الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قوله: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة: 102]: تَتْلُواْ تحتمل معنيين: المعنى الأول: وهو ما يتبادر منها من التلاوة، مثل قولك: يتلو القرآن، يتلو كلام الله، فــ تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ أي تقرؤه، وتحدث به، وتخبر به، وتقصه، فيذكرون لهم أشياء، وأكاذيب، وفراء اختلقوها، ولربما نسبوها إلى سليمان من أمر السحر.
قوله: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ "عَلَى" تحتمل أن تكون بمعنى "في"، وتحتمل أن تكون على وجهها، ولا إشكال؛ فإن حروف الجر تتناوب.
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ أي: ما تقصه، وتحدث به، وتخبر به الشياطين على ملك سليمان أي على عهد ملك سليمان كما تقول: هذا كان على عهد عمر بن عبد العزيز، هذا على عهد عمر بن الخطاب، على عهد الخلفاء، فتضيفه إلى تلك الفترة.
ويمكن أن يكون "عَلَى" بمعنى "في" أي: واتبعوا ما تقصه، وتخبر به، وتحدث به الشياطين في عهد ملك سليمان.
ويمكن أن يكون معنى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ فتفسر تَتْلُواْ بمعنى تعمل، وتتبع، أي واتبعوا ما تتلوا الشياطين من تلاه إذا كان تابعاً له بمعنى ما تعمل به الشياطين، وتتبعه الشياطين على عهد سليمان من السحر، والكهانة وما إلى ذلك.
قوله تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].
وهذه الآية من الآيات التي فيها إشكال، ويختلف فيها المفسرون اختلافاً كثيراً، وسأحاول أن أقرب المعنى على أقل الاحتمالات المشهورة.
فقوله: وَاتَّبَعُواْ قلنا: هم اليهود إما في زمن النبي ﷺ، أو في زمن سليمان ، وابن جرير - رحمه الله - جمع بين المعنيين، فقال: "هذا موجه لليهود، وما عندنا دليل يخصص طائفة، وكلهم منذ ذلك العهد وهم متبعون للسحر، وهو فاش فيهم، فكلهم متبعون للسحر" انتهى كلام ابن جرير.
وهذا جزاء إعراضهم عن كتاب الله ، فمن ترك ما خوطب به، وأمر به؛ عاقبه الله بالاشتغال بضده، وهذا فيه قاعدة من القواعد الحسان لابن سعدي - رحمه الله - حيث ذكر أمثلة جميلة عليها، وهي أن من ترك ما هو بصدده أي ما وُجِّه إليه، وما خوطب به مما ينفعه؛ اشتغل بضده، فمن ترك سماع القرآن اشتغل بالأغاني، ومن ترك اتباع كتاب الله اتبع الشياطين، والهوى، وهكذا، ثم ذكر أمثلة على ذلك.
ومعنى الاتباع عرفناه حيث قلنا: يحتمل معنيين هما:
- فعلوا، وهذا اختيار ابن جرير.
- والثاني: من الاتباع المعروف، و"ما" هنا موصولة قطعاً، أي اتبعوا الذي تتلوه الشياطين على ملك سليمان.
وقلنا: إن تَتْلُواْ تحتمل معنيين:
- الأول: تتلوا من التلاوة أي تحدث، وتخبر به، وتقصه الشياطين إما عن طريق الكهان حيث يسترقون ثم يكذبون معها، أو غير ذلك مما كانوا يتعاطونه من السحر، فيحدثون به الناس، ويعلمونهم هذا الشر.
- أو تتلوا بمعنى تتبع، من تلوته بمعنى تبعته، فتقول: هذا يتلو هذا؛ يعني يتبعه.
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الشياطين معروفة.
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ على هذه تحتمل أن تكون على وجهها، أو بمعنى في كما سبق، والمعنى: واتبعوا ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان، وهذا أسلوب عربي معروف.
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ الروايات التي تذكر في الآية لا يوجد فيها شيء عن النبي ﷺ مرفوع صحيح إطلاقاً، لكن الروايات الإسرائيلية التي نقل كثير من السلف كثيراً منها يقولون: إن هؤلاء الشياطين، أو هؤلاء السحرة، أو هؤلاء اليهود الذين صدقوهم؛ نسبوا ذلك إلى سليمان ويذكرون في ذلك أخباراً كثيرة خلاصتها أن سليمان صادر تلك الكتب التي راجت، وانتشرت؛ مما كان ينشره هؤلاء الكهنة، أو السحرة، ويضللون به الناس، فدفنها تحت كرسيه، فلما مات سليمان جاء الشيطان، وقال لهم: أدلكم على ما كان يسخر به الطير و...إلخ فحفروا، فوجدوا هذه الكتب - كتب السحر - قالوا: هذا الذي كان سليمان يقيم به ملكه، فاشتغلوا بها، وصدقوا الشيطان في ذلك.
نحن ليس عندنا دليل على هذا الكلام، لكن هذه الآية تكذب من نسب السحر إلى سليمان ، فسليمان كان بريئاً من السحر أياً كان من أضاف إليه ذلك سواء كان الشياطين، أو كان اليهود؛ أو غير هذا، وأياً كانت هذه القصص، والأخبار التي يذكرونها.
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ هذا يدل على أن الاشتغال بالسحر كفر؛ لأن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، أو يتبادر إلى ذهن طالب العلم هو: هل هم قالوا بأن سليمان قد كفر حتى يقال: وما كفر سليمان؟
الجواب: لا، هم ما قالوا: أنه كفر، هم قالوا: إنه كان يتعاطى السحر، والسحر كفر، فما قال الله لهم: وما كان سليمان يشتغل بالسحر، وإنما قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ؛ لأن من اشتغل بالسحر فقد كفر.
وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ أي هم الذين جاؤوا بالسحر، واشتغلوا به، وكانوا سحرة، فكفروا.
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر القول المشهور الذي عليه عامة المفسرين، وهو الذي يتناسب مع ظاهر الآية، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله - ورد ما سواه بقوة يقول: هؤلاء اليهود اتبعوا السحر الذي كان منذ ذلك الحين، وسليمان بريء من هذا، ولكن الشياطين هم الذين كفروا، حيث علموا الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا أُنزِلَ (مَا) هنا موصولة بمعنى الذي أي: اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، واتبعوا الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت، وماروت.
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ الملكين بالفتح، وهاروت، وماروت عائدة إلى الملكين يعني تستطيع أن تقول: إنها بدل من الملكين، وهذين الملكين اسم أحدهما هاروت، والآخر اسمه ماروت.
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ يعني الملكان.
 وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أي: من الملكين.
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وهو السحر.
على هذا القول يكون المعنى أن اليهود اتبعوا السحر الذي كان على عهد سليمان، وكذلك اتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر ببابل هاروت، وماروت، وكان هذان الملكان ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فالسحر أنزل على الملكين، وعلموا الناس، وكانوا يقولون لكل من تعلم: اتق الله فهذا كفر فلا تشتغل به.
وعلى هذا القول يكون التفسير على ظاهر الآية ليس فيه دعوى تقديم، ولا تأخير، ولا محامل، وتأويلات بعيدة.
لكن السؤال الذي يرد على هذا القول، والإشكال الكبير هو أن الله تعالى قال: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6] فكيف توجه أن السحر أنزل على الملكين؟
وقد أجابوا عن هذا الإشكال بجوابين:
الأول: أن هذا من قبيل الابتلاء والاختبار للناس، فهؤلاء الملائكة ما كانوا يشتغلون بالسحر وإنما كانوا يعلمون السحر فقط، وبعضهم قال: إن معنى يُعلِّمان من الإعلام بمعنى يُعْلِم، يقولون: هذا موجود في لغة العرب يقولون مثلاً:
تعلم شفاء النفس قهر عدوها فبالغ بلطف في التحيل والمكر

يعني اعلم أن شفاء النفس قهر عدوها.
وبعضهم يقولون: يعلمون نفس السحر، ويقولون للشخص: لا تكفر، ولا تشتغل به، فهذا لا يجوز، وذلك ابتلاء، واختباراً كما قال تعالى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ، وهؤلاء الملائكة بهذا الاعتبار إنما هم منفذون لأمر الله لأن الله جعلهم ابتلاء للخلق، والله يبتلي خلقه بما شاء، كما أنه أوجد الكفر، وأوجد الضلال، ووجدت المغريات، ووجدت الشهوات، فمن ذلك هذا السحر الذي ابتلى الله  به أولئك، فهذا على أساس أنه ابتلاء، والملائكة بهذا لم يعصوا الله ، ولا خالفوا أمره، وإنما كانوا منفذين.
المعنى الثاني: أن ذلك لما سبق في علم الله لهما مثل إبليس على القول بأن إبليس كان من الملائكة، قالوا: سبق في علم الله أنه يزيغ، ويضل، ويصير عدواً لكل فضيلة، وخير، فهذان الملكان قضيتهم نفس القضية، وهكذا يوردون روايات إسرائيلية كثيرة، وكلام كثير جداً ما له أي قيمة، ولا عليه أي دليل، منها أنهم استغربوا من عصيان البشر، وأن الله أنزلهم، ووضع فيهم الشهوة، فكان منهم ما كان، وكلام فارغ ما له أي قيمة، ولا ينبغي الوقوف عنده، وهو من الأشياء التي يفتريها بنو إسرائيل.
وذكروا قصة القمر والزهرة ذلك النجم اللامع الذي يظهر بعد الشمس، وأنه أكبر نجم، أو أوضح نجم في السماء، ويقولون: إن هذه كانت هي المرأة، وأنها أخذت منهما الاسم الذي يصعدان به، فصعدت فمسخت هناك، وبعضهم يقول: هي نفس الزهرة نزلت، وصارت بصورة امرأة، وقصة لما سبق في علم الله لهما.
وقصة آصف التي يذكرون أنه هو الذي كان كاتب سليمان، وأنه كان يكتب عن سليمان ، وينسجون عنه أشياء، يقولون: إنه كان يكتب، ويدفن تحت كرسي سليمان بأمره، فلما مات سليمان جاءت الشياطين، وقال لهم، أو أنهم أخرجوا هذه الكتب، وكتب بين ذلك أشياء من السحر مع كلام سليمان، وأخرجوه، وقالوا: هذا الذي كان يكتبه سليمان .
بل إن بعض أصحاب هذا القول - أنه لما سبق في علم الله - بالغ بعضهم، وقال: إن الملائكة تقع منها الذنوب، والمعاصي، وهذا قول عجيب، ويقولون: لكن ذلك يقع منهم تكلفاً كما أن الطاعة تقع من الإنس تكلفاً، وإلا فالنفوس مركبة فيها الشهوات، والأهواء بالنسبة للبشر، والشرائع وضعت على خلاف داعية الهوى في النفس، بالنسبة لنا فتحتاج إلى مجاهدة حتى تكون ممتثلة، لكن بالنسبة للملائكة قالوا: ما يفعلون المعصية إلا تكلفاً، ويذكرون هذا عند قضية إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34]، وهذا الكلام باطل لا حقيقة له.
وهناك أقوال أخرى مثل دعوى تقديم، وتأخير، وحمل بعض الجمل على بعض المحامل التي قد يكون فيها إشكال، أو بعد، نذكرها لاحقاً، والله أعلم.
قوله - تبارك وتعالى -: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ... الآية [سورة البقرة:102].
وذكرنا القول الأول الذي عليه أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن الآية على ما يتبادر من ظاهرها أن لهؤلاء اليهود سواء قلنا الذين في زمن النبي ﷺ، أو الذين كانوا في زمن سليمان، أو أن المقصود به الجميع؛ لأنهم كلهم معرضون عن كتاب الله ، متبعون للسحر، وعرفنا أن معنى تتلوا ما كانت تحدث به، أو ما كانت تفعله الشياطين على عهد، أو في ملك سليمان، أي في زمن ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا؛ حيث نسبوا إليه السحر، وذلك كفر، فالله نفى عنه ذلك، وما قال: وما كان ساحراً، بل قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ "ما" موصولة على هذا القول، أي: يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم أيضاً الذي أنزل على الملكين ببابل، وسيأتي بعض ما يتعلق بهذه من وجوه أخرى محتملة لبعضهم.
وهنا سؤال وهو: كيف يقع منهم مثل هذا؟ الجواب أنه ابتلاء لهذا الخلق، أو أنه سبق في علم الله أن هؤلاء الملائكة كإبليس على القول بأنه من الملائكة أنه ينحرف، ويضل، وذكرنا قول من قال بأن الملائكة قد تصدر منهم المعصية، لكن يقولون: تصدر منهم تكلفاً، كما أن البشر تصدر منهم الطاعة تكلفاً فهم عكس البشر، وهذا كلام غير صحيح.
وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أي: والذي أنزل على الملكين ببابل اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت.
قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ يعني هذين الملكين مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ قالوا: وهذا ظاهر في أنه ابتلاء من الله هذا هو القول المشهور.
ويوجد قول آخر في المسألة قال به بعض السلف، لكنهم أقل بكثير من أصحاب القول الأول، ومن أشهر من قال به من المتأخرين القرطبي.
يقولون في قوله: وَاتَّبَعُواْ يعني اليهود، مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ يعني على عهد سليمان، وهذا الكلام نفس الكلام في أولها لأصحاب القول الأول.
قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ حيث نسبوا إليه السحر، وهو كفر وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يعلمون الناس السحر هنا القضية، يقولون: "ما" هنا نافية، يعني يقول: يعلمون الناس السحر، ولم ينزل على الملكين.
فإذا قلنا بأنهم ملائكة على هذا، تكون هاروت، وماروت عائدة أيضاً إليها.
فعلى هذا القول بأنه لم ينزل على الملكين ببابل بعضهم يقول مثل القرطبي، يقولون: إن هاروت، وماروت هي عائدة إلى الشياطين، يعني: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر، يعني صارت هاروت وماروت أسماء لشياطين على قول القرطبي، فيصير الكلام واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، يعني أن الكلام صار فيه تقديم، وتأخير.
وخلاصة المعنى للآية: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين هنا ما نافية، ولكن الشياطين هاروت، وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل.
وبعض أصحاب هذا القول يقول: إن هاروت، وماروت تعود إلى الناس، فيصير المعنى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس هاروت وماروت أي: يعلمونهم السحر، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر؛ هذا هو القول الثاني، وهذا القول مبني مبناه ولا شك أن فيه تكلف واضح، والقاعدة أنه إذا دار الكلام بين الترتيب، والتقديم، والتأخير فالأصل فيه الترتيب بحيث يبقى على وجهه.
وهذا القول فيه تكلف، وهم لا ينكرون هذا التكلف؛ إلا أن الذي حملهم عليه هو كيف يكونا من الملائكة ويقع منهم هذا الفعل الذي هو كفر؟ فقالوا: إذن نقول: "ما" نافية، ثم ركبوا هذه التأويلات، والمحامل البعيدة.
كما أن بعض أهل العلم قال في قوله تعالى: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [سورة البقرة:102] بكسر اللام من الملكين، وصارت على هذا "ما" نافية، والمعنى أنهم يعلمونهم السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين - من الملوك -، وهذان الملِكان يقول بعضهم: هما داود، وسليمان، واحتجوا لهذا القول بقراءة شاذة وهي: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين داود وسليمان) فهذه قراءة شاذة.
 وفي قراءة أخرى شاذة من غير ذكر داود، وسليمان تصير موصولة، فيكون المراد بالملكين أي من ملوك الدنيا، وهذا سواء قلنا بأنهما علجان أعجميان أو غير ذلك مما قيل، ويمكن أن يكون اسم أحدهما هاروت، والآخر اسمه ماروت، أو غير ذلك مما يقال.
وبعضهم حتى على قراءة الفتح في ملكين - وهي القراءة المتواترة - قالوا: إنها لغة في الملِكين، حيث يقال: ملَك وملِك أي من ملوك الدنيا، وتكون "ما" نافية على قراءة كسر اللام إذا قلنا: مع داود وسليمان، أي: ولم  ينزل على الملكين داود وسليمان.
وتكون موصولة من غير داود وسليمان يعني: اتبعوا السحر والذي أنزل على الملكين أياً كانوا من ملوك الدنيا. 
طبعاً يوجد إشكال على هذا وهو قضية كيف أنزل وما معنى الإنزال هنا؟ وهل أنزلته الشياطين، أو يفسر الإنزال بمعنى آخر غير النزول المعروف وما إلى ذلك، والمقصود  أن هذه خلاصة لأشهر ما قيل في الآية، وهو الكلام الموجود مفرقاً في كتب التفسير، وبهذه الطريقة نكون قد رتبنا الأفكار بحيث إذا قرأنا من الكتاب تستطيع أن نجمع ونعيدها إلى هذا.
مسألة أخرى:
بعضهم يقول أن "ما" في قوله: وَمَا أُنزِلَ ترجع إلى "ما" الأولى، فيصير المعنى، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل، فهم اتبعوا شيئين، وعلى هذا فالعطف في الأصل أنه يقتضي المغايرة، فيصير الذي أنزل على الملكين غير الذي كانت تتلوه الشياطين، فالذي أنزل على الملكين هو التفريق بين المرء، وزوجه، والذي كانت تتلوه الشياطين هو أنواع السحر. 
وبعضهم يقول: إن "ما" الثانية ترجع إلى قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، والمعنى أنهم يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل هاروت، وماروت؛ فتكون عائدة إلى ما قبلها، يعلمونهم السحر، ويعلمونهم الذي أنزل، وهذا باعتبار أن السحر غير التفريق، مع أن التفريق بين المرء وزوجه هو نوع من السحر؛ بل إن بعض أهل العلم قال: السحر ما له أي تأثير إلا في التفريق بين المرء، وزوجه، وما إلى ذلك من الحب، والبغض، وإلا فلا يستطيع الساحر أن يمرِض، أو يحول بعض الأشياء عن حقيقتها كتحويل الفرس إلى بقرة، أو الإنسان إلى فرس، أو كذا، أو يكسر العظم، أو يميت، أو نحو هذا.
والأقرب - بل هو المشهور - أن السحر يؤثر أكثر من مجرد التفريق، والحب، والبغض، وما أشبه ذلك، فيمكن أن يمرض، ويقتل.
وقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] شدد ابن جرير - رحمه الله - على أصحاب القول الذي سبق أن ذكرناه، وما فيه من المحامل البعيدة حيث قال لهم: إذا قلنا بأن "ما" نافية في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [سورة البقرة:102] فما معنى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ إذ لو كان الأمر كما زعمتم بأن "ما" نافية فالمعنى أن الملكين لا علاقة لهم بالسحر، ولا شيء من ذلك؛ إذ كيف يقول: وما يعلمان - بالتثنية - من أحد السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وهما لم ينزل عليهما شيء من ذلك؟ هذا إيراد أورده ابن جرير - رحمه الله - على أصحاب هذا القول.

وقال السدي في قوله تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102]، أي: على عهد سليمان ، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة، ما يكون في الأرض من موت، أو غيب، أو أمر، فيأتون الكهنة، فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان  في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم، وأراهم المكان، وقام ناحيته، فقالوا له: فادن فقال: لا، ولكنني ههنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخروجها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس، والشياطين، والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد ﷺ خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ [سورة البقرة:102].


