الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:107] يعني أنه يتصرف فيهما، والمَلك معلوم، والمَلِك – بفتح الميم وكسر اللام - يكون له كمال التصرف في مملكته، والفرق بينه، وبين المِلك – بكسر الميم وسكون اللام - أن المِلْك المقصود به حيازة الشيء، والاستقلال به، وأما المُلك فإنه يعني حق التصرف، وإن لم يكن هذا المَلِك مالكاً لكل ما تحت مملكته، بحيث لا يعني أن هذه الأشياء جميعاً ملكاً له، فهذا هو الفرق بين المِلك، والمُلك.
قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] يقول ابن كثير - رحمه الله - هنا: وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم - لعنهم الله - في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً، وكفرا،ً وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراءً، وإفكاً: يقول: إما عقلاً بمعنى أن لهم شبهات في رد النسخ عقلاً، ولسنا بمعنيين بنقل الشبه؛ فإن الشبهة قد تقع في قلب، ولا تخرج منه، ولكن المقصود أن هؤلاء لهم شبه معروفة يوصلها بعضهم إلى أربع شبه، وهي شبه ساقطة لا قيمة لها، ويزعمون أن النسخ يستلزم البـَداء - بفتح الباء - ويقولون: هذا محال على الله ، ومن ثَمَّ فإن النسخ ممتنع، فشبهاتهم تدور حول هذا.
ومعنى البداء: من بدو الشيء بعد خفائه، تقول: بدا له كذا، وتقول: كنت أريد أن أسافر فبدا لي أن أقيم، كنت أريد القراءة، ولكن بدا لي أمر آخر لم يكن قبل ذلك، فهو طروٌ للعلم بعد الخفاء، واكتشاف للشيء بعد أن كان ذلك غير مدرك، ولا معلوم لهذا الذي بدا، هكذا يقولون، ولا شك أن هذا غير صحيح؛ لأن الله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ولذلك لما ذكر الله في سورة الأحزاب، لما قال: وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [سورة الأنفال:75] أي في الميراث على الراجح، فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا [سورة الأحزاب:6] يعني بالوصية، والإحسان إليهم بالهبة بعد أن كانوا يتوارثون بالولاء، فنسخ ذلك، ثم قال: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [سورة الأحزاب:6] أي في اللوح المحفوظ.
فهذه آية من آيات النسخ التي يثبت فيها النسخ، قال: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ففي اللوح المحفوظ كتب الله كل شيء، ولكن الله يشرع في وقت تشريعاً يتلاءم مع حال الناس، وقد عَلِم أزلاً أن هذا سيرتفع، ثم بعد ذلك يكون غيره مما يتلاءم مع حالهم في تلك المرحلة المقبلة، فكل ذلك غير خارج عن علمه - تبارك وتعالى -؛ فعلمه محيط بكل شيء، فالنسخ لا يعني أن شيئاً انكشف لله بعد أن كان خافياً، ولكن اليهود لجهلهم، وقلة معرفتهم بربهم - تبارك وتعالى - وعظمته، ظنوا أن ذلك يعني نسبة الجهل إليه، فقالوا: هذا يستلزم البداء، ويكفي هذا القدر، ولسنا بحاجة إلى إيراد الشبه مفصلة.
ولهم حجج يحتجون بها من جهة النقل، وقبل الحديث عنها لا بد أن نعلم أمه إذا قيل: الأدلة العقلية فالمقصود بها من جهة النظر، والنقل يعني الشيء الذي يؤثر، وهؤلاء ينقلون من التوراة، ومن الزبور، ومن سائر كتبهم، وينقلون عن موسى - عليه الصلاة والسلام -، فبعض طوائف اليهود مثل الشمعونية، والعنانية الذين يمنعون النسخ، يزعمون أن في التوراة - وهي كتاب محرف، ولو ثبت ذلك أيضاً فيمكن أن يخرج، ويحمل على بعض التفسيرات - يقولون في التوراة: هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات، والأرض.
نقول: حتى لو كان هذا مما نزل فيقال: هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات، والأرض، يريد به إلزام هؤلاء العمل بها دون التصرف، والترك في وقت، أو مكان بمجرد رأيهم، أو هواهم، ولكن يقول: أنتم مطالبون بها أبداً، في كل الأوقات، والأحوال، ولكن إذا جاء نبي بكتاب ينسخ هذا الكتاب فهنا لا مجال للعمل بذلك الكتاب الأول، والله قال عن أهل النار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [سورة هود:107] وقال في الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [سورة هود:108] فهذا بلا انقطاع، ولا انقضاء، ولكن في مثل التوراة، وغيرها من الكتب التي نسخت أن ذلك يبقى ما لم يرد ما ينسخه، وهذا فيما لو أردنا أن نخرج هذا النص لو كان ثابتاً.
