الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ۖ فَٱعْفُوا۟ وَٱصْفَحُوا۟ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:109-110].
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن، والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم، وفضل نبيهم ﷺ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح، والعفو، والاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر، والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك، ويرغبهم فيه.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي ﷺ، وفيه أنزل الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم إلى قوله: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ [سورة البقرة:109].
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: أن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب، والرسل، والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً، وحسداً وبغياً؛ ولذلك قال الله تعالى: كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم، ووبخهم، ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه ﷺ وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق، والإيمان، والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم، بكرامته، وثوابه الجزيل، ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية: مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من بعد ما تبين أن محمداً ﷺ رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، والإنجيل، فكفروا به حسداً، وبغياً؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة، والربيع بن أنس.
فهذه الرواية التي ساقها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي ﷺ، وفيه أنزل الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم.. هذه الآية هل يقال بأن سبب نزولها هو ما وقع من كعب بن الأشرف بناء على ما مضى ذكره في درس سابق استناداً إلى قواعد أصول التفسير؟
لا يقال: إنه سبب النزول؛ لأنه غير صريح، وقلنا: إن غير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا، وفيه أنزل الله كذا، وما أشبه ذلك، يعني أنه مما يدخل في معناها، مع أن الاحتمال قائم على أن ذلك من قبيل سبب النزول، لكن مثل هذا لا يجزم بأنه سبب النزول، ولا يقال سبب نزول هذه الآية هو كذا وكذا، مع أن الرواية ثابتة صحيحة، فهذه نزلت في هؤلاء اليهود، ومنهم كعب بن الأشرف الذين حسدوا المسلمين على بعث محمد ﷺ؛ لكونه من الأميين، ولم يكن من الإسرائيليين، وذلك واقع لكعب بن الأشرف، ولغيره ممن كذب بالنبي ﷺ.
قوله - تبارك وتعالى -: حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم قال الربيع بن أنس: من قِبل أنفسهم، أي الحسد - على أحد التفسيرين - بمعنى أنه الحسد الناشئ من نفوس هؤلاء.
وقوله: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم تحتمل أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، وهو قوله: وَدَّ في أول الآية، وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم أي هذا الأمر الذي هو محبتهم لكفركم، وتمنيهم له، ودوا ذلك من عند أنفسهم، هذا احتمال.
والاحتمال الثاني أن يكون قوله: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم عائداً إلى قوله: حَسَدًا وهو الأقرب، والله تعالى أعلم، وعليه يكون المعنى وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم أي أن هذا الحسد ناشئ من نفوسهم، فهذا هو الأقرب في معناها، وهو المتبادر إلى الذهن، والله تعالى أعلم. 
وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109] مثل قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا [سورة آل عمران:186] الآية.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109] نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:29] إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين.
وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].
هذا القول قول معروف، ومشهور، وهو أن آية السيف، وهي قوله في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5] يقولون: إنها نسخت مائة وأربع وعشرين آية، يقولون: كل آية فيها عفو، أو صفح، أو إعراض عن المشركين، فهي منسوخة بآية السيف، لا صفح، ولا إعراض، ولا عفو، وهذا وإن قال به كثير من السلف إلا أن الأرجح هو القول الآخر، وهو أن هذه الآيات لم تنسخ بآية السيف، ولكنه يعمل بها في أوقات الضعف، فإذا كان وقت التمكن، والقوة فعندئذ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ وفي أوقات الضعف، والعجز، وعدم القدرة على مجابهتهم فعندئذ العفو، والصفح، والتحمل، والصبر، والإعراض، مع الاشتغال بتحقيق العبودية لله ، وإعداد القوة، فيشتغل الناس بمثل هذه الأمور من إصلاح الحال، وبناء النفس، والاستقامة على أمر الله ، هذا هو الأقرب والله تعالى أعلم في تفسير هذه الآية،   فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].
وقوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ يحتمل أن يكون هذا مثالاً على المغيا بغاية، وقد عرفنا أن المغيا بغاية ليس من قبيل النسخ، وقلنا: إن أشهر الأمثلة التي يمثلون بها هي قوله: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [سورة النساء:15] وهنا قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].
وأمر الله هو النصر، وإعزاز الدين، وغلبة المسلمين على أعدائهم، فيحتمل أن يكون هذا من قبيل المغيا بغاية، فلا يكون من قبيل النسخ على فرض أن الآية مما وقع فيه التغيير بالحكم أصلاً، يعني لا عفو، إلى متى؟ حتى يأتي الله بأمره.
ولكن على القول الآخر الذي هو الأرجح أنه لا حاجة لأن يقال: بأن هذا من المغيا بغاية ليُتلافى فيه موضوع النسخ، وإنما يقال: هذه الآيات محكمات، ففي وقت الضعف العفو، وفي وقت القوة القتل.
وروى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد - ا - قال: كان رسول الله ﷺ، وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:109]، وكان رسول الله ﷺ يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش، وهذا إسناده صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد - ا -. في قوله - تبارك وتعالى -: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ في الفرق بين العفو، والصفح، بعض أهل العلم يقولون: العفو هو ترك المؤاخذة أي ترك العقوبة، والصفح أبلغ منه، وهو إزالة أثر الإساءة من النفس، بحيث لا يبقى لها أثر.
ويمكن أن يقال – والله أعلم -: إن العفو هو إزالة، أو ترك المؤاخذة، أو إزالة أثرها في النفوس من عفت الريح الأثر، فينمحي أثر الإساءة، والصفح هو الإعراض - من صفحة العنق - فإذا أعطاه صفحة العنق معناها أنه لم يقف عند إساءته، فالإنسان قد يعفو، ولكنه يقف عند الإساءة، فيعاتب، أو يطلب الاعتذار، أو يقول: أنا عفوت عنك، أو يقول: لكن مثل هذا التصرف ما كان ينبغي أن يصدر منك، مثل هذا ما كان ينبغي كذا، وهكذا يبقى يعاتب المسيء مع أنه عفا لكنه لم يعرض عن الإساءة، وعن المسيء، فلا يقف معه، ولا يعاتبه.
فالعفو محو أثر الذنب، والإساءة، والصفح أن يعرض عن هذا المسيء، فلا يقف عند هذه الإساءة.
وكما قلنا بأنه قد يحصل العفو، ولا يحصل الصفح، وهو شيء مشاهد حيث ترى الإنسان يقول: أنا عفوت عنك، لكن لماذا اجترأت على كذا، لماذا فعلت كذا، ولماذا؟ ويقول: أنا عفوت عنك، لكن أريد أن أوقفك على خطئك، وإساءتك، وتقصيرك وكذا، فهذا لم يصفح، لكن لو قال له: أنا صفحت عنك، فما دام صفح فلا يصح منه أن يقف عند الإساءة، ويذكر بها، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني: تمنى كثير من أهل الكتاب لو يرجعونكم من بعد إيمانكم كفارًا، كما كنتم من قبل تعبدون الأصنام والأوثان حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ بسبب الحسد الذي قد امتلأت به نفوسهم، من بعد ما تبيّن لهم صدق ما جاء به الرسول ﷺ وصحة ما أنتم عليه من الدين.

