الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـَٔلُوا۟ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي ﷺعن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[1] ولما سُئِل رسول الله ﷺ عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله ﷺ المسائل، وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ كان ينهى عن قيل، وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال[2]
وفي صحيح مسلم: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله ﷺ ثلاثًا، ثم قال : لا، ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم[3] ثم قال: ذروني ما تركتكم.. الحديث، ولهذا قال أنس بن مالك : "نُهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نسمع".
فقوله - تبارك وتعالى -: أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ [سورة البقرة:108] السؤال هنا لعل أولى ما يدخل فيه - والله تبارك وتعالى أعلم - هو طلب الآيات، أي أنهم يقترحون على النبي ﷺ الآيات، كقولهم: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [سورة الإسراء:90] إلى غير ذلك مما كانوا يقترحونه من نزول الملائكة، أو أن يكون له بيت من زخرف من ذهب، أو يرقى في السماء، أو نحو ذلك مما اقترحه عليه المشركون، وكذلك أيضاً اليهود طلبوا أشياء من النبي ﷺعلى سبيل التعنت، فكل هذا داخل فيه - والله -تبارك وتعالى أعلم - وقرينة ذلك هي أن الله  ذكر موسى ﷺ حيث قال: كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ غير أن ذلك لا يمنع المعنى الآخر، وهو الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا، وهو أن السؤال يدخل فيه أيضاً السؤال عن العلم والمسائل، والأحكام، وذلك أوضح، وأصرح في الآية الأخرى وهي قوله - تبارك وتعالى -: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101]، فهذا واضح بأن المراد هو المسائل عن أمور سكت عنها الشارع، وأما الآية التي هنا فإن أولى ما يدخل فيها هو اقتراح الآيات؛ ولذلك قال الله في آخرها: وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] وعلى كل حال فالقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
والمسائل أنواع، أما اقتراح الآيات على الأنبياء فهذا أمر محرم، وقد دل القرآن على تحريمه، وذمه في مواضع كثيرة، وأما المسائل العلمية فإن ذلك على أنواع: منها: كثرة السؤال كما جاء في الحديث، والمعنى المتبادر من كثرة السؤال في الحديث هو السؤال عن الأحكام، والمسائل العلمية، وما إلى ذلك مما يسأل عنه الإنسان، كثرة السؤال، يسأل عما لا يعنيه، فهذا مذموم.
والنوع الآخر أيضاً هو أن يسأل عن أمور نادرة لا تكاد تقع، فهذا أيضاً من المذموم، كالذي يسأل عن رجل وطأ على دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة ففقست عنده، هل هذه الدجاجة، أو الفرخ الذي خرج منها هل هو طاهر، أو نجس، باعتبار أن البيضة خرجت من دجاجة ميتة، ففرخت هذه البيضة عنده، كأن يكون جعلها تحت دجاجة أخرى، أو في حاضنة، أو غير ذلك، فهذا كان بعض الناس يسألون مثل هذه المسائل؛ فعابهم السلف، وردوا عليهم مسائلهم، ولهذا كانوا إذا سمعوا بعض الأسئلة الغريبة، والمتكلفة، أو النادرة، ونحوها فإنهم يسألون السائل: أعراقي أنت؟ أحرورية أنت؟
ومن الأسئلة المذمومة تتبع صعاب المسائل، والمسائل الغامضة، التي ينقر عنها السائل، وكذلك السؤال عن الأمور التي لا يترتب عليها عمل، وإنما من شأنها أن تثير الإشكالات، والشبهات، وتحرك كوامن النفوس كما كان يسأل صبيغ الناس، فقال عمر : اللهم أظفرني به، فدخل الناس يتغدون على عمر، فدخل معهم رجل، فلما فرغ سأل عمر، قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [سورة الذاريات:1]، فقال: من أنت؟ قال: عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه بالعراجين حتى سقطت عمامته، وأدمى رأسه مرة بعد مرة، حتى قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد ما بي فقد ذهب، يعني ذهب الذي في رأسه لما ضربه بهذه العراجين التي أعدها له، فأحياناً ما ينفع الرد على بعض الناس، ولا المناقشة، ولا الحوار، وإنما الذي ينفع معهم أن يضرب على رؤوسهم بالعراجين حتى يذهب ما في رأسه، بدلاً من أن يقابل بالقنوات، ويترك، يتفلسف، ويتكلم في الأمور العظام، وهو أجهل من حمار أهله لكن أين عمر؟