والنصوص المنقولة من كتبهم إذا وجد في شريعتنا فيما جاءنا من الوحي المنزل المحفوظ ما يخالفه نعلم أن ذلك من قبيل الكذب، والكلام المحرف، وهذه الأشياء التي تنقل عنهم ثلاثة أقسام فنحن عندنا أشياء تدل دلالة صريحة على أن هذا الكتاب مهيمن على تلك الكتب، وأن هذه الشريعة ناسخة لها كما قال تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] وكما في قول النبي ﷺ: ما من يهودي، ولا نصراني من هذه الأمة يسمع بي، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[1] وكذلك قوله ﷺ لعمر : لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي[2] يعني أنه لا يسعه العمل بالتوراة.
وعيسى ﷺ حينما ينزل آخر الزمان لا يحكم بالإنجيل، ولا يعمل بأحكام الإنجيل، فهذه وغيرها كثير تدل على هذا المعنى، فهذا النص الذي ينقلونه هو نص محرف، وإن لم يكن من قبل المحرف فيمكن أن يحمل على محمل آخر، غير ما فهموا.
وكذلك ينقلون: "الزموا يوم السبت أبداً"، ويوم السبت معروف، وهو اليوم الذي كان يعظمه اليهود، وهو يوم عيدهم، فمعنى ذلك البقاء على يهوديتهم، هذا معنى الزموا يوم السبت أبداً، يعني لا تتحولوا إلى غيره كالأحد، أو الجمعة.
وهكذا النصارى الجهلة أيضاً ينقلون عن المسيح - عليه الصلاة والسلام - أنه يقول: السماء والأرض تزولان، وكلامي لا يزول، هذا يمكن أن يخرج لو صح عنه - عليه الصلاة والسلام - فإنه يمكن أن يحمل على محمل لا يعني عدم النسخ بحال من الأحوال، وعلى كل حال النصارى جهلة بل هم معدن الجهل، فلا يستغرب منهم مثل هذا الكلام.
وعلى كل حال هذا تعليق على قول ابن كثير - رحمه الله -: إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً، وكفرا،ً وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراءً، وإفكاً، وهذا يعني - وهو صريح - أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن تلك النصوص من قبيل المكذوب المحرف، وليست من كلام الله ، أو من كلام عيسى - عليه الصلاة والسلام -، أو موسى ﷺ.
وهذه المقابلة تعبير دقيق، إما عقلاً، وإما نقلاً، وهذا هو التعبير الصحيح، أن يقابل العقل بالنقل، فيقال: دل على ذلك العقل، والنقل، ولا يقال: دل على ذلك العقل، والشرع؛ لأن العقل الصحيح من جملة أدلة الشرع التي هي الكتاب، والسنة والإجماع، والعقل الصحيح، والفطرة السليمة، كل هذه أدلة صحيحة، فلا تقل: دل عليه العقل، والشرع؛ فيكون العقل مقابلاً للشرع، وهذا إنما يكون على فرض المعارضة بين العقل، والنقل كما هو ظن طوائف كثيرة من أهل الكلام، حيث يجعلون قواعد يمشون عليها في حال هذا التعارض، وهذا غير صحيح على كل حال.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات، والأرض، وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما، وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما، وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ، وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر، وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه - جل ثناؤه - تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السماوات، والأرض، وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته، وطاعته، وعليهم السمع، والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره، وأمره، ونهيه.
قوله: وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه ﷺ على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود: يعني إذا كان هذا الخطاب قد وجه إلى النبي ﷺ فإن الاستفهام يكون فيه من قبيل التقرير - الاستفهام التقريري - يعني قد علمت أن الله له ملك السماوات والأرض، وإذا كان للإنكار على اليهود، أو قد وجه للمسلمين فإنه بالنسبة لليهود يكون من قبيل الإنكار - الاستفهام الإنكاري -.