هذه الرواية المذكورة هنا تعود إلى ما أخذ عن بني إسرائيل، فهي من الأشياء الإسرائيلية التي لا يعتمد عليها، لكنها على كل حال قد توضح لك شيئاً يستأنس به فيما يتعلق باتباعهم ما كانت تتلوه الشياطين على ملك سليمان أي: على عهد سليمان، أو في ملك سليمان حينما يذكرون أخباره وقصصه، وأخبار مملكته، وملكه ، فمثل هذا لا يعتمد عليه في تفسير الآية، لكنهم اتبعوا ذلك السحر الذي كان موجوداً في ذلك الزمان سواء كان كما قيل دفن تحت كرسيه حينما صادر هذه الأشياء منهم، أو غير ذلك مما ذكروه من أن آصف كاتب سليمان كان يكتب له ما يأمره به، ثم دفنه تحت كرسيه، ثم جاؤوا، واستخرجوه، وزادوا فيه بين كل سطرين، أو أنه ما كانوا يتلقونه من الكهنة، وفيه كذب كثير، فكانوا يزيدون فيه، أو غير ذلك مما يذكرونه مما لا أصل له، فكل هذه الأشياء لم يرد فيها شيء عن النبي ﷺ لكن المقصود أن اليهود هؤلاء اتبعوا السحر، وتركوا كتاب الله الذي أنزله عليهم، وطالبهم بالعمل به.

وقوله تعالى: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [سورة البقرة:102] اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية أعني التي في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال القرطبي: "ما" نافية، ومعطوف على قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ.


نعم ما كفر سليمان، ولم ينزل السحر على الملكين.

ثم قال: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل؛ فأكذبهم الله.


قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بهذا الاعتبار يكون الملكين هم على قول القرطبي: جبرائيل، وميكائيل، فنزه سليمان  عن السحر، ونزه جبريل، وميكائيل، وما أنزل على الملكين.
وقوله: بِبَابِلَ يعني يعلمون الناس السحر ببابل، وجعل قوله: هاروت، وماروت؛ بدلاً من الشياطين.
نعم هذا على توجيه القرطبي، وأما على القول الآخر فهي بدل من الناس، يعلمون الناس هاروت وماروت السحر ببابل.

قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [سورة النساء:11].

الإشكال الآن هو كيف صار هاروت، وماروت بدلاً من الشياطين، والشياطين جمع؟ قال: لا إشكال؛ لأنه إما أن نقول: إن أقل الجمع اثنان، وهو قول معروف ومنقول عن الإمام مالك، وجماعة، قال تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11] وإنما تأخذ الأم السدس إذا وجد أخوَان فأكثر، فقال: إخوة، قال في مراقي السعود:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري

الإمام الحميري هو مالك - رحمه الله - أقل معنى الجمع في المشهور عنه اثنان، فهذا توجيه.
أو لكونهما لهما أتباع قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] مع أن الذي يتوفاهم واحد كما قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ [سورة السجدة:11].

كما في قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكر من بينهم لتمردهما، وتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت، وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ الآية. يقول: لم ينزل الله السحر.
وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر، قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت، وماروت، فيكون قوله: بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ من المؤخر الذي معناه المقدم.


يعني نخرج من هذا القول بنتيجة وهي: أن قول القرطبي لم ينفرد به، وإنما له سلف فيه.

قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت، وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل، وميكائيل - عليهما السلام -؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل، وميكائيل؛ إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً ﷺ أن جبريل، وميكائيل؛ لم ينزلا بسحر، وبرَّأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت، وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، ورداً عليهم.

إذا قلنا هاروت، وماروت هم شياطين، أو من الناس؟
يبقى فيها أيضاً إشكال، وهو هل الشياطين سيقولون للناس: لا تكفر إنما نحن فتنة، وهم أصلاً يريدون نشر السحر، ويريدون كفر الناس؟ فهذا إشكال على كل حال.

هذا لفظه بحروفه، وهذا التأويل فيه من التكلف ما لا يخفى.

قوله: قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا: ليس هذا هو قول ابن جرير، وإنما ابن جرير لما ذكر هذا القول في المسألة وجهه يعني كأمه يقول: كيف يكون المعنى على هذا القول؟ ثم رده، فلا تفهم من هنا، قال ابن جرير: والمعنى على هذا يكون كذا وكذا أن هذا هو اختيار ابن جرير، وإنما ابن جرير يرد هذا بقوة بل بعنف، حتى إنه يقول: فإن قال ذو غباء كيف يكون السحر منزلاً على الملكين؟ قلنا: بأن ذلك سبق في علمه، أو أن ذلك ابتلاء وامتحاناً للخلق.

قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ.

فهذا جواب عن السؤال الذي أشرت إليه سابقاً، وذلك بناء على أن ما وقع من هؤلاء الملائكة هو نظير ما وقع من إبليس على القول بأنه من الملائكة، وأن ذلك ليس من قبيل الابتلاء، والاختبار لبني آدم من غير حصول معصية من هؤلاء الملائكة.
وعلى كل حال فهذا فيه إشكال، وكل ما ذكر في هذا المعنى من الروايات لا يصح منه شيء تقوم به الحجة، ويجب الرجوع إليه عن رسول الله ﷺ، وأما المنقول عن السلف فهو مبني على ما أخذ عن بني إسرائيل.

كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قوله: إنه كان من الملائكة لقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [سورة طه:116] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك مع أن شأن هاروت، وماروت - على ما ذكر - أخف مما وقع من إبليس - لعنه الله تعالى -.
وقد حكاه القرطبي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر ، وكعب الأحبار، والسدي، والكلبي.


يريد بقوله: إنه أخف أن إبليس عارض أمر الله ، وكابر، وأبى أن يسجد، وقاس ذلك القياس الفاسد، فكان ذلك سبباً لطرده، وإبعاده، ولعنه وما أشبه ذلك، وأما هؤلاء الملائكة فإن ذلك كان معصية مجردة لغلبة الشهوة - على هذا القول - وذلك في قصة يذكرونها بروايات متعددة، وهي أنهم تعجبوا من معاصي ابن آدم؛ فأنزلهم الله إلى الأرض، وركب فيهم الشهوات؛ فوقع منهم ما وقع مما يذكرونه عن الزهرة، وأنها صارت صورة امرأة جميلة، وأنها طلبت منهم أن يشربوا الخمر، وأنهم شربوها، وغير ذلك، وأمور لا يليق ذكرها أصلا، فالعلم عند الله ، ومثل هذا القول الذي ينسب إلى الملائكة مثل هذه الأمور لا يعتمد عليه.
والقول بأن ذلك أنزله الله كما قال ابن جرير ابتلاء، واختباراً؛ أسهل من هذا بكثير، فلو قال قائل: هؤلاء ملائكة فكيف يقع منهم هذا الأمر، فيمكن القول: إن ذلك كان ابتلاء من الله ، أما هذه القصص المنسوجة بهذه الطريقة، ونسبة هذه الأمور إلى الملائكة؛ فلا يصح لإنسان أن يتكلم بها، وأسوأ من هذا، وأبعد منه؛ قول من قال: إن الملائكة توجد فيهم الشهوات عموماً، فهذا في غاية النكارة، والله أعلم.

وأما قصة الزهرة فموضوعة بلا مرية.


نعم قصة الزهرة مكذوبة، والزهرة هي النجم المعروف، وقصتها ما يذكرون من أنها نزلت في صورة امرأة لهذين الملكين، وأنهما أعجبا بجمالها، فراوداها، ولا زالا بها حتى وقعا بها، وفي بعضها أن تلك المرأة التي أعجبتهما سألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فصعدت به، فمسخت في الأعلى، ولم يستطيعا الصعود، وحبسا ببابل، ويذكرون أشياء غريبة منها أنهما معلقان بأرجلهما، ويذكرون أشياء غريبة جداً، حتى إن في بعض الروايات - رواية في ابن جرير، وصححها الشيخ أحمد شاكر - عن عائشة - ا - أن امرأة أتتها من دومة الجندل، وأنها سألت عن النبي ﷺ فكان قد قبض يعني جاءت في الوقت الذي توفي فيه رسول الله ﷺ فبكت المرأة، وخلاصة القصة أن هذه المرأة جاءت تسأل عن ذنب اقترفته ما كفارته، وكيف المخرج منه، فعلى كل حال هذه المرأة تقول لعائشة - ا - بأنها أرادت زوجها، فبحثت عنه طويلاً ولم تجده، وأنها سألت عنه فأرشدها ساحر، أو ساحرة إلى أمر تفعله، فجيء لها بكلبين أسودين كبيرين، فركبت أحد هذين الكلبين، والساحر أو الساحرة ركب الآخر، فما وجدت نفسها إلا ببابل، فأُدخلت على هذين الملكين المعلقين بأرجلهما، فسألتهما، فأمراها أن تذهب إلى مكان أرشدا إليه، وأن تبول على الرماد، فذهبت، فرأت منظراً فضيعاً، فخافت، ورجعت، ثم قالا لها: هل فعلت؟ قالت: نعم، قالا: ماذا رأيت؟ قالت: ما رأيت شيئاً، قالا: لم تفعلي شيئاً، فارجعي، فرجعت، وخافت، ثم رجعت، وفي الثالثة فعلت ما طلب منها فخرج منها فارس أسود، وارتفع إلى السماء، فأخبرت هذين الرجلين بما رأت، فقالا: صدقت، وأخبراها أن هذا هو الإيمان خرج منها[1].
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء التي وردت في الإسرائيليات عن الملكين لا يعتمد عليها.

قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق...


قوله: قال أصحاب الهيئة: يعني علوم الهيئة التي يتحدثون فيها عن الأقاليم، وحدود الأرض، وخطوط الطول، ودوائر العرض المعروفة، وكذلك الهيئة العلوية من الأفلاك، والنجوم، وما أشبه ذلك، فالحاصل أن ابن كثير - رحمه الله - يأتي بكلام علماء الهيئة من أجل أن يحدد بالضبط موقع بابل من جهة خطوط الطول، ودوائر العرض؛ على الكرة الأرضية.
إذا نظرت إلى كلام المفسرين تجد أن بعضهم يقول: بابل في المغرب، وبعضهم يقول في نهاوند، وبعضهم يقول: في العراق، وبعضهم يقول: هو إقليم الكوفة وما حوله، فليست القضية عندهم متفقة، يقولون فيها بأنها بابل المعروفة في أرض العراق، ومن ثم فإن السبب في كونه أراد أن يحددها تحديداً دقيقاً لئلا تلتبس به مع غيرها، وإلا فإن هذا لأول وهلة يقول القائل: ما الحاجة إلى التحديد أين هي سواء على خط طول كذا، وخط عرض كذا.
قال أصحاب الهيئة: وبُعْدُ ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر المحيط الغربي ويقال له: أوْقيانُوس؛ سبعون درجة، ويسمون هذا طولاً، وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم.
على كل حال الأصل أن تحمل بابل على المكان المعروف منذ القديم في التاريخ فليست هي تسمية حادثة، وإنما هي معروفة منذ زمن طويل.
وإذا نظرت إلى ما كتب عن بابل، وسبب التسمية؛ تجد أشياء، وخزعبلات لا يبنى عليها علم، فتجدهم يقولون: هل من بلبلة الألسن، وينسبون إلى الله كذباً وزوراً عن اليهود أشياء لا يليق أن يتفوه بها الإنسان من سوء ظنهم بالله، ويقولون في سبب تسميتها غير ذلك، فعلى كل حال اسمها بابل، والأصل في الأسماء ألا تعلل.
والعجيب أننا إذا أردنا أن نفسر بابل بتلك التفسيرات المكذوبة فمعنى ذلك أنا جعلناها عربية، وهم أعاجم أعني الذين قالوا: إنها من البلبلة وهيا نبلبل ... الخ فهم اليهود الأعاجم فكيف فسروها بذلك، فهذا من التناقض، فأحياناً تعرف بطلان القول حينما يفحص، ويحلل؛ فيتبين لك أنه ما يصح.

وقوله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة] قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس - ا - قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير، والشر، والكفر، والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان، فَعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور.


هذه الروايات مبنية على ما أخذ عن بني إسرائيل، والله قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ أي هما اللذان يقومان بهذا التعليم لا أن يرسلاه إلى الشيطان فيقوم بتعليمه، وبعضهم يقول: وما يعلِّمان يعني يُعْلِمانه بأن هذا باطل، كما قال القائل:

تعلم شفاء النفس قهر عدوها فبالغ بلطف في التحيل والمكر

يعني: اعلم أن شفاء النفس قهر عدوها، وغير ذلك مما يستشهدون به.
لكن ظاهر الآية المتبادر أنهما يعلمان السحر كما قال الله : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [سورة البقرة:102] يقول: وما يُعْلمان لكن الظاهر - والله تعالى أعلم - أنها من التعليم، هذا الظاهر المتبادر، أي من التعليم المعروف سواء قلنا: إنهما يعلمان السحر، أو أن الشياطين يعلمون الناس السحر، وهؤلاء يعلمون ما يفرقون به المرء وزوجه، سواء قلنا هذا، أو هذا، مع أن ما يفرق به بين المرء وزوجه هو نوع من السحر قطعاً؛ بل إن بعض أهل العلم قصر حقيقة السحر عليه، وقالوا: والباقي خزعبلات، إما أخذاً للأبصار بالتخييل، أو معرفة خواص المواد مثل ما يفعل من يعرف الكيمياء عن طريق خدع كمن يدخل في النار يطلي نفسه بطلاء، ويدخل في النار، ولا يحترق، والناس ينبهرون به؛ أو غير ذلك مما يفعله من تغيير لونه أو غير ذلك، أو بأمور يموه بها بسبب معرفة خواص المواد، وإلا فهو لا حقيقة له، أو بخفة اليد بحيث يفعل حركات تستغرب كيف هذا خرج من هنا؟ وكيف هذا جاء من هنا؟ وكل هذا ولا شك أنها من ألوان السحر، لكن منه ما هو حقيقي ومنه ما هو غير حقيقي، والحقيقي أكثر من هذا، وما يفعلونه اليوم مما يسمى بالرجل البهلواني، أو الرجل الحديدي، أو الرجل الذي يقضم الحديد بفمه، أو يثنيه بأصابعه، أو يجر السيارة بأسنانه، أو يجلس تحتها وتطأ عليه، أو يمشي على المسامير، أو ينام عليها، أو يمشي فوق النار؛ هذا كله من السحر، ولو حضرت عندهم لأبطلت عملهم هذا كما يستطيع أن يبطله كل واحد منكم، فهذا الرجل لو قرئ عليه وهو يفعل هذا لدهسته السيارة، ومات، ولو دخل في النار لاحترق إذا ما طلا نفسه بطلاء، ولا يستطيع أن يثني الحديد بيده أبداً، ولا يمكن، ولا يعقل أن يفعل هذا البشر، ولو جرى على يد أحد من البشر؛ لكان من قبيل المعجزات؛ لأن هذا أمر خارق للعادة تماماً، ولا يمكن للبشر أن يحصلوه بالتمارين والقوة إطلاقاً، وما يذكرونه بما يسمى بعلم التأثير الذي هو قرين ما يسمونه NLB من المشي على النار فهذا أيضاً كله من السحر إذا كان لا يحترق، وأما إذا كان لا يحس فهذا نعقله ونحن أطفال، فأنا أستطيع أمشي على النار ولا أحس؛ لأن الإنسان ممكن يجرح وهو في حالة من شدة الفرح، أو من شدة الحزن، أو شدة الهرب والخوف؛ ولا يشعر، ويكسر ولا يشعر في فترة ذهول، واسألوا الذين تقع لهم حوادث اسأله للتو حينما انقلبت به السيارة، أو نحو ذلك فلربما يجرح، وينزف، ولم يشعر بشيء إطلاقاً، تجده ينكسر فيريد أن يقوم، وهو لا يشعر أن رجله مقطوعة، كل هذا يقع، ولا يتفطن له إلا فيما بعد حينما تذهب عنه الصدمة، أو يقول له إنسان: ما بال عينك تسيل على خدك، فمن الممكن أن الإنسان ما يحس لكن الجسد لا بد أن يقع عليه أثر النار، أو أثر السكين أو نحو ذلك، وفرق بين هذا، وهذا.
 

فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعًا في السماء فيقول: يا حسرتاه! يا ويله ماذا أصنع؟.
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا: إنما نحن فتنة - أي: بلاء ابتلينا به - فلا تكفر.

ابتلينا به هذا على القول بأن الغواية حصلت منهما أصلاً، لكن على قول ابن جرير أنهما يقولان ذلك؛ لأنهما إنما نزلا ابتلاء من الله للناس دون أن يقع منهما معصية.

وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبُلْ عليه.

كما في خبر تلك المرأة التي قالا لها: لا تكفري إنما نحن فتنة، فلما أبت أمراها أن تذهب إلى رماد، وتبول عليه، والخبر ذكرناه آنفاً أن امرأة جاءت إلى عائشة - ا -.
 

فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه، وكلِّ شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] الآية.
وقال سُنَيد عن حجاج، عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر إلا كافر، وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار.


قوله: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أصل الفتن هو الاختبار كأن تعرض الذهب مثلاً، أو المعدن؛ على النار، فيتخلص ما فيه من أخلاط، فيبقى ذهباً صافياً خالصاً، تقول: فتنت الذهب على النار قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [سورة البروج:10] على أحد التفسيرات أي أحروقهم بالنار في قصة الأخدود، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35] أي اختباراً.

 وقد استدل بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر.

استدل بها على تكفيره؛ لأنه قال: يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] يعني لا تتعلم السحر، فإن أبى، وتعلم ما يفرق به بين المرء وزوجه، وسواء كان قد تعاطى السحر، وعمل به، أو اكتفى بتعلمه، فإنه قد جعل ذلك كفراً، وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة، وهو أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يتعلم الإنسان السحر سواء كان ذلك من أجل العمل به، أو من أجل معرفة الشر كما يقول بعض أهل العلم:

عرفت الشر لا للشر لكن لأتقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه

فبعض أهل العلم يقولون: يجوز تعلم السحر؛ لإبطاله، وإفساده، والحذر من مقارفته، وتحذير الناس منه، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن هذه الوسيلة وسيلة محرمة في نفسها؛ وذلك أن تعلمه كفر، فلا يجوز للإنسان أن يقدم عليه.

وقد استدل بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله قال: من أتى كاهنًا، أو ساحرًا؛ فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمدﷺ[2] وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [سورة البقرة:102].

