يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن، والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم، وفضل نبيهم ﷺ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح، والعفو، والاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر، والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك، ويرغبهم فيه.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي ﷺ، وفيه أنزل الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم إلى قوله: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ [سورة البقرة:109].
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: أن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب، والرسل، والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً، وحسداً وبغياً؛ ولذلك قال الله تعالى: كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم، ووبخهم، ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه ﷺ وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق، والإيمان، والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم، بكرامته، وثوابه الجزيل، ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية: مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من بعد ما تبين أن محمداً ﷺ رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، والإنجيل، فكفروا به حسداً، وبغياً؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة، والربيع بن أنس.فهذه الرواية التي ساقها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي ﷺ، وفيه أنزل الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم.. هذه الآية هل يقال بأن سبب نزولها هو ما وقع من كعب بن الأشرف بناء على ما مضى ذكره في درس سابق استناداً إلى قواعد أصول التفسير؟
لا يقال: إنه سبب النزول؛ لأنه غير صريح، وقلنا: إن غير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا، وفيه أنزل الله كذا، وما أشبه ذلك، يعني أنه مما يدخل في معناها، مع أن الاحتمال قائم على أن ذلك من قبيل سبب النزول، لكن مثل هذا لا يجزم بأنه سبب النزول، ولا يقال سبب نزول هذه الآية هو كذا وكذا، مع أن الرواية ثابتة صحيحة، فهذه نزلت في هؤلاء اليهود، ومنهم كعب بن الأشرف الذين حسدوا المسلمين على بعث محمد ﷺ؛ لكونه من الأميين، ولم يكن من الإسرائيليين، وذلك واقع لكعب بن الأشرف، ولغيره ممن كذب بالنبي ﷺ.
قوله - تبارك وتعالى -: حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم قال الربيع بن أنس: من قِبل أنفسهم، أي الحسد - على أحد التفسيرين - بمعنى أنه الحسد الناشئ من نفوس هؤلاء.
وقوله: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم تحتمل أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، وهو قوله: وَدَّ في أول الآية، وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم أي هذا الأمر الذي هو محبتهم لكفركم، وتمنيهم له، ودوا ذلك من عند أنفسهم، هذا احتمال.
والاحتمال الثاني أن يكون قوله: مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم عائداً إلى قوله: حَسَدًا وهو الأقرب، والله تعالى أعلم، وعليه يكون المعنى وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم أي أن هذا الحسد ناشئ من نفوسهم، فهذا هو الأقرب في معناها، وهو المتبادر إلى الذهن، والله تعالى أعلم.
وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109] مثل قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا [سورة آل عمران:186] الآية.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109] نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:29] إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين.
وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].هذا القول قول معروف، ومشهور، وهو أن آية السيف، وهي قوله في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5] يقولون: إنها نسخت مائة وأربع وعشرين آية، يقولون: كل آية فيها عفو، أو صفح، أو إعراض عن المشركين، فهي منسوخة بآية السيف، لا صفح، ولا إعراض، ولا عفو، وهذا وإن قال به كثير من السلف إلا أن الأرجح هو القول الآخر، وهو أن هذه الآيات لم تنسخ بآية السيف، ولكنه يعمل بها في أوقات الضعف، فإذا كان وقت التمكن، والقوة فعندئذ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ وفي أوقات الضعف، والعجز، وعدم القدرة على مجابهتهم فعندئذ العفو، والصفح، والتحمل، والصبر، والإعراض، مع الاشتغال بتحقيق العبودية لله ، وإعداد القوة، فيشتغل الناس بمثل هذه الأمور من إصلاح الحال، وبناء النفس، والاستقامة على أمر الله ، هذا هو الأقرب والله تعالى أعلم في تفسير هذه الآية، فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].
وقوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ يحتمل أن يكون هذا مثالاً على المغيا بغاية، وقد عرفنا أن المغيا بغاية ليس من قبيل النسخ، وقلنا: إن أشهر الأمثلة التي يمثلون بها هي قوله: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [سورة النساء:15] وهنا قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].
وأمر الله هو النصر، وإعزاز الدين، وغلبة المسلمين على أعدائهم، فيحتمل أن يكون هذا من قبيل المغيا بغاية، فلا يكون من قبيل النسخ على فرض أن الآية مما وقع فيه التغيير بالحكم أصلاً، يعني لا عفو، إلى متى؟ حتى يأتي الله بأمره.
ولكن على القول الآخر الذي هو الأرجح أنه لا حاجة لأن يقال: بأن هذا من المغيا بغاية ليُتلافى فيه موضوع النسخ، وإنما يقال: هذه الآيات محكمات، ففي وقت الضعف العفو، وفي وقت القوة القتل.
وروى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد - ا - قال: كان رسول الله ﷺ، وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:109]، وكان رسول الله ﷺ يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش، وهذا إسناده صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد - ا -. في قوله - تبارك وتعالى -: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ في الفرق بين العفو، والصفح، بعض أهل العلم يقولون: العفو هو ترك المؤاخذة أي ترك العقوبة، والصفح أبلغ منه، وهو إزالة أثر الإساءة من النفس، بحيث لا يبقى لها أثر.
ويمكن أن يقال – والله أعلم -: إن العفو هو إزالة، أو ترك المؤاخذة، أو إزالة أثرها في النفوس من عفت الريح الأثر، فينمحي أثر الإساءة، والصفح هو الإعراض - من صفحة العنق - فإذا أعطاه صفحة العنق معناها أنه لم يقف عند إساءته، فالإنسان قد يعفو، ولكنه يقف عند الإساءة، فيعاتب، أو يطلب الاعتذار، أو يقول: أنا عفوت عنك، أو يقول: لكن مثل هذا التصرف ما كان ينبغي أن يصدر منك، مثل هذا ما كان ينبغي كذا، وهكذا يبقى يعاتب المسيء مع أنه عفا لكنه لم يعرض عن الإساءة، وعن المسيء، فلا يقف معه، ولا يعاتبه.
فالعفو محو أثر الذنب، والإساءة، والصفح أن يعرض عن هذا المسيء، فلا يقف عند هذه الإساءة.
وكما قلنا بأنه قد يحصل العفو، ولا يحصل الصفح، وهو شيء مشاهد حيث ترى الإنسان يقول: أنا عفوت عنك، لكن لماذا اجترأت على كذا، لماذا فعلت كذا، ولماذا؟ ويقول: أنا عفوت عنك، لكن أريد أن أوقفك على خطئك، وإساءتك، وتقصيرك وكذا، فهذا لم يصفح، لكن لو قال له: أنا صفحت عنك، فما دام صفح فلا يصح منه أن يقف عند الإساءة، ويذكر بها، والله أعلم.