وابن جرير - رحمه الله - يرى أن هذا الخطاب وإن كان في أوله قد خوطب به المفرد، والمخاطب بذلك النبي ﷺ، ولكن المراد بذلك الصحابة، وفي ضمنه إنكار على اليهود يعني يتضمن الإنكار على اليهود، والقرينة التي يحتج بها من الآية هي صيغة الجمع في آخرها: وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:107]، ففي أولها قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ ثم قال في آخرها: وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ فدل ذلك على أن المراد به الجمع وليس شخص النبي ﷺ، هذا الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر، والعناد فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى.يعني ليس في العقل ما يدل على امتناعه؛ لأن الله يعلم ما كان، وما يكون، بل إن مقتضى العقل يؤيده، ويقويه، وذلك أن الأمة تمر بأطوار، ومراحل يقتضي ذلك أن تنقل من طور إلى طور، وهذا يعني أن تبدل الأحكام، حيناً بعد حين، وهذا هو النسخ، فهذا مما يؤديه العقل، ويقويه، ولذلك يحتج على النسخ بالعقل لا أن العقل ينسخ، يعني هناك فرق بين أن نقرر النسخ بالكتاب، والسنة، والإجماع ودليل العقل من جهة النظر كما يقولون، فهذا ممكن، لكن العقل لا ينسخ بحال من الأحوال، فالرد عليهم من جهة النظر أعني من جهة العقل، والرد عليهم أيضاً من كتبهم، ومن الكتاب، والسنة أمر سهل، ومن شاء فليراجع الكتب التي اعتنت بهذا الجانب، ومن أكثر من اعتنى بهذا فيما وقفت عليه الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان) حيث جاء بشبهاتهم، ثم رد عليها من كتبهم، وجاء أيضاً بالشبه العقلية التي يحتجون بها، ورد عليها، وقرر أدلته من الكتاب والسنة، وهو من أوسع من تكلم على موضوع النسخ، ومن أحسن من تكلم فيه، حتى الآيات التي ذكرها، وأوردها أورد الآيات المشهورة التي هي أقوى ما ادعي فيه النسخ، وهي ما يقرب من إحدى وعشرين آية، التي أوردها السيوطي في الإتقان، ونظمها، وتجدون شرحها للشنقيطي - رحمه الله - وعليها تعليق يسير في ملحق آخر الأضواء.
لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة، وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك.هذه ردود عليهم، وهي ليست ردود عقلية، وإنما هي ردود موجودة، ويعرفونها فيما خوطبوا به من شرعهم.
وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل ، وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة، وما بعدها، وأمر إبراهيم بذبح ولده  ثم نسخه قبل الفعل.طبعاً هذه الأشياء كلها يقرون بها، ولا ينكرونها، بغض النظر عن الذبيح من هو.
وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كي لا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك، ويصدفون عنها.
وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا يصرف الدلالة في المعنى إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد ﷺ، والأمر باتباعه.
يعني هم قد يتمحلون في الإجابة عن هذه الأدلة التي تورد عليهم من تحريم الجمع بين الأختين، وما أشبه ذلك مما أورده، يقول: لكن هذه الأجوبة هي أجوبة لفظية لا تقوى على إبطال هذه الحجج، والبراهين، يعني هم يتمحلون، ويتكلمون في الجواب عنها، لكن ذلك هو مجرد كلام لا قيمة له حيث لا يصل بقوته إلى رد هذه الأدلة، هذا هو المراد بقوله: وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، يعني ما يتفوهون به، ويتكلمون به في الجواب عنها لا يصرف الدلالة في المعنى، والمقصود أن محصلة هذه الأدلة هي أن النسخ ثابت، بغض النظر عما سموه به، أو تمحلوا في الجواب عنها، فإن الحقيقة واضحة، وثابتة في هذا.
وكما في في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد ﷺ والأمر باتباعه.
وأقصد أنه ماذا عسى أن يقول الإنسان من هؤلاء الناس، يمكن أن يقول: إن هذه أصلاً كانت مؤقتة ثم بعد ذلك جاء حكم جديد، أو يقولون: هذا حكم مؤقت، وغير ذلك من الأجوبة اللفظية، فنقول: إن ذلك لا يغير الحقيقة فهذا هو النسخ، فهذه أجوبة لفظية، لكن المعنى ثابت، وهو أن هذا نسخ، وأنت سمِّه بما شئت.