قوله: من أتى كاهناً أو ساحراً فسأله.. قد لا يسأله متعلماً للسحر، وإنما يسأله عن بعض الأمور الغائبة، ومع ذلك حكم عليه بهذا الحكم، وهو أنه كفر بما أنزل على محمد، فكيف بما أتاه ليتعلم منه السحر؟ لا شك أن هذا أشد.
ولماذا خص التفريق بين المرء وزوجه في قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ مع أن السحر أوسع من هذا؟
يمكن أن يقال: لأن هذا هو الأشهر، والأكثر انتشاراً، وهو السحر الذي يؤثر بإذن الله من جهة الحب، والبغض، والنفرة، والإقبال، والاستمالة؛ ولهذا فإن بعضهم يفسر السحر بأنه الصَّرف أي لأن الشيء مصروف عن وجهه، حيث صار يحب هذا الذي ما كان يحبه، أو يبغض هذا الذي كان يحبه.
وبعضهم يفسره بالاستمالة لما يحصل فيه من استمالة المسحور، وعلى كل حال سواء فسرناه بهذا، أو بهذا، أو فسرناه بما هو أوسع من ذلك كما يقول بعضهم: هو من الخفاء؛ لأن الساحر يأتي ما يأتي بطرق خفية غير مدركة بالنسبة لمن لا يعرف السحر - وهذا أقرب -، وأوسع ما فسر به السحر بمعنى من أين أخذ السحر يقال: أخذ من الخفاء، فإذا قيل لماذا ذكر التفريق بين المرء، وزوجه؟
يقال: لأنه هو الأفشى، والأكثر، كما قال الله : وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [سورة الفلق:4] فلو قيل: لماذا ذكر النساء السواحر، ولم يذكر السحرة من الرجال - ومن شر النفاثين في العقد - حيث والساحر يعقد عقده كما قال النبي ﷺ: من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر[3] فيمكن أن يقال: لأن السحر في النساء أكثر منه في الرجال، وأكثر ما يقع ذلك للمرأة، وأسوؤه حينما تكون في حال الحيض، ولذلك فإن من أراد أن يعالج السحر يكون العلاج أصعب إذا كانت المرأة في حال الحيض يعني علاج المرأة المسحورة وهي في غير الحيض أسهل من علاجها في حال الحيض، والساحر إذا أراد أن يفك السحر بسحره حيث يعطى مال، ويقال له: "فك السحر" يكون ذلك بالنسبة إليه في رمضان أصعب منه في غير رمضان؛ لأنه يريد أن يفكه عن طريق الشياطين، فتجده يقول للإنسان الذي يأتيه: إذا خرج الشهر تأتي إليَّ، وهذا شيء مشاهد حيث يأتي بعض الناس يسألون عن مثل هذه الأشياء، ولربما وقع بعضهم في بعض الأمور العجيبة التي يقصد بها الإصلاح، ومن ذلك فك السحر بالسحر، ومعلوم أن ذلك لا يجوز، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، وما نقل من بعض العبارات عن بعض السلف فهو محمول على أن المقصود به النشرة عند من قال لا بأس بالنشرة، فالمقصود بالنشرة هي ما يحل به السحر وإن لم يكن بالسحر، كأن يكون بالرقية، أو بالأدوية المعروفة غير السحر، حيث توجد الآن أدوية تعطى للمسحور وهي مركبة من أعشاب تعين على استخراجه خاصة إذا كان مأكولاً، أو مشروباً؛ فهذه نشرة، فالنشرة تكون بالسحر وبغيره فهي لحل السحر، ولا إشكال فيها إذا كانت بغير السحر، وعلى فرض أن مقصود القائل من أن السحر يجوز لفك السحر فإن ذلك القول قول شاذ، وليس كل قول قيل يمكن أن يتبع، وعلى كل حال لا يجوز ذلك، وعلى الإنسان أن يصبر، ويتعاطى الأسباب المعروفة المباحة، أو المشروعة؛ لعلاج هذا السحر.
بعض أهل العلم - وهو قول عند بعض الحنابلة - قالوا: يجوز في حالات ضيقة جداً، وذلك مثل المرأة التي تسحر لتبذل عرضها، فالمرأة أحياناً قد يوضع لها سحر وهي شريفة فتصير تخرج تبحث عن الرجال في الشوارع، فقالوا في هذه الحالة يمكن أن يفك بالسحر، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، بل مثل هذه المرأة تحبس بأن توضع في مستشفى، أو في أي مكان تضبط فيه كبيت أهلها، وعليهم أن يرقونها بالرقى الشرعية حتى تبرأ بإذن الله .
وهناك طرق صحيحة يفك بها السحر من عرفها، وكان له خبرة بها - من غير أن يكون فيها مخالفات -، حيث إن الله يفتح على بعض الناس فترى منهم أشياء عجيبة في هذا الباب حيث يوفقهم الله إلى أمور يفكون بها السحر.
وبعضهم يذكر طرقاً يقول دلت عليها التجربة، حيث يأتون بأشياء معينة كأن يضعون ماء مع ملح أمام المسحور، ونحو ذلك؛ فهم عندهم طرق معينة يقول لك يقتل الجني المربوط مع السحر خلال دقائق، ذكروا أنه إذا كان مربوطاً بحيث ما أمكن إخراجه فيضطرون إلى قتله كما يقولون، والله أعلم.
وأحياناً يأتون بالقطران وهو ذو رائحة معينة معروفة مخلوط بالماء في زير الماء مثلاً، ويضعونه عند أنفه، حيث يقولون: إنه يحبه جداً، فيخرج من أي مكان في الجسم كان مختبئاً فيه، ويضعون أمامه الماء، والملح، ثم يقولون دعاء معيناً أو أذكاراً معينة فيقتل بهذه الطريقة كما يقولون، والله أعلم.

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [سورة البقرة:102] أي: فيتعلم الناس من هاروت، وماروت؛ من علم السحر، وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة؛ ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة، والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - ا - عن النبي ﷺ قال: إن الشيطان ليضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقربه، ويدنيه، ويلتزمه، ويقول: نِعْم أنت[4].
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل، أو المرأة؛ من الآخر من سوء منظر، أو خلق أو نحو ذلك، أو حقد، أو بَغضة أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة، والمرء عبارة عن الرجل، وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما، ولا يجمعان، والله أعلم.

قوله - تبارك وتعالى -: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ذكرنا قبلُ بأن قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [سورة البقرة:102] أنه قد يرجع إلى أول الآية، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102]، أي: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على هاروت، وماروت، فعلى هذا الذي أنزل على هاروت، وماروت؛ هو ما كانوا يتلقونه منهم - عند بعض أهل العلم - مما يفرقون به بين المرء، وزوجه، فكأن المعنى: اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما يفرقون به بين المرء وزوجه مما تعلموه من هاروت وماروت، أو واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما يفرقون به بين المرء، وزوجه، هذا إذا قلت: بأنه يعلمون الناس السحر، وما أنزل يعود إلى هذا، فيكون السحر مما يتلقونه عن الشياطين على الأول، فالذين اتبعوا (يعني: اليهود) اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، واتبعوا ما أنزل على الملكين، وإن شئت أن تقول: واتبعوا ما يفرقون به المرء، وزوجه.
وعلى الثاني يكون ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين، وهذا باعتبار أن هاروت، وماروت؛ بدل من الشياطين، فنحن قلنا: إما أن تكون بدل من الناس، أو بدل من الشياطين، فيكون على هذا هاروت، وماروت من الشياطين، وإذا قلنا: إنها بدل من الناس يكون هاروت، وماروت؛ إما ملكين من ملوك الدنيا، أو كما قيل: هما علجان أو غير ذلك.

وقوله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:102] قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله، وقال الحسن البصري: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال: نَعَم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى.

قوله: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ: الإذن يأتي بمعنى الأمر الذي لا يقيد بإلزام، أي مطلق الأمر، يقال: هذا مأذون فيه، وفلان أذن له في كذا.
ويأتي بمعنى التخلية بينك وبين الشيء، إذا خلَّى بينك وبين الشيء، ولم يمنعك منه؛ فهذا إذن منه لك به.
ويأتي بمعنى العلم بالشيء.
فهل يمكن تفسيره بالأول، أي وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله بمعنى إلا بأمره غير الملزم أي الأمر الكوني؟
الجواب: ليس بأمر غير ملزم، بل الأمر الكوني أمر ملزم، فلا يمكن أن يفسر بالأول.
وإن قلنا: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، أي: إلا أن يخلي بينهم وبينه، بمعنى لا يمنعهم منه؛ فهذا يحتمل، ولو شاء الله لم يحصل ذلك.
والمعنى الثالث: إلا بإذن الله أي إلا بما سبق في علمه، لا يحصل شيء إلا بعلم الله وهذا العلم هو العلم الأزلي الذي قدر الله فيه مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات، والأرض؛ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، فلا يحصل في الكون تحريكة، ولا تسكينة؛ إلا بقدره .
وهذا القدر على أربع مراتب كما هو معلوم، أولها: العلم المحيط الشامل الذي لا يخرج عنه شيء، فلا يحصل أثر هذا السحر إلا لمن سبق في علم الله أن ذلك يحصل له، وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
فهذه ثلاثة معاني للإذن، أولها لا يصح هنا، وإن كان يصح في معنى اللفظة، وإن شئت أن تفسر ذلك بمعنى أوسع لما بين هذه الأمور من الملازمة في باب القدر، وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ أي إلا بإرادته سبحانه، فيخلي بينهم وبين هذا، فينفذ السحر ويؤثر، وإن شاء لم يحصل كما أن النار لم تحرق إبراهيم ﷺ مع أن من طبيعتها الإحراق، ولكنه لا يقع في الكون شيء إلا بإرادته، وعلمه، وتقديره، وقضائه، فالملك ملكه، والأمر أمره، ومن ثَمَّ يجب التوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، والالتجاء إليه، والتعوذ به من أجل أن يحفظ الإنسان من مثل هذه الأمور، والسحرة يعرفون ذلك جيداً، فهم يعرفون أن سحرهم لا ينفذ في كثير من الأحيان، فهم يعملون أعمالاً من السحر كثيرة ينفذ بعضها، وبعضها لا ينفذ إما من غير سبب ظاهر، وإما أن يكون ذلك لسبب ظاهر معلوم تخبرهم به الشياطين وهو أن هذا الإنسان محصن بالذكر، فما استطاعوا الوصول إليه بمثل هذا السحر، ولذلك يخبرون بعجزهم أحياناً لمن طلب السحر منهم لأحد، ويصرحون بهذا، فيقولون: ما تمكنا منه حتى في الحمام، وهذا مع أن الحمام ليس مكاناً للذكر، وقد حدثني بعض من تاب من هذه الأعمال ممن كان يتصل على السحر فذكر أنهم كانوا يتصلون بسحرة في بعض البلاد البعيدة المعروفة بالسحر، ويرسلون لهم أموالاً عن طريق الحوالات، ويعملون أعمالاً من السحر، وكانوا يخبرونهم أحياناً بأنهم مع تكرار المحاولات ما استطاعوا، فالحاصل أن عملهم كثير جداً فهم ليس لهم شغل إلا هذا، ولكن الذي ينفذ منه قليل، أو جزء منه، وصدق الله: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:102] وهذا أيضاً يذكر بقول الله - تبارك وتعالى -: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [سورة طه:69]، وبقوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76] فكيد الشيطان ضعيف، ولذلك فإن مثل هذا المسحور إذا رقي ظهر ضعف الشيطان، ورأيت كيف هذا العاتي المارد يبكي، ويتوسل أعظم التوسل إلى هذا الراقي؛ ليطلقه، ويتركه، ولا يلحقه الأذى منه، بينما من ضعف يقينه، وضعف توكله؛ لربما عبد هؤلاء الشياطين رجاء نفعهم، أو خوف ضررهم فيتلاعبون به غاية التلاعب قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [سورة الجن:6].

وقوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [سورة البقرة:102] أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره.

في قوله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ردٌّ على الذين قالوا: إن السحر لا تأثير له أصلاً، وهؤلاء في مثل هذه المسألة، وفي غيرها من المسائل التي تشبهها؛ هم يدورون على انحرافات في الاعتقاد عندهم في باب القدر، ولا أريد أن أدخل الآن في تفصيل هذه المسألة، لكن أشير إلى المأخذ، والأمر الذي وقع منه فساد التصور عند هؤلاء الناس وهو فساد اعتقادهم؛ لأنهم يقولون: لا مؤثر في الكون إلا الله، وهذه عبارة مجملة؛ إذ لا يقع شيء في الكون إلا بأمر الله، وبإرادته؛ وهذا أمر معلوم، فلا يقع في ملكه ما لا يريد، لكن هم يسلبون ذلك تماماً، ويقولون: إن دعوى أن شيئاً يؤثر بنفسه في الكون فمعنى ذلك ادعاء أن ثمة رباً مع الله يدبر معه، وهذا شرك في الربوبية، فهم هكذا تصوروا القضية، ولذلك يأتون بالعجائب، فيقولون مثلاً: بأن الانكسار لم يحصل بالكسر وإنما حصل عنده، والنار ليس فيها خاصية الإحراق، وإنما حصل الاحتراق عند مقاربة النار وملابستها، فالنار لا تحرق بطبعها، وإنما الله هو الذي جعل هذا يحترق حينما دخل النار ولابسها، وكذلك يقولون: التجمد لم يحصل بسبب البرودة وإنما خلقه الله عند ملابسة البرودة، وكل هذا بناء على هذا الأصل الفاسد.
أما نحن نقول: جعل الله في بعض الأشياء خاصية أودعها فيها إن شاء الله سلبها، ولا يقع في كون الله إلا ما يريد، والخلق كله خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، فالنار ألقي فيها إبراهيم ﷺ، ولم يحترق؛ لأن الله سلبها هذه الخاصية، ولكن من طبيعتها التي أودعها الله الإحراق، وهكذا السحر يحصل له تأثير، لكن لا يكون هذا التأثير خارجاً عن إرادة الله ، وتقديره، هذه هي خلاصة هذه المسألة، ومأخذ هؤلاء أصحاب ذلك الأصل الفاسد.
يقول تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [سورة البقرة:102] قد يقول قائل: إن السحر يحصل لهم به منفعة في الدنيا مثل المال الذي يكتسبونه، ومثل تحصيل بعض مطالبهم كأن يسحر هذه المرأة من أجل أن تحبه، وهي تسحر زوجها من أجل أن يحبها، وهذا يسحر هذا الإنسان ليستحوذ على ماله فيكون مسلوباً منقاداً له، وهذا كثير جداً، حيث تجد من يسحر شخصاً بأتفه الأمور كأن يشتري سيارة من إنسان، فيكون ذلك سبباً لسحر يدمر حياته من أولها إلى آخرها، فبسبب سيارة اشتراها منه يسحره، ويستحوذ على ما عنده من مال، وقرابات، وجعله يقترض دائماً من أجل أن يعطيه، فهو لا يرد له طلباً.
 فالمقصود أنه يحصل لهم هذا النفع في بادئ الأمر، وبالتالي فالمراد بقوله تعالى: مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ كما حمله بعض أهل العلم منهم ابن جرير - رحمه الله - أن المقصود ما يضرهم في الدنيا، ولا ينفعهم في الآخرة، وإن كان يحصل لهم بعض النفع في الدنيا لكن الضرر فيه أغلب.
ويمكن أن يقال: إن قوله: مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ هذا ليس نفعاً حقيقياً، وإنما هو كالنفع الذي يحصل للزاني من لذة، والسارق من تمتع بهذا المسروق، ولكنه في الواقع ضرر، فهو يتجرع ظلماً، وسحتاً، وناراً، فهذا ضرر وليس بنفع، كالذي يلعق السم، ويتلذذ بهذا الطعام الذي فيه السم، فمثل هذا حصل على ما يضره، ولا ينفعه.
يقول ابن كثير: وقوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [سورة البقرة:102] أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره: ابن كثير حمله على أنه ألغى هذا النفع الموهوم، واعتبر الضرر المحقق الغالب فيه، فالنفع ألغاه، وأهدره؛ لأنه لا قيمة له، فهذا الذي مشى عليه ابن كثير، وأما ابن جرير فعلى غير هذا إذ يرى أنه يضر في الدنيا، ولا ينفع في الآخرة، أي وإن حصل لهم به نفع في الدنيا قليل في مقابل الضرر الكثير.

وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:102] أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول ﷺ لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس - ا - ومجاهد، والسدي: من نصيب.

قوله: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ بعض أهل العلم يقولون بأن "لـ" هذه جاءت لمعنى توكيد الكلام، وتقويته فقط، و"من" اسم موصول فيكون المعنى بهذه الطريقة: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.
 

وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ أي الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق يعني الذي اختاره، وارتضاه بدلاً من اتباع الحق، والوحي، والعمل بما أنزل الله على أنبيائه، ورسله - عليهم الصلاة والسلام -.

وبعضهم يقول: إن هذه اللام تدل على القسم، وأن هناك قسماً محذوفاً، وهذا يقول به ابن جرير - رحمه الله - أي: كأن الله تعالى يقسم بنفسه فيقول: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق.
أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول ﷺ.
هذا على أساس أن الكلام يرجع إلى اليهود، وَلَقَدْ عَلِمُواْ أي اليهود، ويحتمل أن يكون راجع إلى الشياطين باعتبار أن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت، وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء، وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.
وَلَقَدْ عَلِمُواْ: باعتبار أن هاروت، وماروت من الشياطين فإنهم علموا لمن اشتراه.
ويحتمل أن يكون ذلك يعود إلى الملكين باعتبار أن هاروت، وماروت من الملائكة، فهما يعلمان ذلك، ويُعْلمان به، يقولون: إنما نحن فتنة فلا تكفر، والله تعالى أعلم.
وسواء قلنا بأن هاروت، وماروت ملكان، أو أنهما من الشياطين؛ فمجيئه بضمير الجمع في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُواْ وهما اثنان لا إشكال فيه إما باعتبار الأتباع، أو باعتبار أن الاثنين أقل الجمع كما سبق، والله أعلم.

ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول ﷺ لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق.

في قوله: الذين استبدلوا بالسحر: يريد أن يفسر لفظة الاشتراء الذي في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ، وقد سبق الكلام على معنى الاشتراء، ومثلنا بقول من قال: كما اشترى المسلم إذ تنصرا، وقلنا: إنه بمعنى استبدل النصرانية، ولم يكن نصرانياً من قبل، ومثل ذلك اشتروا الضلالة بالهدى، ومثل ذلك قوله: لَمَنِ اشْتَرَاهُ أي: من اختار السحر على الإيمان، واتباع الوحي.

مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:102] قال ابن عباس - ا - ومجاهد، والسدي: من نصيب.
وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102-103]، يقول تعالى: وَلَبِئْسَ البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرسول ﷺ، لو كان لهم علم بما وعظوا به.

ويمكن أن يفسر وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أي: ولبئس ما باعوا به أنفسهم فضيعوها وأهلكوها، وأوبقوها بتعاطي السحر، وترك الوحي المنزل، ويمكن أن يفسر على ما سبق، ولا منافاة بين هذين المعنيين.
ابن جرير - رحمه الله - يرى أن قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ أي: باعوه، وكلام ابن كثير جرى فيه على معنى الاستبدال في الموضعين، ولا إشكال في هذا الأمر. 

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ [سورة البقرة:103] أي: ولو أنهم آمنوا بالله، ورسله ﷺ أجمعين، واتقوا المحارم؛ لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم، ورضوا به.

قوله: واتقوا المحارم لكان مثوبة: يعني لثواب، فالمثوبة بمعنى الثواب، مثل العقوبة بمعنى العقاب، ومعنى الآية لثواب من عند الله خير في العاجل والآجل من هذا الذي اشتغلوا به لو كانوا يعلمون.
قوله: لَمَثُوبَةٌ  اللام هذه جواب لو الأولى، وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ أي: لو آمن لكان ثواب الله خير له من هذا الذي اشتغل به.

 كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:80].

في قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [ سورة البقرة:103] هذه الآية مع التي قبلها: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [ سورة البقرة:102]، الثانية: لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:103] هذا الختم لهاتين الآيتين لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ سيأتي الكلام عليه مع آية أخرى بإذن الله في الجمع بين هذا، وبين ما قد يتوهم أنه يعارضه، والله أعلم.

