الست، ويضرب النصوص بعضها ببعض، ويحتج بحجج لا تسعف، ويقول: هذا غير مشروع، وهذا الذي أنتم عليه ليس بشيء.
وقد يتورع العامي من الشرب قائمًا، وهذا يتعلم، ثم يطلع على كلام أهل العلم والخلاف في المسألة ويشرب وهو قائم، ولا يبالي، وإذا نُصح بادر بالقول: إن المسألة فيها خلاف، وأن النبي ﷺ قد شرب من زمزم وهو قائم، وهكذا يحتج بأشياء لا تسعفه في هذا المقام، لكن من يريد أن يتملص من ربقة الشريعة، ومن حدود الله فإن ذلك لن يعجز أمثاله، فالعلم يزيد في الإنسان خوفًا من الله وتقوى وإخباتًا وتواضعًا، ويزيده طاعة وقربة، ولا يكون العلم سببًا لخروجه من ربقة التكليف، أو الإغراب على الناس، أو التلبيس عليهم، أو زعزعة الثوابت عندهم في أمور مستقرة، تلقوها عن علمائهم الراسخين، ثم بعد ذلك يفجأ الناس بأن ذلك ليس بمشروع، فيتشككون في كل شيء، فكل شيء صار قابل للتشكيك، ويطير الناس بهذا، وينشغلون بهذا الكلام بين رادٍ وموافقٍ ومؤيدٍ، وما إلى ذلك.
كتب أحدهم كتابًا في أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ليس بواجب، وإنما سنة، فأرسله فلم أقرأه؛ لأن الكلام في هذه المسألة والشبهة التي فيها معروف، ثم بعد ذلك أرسل يسأل ويقول: ما أجبتني! فقلت: ما كل شيء يجاب عنه، دع عنك هذه المسائل، وانصرف عنها، واشتغل بما ينفع، ولا تظهر هذا في الناس، وأرى أن تُسجر به التنور، فقال: أنا قد طبعته ونشرته، ولكن أريد أن أعرف رأيك، فهذه مشكلة، والله المستعان.
فصار الناس يترقبون ما الجديد؟ ما الذي سيأتي أنه ليس بمشروع؟ هل هذه الصلوات التي نصليها فيها شيء أيضًا أو لا؟ وهذا الصوم الذي نصومه رمضان فيه شيء أو ما فيه شيء؟ ما الذي بقي عليهم.
فالمقصود أن الله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ هذا في السحر، لكن قد يتعلم الإنسان في غير السحر ما يضره ولا ينفعه، مثل لو أنه أخذ العلم الشرعي من غير مأخذه الصحيح، فهو كما يقول الشاطبي -رحمه الله- عن أصحاب الهوى: يطلب في الأدلة ما يوافق هواه يعني: يبحث ما يوافق هواه، فهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه، وأما طالب الحق فهو يعرض عمله على الأدلة؛ ليعرف صواب ذلك من غيره.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا يدل على أن هذا السحر لا ينفع صاحبه في الدنيا؛ لأنه قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وفي الآخرة لا ينفع، يعني لا ينفع لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأمر لا ينفع في الدنيا، ولا في الآخرة، بل لا يكون لصاحبه نصيب في الآخرة، فينبغي أن يُجتنب، وأن يُحذر غاية الحذر؛ لأن مبنى هذا السحر على الشرك والكذب والظلم، وكما قال شيخ الإسلام: بأن صاحبه إنما مقصوده الظلم والفواحش فهو من أجل أن يتمكن من الفواحش، أو يمكن غيره، يعني ذاك يحب امرأة فيريد أن يصل إليها، فيكون ذلك عن طريق السحر مثلاً، وقد تسحر المرأة وتخرج تطلب الفاحشة، وقد يسحر الرجل ويكون كذلك.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الجزاء من جنس العمل، فالكافر لما لم يجعل لربه -تبارك وتعالى- نصيبًا من عمله في الدنيا، لم يجعل الله له نصيبًا في الآخرة، والجزاء من جنس العمل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني: في الدنيا مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
ثم أيضًا تأمّل هذا التوكيد بالقسم وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ فاللام هذه تدل على القسم المحذوف، فهذا تأكيد لهذا المعنى، أنه ليس له خلاق عند الله، وليس له نصيب، وأيضًا يحتمل أن يكون لأنه نزّلهم منزلة المنكرين فأكده بالقسم لإثبات ذلك: أنه ليس له خلاق عند الله فكأنهم يكابرون ويجادلون في هذه القضية؛ لأن حالهم في الواقع هو حال المنكر؛ لأنهم تركوا الكتاب المنزل، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، ولاحظ التكرار في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فكرر الفعل الدال على العلم مرتين عَلِمُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فهذا فيه تسجيل عليهم: بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحقيقي، فالعلم الذي ينفع منتفٍ عنهم.