فإنه يفيد وجوب متابعته - عليه الصلاة والسلام - وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل: إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته فلا يسمى ذلك نسخًا.وهذا مما يمكن أن يجيبوا به عن أفراد تلك الأدلة السابقة، يقول لك: هذه مغياة بغاية، والمغيا بغاية ليس بنسخ.
ومسألة المغيا بغاية فيها تفصيل، وهو أنواع: منه ما حُدَّ بغاية معلومة، يقول: افعلوا كذا إلى وقت كذا مثلاً، فهذا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187] فهذا ليس بنسخ، فإذا دخل الليل لا يعتبر حكم الإمساك عن الأكل والشرب منسوخاً، وأما ما يفترض فيه من العبارات فإن ذلك لم يرد، كأن يقول مثلاً: اعملوا بالحكم الفلاني حتى كذا، يعني اعملوا به حتى السنة الرابعة للهجرة مثلاً، فهذا غير موجود، وإنما هي افتراضات يذكرها العلماء ليبينوا، ويوضحوا أن ذلك ليس من قبيل النسخ، ثم يختلفون في بعض الصور، هل هو من المغيا بغاية، أو ليس من المغيا بغاية، كقوله - تبارك وتعالى -: أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً عند قوله في سورة النساء: وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [سورة النساء:15] فهل هذا من المغيا بغاية، ثم لما جاء حكم الجلد، والرجم لم يكن ذلك من قبيل النسخ؛ لأنه مغيا بغاية، أم أن هذا ليس من المغيا بغاية، وأن الجلد، والرجم ناسخ لآية الحبس في البيوت، والأذى؟
هذا يختلفون فيه، وسبب الاختلاف هو العبارة فقط، فصار عندنا الآن هذه الصور الثلاث، ولا شك من حيث المبدأ أن ما غُيا بغاية ليس من قبيل النسخ، لكن يبقى أن هذه الصورة يختلفون فيها هل هي منه، أو لا، مع اتفاقهم على الأصل.
وأما ما يذكر من الصور الواضحة الصريحة فهي من قبيل الافتراضات فحسب، كأن يقول: لو قال لهم افعلوا كذا، إلى وقت كذا.. الخ، وأما ما يتضح فإنه ليس من قبيل النسخ إطلاقاً، كقوله: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187].
فالحاصل أن هؤلاء أهل الكتاب يمكن أن يتمحلوا فيقولون: هذا من قبيل المغيا بغاية، فنقول: سموه بما شئتم فهو نسخ.
فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187]، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد ﷺ نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهداً بالله - تبارك وتعالى -.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود - عليهم لعنة الله - حيث قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:106-107] الآية، فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [سورة الأعراف:54].
وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطاباً مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [سورة آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره، والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه.
في الآية: كُلُّ الطَّعَامِ رد عليهم بكل الأحوال حيث زعموا أن الله حرم عليهم أشياء فبين لهم أن الطعام جميعاً كان حلاً ليعقوب ﷺ إلا ما حرم على نفسه، وخبره أنه حينما أصابه ذلك الداء وهو عرق النسأ، فالذي حصل أنه نذر إن شفاه الله أن يحرم أطيب الطعام والشراب إليه، فكان أطيب الطعام، والشراب إليه لحوم الإبل، وألبانها، فحرمها على نفسه، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، ثم بعد ذلك أحل لهم أشياء على لسان عيسى ﷺ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران:50] ثم هذا التحريم حتى لو قلنا: إنه من الله ابتداءً كما يزعمون هم، فهو نسخ بأن كانت مباحة لمن قبله فجاء التحريم في شريعة يعقوب ﷺ.
والله أعلم
  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج1 / ص 134).
  2. أخرجه أحمد (ج 3 / ص 338) وأبو يعلى (ج 4 / ص 102) وابن أبي شيبة (ج 5 / ص 312) والبيهقي في الشعب (ج 1 / ص 199)، وحسنه الألباني في المشكاة (177).