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104].
قال الله : وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:102] ثم قال  - تبارك وتعالى - بعد ذلك: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102]، قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:103].

تأمل في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فأثبت لهم العلم ثم ذكر ما يدل على نفيه عنهم، وذلك في قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] معناها أنهم لا يعلمون، فكيف تجمع بين الأولى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ والثانية: لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ؟
الجواب هو أن الثانية تكون بمعنى لو كانوا يعقلون.
ففي قوله: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ المعنى أنهم عرفوا حكم السحر، وأنه كفر، ولا حظَّ، ولا نصيب من الثواب، والأجر لمن تعاطى السحر.
وفي قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وفي قوله: لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ هؤلاء يمكن أن يكون المراد بهم علماء اليهود باعتبار أن الحديث عن اليهود وعن اتباعهم للسحر، وعلى هذا فمعناه أنهم لو كانوا يعلمون علماً ينفعهم، فالعلم الذي أثبته لهم أولاً هو المعرفة، لكن العلم قد لا ينتفع به صاحبه، كثير من الناس يعلم كثيراً من الأحكام لكنه لا يمتثل، ولذلك تقول للإنسان: لو كنت تعلم، أو لو تدري لما فعلت كذا، وهو يعلم بالحكم.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ: الإنس، والذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق يمكن أن يقال: إن المراد بهم اليهود مثلاً، فالسياق يتحدث عن اليهود، وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] فيمكن أن يكون المراد بقوله: لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ الإنس، وتلك في اليهود الذين تعلموا من الملكين ما يفرقون به بين المرء، وزوجه، وقد يقال غير ذلك - والعلم عند الله - ، ومن أوضح ما يذكر في هذا هو ما ذكرته أنهم لو كانوا يعلمون علماً ينتفعون به.

  1. أخرج القصة الحاكم في مستدركه (7262) (ج 4 / ص 171) وصححه الذهبي في التلخيص. 
  2. أخرجه البزار بهذا اللفظ (ج 5 / ص 256).
  3. أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم باب: الحكم في السحرة (4079) (ج 7 / ص 112)والطبراني في الأوسط (ج 2 / ص 127)وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5702).
  4. أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قريناً (2813) (ج 4 / ص 2167).

مرات الإستماع: 0

"وَاتَّبَعُوا أي: اليهود الذين في زمن محمد ﷺ أو المتقدمون."

 

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ اتبعوا السحر، هذا في زمن النبي ﷺ أو المتقدمون. هذا كان من المتقدمين منهم نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وقع هذا منذ زمن بعيد، وكذلك السحر مستمر في اليهود كثير، والذين كانوا في زمن النبي ﷺ أيضًا كان ذلك فيهم، كما هو معلوم أنهم سحروا النبي ﷺ سحره لبيد بن الأعصم، وهنا وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ يعني بوجه من قال: بأن ذلك لمن كانوا في زمن النبي ﷺ كأنه مرتب على ما قبله. يعني نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم باعتبار أنه القرآن، واستعاضوا عن ذلك باتباع السحر.

وعلى المعنى الآخر: أنهم نبذوا كتاب الله الذي هو التوراة، واتبعوا ما تتلوا الشياطين، نبذوا العمل بالتوراة، واتبعوا ما تتلوا الشياطين، فالكتاب المصدق هو من عند الله القرآن، والرسول هو النبي ﷺ.

"ما تَتْلُوا هو من القراءة، أو الاتباع."

كلمة (تلا) ذكرنا فيما سبق أنها تأتي بمعنى القراءة، فالقارئ يتبع؛ لأن أصل كلمة تلا تدل على الاتباع، فهو يتبع الألفاظ هذا القارئ، وهي أيضًا تكون بمعنى الاتباع بالعمل، والامتثال، تتلوا وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ يعني باعتبار ما تقرأ الشياطين من السحر والرقى الشركية ونحو ذلك من الأسحار، أو الاتباع ما تتلوا الشياطين يعني ما تتبعه الشياطين وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ تتقوله، تتحدث به، هذا باعتبار أن التلاوة بمعنى القراءة،مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ يعني تقرأ، تتحدث به، وتتقوله، باعتبار أن الاتباع وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ يعني تتبع، وتعمل، الشياطين ماذا تتبع، وتعمل؟ السحر، إفساد، وابن جرير  - رحمه الله -  حملها على المعنيين، فهؤلاء الشياطين يتلون بمعنى أنهم يتقولون ويتحدثون، وكذلك أيضًا يعملون، ويتبعون سُبل الشر، والإفساد.

"عَلى مُلْكِ أي: في ملك أو على عهد ملك سليمان."

عَلَى مُلْكِ أي: في ملك سليمان. هذا الذي اختاره ابن جرير  - رحمه الله - مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي في ملكه، أو على ملك سليمان ﷺ. يعني على بمعنى في، في ملك سليمان، يعني ما تتحدث به في ملك سليمان، يعني ما كانوا يفعلونه، وما كانوا يتحدثون به، وما كانوا يزاولونه من السحر على عهد سليمان، على عهد ملكه في أيام ملكه، ويحتمل ما يضيفونه إلى ملك سليمان، حيث يزعمون أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - كان يسخر هؤلاء الشياطين بالسحر، ويزعمون أنهم استخرجوا كتبًا في السحر من تحت كرسيه بعد وفاته، فهذا من شنائعهم، وكفرهم/ وكذبهم، وافترائهم على أنبيائهم - عليهم الصلاة والسلام -. يقولون: استخرجت الشياطين هذه الأسحار، أو كتب السحر من تحت كرسي سليمان وأخرجوها للناس، وقالوا: كان يسخر ما يسخره بهذا السحر. فكانوا يضيفون ذلك إلى ملكه، أو يكون ذلك من باب الإضافة إلى عهده مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ

"وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة له مما نسبوه إليه، وذلك أن سليمان دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته، ونسبوه إليه، وقالت اليهود: إنما كان سليمان ساحرًا."

أيضًا كون سليمان - عليه الصلاة والسلام - دفن السحر ليذهبه هذا لا دليل عليه، ليس عندنا دليل على هذا، إنما هي أخبار إسرائيلية.

"وقيل: إن الشياطين استرقوا السمع، وألقوه إلى الكهان، فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك، ودفنه، فلما مات قالوا: ذلك علم سليمان، وما كفر سليمان بتعليم السحر، وبالعمل به، أو بنسبته إلى سليمان ."

وهذا أيضًا لا دليل عليه وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ يعني: ما كانوا يضيفونه إليه، أو ما كانت تلقيه الشياطين زمن ملك سليمان، يعني مما على هذا المعنى مما جمعه سليمان - عليه الصلاة والسلام - ودفنه، ما تتلوه الشياطين فأخفاه سليمان، ودفنه؛ لئلا يشتغل به أحد، فأخذوه، واتبعوه، وتركوا العمل بالتوراة، وهكذا من ترك الإقبال على ما ينفعه ابتلي بالاشتغال بما يضره، يعني تركوا اتباع النبي المرسل، واتبعوا أحط الناس، وهم السحرة، وتركوا الاشتغال، والعمل بالكتاب المنزل، واشتغلوا بأرذل الأشياء، وهو السحر، من ترك الإقبال على ما ينفعه ابتلي بالاشتغال بما يضره.

وقد عقد الشيخ عبد الرحمن السعدي  - رحمه الله -  في القواعد الحسان عنوانًا، أو بابًا في هذه القاعدة، فقال: "دلَّ القرآن في عدة آيات أنَّ من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلى بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمرَ الأول"[1].

"الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بتعليم السحر، أو بالعمل به، أو بنسبته إلى سليمان ."

فقوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا السحر قيل: أصله الخفاء؛ لأن الساحر يفعله بخُفية، وقيل: أصله الصرف؛ لأن السحر مصروف عن وجهه، عن جهته، وقيل: أصله الاستمالة؛ لأن من سحر فقد استمال وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: كفروا بتعليم السحر، وبالعمل به، أو بنسبته إلى سليمان، وعلى كل حال كل هذا كفر، ولكن تعلم السحر كفر، وتعليمه كفر، والعمل به كفر، ولهذا قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.

"وَما أُنْزِلَ نفي، أو عطف على السحر، أو على مَا تَتْلُو."

كيف يكون المعنى على هذه الاحتمالات؟ هذه الآية من المواضع التي كثُر فيها كلام المفسرين، وعلى كل حال هي من المواضع التي قد تُشْكِل في كتاب الله - تبارك وتعالى - فقوله: وَمَا أُنْزِلَ يحتمل أن يكون نفي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ثم نفى أن يكون هذا السحر قد أُنزل على الملكين ببابل وَمَا أُنْزِلَ لم يُنَزّل وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وهذا الذي اختاره القرطبي أنها نافية[2] وهو مروي عن ابن عباس  - ا - والربيع بن أنس: أن السحر هذا لم يُنزل[3].

يقول: أو عطف. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: يعني يعلمونهم السحر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ فتكون عطفًا على السحر: يعلمونهم السحر، ويعلمونهم أيضًا الذي أُنزل على الملكين ببابل، وَمَا أُنْزِلَ الواو عاطفة و (ما) موصولة، والذي أنزل على الملكين ببابل. أو على مَا تَتْلُو فتكون معطوفة على قوله: مَا تَتْلُو وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ يعني: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين ببابل، اتبعوا شيئين: ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان، وما أُنزل على الملكين.

لكن هذا ليس هو المتبادر هذا بعيد - والله أعلم - فـ "مَا" هذه يمكن أن تكون نافية، السحر لم يُنزل على الملكين ببابل، والقرطبي يقول: الآية فيها تقديم وتأخير. واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين هاروت، وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل.

وَمَا أُنْزِلَ ما نافية، لم يُنزل على الملكين، وأن هاروت، وماروت من أسماء الشياطين. لكن هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام الترتيب، فلا يُدعى فيه تقديم، وتأخير خاصة مثل هذا الذي لا يخلو من تكلف إلا بدليل، والذي حمله على هذا هو أن الملائكة لا يتأتى منهم ذلك، كيف يعلمون الناس السحر؟! وهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ومن قال  - وهم الجمهور -: بأنهم ملائكة، وأن ذلك وقع ابتلاء، واختبارًا.

وأما ما يُروى من الإسرائيليات في هذا مما لا يليق بالملائكة فهذا لا يصح، ولا يعول عليه.

وبعض أهل العلم يقولون: بأن الملكين لغة في الملِكين فهما مَلِكان من البشر. يقال: مَلِك، ومَلَك. اسم أحد هذين الملِكين من البشر: هاروت، والثاني ماروت، وليسوا ملائكة. وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لكن القول بأنهم من الملوك أي ملوك البشر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ هل هؤلاء الملوك يُنزل عليهم؟ فهذا لا يخلو من إشكال، الإنزال الأصل فيه أنه من أعلى إلى أسفل، ولهذا ذهب القرطبي إلى أنها نافية، أنه لم يُنزّل، والجمهور يقولون: وَمَا أُنْزِلَ أن الواو عاطفة، وما موصولة.

يعني: اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السر، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت، وماروت. أنهم تلقوا منهما السحر، وكان ذلك ابتلاء، وامتحانًا للناس، ولهذا قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فهم اتبعوا ذلك، وكفروا بهذا: تعليم السحر، وما أنزل على الملكين، يعني يعلمونهم الذي أُنزل على الملكين) وعلى القول الآخر: أنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان عهد ملكه، أو عهده . قال: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ يعني: اتبعوا ما أنزل على الملكين ببابل.

"الْمَلَكَيْنِ إن كانت (ما) نافية فذلك تبرئة لهما من إنزال السحر عليهما إلا أن ذلك يرده آخر الآية."

يرده آخر الآية بأي اعتبار؟ الآن وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ كيف يعلمون؟ وهو نفى عنهما ذلك، إذا قلنا: بأنها نافية. هل كانوا يعلمون من قِبَل أنفسهم؟ هذا مراده بكون آخر الآية يرده.

"وإن كانت معطوفة بمعنى (الذي) فالمعنى أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاء من الله لعباده."

هذا هو الجواب، وهذا الذي عليه الجمهور، الجواب عن هذا كيف يقع من الملائكة؟ قالوا: ابتلاء، واختبارًا.

"أو ليعرف فيحذر منه، وقرئ (الملِكين) بكسر اللام."

ولكنها ليست قراءة متواترة، هذه مروية عن الحسن[4] لكنها ليست متواترة، أنهم مَلِكان من البشر.

"وقال الحسن: هما علجان[5]؛ فعلى هذا يتعين أن تكون (ما) غير نافية."

 وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ (وما أنزل على الملِكين ببابل)، لكن هنا والذي أنزل معنى موصولة، فلا تكون نافية، فهما مَلِكان، لكن يُشكل عليه لفظ الإنزال، أنهما مَلِكان من البشر ما الذي أُنزل عليهم؟! والذي أنزل على الملِكين ببابل، الإنزال كما سبق يكون من أعلى إلى أسفل، فهل أُنزل على هذين الملِكين السحر؟ - الله أعلم -. 

"بِبَابِلَ موضع معروف."

موضع معروف، والواقع أنه مختلف فيه، يعني هل بابل هي الموجودة الآن في العراق نفس محافظة بابل، أو مدينة بابل؟ بعضهم يقول: بابل هي الكوفة. ومعلوم أن الكوفة وجدت في زمن عمر  لكن هذا الموضع يقال له: بابل في الأصل. يعني قديم، وبعضهم يقول: بلد من سواد العراق. فهذا أعم، وبعضهم يقول: نصيبين هي بابل.

لكن المحافظة المعروفة الآن في العراق بابل هل هي المقصودة أو لا؟ - الله أعلم - فكلام المفسرين الذين يذكرون ذلك في معجم البلدان، والكتب التي تتحدث عن الأمصار يذكرون لبابل مواضع يختلفون فيها، ليست محل اتفاق، يعني هم لا يتفقون على أنها الموضع الموجود الآن مع أن اليهود لهم شغف فيها، هذه بابل المعروفة، ومن تتبع أحوال اليهود، وأخبار اليهود عرف بعض ما يجذبهم إلى بابل، هي تعني بالنسبة لهم أشياء، وفي كتبهم ذكر لها، وحينما سقطت بغداد، ودخل اليهود في جملة من دخل، أول ما توجهوا إلى بابل، كأنهم يبحثون عن أشياء فيها، وعلى كل حال - الله أعلم - يعني هذا من المواضع المشتبه في كتاب الله .

"هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان علمان، وهما بدل من الملكين، أو عطف بيان."

 معروف الفرق بين البدل، وعطف البيان هما باب واحد في الأصل لكن عطف البيان أوضح من البدل، يمثلون له عادة بالمثال المشهور إذا قلت: جاء أبو حفص عمر. فعمر أوضح من أبي حفص، وأعرف، فهذا عمر يعني عطف بيان، وإذا قلت: جاء عمر أبو حفص. فهذا بدل، والبدل يقوم مقام المبدل منه، تقول: أنا في بيت الله المسجد. فهذا عطف بيان، المسجد أوضح، تقول: أنا في المسجد بيت الله. فهذا يكون من قبيل البدل يعني لو وضعت أحدهما، واستغنيت عن الأخرى المعنى تام، جملة مكتملة.

"إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي: محنة، وذلك تحذير من السحر. فَلا تَكْفُرْ أي: بتعلم السحر."

فَلَا تَكْفُرْ أي بتعلم السحر؛ لأنه وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ هو يتعلم، وهذا يدل على أن تعلم السحر كفر إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ والعلماء  - رحمهم الله -  لهم كلام في هذه المسألة: في تعلم السحر، ولا يجوز، ولكن الكلام في الكفر، متى يكون كفرًا؟ ومتى لا يكون كفرًا؟ والشافعي  - رحمه الله -  له كلام في هذه المسألة معروف، فالسحر أنواع:

منه: ما يكون عن طريق الاستعانة بالشياطين. فهذا كفر، ولا يتحقق إلا بالشرك، والكفر بالله .

ومنه: أنواع بمعرفة خواص المواد.

وهناك أنواع تعرف أيضًا بألوان من الحيل من خفة اليد، ونحو ذلك من التمويه، فهو ليس بمرتبة واحدة، لكن كل ذلك لا يجوز لما فيه من التضليل، ولكن الذي هو سحر حقيقي إنما هو ما يكون بالاستعانة بالشياطين؛ لأنه لا يتم إلا بهذه الطرق فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فالسحر يحصل به التفريق، وهذه العبارة لا تدل على الاختصاص مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ بعض العلماء قال: السحر لا يؤثر إلا في هذا بإذن الله. وهذا غير صحيح؛ لأن الله ذكر هذا، قد يكون لأنه هو الشائع الذائع في أنواع السحر، ولكن السحر منه ما يُمرض بإذن الله، ومنه ما يقتل بإذن الله، ومنه ما يصيب بالجنون بإذن الله، ومنه ما يكون من قبيل التخييل يعني يُخيل للمسحور أشياء لا حقيقة لها، وغير ذلك من الأنواع. النبي ﷺ سُحِر لكن لم يكن ذلك فيما يتصل بالبلاغ؛ لأن الله يعصمه، ولكن صار يخيل إليه أنه يأتي أهله، ولم يكن من ذلك شيء، فهذا نوع من أنواع السحر، يخيل للإنسان أيضًا يتوهم أنه يرى أشياء، ونحو ذلك يكون بسبب السحر، وقد يكون بغير ذلك، يعني من الأسباب، يعني ليس كل من تخيل أشياء يعني أنه مسحور، لا، قد يكون بأسباب أخرى، لكن هذا يدل على أن تعلم السحر كفر. بعض العلماء يقولون: من السحر ما ليس بكفر ولكنه حرام، وهو ما يكون بأخلاط، وأعشاب، وأمور من هذا القبيل. والواقع أن هذه الأشياء قد لا تستقل هكذا بنفسها، وإنما معها رقى شركية، ولذلك لو سألت هؤلاء الذين يعطون هذه الأخلاط لو قلت: أنا أحضر هذه الأخلاط من الباعة من العطار. فإنه يقول: بأن ذلك لا يجدي. وإنما ما يكون عن طريقه هو، فدل  - والله أعلم -  على أن هذه الأخلاط من أعشاب، ومركبات، وغيرها أن ذلك يكون معه أمور أخرى، فلربما سُقي الإنسان هذا السحر فصار في باطنه، ولربما استنشقه، ولربما أكله، يكون مأكولًا، أو مشروبًا، أو مشمومًا يعني تبخر، فيكون ذلك فيه سحر فيصاب بهذا السحر، أو يأكله، من السحر ما يكون في الجوف يعني ما يكفي فيه مجرد الرقية يحتاج إلى أمور تخرجه من جوفه، يُعطى أشياء مسهلات، ونحو ذلك ليخرج السحر من الجوف مع الرقية، وهذا له علامات يعرفه أهل الخبرة، متى يكون في الجوف؟ ومتى يكون خارجًا عنه؟.

"ومن هنا أخذ مالك أن الساحر يقتل كفرًا."

وصحّ عن النبي ﷺ أن حد الساحر ضربه بالسيف[6].

لكن هذا القتل هل هو تعزير أو كفر؟ توصيف هذا القتل، حد الساحر: ضربه بالسيف، الإمام مالك يقول: يُقتل كفرًا[7].