وأمر الله بمقابلة ذلك بالتجاوز والعفو والصفح عن إساءات هؤلاء، وما يبدر منهم مما يكون دافعه الحسد الذي يأكل قلوبهم، حتى يأتي الله بحكمه فيهم بقتالهم، وقد جاء ذلك، وقُرِّر -كما هو معلوم- فالله سيتولاهم ويعاقبهم على سوء فعالهم، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء.

وفي قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ دليل واضح على أن هؤلاء قد حرموا التوفيق، وأن هذا الحرمان قد أقعدهم عن الإيمان؛ وذلك أنهم حسدوا أهل الإيمان على ما هم عليه، والحسد لا يمكن أن يكون إلا على نعمة، فهؤلاء إذن علموا تمام العلم أن ما عليه أهل الإيمان أنه حق، ودين صحيح، تحصل به سعادة الدارين، فحسدوهم لأجل ذلك، يعني هل يمكن أن يحسدوهم على دين باطل مفترى مكذوب؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على مصيبة؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على جهل؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على نقيصة؟

الجواب: لا، إنما الحسد يكون على الكمالات، فوجود هذا الحسد عند هؤلاء اليهود يدل على أنهم قد علموا تمام العلم أن أهل الإيمان في نعمة، وعلى دين كامل صحيح، واعتقاد سديد، فحسدوهم على هذه النعمة العظيمة.

فالحسد إذن لا يكون على الردى، ولا يكون الحسد على النقصان، ولا يكون الحسد على الجهل، ولا يكون الحسد على الرزية، وإنما يُحسد صاحب النعمة، فهذا الحسد الذي أكل قلوب هؤلاء اليهود، أو أهل الكتاب يدل على أنهم قد عرفوا أحقية ما جاء به الرسول ﷺ وما عليه أهل الإيمان من الكمال، وأن دينهم حق، وليس بباطل.