مرات الإستماع: 0

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:106، 107].

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نرفع أو نبدل مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا فسَّرَه جمع من أهل العلم برفعها من القلوب، وهذا الموضوع فيه كلام كثير لأهل العلم في تحديد المراد من هذه الجملة: أَوْ نُنسِهَا وفيه قراءتان متواترتان، فهذا الموضع من أهل العلم من يقول: أَوْ نُنسِهَا يعني: نُأخر الإنزال، لكنه مع أنه فيما يبدو لأول وهلة قريب إلا أنه يرد عليه إشكال قوي، وهو أن الله قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فإذا كان المعنى هو تأخير الإنزال فكيف قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا مع أنها ستنزل، ولكن أخّر الله إنزالها إلى الوقت الذي قدره لذلك، فعلى كل حال نأتي لكم بأنفع منها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو نأتي بمثلها في التكليف والثواب.

أَلَمْ تَعْلَمْ أيها النبي، أو من يصلح أن يتوجه إليه هذا الخطاب: أن الله قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فهذه الآية تتحدث عن قضية النسخ، وهي نص صريح في ذلك، فلا يصح لأحد أن ينكر وقوع النسخ في كتاب الله -تبارك وتعالى- فالله مصرحٌ بذلك في هذه الآية: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا هذا بالإضافة إلى مواضع أخرى من كتاب الله كقوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] فهذا أيضًا من قبيل النسخ، لكنه نسخ لما ثبت في السنة.

وكذلك أيضًا في الصدقة بين يدي النجوى فهو نسخ لما جاء بالقرآن: أأشفقتم [سورة المجادلة:13] فعلى كل حال شواهد النسخ ثابتة وواضحة وصريحة، وليس لأحد أن ينكره، وقد وجد شذوذ في الزمن القديم من أنكره، ولا عبرة بإنكاره، ولكن قد تروج مثل هذه المقالات في مثل هذه الأوقات، ويتلقفها كثيرون، إما محبة في المخالفة والإغراب، أو لشبهة ربما عرضت لهم من قبل بعض من يثير مثل هذه القضايا.

وقد قال الإمام القرطبي -رحمه الله: بأن النسخ لا ينكره إلا الجهلة الأغبياء[1] يعني: أنه قضية مقررة عند أهل العلم لا إشكال فيها.

فيُؤخذ من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- إذا منع عباده المؤمنين شيئًا تتعلق به إرادتهم فتح لهم بابًا أنفع لهم منه، وأسهل وأولى، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في كتابه القواعد الحسان[2] فهنا: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وكذلك في مثل قوله تعالى في غير باب النسخ: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ [سورة النساء: 130] والله -تبارك وتعالى- عليم حكيم.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنَّ أحكام الله -تبارك وتعالى- تختلف وتتفاوت في الخيرية من زمان لآخر، فقد يكون الحكم خيرًا للعباد في وقت، ويكون غيره أفضل منه في وقت آخر، كما دلت عليه هذه الآية: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: تطمين النفوس، حينما توجد بواعث القلق فيها، فقضية النسخ (رفع الأحكام) ربما تكون مشوشة لبعض الأذهان، كما في تحويل القبلة، كما قال الله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] تحويل القبلة التي هي شعار لأهل الإيمان، ولأهلها ولأهل الملة، ليس بالشيء السهل، ولكن الله -تبارك وتعالى- ذكر معه من التطمينات وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ ولما صار اليهود يشغبون على هذه القضية، فيقولون: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ردّ عليهم بقوله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] فله الجهات كلها، وهو الذي يوجه إلى عباده إلى ما شاء منها، هداية منه -تبارك وتعالى- لهم عن علم وحكمة.

كما أن الله -تبارك وتعالى- أيضًا هو القادر على كل شيء، قادر على تغيير الأمور الحسية، والأمور المعنوية، يغير ما شاء في أحوال هذا الكون ومجرياته، وكذلك أيضًا يغير ما شاء من شرائعه وأحكامه، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] في ختم هذه الآية المتعلقة بالنسخ.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] ألم تعلم أيها النبي، وهذا الخطاب يمكن أن يكون موجهًا إلى كل من يصلح له توجيه الخطاب، أو أنَّ النبي ﷺ قد خُوطب بذلك ويكون هذا الخطاب موجهًا للأمة؛ لأن الأمة تخاطب في شخص مقدمها وقدوتها -عليه الصلاة والسلام.

فالله -تبارك وتعالى- له ملك السماوات والأرض، فله التصرف والتدبير المطلق الذي لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويُشرِّع لعباده ويأمرهم بما شاء، وينهاهم عما شاء، فما عليهم إلا التسليم والانقياد والطاعة أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] أي: ليس هناك من يتولاكم، ولا ينصركم من دون الله -تبارك وتعالى- إن خرجتم عن طاعته، وعن الانقياد لشرعه وحكمه، هذا الاستفهام أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ دخل على النفي، فالنفي (لم) والاستفهام بالهمزة أَلَمْ تَعْلَمْ فهو بمعنى التقرير، يعني قد علمت ذلك، وظاهر هذا الخطاب أنه للواحد: أَلَمْ تَعْلَمْ لكن كما سبق يمكن أن يكون قد وجه للنبي ﷺ والمراد الأمة بأكملها، أو أن ذلك لكل من يصلح له الخطاب.