وليس يعني تعزيرًا، أو أن هذا حد من جملة الحدود كالزنى واللواط، فيكون تطهيرًا إذا كان على غير الكفر، لكن الإمام مالك يقول: يُقتل كفرًا. فما يكون تطهيرًا، يكون كافر، والنبي ﷺ يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف) لكن كما سبق ما هو توصيف القتل؟ إذا قلنا: بأنه كفر.

معنى ذلك لا يُصلى عليه، وليس ذلك بتطهير وإلا فالحدود تُطهر أصحابها كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.

"يُفَرِّقُونَ زوال العصمة، أو المنع من الوطء."

التفريق هذا باعتبار أنه يحصل مفارقة بالطلاق بعد النفور، ينفر منها، فيكرهها، أو تكرهه، أو تحصل الكراهية من الطرفين لسبب أو لآخر، يعني السبب السحر لكن سبب السحر غير مدرك غير مرئي، لكن ما يجدونه هم في أنفسهم قد تجد أشياء هي رائحة لا تطالق، يُخيل إليها بصورة قبيحة جدًا أقبح ما يمكن أن تتخيل من الصور تراه فيها، وقد يكون هذا التفريق بمنع الوطء يعني لا يستطيع أن يقربها إما أنه لا يحصل عنده انتشار أصلًا، أو هي لا يتمكن من وطئها يعني يوجد بعض الأحوال أحيانًا تصطك العظام ولربما أجريت عدة عمليات، ويرجع الأمر كما كان، العظام تصطك بحيث لا يمكن جماعها، وقد يفعله بعض الناس بالبنات؛ خوفًا عليهن من الفاحشة، أو الاعتداء باغتصاب، ونحوه، أو يعبث بها أحد بصغرها، أو بعد ذلك، فلربما يفعلون هذا ولا يستطيعون حله، أو يفعله أحدهم خفية: كالجد، أو الجدة، أو نحو هذا، ثم يموت، ولا يعلم أحد بهذا، ويبقى هؤلاء البنات لا يستطيعون الزواج، يُحبسون عن الرجال، فهذا كله، وقد يُفعل في البلد، وإذا قرأت في التاريخ في الفتوحات الإسلامية قد يقوم بعض السحرة بوضع السحر على الحصون وأطراف البلد بحيث يمتنع الدخول، دخول ذلك الحصن، ولربما خرج الساحر، أو الساحرة بمكنسة فيها ماء فيرش هذا الجيش، لكن كما قال الله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيقع لهم أمر يرجعون عن هذا الحصن، وعن محاصرته، وينصرفون من عند أنفسهم، أو يمرضون، ويزعمون غير هذا، ويزعم بعضهم أنه لربما سحروا البلد، أو الحصن، أو نحو ذلك عن الحيات، والهوام، ونحو ذلك فلا تؤذي الناس، قد يحصل هذا - والله أعلم - لكن كل هذا لا يجوز، يعني ولو كان مقاصد هؤلاء بزعمهم مصالح كهذا الذي يريد أن يسحر على أساس أن هذه الأشياء لا تضر الناس، أو يريد أن يسحر الأعداء مثلًا، أو أنه يريد أن يفعل السحر للمصلحة بزعمة في تحبيب المرأة بزوجها الذي كرهها لأخلاقها، أو لأمور تتعلق بهيئتها، أو نحو ذلك، لم يوجد بينهما ود، فيأتي من يتبرع، ويسحر هذا الرجل، ويعطف قلبه عليها، يسمونه العطف، يوجد الصرف وهو التفريق، وهو المذكور في القرآن، ويوجد نوع آخر العطف، بعضهم يستحل سحر العطف، ويقول: هذا للمصلحة. فينصرف قلبه إليها، ويتعلق بها، ويراها أحسن النساء، وأجمل النساء، ويعمى عن عيوبها، ولا يرى ما يراه الناس من سوء أخلاقها، وتصرفاتها، وحماقاتها، وقُبحها، هذا عطف ربما فعلته أم المرأة، أو أختها، أو نحو ذلك ليتعلق بها، فلا يفارقها، ولربما ترك إذا كان له زوجة، وأولاد تركهم، وانصرف عنهم تمامًا، واشتغل بها دون غيرها، كل هذا لا يجوز أيًا كانت المبررات.

"يَضُرُّهُمْ أي: في الآخرة."

وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ الواقع أنه يضرهم في الدنيا، وفي الآخرة، لكن الذي حمله على القول بأنه في الآخرة أنه قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يضرهم قالوا: هذا في الآخرة يضرهم، ولا ينفعهم.

أما في الدنيا فقالوا: قد ينتفعون بمثل هذا: كالعطف مثلًا، أو التشفي من الأعداء، أو تحصيل مكاسب. فهذه منافع وقتية، وإن كانت محرمة، هكذا محمله يعني توجيهه عند من يقول: إنه في الآخرة. يقول: لأنه يوجد فيه منافع في الدنيا لهم لهؤلاء الأشرار، وشياطين الجن ماذا يقولون في الآخرة حينما يحشرهم الله جميعًا مع الإنس: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام: 128] استمتع بعضنا ببعض، من هذا الاستمتاع: أن هؤلاء الإنس يقربون القرابين لهؤلاء الشياطين، ويذبحون لهم، ويدعونهم من دون الله، وهؤلاء الشياطين أيضًا يشعرون أنهم قد ملكوا الجن، والإنس، واستطالوا عليهم جميعًا، وما يحصل للإنس من معرفة موضع الضالة، أو المتاع المسروق، أو ما يحصل لهم من تحقيق مطالبهم في السحر، ونحو هذا تعينهم الشياطين على هذا، ولربما سرقوا لهم أشياء وأتوهم بها من الأموال، فهذا من الاستمتاع، فهنا: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ومن نظر إلى أن السحر الواقع أنه لا نفع فيه معتبر في الدنيا فقال: النفي على وجهه. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ هو يضرهم ولا ينفعهم إطلاقًا. قرينة أخرى على أن ذلك المقصود به في الآخرة قال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ استعاض به، وأثره.

"عَلِمُوا أي: اليهود، أو الشياطين."

هذا كما قال الحافظ ابن كثير  - رحمه الله -: وَلَقَدْ عَلِمُوا أي اليهود[8]. وبعضهم يقول: الشياطين. هذا قول آخر، وبعضهم يقول: الملَكان. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ الكلام كله عن اليهود وَلَقَدْ عَلِمُوا أي اليهود. هذا هو الأقرب - والله أعلم -.

"اشْتَرَاهُ أي: اشتغل به، وذكر الشراء؛ لأنهم كانوا يعطون الأجرة عليه."

يعطون الأجرة عليه، ولو كان مجانًا ألا يقال له ذلك؟ يعني اختاره، واستعاض به أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16، 175] اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، اشتراه اختاره.

"شَرَوْا هنا بمعنى باعوا."

وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ كما قلنا: الشراء من الأضداد. يقال: للبيع، والشراء. بمعنى باعوا، وهذا الذي اختاره ابن جرير[9] وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي: باعوا أنفسهم.

"لَمَثُوبَةٌ من الثواب." 

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ يعني: جزاء ثابت، أو ثواب، وهو عبارة عن الثواب، والمثوبة: المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم، ويختص ذلك بالخير لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ والثواب قد يقال في غير الخير.

"وهو جواب لَوْ أَنَّهُمْ وإنما جاء جوابها بجملة اسمية، وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب، واستقراره."

باعتبار أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، والفعلية على التجدد، يعني ما قال: ولو أنهم آمنوا، واتقوا لأثبناهم. وإنما قال: لَمَثُوبَةٌ فعبر بالاسم ليدل على الثبات، جزاء ثابت من الله لهم خير.

"وقيل: الجواب محذوف أي لأثيبوا."

يعني: لو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا. لكن هذا فيه بُعد، يعني يكون بهذا الاعتبار الجواب محذوف: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، أثيبوا ماذا؟ مثوبة، لكن فيه تكلف.

"لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ في الموضعين نفي لعلمهم."

يعني: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ في الموضعين نفي لعلمهم.

"فإن قيل: كيف نفاه وقد أثبته في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا؟ فالجواب: أنهم لم ينفعهم علمهم، فكأنهم لم يعلموا."

يعني هذا العلم لما كان غير نافع لهم نُزّل منزلة العدم، فقال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أو لو كان يعلمون العلم الذي ينفعهم، هم يعلمون أنه ما لهم في الآخرة من خلاق، لكن هذا العلم لم ينفع؛ لأنه لم يعقبه العمل، والامتثال، فكأنه عدم.

  1.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 96).
  2.  تفسير القرطبي (2/50).
  3.  تفسير الطبري (2/419).
  4.  تفسير القرطبي (2/52).
  5.  تفسير البغوي (1/129).
  6.  أخرجه الترمذي، أبواب الحدود عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حد الساحر، (4/60)، رقم: (1460)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/401)، رقم: (8073).
  7.  الكافي في فقه أهل المدينة (2/1091)، التاج والإكليل لمختصر خليل (8/371).
  8.  تفسير ابن كثير (1/364).
  9.  تفسير الطبري (2/455).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] الآية.

هناك قال الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:89] يعني يستنصرون أنه سيبعث نبي، ثم بعد ذلك يتبعونه، فيقتلون هؤلاء الذين كانوا يتوعدونهم به من الأوس والخزرج وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ۝ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة البقرة:89، 90] حسدًا للنبي ﷺ وللعرب أن تكون النبوة والوحي فيهم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].

وهنا وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو محمد ﷺ جاءهم بالحق والقرآن الذي هو كلام الله -تبارك وتعالى- وهو معجز في ألفاظه، وقد تضمن البراهين الساطعة على أنه من عند الله -تبارك وتعالى- ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثله، وهو مصدق لما معهم من كتبهم، مما جاء في التوراة والإنجيل أنها من عند الله وأن هؤلاء الأنبياء الذين بعثوا فيهم أنهم أنبياء الله الكرام.

وكذلك أيضًا هو مصدق لما معهم مما قصّ الله -تبارك وتعالى- عليهم من القصص فيما لم يُحرف من كتبهم، مما شهد لصحته القرآن، وهو مصدق لما معهم أيضًا في كونه على وفق ما جاء الخبر به في كتبهم من صفته -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك لما جاءهم هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت النتيجة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ نبذوه وطرحوه، وهو كتاب الله -تبارك وتعالى- وجعلوه وراء ظهورهم في غاية الإعراض كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ شأنهم شأن من لا علم له ولا بصر، فلم ينفعهم ذلك العلم، وما أنزل عليهم من الكتب، مع كثرة ما جاءهم من الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولما جاءهم رسول نُكر الرسول هنا وهذا التنكير يفيد التعظيم، فهو رسول عظيم من عند الله -تبارك وتعالى- فذلك التنكير يفيد تفخيم شأن هذا الرسول الذي كان ينبغي أن يعظم ويصدق، وأن يؤمنوا به، ولكن للأسف فعلوا خلاف ذلك.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فهذه اللام يسمونها لام التقوية، دخلت على مفعول (مصدق)؛ لتقوية دلالة ذلك التصديق، يعني تصديق ثابت محقق مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ومع ذلك قابلوه بالتكذيب، ونبذوه وراء ظهورهم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى- في ذكر موقفهم من هذا الرسول، ومما جاء به: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:101، 102] فذكر هذا الوصف لهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فيه تشنيع عليهم، هم أهل كتاب فنبذهم لا يكون كنبذ غيرهم ممن لا بصر له ولا علم، ولا عهد له بكتاب.

فهؤلاء أهل كتاب، ثم يتعاملون مع الكتاب المنزل والوحي بهذه الطريقة؛ ولهذا يقال: على قدر المقام يكون الملام، فاللوم الذي يلحق هؤلاء أعظم مما يلحق غيرهم من الجهال، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] يعني كيف يقولون هذا وهم يتلون الكتاب؟ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم المشركون مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فهؤلاء أصبحوا في حال من الاستواء مع المشركين الذين لا عهد لهم بالعلم، ولا بصر لهم بالكتاب، فقالوا كمقالتهم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ولم يقل: نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب: الكتاب الذي جاءهم، وإنما قال: كِتَابَ اللَّهِ فهذا فيه زيادة في تفخيم شأن هذا الكتاب، وزيادة في التشنيع على هؤلاء اليهود، فالذي نبذوه إنما هو كتاب الله -تبارك وتعالى- ونبذ كتاب الله كفر محقق، وعمل في غاية القبح والشناعة كِتَابَ اللَّهِ فأبرزه بهذه العبارة، وكان يمكن أن يقال: ولما جاءهم كتاب من عند الله، عُرف أنه من عند الله، نبذوه وراء ظهورهم، لم يقل ذلك، وإنما قال: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هؤلاء كما يقال: الشر عليهم أكبر، هم أهل كتاب وهكذا يتعاملون مع الكتاب المنزل، ثم أيضًا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وهذا الكتاب كما قال في أول الآية: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حينما يقال: من عند الله، فهذا يعني أنه حق ثابت، وأنه يجب عليهم الإيمان به، وأن يعظموا هذا الكتاب، فهو ليس من عند أحد من البشر، لا من الرسول ﷺ ولا من غيره.

ثم أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ نبذوه، ولم يقل: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وإنما عبر بالنبذ، وكذلك أيضًا ذكر معه ما يُورث اليأس من هدايتهم وقبولهم واستجابتهم، فلم ينبذوه عن يمينهم أو شمالهم، وإنما نبذوه وراء ظهورهم، ومن نبذ الكتاب وراء ظهره، فإنه لا يرجَّى منه هداية ولا رجوع، ولا ارعواء، فهو في غاية الشرود، فهذا يصور شدة الإعراض الذي كانوا عليه، فمن أعرض عن شيء تجاوزه، فخلفه وراء ظهره.

وذكر هذا الجملة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يدل على تأكيد بعد هذا المتروك عنهم، تقول: فلان جعلنا وراء ظهره، فلان جعل أصحابه وراء ظهره، فلان جعل وصيتي وراء ظهره؛ لما تقول: ترك وصيتي، قد يكون نسي أو غفل، وقد يرجع إليها، لكن لما تقول: جعل وصيتي وراء ظهره، وجعل نصيحتي وراء ظهره، معناه: أنه في غاية الإعراض، فهذا لا يلقاه أبدًا، ذاك الذي جعله خلف ظهره، فجعل الظهر وراء، فقال: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فهذا كله يفيد المبالغة في تصوير هذا الطرح والنبذ مع الإعراض الكامل.

فهذه الإضافة وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كالبيانية؛ لأن الوراء لا يكون إلا في الخلف، كما يقال: في القفا وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] القفو الاتباع، والذي يتبع غيره يكون في قفاه، ويمشي في قفاه؛ ولهذا فسر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] بالغيبة والنميمة؛ لأنها تقال في قفا الإنسان، والواقع أن ذلك يشمل هذا ويشمل غيره وَلا تَقْفُ يعني تتبع، فلما كان المتبع لغيره يسير خلفه، يعني في قفاه، صار كل من يتبع ما لا علم له به من شائعة، وأخبار، ودعوات مضللة، ومذاهب منحرفة، كل هذا يكون بهذه المثابة، قد قفا ما ليس له به علم.

وقال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101] هم يعلمون، ولكن بفعلهم هذا صاروا بمنزلة من لا يعلم، وتأمل هذا الصنيع منهم، وما ذكر الله -تبارك وتعالى- بعده: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] فإن هؤلاء تركوا ما هم بصدده من الحق الذي جاءهم، وما كان يجب عليهم من اتباعه، والاهتداء به، والانتفاع بهذا النور المبين، والهدى الكامل، فتركوه، ونبذوه وراء ظهورهم، فماذا كانت النتيجة؟ هل صار هؤلاء في حال من الاهتداء، أو البقاء على هداية، أو التمسك بكتابهم؟

الجواب: لا، وإنما وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102] فيُؤخذ من هذا أن من ترك ما هو بصدده من الاشتغال بما ينفعه ابتلي بالاشتغال بما يضره، هؤلاء تركوا كتاب الله، والنتيجة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ العكس تمامًا، يعني أن كتاب الله -تبارك وتعالى- واتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا هو الهدى الكامل، الذي يقابله الظلام والسواد الحالك هو اتباع السحرة.

يعني الرسول في طرف، والساحر في الطرف الآخر تمامًا، الساحر حينما يوغل بالسحر، فإن ذلك يعني أنه قد أوغل في الكفر والضلال واتباع الشياطين، لا يكون الساحر حاذقًا متمهرًا بالسحر إلا إذا كان عظيم الكفر بالله ، فالشياطين تطلب منه أشياء من عبادتها، وتقديم القرابين، والتدنس بأنواع الفواحش وبأقبحها، وكذلك التلوث بالنجاسات، وتلويث المصاحف -أعز الله كتابه وأعز من يسمع- بدم الحيض، والأنتان، فكلما أوغل في هذا كان في السحر أبرع، فإذا وجد السحر فثمة الظلمة والشر والنجاسات الحسية والمعنوية والشياطين، وإذا وجد النبوة والرسالة والكتاب، وأنوار الوحي هناك تشرق الهدايات.

ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله: بأنه متى أشرقت أنوار النبوة تلاشت الظلمات: ظلمات السحر والشعوذة والضلال والبدع والأهواء، ومتى ضعفت أنوار النبوة كثر السحر وذاع وشاع، فهذا أمر مشاهد معلوم، فالبلاد التي تضعف فيها أنوار النبوة يكثر فيها السحرة والمردة والطوائف المنحرفة، وأهل البدع والضلالات، والبلاد التي تشرق فيها أنوار النبوة يتلاشى ذلك جميعًا، فهؤلاء تركوا النور والهدى والحق الذي أمروا باتباعه، فابتلوا بالاشتغال بأسوأ الأشياء؛ ولذلك يُؤخذ منه، وهذا المعنى ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره، وذكره في كتابه القواعد الحسان، وعقد له ترجمة خاصة، بأن من ترك ما هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده[1].

ولذلك فإن الإنسان إذا لم يشتغل بقراءة القرآن وسماعه، وذكر الله -تبارك وتعالى- اشتغل بالألحان، وسماع الأغاني والمعازف، فإذا كان الإنسان لا يشتغل بكتاب الله وتلاوته وتدبره، ويجد قلبه عند ذلك، بدأ يبحث عن أشياء أخرى، من القصائد الملحنة، ونحو ذلك، فإذا كان لا يُرقق قلبه بالقرآن كما هو مشاهد، فبعضهم يبحث عن ترقيق القلب بسماع القصائد الحزينة التي تحكي مآسي، أو تحكي وفاة أو فاجعة، أو نحو ذلك، فهذا يرثي أمه بقصيدة حزينة، وهذا يرثي ولده الذي وقع له كذا وكذا من الأمور التي تجلب الحزن، مع أن هذا الحزن غير مطلوب؛ لماذا يجتر الإنسان أحزان غيره، وقد سمعتُ بعضهم يصرح بهذا، ويقول: بأن لديه الرغبة في البكاء، لكن هذا الرغبة في البكاء للأسف ليست من رقة القلب، أو الخوف من الله وإنما هي رقة عبثية.