ولاحظوا أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ كما جاء عن عثمان : أن المرأة الزانية تود لو أن جميع النساء زواني[1] لماذا؟ لأن هذه التي تتميز بالطهر والعفاف والشرف، كأنها تشير إليها في واقع الحال بأن تلك قد فقدت عفافها وشرفها وطهارتها، فهي تضيق ذرعًا بأهل الطهر والعفاف، فالمرأة البغي (الزانية) يكون عندها نقمة على العفيفات؛ وقد قرأت في بعض التقارير في انتشار مرض الإيدز يقولون: إن أكثر من ينشر مرض الإيدز هي المرأة المصابة بهذه المرض، يكون عندها ردود أفعال عنيفة، ونزعة انتقام تجاه الرجال، فهي تستعرض لهم بكل مستطاع: في المطاعم والفنادق، وفي كل موضع يمكن أن تقتنص وتصطاد فيه الرجال بأبهى حلة وزينة، من أجل أن تُدخل في هذا المنتدى -نسأل الله العافية للجميع- منتدى هذا المرض (مرض الإيدز) جموعًا جديدة يشاركونها في هذا البلاء والاعتلال والمصيبة.

فكذا أيضًا هؤلاء الكفار من أهل الكتاب يودون ويتمنون لو أعادوا أهل الإيمان إلى الكفر ثانية؛ لئلا يتميز هؤلاء عليهم بالاستقامة، وصحة الاعتقاد والهداية التي حرمها هؤلاء، فبدلاً من أن يدخلوا في الإيمان معهم، وأن يغتبطوا بهذه النعمة، وينعموا بهذا الدين الصحيح، حرموا التوفيق، وأقعدهم هذا الحرمان، فصارت نفوسهم تتآكل حسدًا، ويودون إعادتهم إلى ما كانوا عليه من الكفر.

، وهذا يدل على أن هؤلاء أهل الكتاب لا يريدون بأهل الإيمان خيرًا بوجه من الوجوه مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:105] فالخير من الله هم لا يريدونه لكم، وإذا وقع بكم شيء من ذلك، وحل بكم فضل من الله تمنوا زواله؛ لشدة عدواتهم وكراهيتهم، فإذا كانوا لا يتمنون لنا خيرًا فهل نؤمل منهم أن يجري الخير على أيديهم، وأن يسعفونا به وينصروننا؟

انظر إلى تكالبهم على أهل الإيمان في مثل هذه الأوقات، وعبر القرون والعصور المنصرمة، لا جديد في تكالب هؤلاء على أهل الشام مثلاً، أو على غير أهل الشام، فهذه عادتهم، وهذا ديدنهم، وهذا هو المنتظر منهم، فلو صدر منهم غير ذلك لكان هو المستغرب، وأجمل تعليق سمعته على السجية: أن هؤلاء قد اشتاقوا إلى الهزيمة، وأنهم منذ نحو ثلاثين سنة قد هزموا هزيمة نكراء عرفها القريب والبعيد، وكانت سببًا لتفكيك تلك الدولة العظمى الكبرى، التي كانت تحتل مساحة شاسعة على الأرض، ثم بعد ذلك صارت إلى دول كثيرة بسبب بغيهم وظلمهم وعدوانهم، فمثل هؤلاء ما ظنكم بهم؟!

إن اعتقادهم وحسدهم لأهل الإيمان وبغضهم يحملهم حملاً على مثل هذه التصرفات، فلا غريب ولا جديد، لكن الشيء الذي ينبغي أن توجه الأنظار إليه هو ما نحن عليه من التفرق والاختلاف، والله يقول: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46] هذا هو المؤلم، وهنا المصيبة الحقيقية، وليس في تكالب الأعداء فهم يتكالبون منذ دهر طويل، فقد اجتمعوا على النبي ﷺ اجتمع الأخلاط من المشركين، ومن المنافقين، ومن اليهود، واجتمع الفرس والروم في معركة واحدة تاريخية في فتوحات فارس وبلاد الروم، وبلاد الشام، اجتمعوا في معركة واحدة، وهزموا.