المقصود أن هذا النوع من السؤالات مذموم، ولا يلتفت إليه، ولا ينبغي للإنسان أن يتشاغل به، ومثل ذلك ما لا يبنى عليه عمل، وقصة عمر معروفة لما سأل، أو سئل: وما الأب في قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [سورة عبس:31]، فقال كلاماً معناه: يكفي أنه نبت، لكن تحديد هذا النبت بالذات لا فائدة من معرفته.
وكذلك أيضاً السؤال عن أمور سكت عنها الشارع، ولم يتعرض لها من أمور الحلال، والحرام في زمن نزول الوحي، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101]، وكسؤال بني إسرائيل لموسى ﷺ عن البقرة لما قال لهم موسى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةًَ [سورة البقرة:67] فتعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم، فهذا كله مذموم، ولا ينبغي للإنسان أن يتشاغل به، لكن ليس السؤال مذموم بإطلاق؛ فإن الصحابة سألوا النبي ﷺ عن أشياء منها ما وقع كالذي سأله عن ماء البحر، وسألوه عن أمور لم تقع لكنها ستقع، مثل أسئلة حذيفة في الفتن، "كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر"[4].
فالمقصود أن الأسئلة ينبغي أن تكون فيما يترتب عليه نفع، وعمل، لا أن يكون ذلك من قبيل التكلف، والتمحل، واتباع صعاب المسائل، والأغاليط، والتكلف، فيترك الناس ما هم بصدده، ويشتغلون بافتراض، وتوليد المسائل، فإن هذا أمر مذموم، فهذه خلاصة فيما يتعلق بالسؤال، والله أعلم.
وفي الحديث الذي ذكر هنا قال: ولما سُئِل رسول الله ﷺ عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله ﷺ المسائل، وعابها: هذا في قصة عويمر العجلاني، وعاصم بن عدي، فإن عويمر العجلاني لما رأى رجلاً مع امرأته أرسل عاصم بن عدي إلى النبي ﷺ ليسأله، فكره النبي ﷺ المسائل، وعابها، ثم جاء هلال بن أمية فسأل أيضاً، ورجع إليه عامر العجلاني، وسأل بنفسه، فجاء الحكم، وهو سؤال عن أمر واقع، لكن كان يتعلق بقضية كرهها النبي ﷺ، وهي قضية التحدث بها ليس بالأمر السهل، ولم ينزل آنذاك شيء فيما يتعلق بقذف الرجل لامرأته، فكره النبي ﷺ المسائل، وعابها، وإلا فإن الحكم الذي نزل لا شك أنه رحمة، وهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [سورة النــور:(6] فقد جاء في الآيات ما يدل على أنه رحمة، قال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [سورة النــور:10] فهذا لا شك توسعة على الناس، وإلا لحقهم حرج عظيم.
وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ [سورة البقرة:108] أي: بل تريدون. أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري.قوله: أَمْ تُرِيدُونَ [سورة البقرة:108] (أم) هذه إما أن تكون استفهامية على بابها من قبيل الاستفهام الإنكاري فهو ينكر عليهم السؤالات التي تكون على سبيل التكلف، كأن تقول لإنسان مثلاً: أتريد أن تكون بمنزلة فلان، أتريد أن يقع لك ما وقع لفلان، أم تريد أن يقع لك ما وقع لفلان، أو هي ليست على بابها فهي تكون بمعنى بل، يعني بل تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، والمشهور هنا أنها بمعنى بل.
وهو يعم المؤمنين، والكافرين فإنه رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [سورة النساء:153].هذا من النوع الأول من الأسئلة الذي هو سؤال الآيات، والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير.على كل حال الشك في هذا لا يضر، لكن محمد بن أبي محمد الحافظ يقول عنه: إنه مجهول.
عن ابن عباس - ا - قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة، ووهب بن زيد.قال رافع بن حُرَيْمَلة، ووهب بن زيد، فهنا ليس على سبيل الشك، ورافع بن حُرَيْمَلة هذا هو ووهب بن زيد يهوديان.