وقل مثل ذلك أيضًا فيمن لم ينفق ماله في سبيل الله ومرضاته وطاعته، ابتلي بإنفاق الأموال فيما يضره، فإذا جاء الحج قال: الحملات غالية، وإذا جاءت الأضاحي قال: الأضاحي غالية، وهكذا يترك الحج والعمرة والنفقة في سبيل الله والصدقات، وتجد مثل هذا يذهب ويسافر، وحينما يجد فرصة، وينفق أضعاف هذا على أسفار لا تبرأ بها ذمته، ويذهب إلى بلاد تظهر فيها أنواع المنكرات، ولا يستطيع أن يغيرها، يذهب إليها برجله، ويقطع آلاف الأميال لربما بحجة أنها سياحة، وترى عجبًا من هؤلاء الناس، وسؤالات ترسل غريبة وعجيبة.

وهناك من يسأل ويجادل في أن أصل ذلك البلد كان للمسلمين، ثم أخذه الكفار، فهل نبقى على الأصل فنذهب إليه؟ لأن زوجي يقول: لا نذهب إلا إلى بلاد مسلمين؟ وصلنا إلى هذا الحد، فهؤلاء الذين ينفقون هذه الأموال الطائلة الواقع أنهم سلطوا نفقتهم على ما يضرهم، وتركوا ما ينفعهم، فإذا اشترى الإنسان الأضحية، أو حج، أو نحو ذلك، قيل: هذه مصاريف كثيرة، وهذه نفقات كبيرة، ولكن حينما يذهب ويتحدث ويرسل الصور من هناك في الأماكن التي يذهب إليها يعجب الناس بهذا، ويقولون: ما شاء الله، أين هذا؟ يا ليتنا كنا معكم، ولا تجد من يعاتب، ويقول: كيف تنفق الأموال في هذا؟ ولماذا تذهب إلى هذا المكان؟ ولا يحل لك هذا السفر، بل الإعجاب، ولربما كان الأفضل من هؤلاء هو الذي يدعو له بالبركة؛ لئلا يصاب بالعين؛ لأنه يغبطونه، فترك الإنفاق في سبيل الله، وترك الحج، وهذه الأيام تدخل العشر التي هي أفضل عشر في العام، والبعض يتهيأ للسفر إلى أين؟ إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، إلى حيث أنواع الشرور والمنكرات، ولربما يبتز ويسرق، ويتعرض للأخطار، ومع ذلك تجد هذا الإصرار على هذا السفر.

وقل مثل ذلك أيضًا من ترك قراءة الكتب النافعة من كتب العلم النافع، ابتلي بقراءة الكتب الضارة التي تحرك الغرائز، من هذه التي يسمونها بالروايات، أو الكتب التي تثير الشبهات في النفوس، وتجد عند بعض الدور المشبوهة في المعارض الدولية خلقًا من ضعفاء العقول، قد تجمهروا عند تلك الدار، فإذا أتيت ونظرت وإذا بهؤلاء قد تجمعوا على كتب ضارة مشبوهة تورث الشبهات والشكوك في الدين، أو تحرك الغرائز، وينفقون فيها الأموال، وما إلى ذلك.

وهكذا يجني الإنسان الضرر على نفسه، ويشتري الضلال بماله، ولربما يتحدث كثيرون عن قراءة الغربيين لكثرة القراءة عندهم مثلاً، وأنهم يقرأون في كل مكان، في محطة القطار، وفي الطائرة، وفي المطار، وفي السيارة، وفي المسبح، وفي كل حين، والواقع ليس المعيار هو القراءة، فهم يقرأون ماذا؟ يقرأون أشياء ضارة، فقراءتهم هذه تركها أولى بهم وأنفع لهم، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: من الناس من يكون حال السكر أفضل له من حال الإفاقة؛ ولما مر بقوم من التتر يشربون الخمر، وأراد أصحابه أن ينكروا عليهم نهاهم، قال: هؤلاء إذا سكروا لم يقتلوا، ولم ينتهكوا الأعراض، ونحو ذلك[2].

يعني اشتغلوا بسكرهم، لكن إذا أفاقوا انتهكوا الأعراض، وقتلوا النفوس، فمن الناس من يكون السكر أفضل له من الصحو، ومن الناس من يكون النوم أفضل له من اليقظة، كما يقال: نوم الظالم عبادة، وهي عبارة قد لا تكون صحيحة، لكن لا شك أن نوم المفسد أفضل من يقظته.

وهكذا -أيها الأحبة- حينما نترك القراءة فيما ينفعنا، ثم بعد ذلك نجد هذا الاعتكاف الطويل على وسائل التواصل، يقرأ الإنسان ما هب ودب ودرج، ولربما يشاهد أشياء لا تحل، ويسمع أشياء لا تحل، ويقرأ أشياء تضره ولا تنفعه، لو كنا نقرأ وكانت المصاحف بأيدينا كما نحمل هذه الأجهزة لصرنا من أعبد الناس، وأتقى الناس، لو اشتغلنا بكتاب الله كما نشتغل بهذه الأجهزة، والنظر فيها والقراءة، تجد الرجل في المسجد وهو خارج من المسجد ينظر، كل إنسان قد أخرج جواله يقرأ الرسائل التي جاءت في وقت الصلاة، لو كنا هكذا مع القرآن لتغيرت أحوالنا.

وقل مثل ذلك أيضًا حينما يقبل الإنسان على أمر يضره، ويترك ما ينفعه، وهذا باب واسع، والله المستعان، فإذا نظر الإنسان في حاله، وحال من حوله، رأى من ذلك أشياء كثيرة.

فعلى العبد أن يبادر ويستجيب لأمر الله ويقبل على ما ينفعه، وقد فسّر بعض أهل العلم قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] حملوه على معنىً غير المشهور، ومن هؤلاء بعض المحققين في التفسير، حيث قالوا: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كما يقول ابن جرير: أنه باشتغاله بهذه الصلاة قد اشتغل عن الفحشاء والمنكر[3] لا أن الصلاة تكون وازعًا له، وإنما هذا الاشتغال بالصلاة هو في الوقت نفسه تشاغل عن الفحشاء والمنكر، والنفس إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية.

إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده[4].

فهذا المعنى ذكره ابن جرير واختاره، وإن كان الأقرب -والله أعلم- المعنى الآخر، وهو أنها تنهى، مع أنها إشغال فيدخل هذا المعنى فيه، فالنفس تحتاج إلى إشغال بالطاعة، وبالمعروف وبالخير، وهذا اللسان إذا لم يشغل بذكر الله اشتغل بالغيبة والنميمة، وإذا لم يجالس الإنسان الأخيار، وتركهم بأي حجة أنهم ليس لهم اهتمام بالعلم كانت النتيجة ما هي؟ أن تتفرغ له الشياطين، ويجلس مع البطالين، وربما يشاهد القنوات بحجة أنه يتابع الأخبار، ثم ما يلبث أن تتحول حاله -نسأل الله العافية- إلى شيء من المسخ، حتى قد يصل الأمر به إلى الاشتراك في قنوات إباحية مشفرة، ويدفع المال، وكانت القضية في البداية، هي مشاهدة أخبار، ومتابعة الأحداث، وترك الأخيار وصحبة الأخيار بحجة: ليس عندهم اهتمامات علمية، والآن ظهرت الاهتمامات العلمية: بترك الصلوات، والنظر إلى الحرام، وتضييع حدود الله هذا يوجد.

وقل مثل ذلك في الذي يترك حضور الدروس العلمية، ومجالس العلم، والدورات الشرعية، وتجده يتهافت ربما بأموال طائلة على حضور دورات في البرمجة العصبية، ودورات في الطاقة، وأشياء يُؤخَذ بها ماله، ويتبع فيها الأوهام، ويدخل عليه من المفاسد في الاعتقاد والتصور ما لا يدركه، ولا يفهمه، والله المستعان.

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء اليهود لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، فكان مقابلتهم لذلك أن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، فلما ترك هؤلاء ما ينفعهم ابتلوا بالاشتغال بما يضرهم، فقال الله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].

فهؤلاء اليهود اتبعوا ما تتلوا أي ما تتحدث به الشياطين على عهد سليمان إبان ملكه وَاتَّبَعُوا يعني: اليهود مَا تَتْلُوا ما تحدث به الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: إبان ملكه وفي عهده وسليمان كان بريئًا من هذا السحر وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ أي: أنه لم يشتغل بالسحر، ولم يكن له اتصال به، ولم يكن ذلك التسخير الذي حصل لسليمان للريح وتسخير الشياطين، وما إلى ذلك، لم يكن ذلك بسبب تعاطي السحر، كما كذبوا على سليمان فهؤلاء الشياطين كفروا.

وهذا من المواضع المشكلة التي كثر الكلام فيها في التفسير، فقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ على عهده، وزمان ملكه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ما كفرهم؟ قال: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فقوله: وَمَا أُنزِلَ (ما) هذه تحتمل أنها نافية، يعني أن السحر لم ينزل على الملكين ببابل، ويحتمل أنها موصولة بمعنى الذي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والذي أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فهذا الموضع ينضاف إليه قوله: الْمَلَكَيْنِ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ هل هم ملائكة؟

بعض العلماء يقولون: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ملَك لغة في الملِك، فهم من ملوك الدنيا، من البشر وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وأنها لغة يقال: ملَكٌ وملِكٌ للملك من الناس، وعلى هذا ينتفي الإشكال فيما يتعلق بالملائكة؛ لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهذا موضع إشكال على القول بأن هذا السحر أنزل على ملكين من الملائكة، والذين قالوا: إنهما ملكان من الملائكة بعضهم قال: إن (ما) نافية وَمَا أُنزِلَ لم ينزل عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وبعضهم قال: بل موصولة، والذي أنزل على الملكين ببابل، وهؤلاء حينما يوجه إليهم هذا السؤال: كيف يقع ذلك من ملائكة؟ قالوا: ابتلاءً وفتنة للناس، والله -تبارك وتعالى- جعلهما موضع ابتلاء للناس واختبار؛ ولهذا قال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.

وأما ما يُذكر من الإسرائيليات في هذا، وهي كثيرة فهذا لا يليق بمكان الملائكة -عليهم السلام- ولا يصح أن يُحدث به، ولا أن يُذكر في كتب التفسير، وليس بداخل في قوله ﷺ في الرخصة: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج [5] فإن الحديث عن بني إسرائيل فيما لم يرد في كتابنا وفي شرعنا ما يصدقه، أو يكذبه، أو فيما ورد في كتابنا مما يشهد له، أما ما نعلم أنه كذب، فهذا لا يصح أن يُحدث به.

وبعض أهل العلم وهو الذي ذهب إليه القرطبي -رحمه الله- وليس هذا موضع تفسير، لكن لأن هذا الموضع مشكل، حتى نفهم الفوائد التي سأذكرها منه؛ لأن الفوائد والتدبر يبنى على فهم المعنى، فإذا لم نتصور المعنى لم تكن هذه المعاني المستخرجة مسددة، فالقرطبي يقول: الآية فيها تقديم وتأخير وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت، وهي أسماء شياطين، التي ذكرت فيما بعد، قالوا: هذا من المؤخر الذي موضعه التقديم وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هاروت وماروت[6] كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ثم نفى عن الملكين وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ.

وأما هاروت وماروت التي بعدها قالوا: هي متعلقة بقوله قبل: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ أي: هاروت وماروت، وهذا إنما حمله عليه هو أن هؤلاء إن قيل: بأنهم ملائكة، فكيف يقال: إنهم يعلمون الناس السحر؟ ويُشكل على هذا المعنى القاعدة المعروفة: أن الأصل في الكلام الترتيب، وأنه لا يلجأ إلى دعوى التقديم والتأخير، فمهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح، وعلى وجهه من الترتيب، كما في الآية فهو مقدم على دعوى التقديم والتأخير؛ لأنه خلاف الظاهر، فالإشكال يدور حول هذه المسألة، وحول هذه القضية وهي: أن الملائكة كيف يقع منهم هذا؟

فالذين جوزوه قالوا: ابتلاءً واختبارًا، وما جاء في بعض المرويات الإسرائيلية لا يصح أن يذكر، ولا شأن لنا به، ولكن لو قال قائل: أن (ما) هنا نافية وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ولكن أيضًا هذا الجواب لا يخلو من إشكالات قوية ترد عليه، فالله أعلم.

وعلى كل حال فهؤلاء الذين يقولون: بأن ذلك كان على ملائكة، وأن ذلك من باب الابتلاء والاختبار، يقولون: إن أسماء هؤلاء الملائكة: الأول: هاروت، والثاني: ماروت، وهذا قول في هذه المسألة؛ ولذلك لا تجدون هذا من الأسماء المحفوظة المتفق عليها في أسماء الملائكة: هاروت وماروت، قالوا: هذا كله من باب الابتلاء للعباد، وأن هؤلاء الملائكة كانوا ينصحون من قصدهما، فيقولون: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ اختبار فَلا تَكْفُرْ يعني بتعلم السحر، أو تعاطيه.

ويقول الله : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا يعني: هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ السحر له حقيقة، وهو يؤثر بإذن الله فيقتل، ويُمرض، لكن بإذن الله، ولا يقع شيء في الكون إلا بإذن الله، لكن الله جعل في بعض الأشياء أسبابًا، وجعل فيها من الخواص التي يتسبب عنها الخير أو الشر ما هو معلوم مشاهد.

وأيضًا يحصل بسببه ما ذكر هنا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ يعني: ما يسمى عند الناس بالصرف، فيتزوج الرجل المرأة ليس بها بأس، ثم بعد ذلك يفاجأ بأن هذه المرأة لا يمكن أن يقربها، أو أن يمسها، إما أن يكون النفور منه، وإما أن يكون النفور منها، وإما أن يكون منهما، وقد يخيل إليه أشياء، وقد يخيل إليها أشياء، وقد تجد رائحة لا تطاق منه، وقد تراه في صور قبيحة من صور حشرات، أو حيوانات كريهة، أو نحو هذا، فلا تطيق قربه، وقد يحصل ما هو أبلغ من ذلك، فقد تصطك عظامها، فلا يستطيع أن يصل إليها، ولا أن يجامعها بحال من الأحوال، وقد تجرى لها العمليات، ثم بعد ذلك يرجع كل شيء إلى حاله التي كان عليها، فيمتنع عليه الاقتراب منها، فهذا يكون من قبيل السحر، وقد يصاب بالجنون بسبب السحر، وقد يصاب ببعض الأورام بسبب السحر، وغير ذلك من الأمور، نسأل الله العافية للجميع، وأن يكبت السحرة والأشرار إنه عزيز قدير.

فهذه الآية تدل على ثبوت أثر السحر، لكنه لا يُؤثر بنفسه، فكل شيء بمشيئة الله وقدرته وإرادته، كما قال الله : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فمن الناس من يعمل له السحر، ولكن ذلك لا يُؤثر فيه، إما لوجود مانع كالتحصن بالأذكار، فلها أثر عجيب في تحصين صاحبها من أعمال السحرة، وقد يكون ذلك بأمر آخر.

ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ يعني: هذا السحر يضر، فهو من العلوم الضارة، ومن ثم فإنه لا يجوز تعلمه بحال من الأحوال، فهو من العلوم المحرمة الفاسدة، فتعلمه حرام، وهذه الآية نص في هذا، وقد تكون بعض الأشياء فيها ضرر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] الجبان يصير شجاعًا، والبخيل يصير جوادًا إذا سكر، فيجود بالمال والإنفاق والبذل، ولا يقف في وجهه أحد، في أرض المعركة، فهذه منافع، لكنها قليلة في مقابل المضار إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فهذه مضار كبيرة.

فالعلماء كالشاطبي -رحمه الله- يقولون: بأنه لا يوجد في الدنيا مفسدة محضة خالصة، يعني من كل وجه، وإنما ذلك في الآخرة في النار، واللذات في الدنيا التي هي المصالح يقولون: لا تخلو من شائبة، يعني من المفاسد، ويقصدون بالمفاسد الآلام، يعني ما يشوبها من تعب وجهد، حتى الصلاة هي مصلحة عظمى، وصلة بين العبد وربه، لكن هي شاقة، وفيها مشقات، من النهوض لها، والقيام من النوم، ومن قصد الجمع والجماعات، ونحو ذلك؛ ولهذا قال الله : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] فلا يوجد راحة كاملة، وكما يقال: مصلحة خالصة من كل وجه إلا في الجنة، الجنة هي التي لا يوجد فيها أدنى تنغيص، وما فيها أي تعب، ولا أي ألم، ولا أي مشقة.

فهنا قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ [سورة البقرة:102] فقد يكون الشيء يضر، وفيه نفع، وقال: وَلا يَنفَعُهُمْ كما سنذكر في الفوائد المستنبطة.

وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني: أنهم تعاطوا هذا مع علم، وجاء بالتحقيق بـ(قد) أي: علموا يعني هؤلاء اليهود أن من تعاطى السحر لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني أخذه واختاره واستعاض به ونحو ذلك مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعني: ما له في الآخرة من نصيب، ومن ليس له في الآخرة خلاق نسأل الله العافية، فمعنى ذلك: أنه كافر، والله يقول في أعمال الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] ويقول: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ [سورة إبراهيم:18] أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [سورة النور:39] فهذا الساحر مشرك كافر؛ ولهذا في نفس الآية: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] فلا تكفر، يعني: بتعلم السحر وتعاطيه.

وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ يعني: ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر، عوضًا عن الإيمان، واتباع الكتاب المنزل، والرسول الذي أرسل إليهم -عليه الصلاة والسلام- لو كان لهم علم ينفع، ويثمر العمل، فنزّلهم منزلة من لا علم له أصلاً لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وقبلها قال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ لكن لما كان هذا العلم لم يورث عملاً نزّله منزلة المعدوم، فقال: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هم يعلمون، ولكن هم غير موفقين، حصل لهم علم الإرشاد، ولم يحصل لهم علم التوفيق والهداية.

فالفائدة الأولى -أيها الأحبة- هي التي أشرت إليها في الليلة الماضية، توطئة للكلام هنا، وأشرت إليها آنفًا في المناسبة بين الآية السابقة وهذه الآية: أن الإنسان إذا أعرض عن الوحي الذي تلاه الله على رسوله ﷺ ابتلي بأضداد ذلك من اتباع الشياطين بدلاً من اتباع المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- يترك أطهر الخلق، ويتبع أسوأ الخلق، فهذه سنة ماضية، والجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [سورة الزخرف:36] فالذي يعرض عن ذكر الله ويتعامى عنه، يُسلط عليه شيطان، يكون هو قرينه، ويصده عن سبيل الله وطاعته ومرضاته.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقد أشرت إلى كلامه إشارة في الليلة الماضية: لما كان من العوائد القدرية، والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره[7] فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله، وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل، وقد ذكرت في الليلة الماضية أمثلة كثرة لهذا.

فهكذا هؤلاء اليهود كما يقول الشيخ -رحمه الله: لما نبذوا كتاب الله، اتبعوا ما تتلوا الشياطين[8] وتختلق من السحر على ملك سليمان، حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان كان يستعمله، وبه حصل له الملك العظيم وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:102].

وقوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ لاحظ لفظة (الاتباع) التابع يكون خلف المتبوع، فهؤلاء رضوا لأنفسهم بعد أن اصطفاهم الله على العالمين وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [سورة المائدة:20]جعل فيكم أنبياء، ولكن في الملك قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا بعض المفسرين يقولون: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا جعل الملك فيهم، فأضافه إليهم جميعًا، وبعضهم يقول: من كان له خادم ومسكن وراحلة، ونحو ذلك، فهو ملك، بعد أن كان هؤلاء في حال من الذل والمهانة لفرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة، ويذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، يبقي البنات على قيد الحياة من أجل الابتذال والامتهان والخدمة للفراعنة.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ و(ما) تفيد العموم، وهذا يدل على أنهم انساقوا بالكلية، فانخلعوا من ربقة الدين، ثم بعد ذلك صاروا عبدة لهؤلاء الشياطين، متبعين لهم في كل شيء، وهكذا الساحر، فإنه لا يبرع بهذا السحر -كما أشرت في ليلة مضت- إلا إذا كان أتبع للشياطين، وهذا الاتباع يكون فيما تأمره به الشياطين، فيصدر عنه من الأقوال والأفعال والأحوال ما يصير معه عبدًا لهؤلاء الشياطين، نسأل الله العافية، وهذا مزلق خطير.

يعني من الناس من قد يدخل في هذا باستدراج، تستدرجه الشياطين، وقد يقع هذا الاستدراج بأن يلج إليه من بوابة الرقية أولاً، ثم ما تلبث به هذه الشياطين أن تتلاعب به، فتصور له أنه له من المهابة والمكانة والمنزلة، وأن الجن والشياطين يخافون منه غاية الخوف، ثم بعد ذلك قد يتظاهر بعض هؤلاء أنه قد أسلم وتعهد بالخروج، ثم يعرض عليه بعد ذلك الخدمة، أو المرافقة، أو الحماية، وبعض هؤلاء قد يغتر بهذا، ويصدقهم.

ومعلوم أن هؤلاء الشياطين كما قال شيخ الإسلام: أنهم أهل كذب وفجور[9] فيتلاعبون به، وهو لا يعلم حال هذا الذي يكلمه ما هو؟ فيقول له: بأنه أسلم، وقد يقول له: بأنه من ملوك الجن وكبرائهم، ثم بعد هذا يصدق هذا المسكين، ثم يتعامل مع هؤلاء باعتبار أنه يتعامل مع الجن المسلمين، وهؤلاء لا يقدمون له شيئًا إلا بمقابل، فيقدمون له بعض الخدمات في البداية استدراجًا، وقد يخبرونه بأخبار الله أعلم بها، وقد يعالجون، وقد يفتح بعضهم عيادات، وقد يجري عمليات غير مرئية بزعمه، وقد يخبرونه عما بهؤلاء المرضى، ويأتي هذا الخبر موافقًا لما قاله الأطباء إن كان الأطباء قد عرفوه، وقد يخبرونه بشيء لا يعرفه الأطباء فيقولون: هذا مسحور، وعمل له السحر في اليوم الفلاني، وفي المكان الفلاني، وعمله فلان، والسحر موجود في المكان الفلاني، قد يصدقون وقد يكذبون، ويوقعون بين الناس الشحناء والعداوة والبغضاء، ثم هكذا شيئًا فشيئًا، حتى يجد هذا الإنسان نفسه في النهاية لا يستطيع أن يتمنع من هؤلاء، أو أن يرد لهم طلبًا، أو أن يعصي لهم أمرًا، فيبدأ الابتزاز، وهكذا يُسلب الإيمان، ويتحول إلى ساحر، وكان في أول أمره من الرقاة، فهذا من المزالق الخطيرة.

ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- فيما أخبر به عن هؤلاء اليهود وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].

فذكرنا في الليلة الماضية معنى هذه الآية الكريمة، والعلاقة بينها وبين ما قبلها، وهو أنّ من ترك ما ينفعه، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فهؤلاء تركوا اتباع الكتاب المنزل، والنبي المرسل، فابتلوا بالاشتغال بالسحر، واتباع السحرة.

ومن جملة الفوائد: ما يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا فنلاحظ هنا: أنه قدّم نفي الكفر عن سليمان ثم أثبت كفر الشياطين، يعني لم يقل: ولكن الشياطين كفروا، ولم يكفر سليمان وذلك بتقديم الأهم؛ لأن هؤلاء قد نسبوا السحر إليه، وأنه إنما سُخر له ما سُخر بسبب السحر، فقال الله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ فنفى التهمة عنه، فهذا من باب تقديم الأهم.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الشياطين هي التي تعلم الناس السحر؛ وذلك أنه إنما يتحصل بالتقرب إليهم بألوان التقربات، من دعائهم من دون الله وطاعتهم، والذبح لهم، وتقديم القرابين، وفعل أنواع المنكرات والمدنسات.

وقد ذكرت أمثلة لذلك، فيرتكبون القبائح، ويعملون ما يعملون من الرقى التي فيها ألفاظ الشرك، وتلويث المصاحف، وتدنيس أسماء الرب -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك من الأعمال القبيحة، ولا يمكن لهؤلاء الشياطين أن يقدموا لهذا الساحر هذه الخدمات إلا بهذه الجنايات، التي يذهب معها دينه وإيمانه، وهذا من جملة استمتاع الإنس بالجن، والجن بالإنس، كما قال الله تعالى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128].

فمن استمتاع الجن بالإنس ما يحصل لهم من القرابين، والاستعاذة بهم، حيث كانوا يقولون: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، وما يحصل لهم من أنواع التقربات والشركيات والنذور والذبائح، وكذلك استمتاع الإنس بتحصيل بعض مطالبهم، فيحصل مقصود الساحر، وربما جاءوا له بالمال، وربما سرقوه، وهكذا يفعلون أشياء قد ينتفع بها هذا الساحر انتفاعًا قريبًا، ولكنه يخسر خسارة محققة.

وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ كأنه تفسير لكفرهم، وهذا يدل على أن تعليم الناس السحر لا يجوز، وأنه كفر، كما أن تعلم السحر كفر لا يجوز، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فتعلم السحر وتعليمه كفر، فكما أن الملائكة -عليهم السلام- لا تعاون إلا الأخيار من الناس المشبهين بهم في الفضائل والطاعة والقربة إلى الله والنزاهة والطهر، فتعينهم الملائكة، وتثبتهم أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12].

فالملائكة تنزل على أهل الإيمان، وتنزل عليهم بالسكينة، ويحصل أيضًا منهم المعونة في أرض المعركة، والنبي ﷺ أخبر عن مجالس الذكر، وذكر من فضلها في القوم الذين يجتمعون في بيوت الله فقال: إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة [10] فالسكينة تنزل على أهل الإيمان، كما قال الله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [سورة التوبة:26] وهم الملائكة -عليهم السلام.

فإذا كانت الملائكة تتنزل بالسكينة والطمأنينة، ويحصل على أيديهم بأمر الله من المعونة لأهل الإيمان، فكذلك أيضًا الشياطين فهم لا يعاونون إلا من شاكلهم في الكفر والضلال والفساد والنجاسة الحسية والمعنوية، وبهذا يظهر البون الشاسع والفرق الواسع بين السحرة والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء من أولياء الله -تبارك وتعالى.

ويُؤخذ من هذه الآية: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] أنّ الله -تبارك وتعالى- قد ييسر أسباب الفتنة والمعصية امتحانًا لعباده، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذه الصيود بالنسبة للمحرمين، وكذلك في أرض الحرم لما كان يحرم على هؤلاء صيدها ابتلاهم الله بها، بحيث: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يعني: تصل إليه اليد، فلا يحتاج إلى رمي بالسهام، ونحو ذلك لبعده، وإنما يأخذه باليد، وكذلك يناله بالرمح، وكما أتى النبي ﷺ في طريقه إلى مكة على ظبي حاقف، والظبي الحاقف هو الذي قد مال عنقه على جانبه، كما يفعل الظبي إذا نام، فقال النبي ﷺ: لا يريبه أحد [11] فكانوا على كثرتهم يمرون به، ولم يتعرض له أحد، والنفوس -كما هي العادة- تستفز إذا رأت الصيود، وهذا ظبي حاقف نائم بجوارهم يمرون وينظرون إليه، فهذا من الابتلاء تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ.

وهكذا -أيها الأحبة- فقد تقرب أسباب الفتنة والشر: من الصور المحرمة، والمشاهد الإباحية والسيئة، التي تكون قريبة المأخذ والمنال، تتعرض للإنسان حينما يتابع أو يشاهد مقطعًا لتلاوة كلام الله أو لمحاضرة، أو موعظة، أو نحو ذلك لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] حيث لا يراه أحد، ولا يطلع عليه أحد، فهي فتنة واختبارًا، فهي نكتة سوداء، إن شاء جعل ذلك في قلبه.

وقل مثل ذلك فيما ابتلى الله به بني إسرائيل؛ وذلك في القرية الذين كانوا يعدون في السبت، فكانت الحيتان في يوم السبت تأتيهم شرعًا على الشاطئ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163] فكان ذلك ابتلاءً واختبارًا، فلم يصبروا، وحملهم القرم، وهو شدة التوقان للحم، إلى أن اعتدوا، ووضعوا الشباك في يوم الجمعة، وأخذوها في يوم الأحد.

فقد تيسر أسباب المعصية، وتكون قريبة المأخذ والمنال لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [سورة ق:33] فالمسألة ليست سهلة، وما عند الله لا ينال بالأماني، فتختبر قلوب العباد، ويختبر إيمانهم ويقينهم بهذا، ومثله، وأشباهه لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذا هو المحك الذي يتبين فيه رسوخ الإيمان وصدقه، والخوف من الله -تبارك وتعالى- أما في الظاهر وأمام الناس فقد يتماسك الإنسان، ويكون على حالة مرضية، ولكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنه يجب على الإنسان أن ينصح، وأن يبذل النصيحة، وأن ينهى عن المنكر، ولو كان مواقعًا له وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [سورة البقرة:102] وعليه أن ينصح أيضًا ولو كان هذا النصح يوجب ترك الناس له، فقد يقول لهؤلاء الناس: بأنهم يجدون بغيتهم من العلم والنفع والفائدة عند العالم الفلاني، فالناس يتوجهون إليه، ويتعلمون منه، ومثل هذا يسلم من التبعة، ويستريح ويشتغل بذنوبه، فليست القضية والعبرة بكثرة الجماهير، وكثرة الناس والمتابعين، وإنما هو النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، أن ينصح لهم، أيًّا كان موقعه.

الطبيب قد يقول للمريض أو المرضى: بأن المستشفى الفلاني أو الطبيب الفلاني أحذق منه في علاج هذه العلل، فيذهب الناس إليه، ويتركون هذا وقد يخسر، ولكن عليه أن ينصح، وكذا البائع والتاجر ينصح للناس، ويقول لهم: البضاعة الفلانية أجود من هذه التي عندي، فيذهب الناس ويشترونها، فهذا يبيع سلعة، أو طعامًا، أو دواءً، أو طيبًا، أو عسلاً، يُرشد إلى غيره، إن كان يعلم أن هناك ما هو أجود من هذا، فهذا من مقتضى النصح.

وأما أصحاب المنكرات، فلا شك أن صاحب المنكر يجب عليه أن ينكر؛ ولهذا قالوا: على أصحاب الكؤوس، يعني المجتمعين على شرب الخمر أن ينهى بعضهم بعضًا عن المنكر، وهم يشربون مع بعض، فهذا لا يعفيهم، فإن الامتثال واجب، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فإذا ضيع الامتثال ضيع واجبًا، فإن ذلك لا يسوغ له أن يضيع الواجب الآخر الذي هو الأمر والنهي، فإن هذا من الواجبات، فلا يجمع بين ترك واجبين.

ويُؤخذ من قوله تعالى: حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فتنة هذا مصدر، وقد جاء مفردًا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ مع أن قائل ذلك اثنان، يعني لم يقل: نحن فتنتان، أو فاتنان، وإنما قالوا: فِتْنَةٌ وذلك أن المصدر يصدق على الواحد والاثنين والجمع، فحملها عليهما من باب المبالغة، كأنها نفس الفتنة إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فلم يقولوا: إنما نحن سبب فتنة، أو نعلم اختبارًا وفتنة، وإنما قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ بالمصدر كأنهم صاروا نفس الفتنة.

ويُؤخذ من القصر بـ(إنما) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ يعني أنه ليس لهما شأن في هذا التعاطي، وتعليم السحر سوى الفتنة، من أجل أن ينصرف الناس عن هذا، يقول: ليس هناك شيء آخر إنما هي فتنة، يعني ما حاجتك لهذا؟ انصرف وابتعد عنه.

وكذلك أيضًا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فالذي يتعلم السحر ويتعاطاه يكفر، فهو من العلوم الفاسدة الضارة، فالعلم منه ما هو نافع، وهو نوعان: علم الدين، وهذا هو الأكمل والأشرف على تفاوت فيه أيضًا، فالعلم بما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته أشرف من غيره، كذلك العلم المتعلق بكلامه (التفسير) أشرف من غيره، فالعلوم الشرعية تتفاوت، وهناك علوم نافعة مباحة، كالحساب، والزراعة، والنجارة، والصيدلة، والطب، والعلوم، وما يسمى بالعلوم، ونحو ذلك، فهذه علوم نافعة مباحة، وهناك علوم لا تنفع ولا تضر، يعني لا يستكثر منها الإنسان.

وقد ذكر بعض أهل العلم أمثلة على ذلك في الشعر، ونحوه، وهناك علوم ضارة: كالفلسفة والسحر، وما يسمى بالطلسمات، وما يسمى بعلم السيمياء، ونحو ذلك، فهذه علوم ضارة، وكذا: علم الكلام الذي حذر منه السلف الصالح، على تفاوت في الضرر، فمن أضرها علم السحر، عن طريق الشياطين، ولا يتم للساحر -السحر الحقيقي- مطلوبه إلا بهذا، وإلا فيوجد نوع هو من قبيل خفة الحركة، أو معرفة خواص المواد، وليس بسحر حقيقي، مبناه على الحيل، ومعرفة خواص المواد، ونحو ذلك.

ولهذا قالوا: من طلب المال بالكيمياء أفلس، الكيمياء قديمًا وليست حديثًا، فقديمًا كانوا يحاولون أن يغيروا بالكيمياء خواص المواد، كتحويل الأحجار والمعادن الخسيسة إلى معادن نفسية، يعني يحولون الحديد إلى ذهب، فيبحثون عن ذلك الإكسير الذي يحصل به هذا التحول، وهذا لا يمكن، لكن قد يلبسون على الناس، ويموهون عليهم بمعرفة خواص المواد، فهذا ليس بسحر حقيقي، ولكن السحر الحقيقي الذي يكون عن طريق الشياطين، فهذا هو الكفر، والثاني محرم ولا يجوز.

وقد يكون هذا السحر الحقيقي هو من قبيل سحر التخييل، فتسحر أعين الناس، فيُرى الرمح يدخل من بطنه، ويخرج من ظهره، ويُرى يشق بطنه، وتخرج أمعاؤه، هذا يفعله بعض شيوخ الضلالة من المنتسبين إلى الولاية بزعمهم، وتجد لهم من الأتباع من يصدقهم، وتغرز السكاكين في رأسه، ويمتلئ رأسه بالسكاكين، ولا يتأثر، وربما يضرب بالحديد والسيوف وبالسلاح الناري ونحو ذلك، ولا يتأثر، والواقع أن هؤلاء يموهون على الناس، وتارة تتلبس بهم الشياطين فلا يصل إليه من ذلك شيء.

ويدخل في هذا هؤلاء الذين يسمون بالسرك، والرجل الذي يسمى بالبهلواني، ونحو ذلك، فيأكل النار، ويقضم الجمر، ويأكل الزجاج، ويمشي على المسامير، وينام عليها، وتطأه السيارة ولا يتأثر، ونحو ذلك، فهذا هو من قبيل تعاطي هذه الأمور والشعوذة، ولا يجوز النظر إليهم، ولا الوقوف عندهم، ولا يستضاف هؤلاء، ولو كان ظاهرهم الصلاح، فإن السحرة كثيرًا ما يكون لهم لحى، وليست العبرة باللحية، ولا بالهيئة، وإنما العبرة بما عليه الإنسان.

فهذا الذي يقول: إن عنده قدرات، ويستضافون هنا وهناك، ويأكل أمام الناس الجمر، فهذا لو رأيته لقرأت عليه وهو يفعل هذا، ولا يستطيع أن يفعل منه شيء، ولو أنه ضرب وأنت تقرأ عليه لمات، يعني لو ضرب بالسلاح وأنت تقرأ لمات وهلك، ولو كان يفعل هذه الأشياء يُخرج الناس من جوفه، أو نحو ذلك، وقرأت لتعطل كل شيء، وهذا أمر مشاهد ومجرب، وبعض هؤلاء يجتمع عليه فئام من الناس يضربونه بالحديد، ولا يصل إليه من ذلك شيء، ويأتي من يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فيطير كما تطير الورقة اليابسة في الريح هو ومن معه، وقبل ذلك يضربونه أشد ما يستطيعون من الضرب، ولا يصل إليه شيء، فهو ساحر.

فهؤلاء قد يستعرضون للناس أمام السواح، وفي أماكن تجمع السواح في بلاد تظهر فيها أنواع المنكرات والشرور والكفر، ونحو ذلك، ويقصدها كثير من الجهلة والمتنزهين هناك.

ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ نفي النفع في السحر، كما قلنا من قبل: فليس فيه نفع مطلقًا، وقد نفى هذا النفع بعد قوله: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ففيه ضرر، بل هو ضرر، وليس فيه نفع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ تأكيد لضرر السحر؛ لئلا يتوهم أنه ضرر معه شيء من النفع، فيكون من قبيل عطف التأسيس، وليس بعطف التوكيد، يعني هو ليس بمجرد توكيد، هو يفيد التوكيد، ولكن يؤسس لمعنىً جديد، يعني لو كان السحر مثلاً في ضرر ونفع قد يُتوهم هذا، فالله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ.

فقد يقول قائل: وفيه نفع، سكت عنه، فهنا حينما قال: وَلا يَنفَعُهُمْ فمن الأشياء ما تكون ضارة، ولكن فيها نفع، فينظر بعض الناس إلى جانب النفع الذي فيها، ولو كان قليلاً، فيتعاطاها ويتبعها؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اتباع الأهوال والضلالات، ونحو ذلك: بأن الباطل قد يكون معه شائبة من الحق، فيكون ذلك داعيًا إلى اتباعه من قبل بعض الناس [12] ومعنى ذلك: أنه لو كان باطلاً من كل وجه لما تبعه أحد؛ ولما قبله أحد، لكن يكون فيه شائبة، فتعلق به بعض النفوس، فكما في الخمر والميسر، قال الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] فالعبرة بما غلب في هذه الشريعة.

وكما ذكرنا من قبل بأنه لا يوجد في الدنيا مصالح خالصة صرفة، ليس فيها شوب، لا يوجد هذا، وإنما العبرة بالغالب؛ ولذلك فإن الشريعة إنما تنظر إلى هذا الغالب، ولا تنظر إلى المفسدة المرجوحة القليلة في المصالح الغالبة، ولا تنظر إلى المصالح القليلة في المفاسد الراجحة؛ ولهذا يقول صاحب المراقي:

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب[13].

يعني ما قال أحد بتحريمه، العنب يعصر منه الخمر، فهذه مفسدة، فما دُفعت هذه المفسدة بتحريم العنب، وزراعته وبيعه، فهؤلاء الذين يتعاطون هذه الصنعة، ويعصرون العنب للخمر، هم قلة بالنسبة لمنافع العنب العامة، فلم يحرم بيع العنب، ولا زراعته مع وجود هذه المفسدة.