وكذلك أيضًا لاحظ التنكير في قوله: خَلَاقٍ فخلاق نكرة في سياق النفي مَا لَهُ وقد سبقت بـ(من) التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فكان ممكن يقال: ما له في الآخرة خلاق، لكن قال: مِن خَلَاقٍ يعني: ما له من نصيب إطلاقًا، لا قليل ولا كثير، فهذا نص صريح في العموم، يعني هذه صيغة قوية جدًا في العموم؛ لأن (من) تنقل النكرة في سياق النفي من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم، فهذا كله يدل على عظم جرم من تعاطى هذا السحر؛ فلذلك لم يكن لمتعاطيه أي حظ من الخير - نسأل الله العافية - في آخرته.
ثم يُؤخذ من قوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنّ صاحب العلم الذي ينتفع بعلمه هو الذي يحذر الأشياء الضارة، لكن الذي يقع عليها كما يقع الأعمى على النار والحية، مثل هذا لا ينتفع بعلمه بحال من الأحوال.
ولاحظ هذه الأفعال المتتابعة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا فعل مضارع وَمَا يُعَلِّمَانِ حَتَّى يَقُولا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ فهذه أفعال تسعة جاءت بالمضارع، مع أنه حكاية لفعل ماضي، وقضية مضت، فجاء بالفعل المضارع؛ لأنه أدعى لاستحضار تلك الحالة، كأنك تشاهدها، ويدل أيضًا على الاستمرار، وأن هؤلاء على نفس المهيع والنهج والطريق الذي سار عليه من قبلهم؛ لأن السحر ينتشر كثيرًا في اليهود، كما هو معروف، وقد سحروا النبي ﷺ وأيضًا أم المؤمنين كان لها جارية يهودية سحرتها، فهو فاشٍ فيهم، وتجد السحر فاشٍ في أهل الضلال، فتجده كثير في طوائف الباطنية، والرافضة، وما إلى ذلك، تجد ذلك في كبرائهم وشيوخهم ومقدميهم، وكما سبق: بأن شمس النبوة إذا ضعفت في مكان كثر فيه السحر والشعوذة، وإذا سطعت وأشرقت في مكان تبددت تلك الظلمات، فظهرت أنوار السنة.
ولذلك ذكر الذهبي -كما ذكرنا في الكلام على الاختلاف- لما جاء نصير الشرك الطوسي، وصار وزيرًا للخليفة العباسي، فماذا فعل بالحديث وأهل الحديث والعلم والفقه، وما إلى ذلك؟ أعطاهم أجورًا زهيدة، وأقام المراكز والمواقع للفلاسفة، ولأهل الديانات، وصاروا يتناظرون، وما إلى ذلك، وأجرى الأجور الكثيرة على أهل تلك العلوم الفاسدة، فقامت سوقهم، والله المستعان.
والمقصد: أن في هذه الآية إثبات السحر، كما ذكرنا سابقًا، خلافًا لمن أنكر حقيقة السحر، كما قاله بعض المعتزلة، وكما أنكره بعض المعاصرين، وإثبات وجود الشياطين، وهؤلاء أنكرهم بعض المعاصرين من أصحاب المدرسة العقلية، فيقولون: بأن الشياطين بمعنى الشر الموجود، والملائكة الخير الموجود، نسأل الله العافية، ويقولون: إن قصة آدم وإبليس هي عبارة عن قصة رمزية للصراع بين الخير والشر، تجد هذا في كلام بعض المنتمين إلى مدرسة محمد عبده، ومن تأثر به، يعني هم يريدون أن ينكروا كل الأشياء الغيبية، من أجل أن يعرضوا إسلامًا يقبله الماديون من أهل الحضارة الغربية، فأنكروا هذه الحقائق الغيبية، والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، ووجود الجن والشياطين هذا ثابت في القرآن، كيف يُنكر من أجل أن يقبل أولئك إسلامًا مشوهًا محرفًا؟!
أما علاج السحر: فيكون بحله إذا عُرف مكانه، أو بالرقى الشرعية، ولا يجوز الذهاب إلى السحرة من أجل حله.
وفي المربوط عن امرأته، أو المرأة حينما تمنع من زوجها، فقد ذُكر: بأنه يُؤتى بسبع ورقات من سد، ويدق بين حجرين، ثم يوضع في ماء، ويقرأ فيه على سبع مرات الفاتحة والقواقل الأربع، ويكون ذلك حلاً له بإذن الله، يغتسل به، وقد يشرب شيئًا منه، وهذا لم يتلقَ عن رسول الله ﷺ ولكن أصل الرقى من الطب، والطب الأصل فيه الإباحة، ما لم يشتمل على محرم، فلا يحتاج إلى دليل، ما دلت التجربة عليه، لكن كثير من الناس قد يتقولون ويتخرصون أشياء وليس لها أصل، وهناك أشياء موهمة مشتبهة، قد يكون لها نوع تقرب إلى الشياطين، فيجب تركها، وقد تكون هذه من تلاعب بعض الشياطين بهم، أو كان ذلك من تلاعب بعض من ينتسب للرقية.
وفي قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ رد على من يقول: بأنه يُحل السحر بالسحر، فالسحر ضرر ليس به نفع، فلا يلجأ إلى الساحر، وجاء الوعيد فيمن أتى ساحرًا أو كاهنًا، الذين يأتون السحرة، أو يأتون الكهنة؛ ولذلك لا يجوز حتى مشاهدة هذه البرامج التي يظهر فيها سحرها ولا متابعتها، ولا الفرجة، ولا سؤال هؤلاء لأي سبب كان.