يا محمد، ائتنا بكتاب تُنزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهاراً نتبعك، ونصدقك، فأنزل الله من قولهم: أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة البقرة:108].هو ذكر هذا على أساس أنه سبب النزول، وهذا الأثر بعض أهل العلم يحسن هذا الإسناد من طريق محمد بن أبي محمد، والحافظ ابن حجر حسن هذه الرواية، ومحمد بن أبي محمد مجهول على كل حال.
ولو كان هذا هو سبب النزول فإن ذلك يكون قاطعاً بأن المراد بالسؤالات التكلف في طلب الآيات، ولا يمنع ذلك من دخول السؤالات عن الأحكام، وما أشبه ذلك على سبيل التكلف، لكن ذلك أصرح في الآية الأخرى، لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101].
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] سواء السبيل يعني الوسط من كل شيء، فهو يوصف بأنه سواء، يعني السبيل المستوية، وهذا من باب إضافة الصفة – سواء - إلى الموصوف - وهو السبيل - أي السبيل المعتدلة المستوية، والمعنى أنه ضل عن سبيل القصد أي الاعتدال، وذهب عن نهج الاعتدال، والقصد.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ ﷺ عن شَيء على وجه التعنُّت، والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى ، تعنتًا، وتكذيبًا، وعنادًا.في أول تفسيره للآية ذكر ما يدل على كراهة السؤال عن الأحكام على سبيل التكلف، أو الأمور التي سكت عنها الشارع، وهنا ذكر المعنى الآخر.
 قال الله تعالى: وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [سورة البقرة:108] أي: ومن يَشْتَر الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ أي: فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل، والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء، واتباعهم، والانقياد لهم إلى مخالفتهم، وتكذيبهم، والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت، والكفر، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:28-29]، وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.قول أبي العالية في قوله تعالى: وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ قال: الشدة بالرخاء هذا قول يبعد أن تفسر به الآية، وإنما ضل سواء السبيل معناه انحرف عن نهج القصد، والاعتدال، فالصراط المستقيم وسط بين طرفي الإفراط، والتفريط ليس فيه اعوجاج، وحينما يفسر بالرخاء، والشدة هذا بعيد، والكفر معروف، ومن يتبدل الكفر بالإيمان، فقوله: الرخاء، والشدة بعيد، وقد استبعده ابن جرير إلا أنه وجهه على أن ذلك يحمل على الآخرة، أي أن الإيمان يؤدي إلى النعيم، والنعيم رخاء، والكفر يؤدي إلى العذاب، والعذاب شدة، فمن استبدل الكفر بالإيمان فمعنى ذلك أنه استبدل جزاء هذا بجزاء هذا، استبدل النعيم بالعذاب، هذا هو توجيه هذا القول لكنه مستبعد.
وقوله تعالى: وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ بمعنى قوله: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] الذي سبق الحديث عنها، والله أعلم. 
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة - باب:  ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (6859) (ج 6 /  ص2658) ومسلم في كتاب: الفضائل - باب: توفيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك(2358) (ج 4 / ص 1831).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة - باب: قول الله تعالى لا يسألون الناس إلحافا (1407) (ج 2 / ص 537) ومسلم في كتاب: الأقضية - باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه (593) (ج 3 / ص 1340).
  3. أخرجه مسلم في كتاب: الحج - باب: فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975)
  4. أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (6673) (ج 6 / ص 25959) ومسلم في كتاب الإمارة - باب:وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة (1847) (ج 3 / ص 1475).