النبي ﷺ قال عن البقر: ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء [14] فالمقصود بذلك أن لحومها تتضمن داءً، لكن هذا لا يعني أن المنافع العامة منتفية، فهذا الداء، وإن كان موجودًا فيها، إلا أنه لم يصل إلى أن يكون غالبًا؛ ولهذا امتن الله بها على عباده وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [سورة الأنعام:144] هذا بعد قوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فهذه من جملة الأنعام بالإجماع.

فوجود مفسدة في المصالح الغالبة لا يُؤثر فيها المنع والتحريم، فالشارع حكيم، فما غلبت مصلحته فهو حلال، وما غلبت مفسدته فهو حرام؛ ولهذا فإن العلماء يمثلون لهذا بأمثلة كثيرة في باب سد الذرائع، وفي نوع من طرق استخراج العلة في القياس، وهو ما يسمونه بالمرسل، فمثل هذا الشارع سكت عن هذه الأشياء، فهي على الإباحة مثلاً، أو أنه صرح بإباحتها، فيكون ذلك بدليل نصي نقلي، فكل ذلك باعتبار أن الغالب المصلحة، كما أنه يحرم ما غلبت مفسدته، ولو وجد فيه بعض المنافع، فقوله: وَلا يَنفَعُهُمْ هذا يفيد التأسيس، يعني لم يحرمه الله باعتبار أنه يضر مع وجود منافع، السحر ليس فيه منافع، فهو يضر، ولا ينفع.

وكذلك أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] وليس له نصيب، بمعنى أنه يكون كافرًا، كما سبق، فيُؤخذ من قوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان علمه كالعدم، يعني كان بمنزلة الجاهل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102] نزلهم منزلة من لا يعلم، بعد أن أثبت لهم العلم؛ لأن ذلك العلم لم ينفع، ولم يؤثر امتثالاً، فصار بمنزلة العدم، فنزلهم منزلة الجاهلين، فقال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

فالعبرة -أيها الأحبة- ليست بكثرة المعلومات والحفظ، وإلا فاليهود قد ذمهم الله وذم أحبارهم لما لم يورثهم ذلك امتثالاً وعملاً، وهكذا حينما يستوي طالب العلم مع العامة فيما يأتي ويذر، بل قد يكون إقباله على الطاعات أسوأ وأضعف من إقبال كثير من العامة عليها، وقد تجد بعض العامة يتسابقون على الصف الأول، أو الصلاة خلف الإمام، أو نحو ذلك، وقد تجد بعض طلبة العلم يأتي مسبوقًا، ونحو ذلك، فهذا علم لا ينفع، وقد تجد بعض العامة يحرص على العبادات المتنوعة في هذه العشر يجد ويجتهد ويتصدق ويصوم هذه العشر، ونحو ذلك، وتجد طالب العلم بطالاً، لا يرفع بذلك رأسًا، ولا يتغير من حاله، ولا من كسله، فالصلوات تفوته، ولا صيام، ولا زيادة صدقة، ولا تكبير، فما فائدة العلم إذا كان الإنسان بهذه المثابة؟

والنبي ﷺ قد استعاذ من علم لا ينفع، فيكون حجة عليه، بل قد يطلب لنفسه المخارج والحيل، فيتعلم أن هذه المسائل فيها خلاف، أو يتتبع الشواذ، كما نسمع في هذه الأيام، وتُرسل هذه الرسائل، وتطير في النار: صيام يوم عرفة لا يشرع! فهناك من يقول هذا، وصيام الست لا يشرع، وهلم جرًا، فقد يجد أن هذه الأشياء تلبي حاجة في نفسه، فيترك، حتى صيام عرفة، وصيام عاشوراء إذا وافق يوم السبت، وصيام الست، ويضرب النصوص بعضها ببعض، ويحتج بحجج لا تسعف، ويقول: هذا غير مشروع، وهذا الذي أنتم عليه ليس بشيء.

وقد يتورع العامي من الشرب قائمًا، وهذا يتعلم، ثم يطلع على كلام أهل العلم والخلاف في المسألة ويشرب وهو قائم، ولا يبالي، وإذا نُصح بادر بالقول: إن المسألة فيها خلاف، وأن النبي ﷺ قد شرب من زمزم وهو قائم، وهكذا يحتج بأشياء لا تسعفه في هذا المقام، لكن من يريد أن يتملص من ربقة الشريعة، ومن حدود الله فإن ذلك لن يعجز أمثاله، فالعلم يزيد في الإنسان خوفًا من الله وتقوى وإخباتًا وتواضعًا، ويزيده طاعة وقربة، ولا يكون العلم سببًا لخروجه من ربقة التكليف، أو الإغراب على الناس، أو التلبيس عليهم، أو زعزعة الثوابت عندهم في أمور مستقرة، تلقوها عن علمائهم الراسخين، ثم بعد ذلك يفجأ الناس بأن ذلك ليس بمشروع، فيتشككون في كل شيء، فكل شيء صار قابل للتشكيك، ويطير الناس بهذا، وينشغلون بهذا الكلام بين رادٍ وموافقٍ ومؤيدٍ، وما إلى ذلك.

كتب أحدهم كتابًا في أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ليس بواجب، وإنما سنة، فأرسله فلم أقرأه؛ لأن الكلام في هذه المسألة والشبهة التي فيها معروف، ثم بعد ذلك أرسل يسأل ويقول: ما أجبتني! فقلت: ما كل شيء يجاب عنه، دع عنك هذه المسائل، وانصرف عنها، واشتغل بما ينفع، ولا تظهر هذا في الناس، وأرى أن تُسجر به التنور، فقال: أنا قد طبعته ونشرته، ولكن أريد أن أعرف رأيك، فهذه مشكلة، والله المستعان.

فصار الناس يترقبون ما الجديد؟ ما الذي سيأتي أنه ليس بمشروع؟ هل هذه الصلوات التي نصليها فيها شيء أيضًا أو لا؟ وهذا الصوم الذي نصومه رمضان فيه شيء أو ما فيه شيء؟ ما الذي بقي عليهم.

فالمقصود أن الله قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ هذا في السحر، لكن قد يتعلم الإنسان في غير السحر ما يضره ولا ينفعه، مثل لو أنه أخذ العلم الشرعي من غير مأخذه الصحيح، فهو كما يقول الشاطبي -رحمه الله- عن أصحاب الهوى: يطلب في الأدلة ما يوافق هواه [15] يعني: يبحث ما يوافق هواه، فهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه، وأما طالب الحق فهو يعرض عمله على الأدلة؛ ليعرف صواب ذلك من غيره.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا يدل على أن هذا السحر لا ينفع صاحبه في الدنيا؛ لأنه قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وفي الآخرة لا ينفع، يعني لا ينفع لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأمر لا ينفع في الدنيا، ولا في الآخرة، بل لا يكون لصاحبه نصيب في الآخرة، فينبغي أن يُجتنب، وأن يُحذر غاية الحذر؛ لأن مبنى هذا السحر على الشرك والكذب والظلم، وكما قال شيخ الإسلام: بأن صاحبه إنما مقصوده الظلم والفواحش [16] فهو من أجل أن يتمكن من الفواحش، أو يمكن غيره، يعني ذاك يحب امرأة فيريد أن يصل إليها، فيكون ذلك عن طريق السحر مثلاً، وقد تسحر المرأة وتخرج تطلب الفاحشة، وقد يسحر الرجل ويكون كذلك.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الجزاء من جنس العمل، فالكافر لما لم يجعل لربه -تبارك وتعالى- نصيبًا من عمله في الدنيا، لم يجعل الله له نصيبًا في الآخرة، والجزاء من جنس العمل وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني: في الدنيا مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.

ثم أيضًا تأمّل هذا التوكيد بالقسم وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ فاللام هذه تدل على القسم المحذوف، فهذا تأكيد لهذا المعنى، أنه ليس له خلاق عند الله، وليس له نصيب، وأيضًا يحتمل أن يكون لأنه نزّلهم منزلة المنكرين فأكده بالقسم لإثبات ذلك: أنه ليس له خلاق عند الله فكأنهم يكابرون ويجادلون في هذه القضية؛ لأن حالهم في الواقع هو حال المنكر؛ لأنهم تركوا الكتاب المنزل، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، ولاحظ التكرار في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فكرر الفعل الدال على العلم مرتين عَلِمُوا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فهذا فيه تسجيل عليهم: بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحقيقي، فالعلم الذي ينفع منتفٍ عنهم.

وكذلك أيضًا لاحظ التنكير في قوله: خَلَاقٍ فخلاق نكرة في سياق النفي مَا لَهُ وقد سبقت بـ(من) التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فكان ممكن يقال: ما له في الآخرة خلاق، لكن قال: مِن خَلَاقٍ يعني: ما له من نصيب إطلاقًا، لا قليل ولا كثير، فهذا نص صريح في العموم، يعني هذه صيغة قوية جدًا في العموم؛ لأن (من) تنقل النكرة في سياق النفي من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم، فهذا كله يدل على عظم جرم من تعاطى هذا السحر؛ فلذلك لم يكن لمتعاطيه أي حظ من الخير   - نسأل الله العافية - في آخرته.

ثم يُؤخذ من قوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنّ صاحب العلم الذي ينتفع بعلمه هو الذي يحذر الأشياء الضارة، لكن الذي يقع عليها كما يقع الأعمى على النار والحية، مثل هذا لا ينتفع بعلمه بحال من الأحوال.

ولاحظ هذه الأفعال المتتابعة وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا فعل مضارع وَمَا يُعَلِّمَانِ حَتَّى يَقُولا فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ ثم قال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ فهذه أفعال تسعة جاءت بالمضارع، مع أنه حكاية لفعل ماضي، وقضية مضت، فجاء بالفعل المضارع؛ لأنه أدعى لاستحضار تلك الحالة، كأنك تشاهدها، ويدل أيضًا على الاستمرار، وأن هؤلاء على نفس المهيع والنهج والطريق الذي سار عليه من قبلهم؛ لأن السحر ينتشر كثيرًا في اليهود، كما هو معروف، وقد سحروا النبي ﷺ وأيضًا أم المؤمنين كان لها جارية يهودية سحرتها، فهو فاشٍ فيهم، وتجد السحر فاشٍ في أهل الضلال، فتجده كثير في طوائف الباطنية، والرافضة، وما إلى ذلك، تجد ذلك في كبرائهم وشيوخهم ومقدميهم، وكما سبق: بأن شمس النبوة إذا ضعفت في مكان كثر فيه السحر والشعوذة، وإذا سطعت وأشرقت في مكان تبددت تلك الظلمات، فظهرت أنوار السنة.

ولذلك ذكر الذهبي -كما ذكرنا في الكلام على الاختلاف- لما جاء نصير الشرك الطوسي، وصار وزيرًا للخليفة العباسي، فماذا فعل بالحديث وأهل الحديث والعلم والفقه، وما إلى ذلك؟ أعطاهم أجورًا زهيدة، وأقام المراكز والمواقع للفلاسفة، ولأهل الديانات، وصاروا يتناظرون، وما إلى ذلك، وأجرى الأجور الكثيرة على أهل تلك العلوم الفاسدة، فقامت سوقهم، والله المستعان.

والمقصد: أن في هذه الآية إثبات السحر، كما ذكرنا سابقًا، خلافًا لمن أنكر حقيقة السحر، كما قاله بعض المعتزلة، وكما أنكره بعض المعاصرين، وإثبات وجود الشياطين، وهؤلاء أنكرهم بعض المعاصرين من أصحاب المدرسة العقلية، فيقولون: بأن الشياطين بمعنى الشر الموجود، والملائكة الخير الموجود، نسأل الله العافية، ويقولون: إن قصة آدم وإبليس هي عبارة عن قصة رمزية للصراع بين الخير والشر، تجد هذا في كلام بعض المنتمين إلى مدرسة محمد عبده، ومن تأثر به، يعني هم يريدون أن ينكروا كل الأشياء الغيبية، من أجل أن يعرضوا إسلامًا يقبله الماديون من أهل الحضارة الغربية، فأنكروا هذه الحقائق الغيبية، والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، ووجود الجن والشياطين هذا ثابت في القرآن، كيف يُنكر من أجل أن يقبل أولئك إسلامًا مشوهًا محرفًا؟!

أما علاج السحر: فيكون بحله إذا عُرف مكانه، أو بالرقى الشرعية، ولا يجوز الذهاب إلى السحرة من أجل حله.

وفي المربوط عن امرأته، أو المرأة حينما تمنع من زوجها، فقد ذُكر: بأنه يُؤتى بسبع ورقات من سد، ويدق بين حجرين، ثم يوضع في ماء، ويقرأ فيه على سبع مرات الفاتحة والقواقل الأربع، ويكون ذلك حلاً له بإذن الله، يغتسل به، وقد يشرب شيئًا منه، وهذا لم يتلقَ عن رسول الله ﷺ ولكن أصل الرقى من الطب، والطب الأصل فيه الإباحة، ما لم يشتمل على محرم، فلا يحتاج إلى دليل، ما دلت التجربة عليه، لكن كثير من الناس قد يتقولون ويتخرصون أشياء وليس لها أصل، وهناك أشياء موهمة مشتبهة، قد يكون لها نوع تقرب إلى الشياطين، فيجب تركها، وقد تكون هذه من تلاعب بعض الشياطين بهم، أو كان ذلك من تلاعب بعض من ينتسب للرقية.

وفي قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ رد على من يقول: بأنه يُحل السحر بالسحر، فالسحر ضرر ليس به نفع، فلا يلجأ إلى الساحر، وجاء الوعيد فيمن أتى ساحرًا أو كاهنًا، الذين يأتون السحرة، أو يأتون الكهنة؛ ولذلك لا يجوز حتى مشاهدة هذه البرامج التي يظهر فيها سحرها ولا متابعتها، ولا الفرجة، ولا سؤال هؤلاء لأي سبب كان.

وما ورد في حل السحر بالنُشرة عن بعض التابعين، المقصود به حله بالرقية الشرعية؛ لأن النُشرة تقال لحل السحر بالسحر، وهذا لا يجوز، وتقال أيضًا لحل السحر بالرقية الشرعية، وإذا نظرت إلى الضرورات الخمس أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال، فلا يمكن أن يُبذل الدين بالذهاب إلى السحرة، فيذهب دين الإنسان من أجل استبقاء النفس، فيقولون: ضرورة، يقال: لا، النفوس تذهب في سبيل حفظ الدين.

والسحر أنواع: والعلماء يقولون: الذي يكون بغير استعانة بالشياطين ونحو ذلك محرم، لكنه لا يصل إلى الشرك والكفر، لكن يبقى النظر أنه هل يكون للسحر أثر بإذن الله بمجرد كونه عقاقير، ونحو ذلك ما لم يكن تمويهًا، أو أن تأثيره يكون بالاستعانة بالشياطين، فهذه الأعشاب والأدخانة، ونحو ذلك هل هي بمجردها أو مع الشياطين؟ فهذا الذي يظهر، إلا أن يكون ذلك من باب التمويه ومعرفة خواص المواد، فيكون من باب الحيل.

أما الذي يكون له تأثير فهذا الذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يكون إلا عن طريق الشياطين، وقد يذهب رجل مريض إلى هؤلاء السحرة، فيسأله: ما اسمك؟ وما اسم أمك؟ ثم يقول له دون أن يخبره: بك كذا وكذا، فقد يخبره عن أشياء صحيحة، ثم يعطيه بعض الأدخان وأشياء يبخر بها، أو نحو هذا، فحينما يعطي هذه الأشياء، قد يقال له: هذه موجودة بالسوق، نشتريها نحن من السوق ونضعها، فيقول: لا، هذه أنا الذي أعطيتك إياها، يعني الثانية التي في السوق ليس لها هذا الأثر، إذن هي ليست مجرد مواد أعشاب أو أشياء يبخر بها تباع هكذا، وإنما هو الذي أعطى، معنى ذلك أنه لها تعلق بالشياطين والسحر، والله أعلم.

أما عن استعمال الملح، بأن يوضع في أركان الدار، ونحو ذلك، ويُرش البيت بمثل هذا، ويقولون: يطرد الشياطين، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] فبعض الذين يشتغلون بالرقية يقولون: إن هذا من الدجل، وأنه لا أصل له، وأن هذا كذب، ونحو ذلك، وبعض هؤلاء يقولون: إن هذا ينفع في طرد الشياطين، فمن نصدق؟

وإثبات خاصية لشيء لا تثبت حقيقة يكون من قبيل الكذب على القدر، فلا يجوز، كأن يقال مثلاً: هذا النوع من المياه المعدنية إذا اغتسل فيه الإنسان يبرأ من الروماتيزم مثلاً، وتبيّن أن هذا الكلام من الناحية الطبية غير صحيح، فهذا لا يجوز، ويكون من قبيل الكذب على القدر، يعني أضاف شيئًا إلى شيء لم يجعله الله من خواصه.

والنبي ﷺ قد أخبر أن: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة [17] فتقرأ فيه، وقد سأل سائل: هل ينفع تقسيم سورة البقرة على أهل الدار؟ فالظاهر: نعم؛ لأنه بناه للمجهول، فقال: البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة فدلّ ذلك على أنه لو تقاسموها فقرأ هذا جزء، وهذا جزء، وهذا جزء، تقاسموها أهل البيت، بحيث وضعوا لأنفسهم أجزاء كل يوم يقرأ واحد منهم هذا المقدار الذي عليه، فإن ذلك يحصل به المقصود، والله أعلم، فهي مقروءة في هذه البيت، فلا إشكال.

كما أن الشيطان يفر من ذكر الله فالبيوت العامرة بذكر الله يفر منها الشيطان، والإنسان الذي يكثر من ذكر الله يفر منه الشيطان، ويخاف منه، فالناس الذين يتسلط عليهم الشيطان بالوساوس والخواطر والمخاوف، لا سيما في أوقات الضعف، فبعض الناس يضعف في مثل هذه الأحوال، فإذا ضعف تسلط عليه الشيطان، فبدأ يلقي في قلبه الوساوس والخواطر والواردات السيئة، فيحصل له بسبب ذلك من الانزعاج والوساوس المقلقة ما يشغله به في ليله ونهاره عن الله وطاعته، وعن ما هو بصدده من أمور دنياه، فقد تجد هذا الإنسان يبكي بكاء مرًا لشدة ما يجد من هذه الخواطر والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلبه، فما هو الحل والعلاج؟ الاستعاذة، وكثرة ذكر الله فليس لهذا الشيطان سلطان على مثل هؤلاء الذاكرين، فلا يستطيع الاقتراب منهم، والله أعلم. 

  1.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 96). 
  2.  المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 207). 
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (20/ 42). 
  4.  البيت في تاج العروس (8/ 497) ولسان العرب (3/ 335) بدون نسبة. 
  5. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم: (3461). 
  6.  تفسير القرطبي (2/ 50). 
  7.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:96). 
  8.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:97). 
  9. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 349). 
  10.  أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم: (2699). 
  11.  أخرجه النسائي برقم: (2818) وابن حبان برقم: (5111) ومالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري برقم: (1139) وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (7/ 379). 
  12.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 75) وعبارته: "ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بثوب من الحق...".
  13.  نشر البنود على مراقي السعود (2/ 266). 
  14.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (79) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (1233).
  15.  الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 283). 
  16. النبوات لابن تيمية (1/ 192). 
  17.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد برقم: (780).