وكذلك أيضًا تأمّل ما في هذه الآية من الالتفات، فهنا لما قال الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا الجماعة مِن رَبِّكُم ثم قال: أَلَمْ تَعْلَمْ فانتقل من الجمع إلى الواحد، وكذلك أيضًا انتقل من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا فهذا فيه تعظيم، كما هو معلوم نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ثم بعد ذلك انتقل إلى الغَيبة بالاسم الظاهر أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ولم يقل: ألم تعلم أننا على كل شيء قادرين، ألم تعلموا أننا، وإنما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ فهذا نوع التفات، ووضع الاسم الظاهر (لفظ الجلالة) في الموضع الذي يصح فيه الضمير، وفيه من التفخيم والتعظيم لتربية المهابة ما فيه.

وكذلك أيضًا مَن عَلِم بأن الله -تبارك وتعالى- هو وليه، لا ولي له، ولا نصير سوى الله -تبارك وتعالى- يعلم أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له، فيفوض أمره إلى الله، فإلى أين المصير؟ وإلى أين المفر؟ فمن كان واثقًا بعلم الله وحكمته وقدرته وإحاطته بكل الأمور، فإنه يركن إليه، ويطمئن إلى تشريعه وحكمه وتقديره، فلا يكون في قلبه أدنى اعتراض أو تشكك، أو تردد في صحة أحكامه الكونية القدرية، أو في صحة أحكامه الشرعية.

فالله -تبارك وتعالى- له الحكم، وإليه يرجع الخلق، فما عليهم إلا التسليم والإذعان، وإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- له ملك السماوات والأرض، وليس للعباد من دونه من ولي يتولاهم، ولا نصير ينصرهم، فإنه ينبغي أن تتوجه القلوب إليه، وأن يكون موضع الرغبة والرهبة، وأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، فيفر العبد منه إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه فيُتقى حق التقوى، ولا يجترئ العبد على معصيته ومخالفته، فإنه ليس له من دونه من ولي ولا نصير.

وربنا الذي نتعامل معه له ملك السماوات والأرض، فخزائنها بيده، فبيده الإمداد والعطاء والمنع، وبيده كل شيء، فينبغي أن يكون القلب منعقدًا على خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والثقة بما عنده، واليقين بذلك كله، وبهذا يحصل سلامة الوجهة والقصد لدى العبد، ويكون موحدًا لربه -تبارك وتعالى- لا يلتفت إلى شيء سواه، فيكون ربه هو الذي يُدبِّره، فإذا شرّع تشريعًا قابله العبد بالإذعان والقبول والتسليم، وإذا قدّر تقديرًا فإن العبد أيضًا يتقبل ذلك عن ربه -تبارك وتعالى- غير متسخط له، وإنما يسلم لأحكامه الشرعية، وأحكامه القدرية، فيكون قد رضي به ربًا.

فالرب هو الذي يتصرف بالمربوب، ويربيه ويرببه، ويصلح شأنه، وهو سيده ومالكه، كل ذلك من معاني الرب، وهو حقيقة الرضا به -تبارك وتعالى- ربًا وإلهًا ومعبودًا، فنحن نقول كل يوم: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبينًا، فيبغي أن يكون ذلك واقعًا نشهده ونعيشه، فيكون العبد في غاية الإذعان والاستسلام والانقياد والطاعة والاستجابة، فيكون مراقبًا لربه في كل أحواله، فلا يطلع ربه على شيء في قلبه من سخط، أو اعتراض، أو تردد، أو شك، أو وجهة إلى غيره -تبارك وتعالى- فحينما يرائي الإنسان بعمله، أو يُسمع به، أو حينما يتعاظم في نفسه، فيعجب، فالله يعلم خطرات النفوس، ويعلم ما يحصل في القلوب من توحيد وضده، ومن محابه ومساخطه، وكذلك أيضًا في أعمال الجوارح. 

  1.  تفسير القرطبي (2/ 62). 
  2.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 124).