وما ورد في حل السحر بالنُشرة عن بعض التابعين، المقصود به حله بالرقية الشرعية؛ لأن النُشرة تقال لحل السحر بالسحر، وهذا لا يجوز، وتقال أيضًا لحل السحر بالرقية الشرعية، وإذا نظرت إلى الضرورات الخمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، فلا يمكن أن يُبذل الدين بالذهاب إلى السحرة، فيذهب دين الإنسان من أجل استبقاء النفس، فيقولون: ضرورة، يقال: لا، النفوس تذهب في سبيل حفظ الدين.
والسحر أنواع: والعلماء يقولون: الذي يكون بغير استعانة بالشياطين ونحو ذلك محرم، لكنه لا يصل إلى الشرك والكفر، لكن يبقى النظر أنه هل يكون للسحر أثر بإذن الله بمجرد كونه عقاقير، ونحو ذلك ما لم يكن تمويهًا، أو أن تأثيره يكون بالاستعانة بالشياطين، فهذه الأعشاب والأدخانة، ونحو ذلك هل هي بمجردها أو مع الشياطين؟ فهذا الذي يظهر، إلا أن يكون ذلك من باب التمويه ومعرفة خواص المواد، فيكون من باب الحيل.
أما الذي يكون له تأثير فهذا الذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يكون إلا عن طريق الشياطين، وقد يذهب رجل مريض إلى هؤلاء السحرة، فيسأله: ما اسمك؟ وما اسم أمك؟ ثم يقول له دون أن يخبره: بك كذا وكذا، فقد يخبره عن أشياء صحيحة، ثم يعطيه بعض الأدخان وأشياء يبخر بها، أو نحو هذا، فحينما يعطي هذه الأشياء، قد يقال له: هذه موجودة بالسوق، نشتريها نحن من السوق ونضعها، فيقول: لا، هذه أنا الذي أعطيتك إياها، يعني الثانية التي في السوق ليس لها هذا الأثر، إذن هي ليست مجرد مواد أعشاب أو أشياء يبخر بها تباع هكذا، وإنما هو الذي أعطى، معنى ذلك أنه لها تعلق بالشياطين والسحر، والله أعلم.
أما عن استعمال الملح، بأن يوضع في أركان الدار، ونحو ذلك، ويُرش البيت بمثل هذا، ويقولون: يطرد الشياطين، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] فبعض الذين يشتغلون بالرقية يقولون: إن هذا من الدجل، وأنه لا أصل له، وأن هذا كذب، ونحو ذلك، وبعض هؤلاء يقولون: إن هذا ينفع في طرد الشياطين، فمن نصدق؟
وإثبات خاصية لشيء لا تثبت حقيقة يكون من قبيل الكذب على القدر، فلا يجوز، كأن يقال مثلاً: هذا النوع من المياه المعدنية إذا اغتسل فيه الإنسان يبرأ من الروماتيزم مثلاً، وتبيّن أن هذا الكلام من الناحية الطبية غير صحيح، فهذا لا يجوز، ويكون من قبيل الكذب على القدر، يعني أضاف شيئًا إلى شيء لم يجعله الله من خواصه.
والنبي ﷺ قد أخبر أن: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة فتقرأ فيه، وقد سأل سائل: هل ينفع تقسيم سورة البقرة على أهل الدار؟ فالظاهر: نعم؛ لأنه بناه للمجهول، فقال: البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة فدلّ ذلك على أنه لو تقاسموها فقرأ هذا جزء، وهذا جزء، وهذا جزء، تقاسموها أهل البيت، بحيث وضعوا لأنفسهم أجزاء كل يوم يقرأ واحد منهم هذا المقدار الذي عليه، فإن ذلك يحصل به المقصود، والله أعلم، فهي مقروءة في هذه البيت، فلا إشكال.
كما أن الشيطان يفر من ذكر الله فالبيوت العامرة بذكر الله يفر منها الشيطان، والإنسان الذي يكثر من ذكر الله يفر منه الشيطان، ويخاف منه، فالناس الذين يتسلط عليهم الشيطان بالوساوس والخواطر والمخاوف، لا سيما في أوقات الضعف، فبعض الناس يضعف في مثل هذه الأحوال، فإذا ضعف تسلط عليه الشيطان، فبدأ يلقي في قلبه الوساوس والخواطر والواردات السيئة، فيحصل له بسبب ذلك من الانزعاج والوساوس المقلقة ما يشغله به في ليله ونهاره عن الله وطاعته، وعن ما هو بصدده من أمور دنياه، فقد تجد هذا الإنسان يبكي بكاء مرًا لشدة ما يجد من هذه الخواطر والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلبه، فما هو الحل والعلاج؟ الاستعاذة، وكثرة ذكر الله فليس لهذا الشيطان سلطان على مثل هؤلاء الذاكرين، فلا يستطيع الاقتراب منهم، والله أعلم.