مرات الإستماع: 0

"تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ أي: تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأول أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً."

قوله - تبارك، وتعالى -: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ هذه السؤالات الواردة في القرآن أنواع:

النوع الأول: ما يكون من أهل الإيمان يسألون عن العلم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة: 217] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: 222] ونحو ذلك.

النوع الثاني: هو ما كان على سبيل التعنت بطلب الآيات. يعني المعجزات، وهذا كان يصدر عن غير المؤمنين، فكان المشركون يسألون النبي ﷺ عن معجزات يقترحونها عليه ﷺ وهكذا كان أهل الكتاب يسألون على سبيل التعنت.

فقوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ هذا الاستفهام للإنكار، ومن ثم فإنه ليس المراد بذلك السؤال عن العلم فإن ذلك لا يُذم، وإنما هي سؤالات التعنت، وهذا كان يصدر من هؤلاء الكفار من المشركين، وكذلك أيضًا من أهل الكتاب. قد حمله الحافظ ابن كثير - رحمه الله - على الطائفتين: المسلمين، والكفار[1] يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء: 153] فهذا من تعنت أهل الكتاب في سؤالاتهم، اقتراح الآيات بمعنى المعجزات فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء: 153].

هنا أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة: 108] فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء: 153] فهذه الآية يمكن أن تُفسر بها آية البقرة، فكذلك أيضًا سؤالات المشركين: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء: 90] الآيات، فهذا كله صادر عن هؤلاء، وهؤلاء، وتوجيه الخطاب أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ لا شك أن النبي ﷺ قد أرسل إلى الناس كافة، فيصح أن يتوجه ذلك إلى أهل الكتاب كما يصح أن يتوجه إلى المشركين، كما يصح أن يتوجه لأهل الإيمان.

وفيما يتعلق بأسباب النزول في قوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ جاء في رواية عن ابن عباس عند ابن جرير - رحمه الله - رواية جوّد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إسنادها بسبب أن تريدوا أن تسألوا رسولكم، يقول ابن عباس: قال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله ﷺ: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارًا نتبعك، ونصدقك. فأنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ[2].

وكان رافع بن حريملة، ووهب بن زيد من اليهود، وسألوا النبي ﷺ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ فسبب النزول قطعي الدخول في العام، وإخراجه بالاجتهاد ممنوع، فإذا صحت هذه الرواية فإن ذلك يدخل فيه اليهود دخولًا أوليًا. 

  1. تفسير ابن كثير (1/381).
  2. المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن بيّن حقيقة شرعية، وأصلاً من الأصول المرعية، وهو قضية النسخ: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فهذا في سياق الرد على اليهود، حيث أرجفوا بأهل الإيمان، بسبب ما وقع من نسخ القبلة، فقال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مخاطبًا أهل الإيمان: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] فهذا نهي لأهل الإيمان عن مشابهة هؤلاء اليهود، أتريدون أيها الناس أن تطلبوا من رسولكم ﷺ من السؤالات التي مبناها على العنت، وطلب أمور لا يصح أن تطلب، ولا أن تُسأل، كقول اليهود لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وكما قال الله : فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [سورة النساء:153] فهذا من سؤالات هؤلاء اليهود التي كانت من قبيل العنت، والتمرد على أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- حيث طلبوا منهم أمورًا لا يصح أن تطلب بحال من الأحوال.

ثم قال الله : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] فدلّ على أن توجيه مثل هذه السؤالات، وهذا التعنت من قبيل الكفر، وأن الواجب على أهل الإيمان هو الإذعان والاستسلام والانقياد لربهم وباريهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ النهي عن التعنت في المسائل، وهذه السؤالات أليست من قبيل سؤال الاسترشاد والاستعلام، فإن هذا من الأمور المطلوبة والمحمودة، وقد جاء في القرآن يَسْأَلُونَكَ في جملة من الآيات، كقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [سورة البقرة:217] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة:219] يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [سورة البقرة:215] إلى غير ذلك.

لكن مثل هذه السؤالات التي مبناها على العنت، فإن هذا لا يصح بحال من الأحوال، وهو خلاف الانقياد والإذعان والإيمان والاستسلام، وقد جاء ذم السؤال في مثل هذه المقامات، وما أشبهها، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] فهذا أيضًا من جملة السؤالات المذمومة.

فيدخل في السؤال المذموم: السؤال وطلب أمور تكون كسؤالات بني إسرائيل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وكسؤالات المشركين أن يحول الصفا إلى ذهب، أو أن ينزل عليهم الملائكة من السماء، ومعهم كتاب يُقرأ، أو أن يزيح عنهم جبال مكة، أو أن يكون له جنة من نخيل وأعناب، ويفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، فكانوا يسألونه أسئلة خارجة عن مقصود الرسالة، وعن مقدوره، وما أنيط به -عليه الصلاة والسلام- كان الجواب: سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً [سورة الإسراء:93] فالرسول لا يملك مثل هذه الأمور.