والآيات والنصوص الدالة على هذا المعنى كثيرة، والأموال التي ينفقوها فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:36] لا في الدنيا ولا في الآخرة، وليس لهم إلا الخيبة والندامة والعاقبة السيئة، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، والله يقول: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [سورة آل عمران:111] هذا متى؟

هذا إذا كانت الأمة على أمر الله مستقيمة، وكانت الأمة معتصمة بحبل الله تنبذ التفرق والاختلاف، أما ما نحن عليه فهذا هو المصيبة الحقيقية، هذا التفرق والاختلاف والتشرذم على كافة الصعد، يعني بين المنتسبين للعلم وللدعوة والجهاد وما إلى ذلك، وإذا انبرى طائفة من الأمة بنصيحة، أو نحو ذلك ربما يحمل كلامهم، ما لا يحتمل، ويشتغل الناس بهذه عما ابتلوا به، وعما نزل بهم من هذا المصاب، ونزول العدو بساحتهم، فيشتغل بعضهم ببعض، وهذا لا يكون إلا لقلوب قد تناكرت، ونفوس قد تباعدت، ومن نفوس لا تحمل مشاعر طيبة للمسلمين وللهداة والناصحين والمصلحين، فإن من يريد النصح حقيقة فإنه يكمل ويسدد وينصح، وإذا وجد شيئًا مما يحتاج إلى تكميل كمله ونصح.

فأهل الإيمان نصحة، وأما تحميل كلام الناس ما لا يحتمل، والوقيعة بأعراضهم والتصرفات التي لا تصدر عن نفوس سوية، فإن مثل هذا لا يليق بحال من الأحوال، وهذا التشرذم الذي نحن فيه، وهذا التفرق هو سبب الهزيمة، وسبب التراجع وتأخر النصر، وتخلف الأمة، فصارت بهذه المثابة، والله المستعان.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:109] أن الحسد قد يقع في نفس الإنسان من غير إرادة، ولا يكون في وسعه دفع هذا الحسد، لكنه يُؤاخذ على رضاه به، وإظهار القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه، فما يبدر من تصرفات باللسان، أو تصرفات بالجوارح، فهذا كله يُؤاخذ عليه الإنسان.

وقد ذكر هذا المعنى الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- وكذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله: ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه[2] يعني: الكريم يكظم ذلك ويطويه، ولا يبدر منه شيء من القول أو العمل الذي يكون منشأه الحسد، ودافعه الحسد، فيستعيذ الإنسان بالله من شر نفسه وهواه، ومن نزغات الشيطان، ويجاهد هذه النفس، ويذكر إخوانه من أهل الإيمان بما يليق بهم، وإذا رأى فيهم نقصًا أو عيبًا أو نحو ذلك سددهم ونصحهم، ودعا لهم، ويحب لهم ما يحبه لنفسه هذا هو اللائق، وهذا هو الصادق.

وأما إذا كان الحسد ملأ قلبه، وكانت النفس ضعيفة، فاللئيم يبديه، فيظهر هذا بالقدح، والوقيعة في الأعراض، وتصيد الأخطاء، وتحويل المناقب إلى مثالب ومعايب، ونحو ذلك، فهذا فعل أصحاب النفوس المريضة، فهذا من عند أنفسهم، فهي أنفس خبيثة، تود الكفر للمسلمين حسدًا، وأيضًا هذا يدل على خبث طوايا هؤلاء من أهل الكتاب الذين يودون وقوع المسلمين في الكفر، فهو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فهذا ليس بناتج عن ردود أفعال، أو عن إساءة صدرت من المسلمين تجاههم، فسبّبت هذه العداوات، وإنما هو شيء نابع من داخل نفوسهم المريضة، هذه النفوس التي نأت وابتعد عن الإيمان، والاهتداء فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].

فهنا فرق لطيف الصبر مأمور به مطلقًا، كما قال شيخ الإسلام فلا ينسخ، فلا بد من الصبر على أذى هؤلاء الأعداء، وأما العفو والصفح يقول شيخ الإسلام: فإنه جعل إلى غاية، وهو إلى أن يأتي الله بأمره[3] فلما أتى بأمره بتمكين النبي ﷺ ونصره صار قادرًا على الجهاد لأولئك وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر، صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك كما كان مأمورًا بالصبر أولاً، فهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فأمروا بالجهاد بعد ذل.

وفي قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هذا فيه بشارة للمؤمنين بأن الله سيغير الحال المقتضية للعفو والصفح؛ لأنهم لا يستطيعون مصاولة هؤلاء الأعداء، فيصيرون إلى حال من القوة يستطيعون بها دفعهم.

وذكرنا في بعض المناسبات: أن العفو من عفت الريح الأثر، ألا يبقى في النفس أثر، والصفح أن يعطي صفحة العنق، بمعنى لا يقف مع الإساءة بالمعاتبة، ونحو ذلك، وهذا هو الصفح الجميل. 

  1.  المبدع في شرح المقنع (8/ 320) بلفظ: روي عن عثمان أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين. 
  2.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص:21). 
  3.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص:19).