وكذلك أيضًا من السؤالات المذمومة: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] وهذا السؤال في وقت التنزيل عن أمور لم تفرض، فيكون ذلك سببًا لفرضها على الناس، والنبي ﷺ قال: إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله ﷺ ثم قال: لو قلت: نعم لوجبت؛ ولما استطعتم[1] يعني: أن النبي ﷺ لم يقل: إن الله افترض عليكم الحج في كل عام، وإنما: إن الله قد افترض عليكم الحج فحجوا فيكفي أن يحج مرة واحدة في العمر، فهذا السؤال لا محل له، فالسؤالات في وقت التنزيل عن أمور لم تفرض فتفرض، أو عن أمور لم تحرم فتحرم، وقد صح عن النبي ﷺ: إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[2] فهذا جناية على الناس، ويكون سببًا للتضييق عليهم.

كذلك من هذه السؤالات المذمومة: السؤال عن الأمور المتكلفة، والقضايا التي يندر وقوعها، ويبعد وقوعها، فهي قضايا نادرة، وكذلك السؤال عن صعاب المسائل التي يسميها الفقهاء: بالأغاليط، يعني: يُورد مسائل صعبة من أجل أن يمتحن بها الناس، فهذا ولو وجه إلى فقيه، فإنه يكون من قبيل السؤال المذموم.

وكذلك المسائل التي يندر وقوعها، والتي لا يبنى عليها عمل، فيقول مثلاً: كم كان عدد الراكبين في سفينة نوح؟ وما الذي يترتب على هذا؟! وكم عدد أصحاب الكهف؟ وما أسماؤهم؟ ومن أي قبيلة؟ وفي أي عصر من العصور؟

وكذلك أيضًا: ما نوع المائدة التي أنزلت على أصحاب عيسى (الحوارين)؟ وكيف يحصل الذرية والتناسل من إبليس باعتبار أنه هو أبو الجن؟ وهل له زوجة؟ فهذه مسائل لا يترتب عليها عمل، بالنسبة إلينا.

وكقضايا تتعلق بالنسخ قبل بلوغ المخاطبين الحكم أصلاً، فهذه مسائل لا يترتب عليها عمل، فما الذي يكون بالنسبة إلينا من العمل الواقعي؟ فهذه الشريعة شريعة واقعية، وعملية، إنما يشتغل أهل الإيمان بما يحصل به النفع لهم في جانب العلم والاعتقاد، أو في جانب العمل والسلوك، أما الأسئلة التي يراد بها مجرد السؤال أو التعجيز، أو التفكه بالسؤال والتسلي، ونحو ذلك، فمثل هذا أمر لا يحسن ولا يجمل.

حتى الألغاز فإنها في الأصل من عمل البطالين، اللهم إلا ما يحصل به كد الأذهان في ما يتعلق بالعلوم المختلفة، والنافعة، كالألغاز الفقهية، ونحو ذلك، أما الألغاز التي لا معنى لها، ولا يترتب على معرفة ذلك فائدة، فإن هذا لا يحمد الاشتغال به؛ لأنه يفوت مصالح أنفع وأعظم وأجدى على أصحابها، فإذا سأل أهل الإيمان إنما يسألون سؤال استرشاد واستعلام فيما يحتاجون إليه، أما ما لا يعنيهم فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[3] فيكون ذلك من قبيل الفضول في السؤال، وهو اشتغال بما لا يعني، وهو نقص في مرتبة العبد، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالمسائل الشرعية حينما يسأل عن قضايا لا تعنيه، أو حينما يسأل في قضايا عامة عن أمور لا تعنيه، أو يسأل في قضايا خاصة عن أمور لا تعنيه، يعني يسأل الناس عن قضايا تتعلق بخاصة شؤونهم، وما يتعلق بمكاسبهم، أو فيما يتعلق بعللهم، أو فيما يتعلق بمشكلاتهم، أو فيما يتعلق بأهلهم وأولادهم، أو نحو ذلك مما لا يحبون الاطلاع عليه، وما اشتغل أحد بما لا يجدي عليه نفعًا إلا كان ذلك على حساب الأمور النافعة والمفيدة.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [سورة البقرة:108] فأضاف الرسول إليهم، فهذه الإضافة تقتضي تشريف هذا الرسول وتعظيمه وإجلاله، لا مقابلة هذا الرسول بالتعنت وتوجيه مثل هذه السؤالات التي لا تصح بحال من الأحوال، وهي خلاف التعظيم والتوقير والاستجابة والانقياد والقبول. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر برقم: (1337). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه برقم: (7289) ومسلم في الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله برقم: (2358). 
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد برقم: (2317) وصححه الألباني.