الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝  أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:106-107] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج عن مجاهد: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أي: ما نمحُو من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: نثبت خطها، ونبدل حكمها.
القولين الأولين الذين ذكرهما - ما نبدل من آية، وما نمحُو من آية - بينهما مقاربة لا تخفى، وذلك أن النسخ في لغة العرب يأتي لمعنيين، الأول: بمعنى النقل، وذلك إما مع بقاء الأصل المنقول، كما تقول: نسخت الكتاب، فأصله باق، وإنما نقلت صورته، وإما أن يكون مع انتقال أصله، فأنا لما أنقل هذا الكتاب من هنا وأضعه هاهنا، فهل بقي أصله في مكانه؟ الجواب: لا، فالنقل يكون على صورتين: إما مع بقاء الأصل المنقول كنسخ الكتاب، فيبقى أصله، وإما بنقله بالكلية بحيث لا يبقى أصله.
والمعنى الثاني من معاني النسخ هو بمعنى الإزالة، والرفع، وإن شئت أن تقول: الإبطال، وذلك يأتي أيضاً على صورتين، الأولى: إزالة يحصل بها ما يحل مكان هذا الذي أزيل مثلاً لما تقول: نسخت الشمس الظل، فالذي حل محل الظل هي الشمس، وهناك إزالة، وإذهاب من غير أن يحل مكانه غيره مثل أن تقول: نسخت الريح الأثر، بمعنى محته، وأزالته، وأذهبته، فهل جاء مكانه شيء آخر؟ الجواب: لم يأت مكانه شيء آخر.
فالنسخ يأتي لمعنيين يقع كل واحد منهما على صورتين، والمشهور عند أهل العلم حينما يرجعون النسخ إلى أصل معناه اللغوي أنهم يفسرونه بالثاني الذي هو بمعنى الرفع، بصرف النظر عن صورة هذا الرفع هل هو رفع، وإذهاب مع إيجاد البديل، أو رفع بالكلية للشيء من أصله دون أن يوجد شيء آخر مكانه بناءً على الكلام المعروف، وهو سيأتي إن شاء الله عند قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106] هل النسخ لا بد فيه من بدل، أو لا يشترط البدل هذه قضية خلافية، لكن بغض النظر عن خلافهم فيها فعامة الأصوليين، والمفسرين يفسرون النسخ بمعنى الرفع، ولهذا يقولون في معناه الشرعي بأنه رفع حكم شرعي متقدم بخطاب متراخ عنه، فهذا أحد التعريفات التي يذكرونها، فالمقصود أنهم يعبرون بلفظ الرفع.
بل إن عامة أهل الأصول يفرقون بين النسخ، وبين غيره مما قد يعبر السلف عنه بالنسخ من كل ما يعرض للفظ من تخصيص للعموم أي: مما يغيره عن ظاهره، كتخصيص للعموم، وتقييد للمطلق، وما أشبه ذلك مما يسمونه بالنسخ، فعامة أهل الأصول يجعلون النسخ من قبيل الرفع، وأما تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، ونحو ذلك يجعلونها من قبيل البيان، وهذا نحتاج إليه عند القراءة في الأصول عند الكلام على بعض المعارضات، حيث لما يتكلمون مثلاً على قضية الآحاد، هل يرفع المتواتر؟ وهل يُرفع القطعي بالظني؟ وهل السنة تنسخ القرآن.. إلى آخره، فتجد أن من يمنع من بعض هذه الصور، إذا قيل له: هل السنة تخصص القرآن، يقول: لا، وإنما هذا بيان، والنسخ رفع.
وإذا جاء يتكلم على نسخ المتواتر بالآحاد قيل له: هل الآحاد يخصص المتواتر؟ يقول: نعم، فيقال له: ولماذا لا ينسخه؟ فيقول: لا، ذاك بيان، وهو أخف، والنسخ رفع، ولا يقوى على رفعه إلا ما يكافئه، أو يزيد عليه.
وهذه في الحقيقة إنما هي شبه؛ إذ إن الراجح في هذا أن السنة تنسخ القرآن، والآحاد ينسخ المتواتر بصرف النظر عن التطبيقات التي تذكر فليست القضية في مثال، وعلى كل حال هذا الذي مشى عليه عامة أهل العلم.
ابن جرير - رحمه الله - لا ينكر النسخ أبداً وهو يذهب إلى أن النسخ بمعنى النقل، وكلام ابن جرير هذا إذا أردنا أن نوجهه فإنه يقصد به نقل الحكم من حال إلى حال، ونقل المكلف من حكم إلى حكم، فالمكلف كان مطالباً باستقبال بيت المقدس، ثم نقل منه إلى استقبال الكعبة، فهنا نُقل الحكم من وجوب استقبال بيت المقدس إلى وجوب استقبال الكعبة، فهذا بمعنى النقل، فهو فسره بمعنى النقل، أي نقل الحكم، وإن شئت أن تقول أيضاً: نقل المكلف من هذا الحكم إلى حكم آخر، كأن يكون نقل الحكم من الوجوب إلى الاستحباب.
وإذا كان ذلك هو المراد فالخطب يسير، فإننا إذا أثبتنا النسخ فالخلاف في إرجاعه إلى أصل معناه اللغوي هل يرجع إلى معنى النقل أو إلى معنى الرفع فالقضية أشبه ما تكون بالخلاف اللفظي، ولا يترتب عليه أثر من الناحية العملية.
ولذلك تجد بعض أهل العلم يقولون: بإن النسخ يأتي بمعنى النقل، ويأتي بمعنى الرفع، فإن فسرناه بمعنى النقل فهو لأن المكلف قد نقل من كذا إلى كذا، أو أن الحكم قد نقل من كذا إلى كذا، وإذا فسرناه بمعنى الرفع فهو رفع الحكم الأول بخطاب متراخ عنه.
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: نثبت خطها ونبدل حكمها.
قوله: عن مجاهد: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: نثبت خطها: هذا نوع من أنواع النسخ وليس هو كل النسخ، وإلا فقوله تعالى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ..) فإن خطها هو الذي قد نسخ وأما حكمها فباق، فالمقصود أنه ذكر نوع من أنواع النسخ فلا حاجة أن يقال: إن قوله هذا غلط.
حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك.
وقال السدي: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ نسخها: قبضها، وقال ابن أبي حاتم: يعني: قبضها، ورفعها، مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..)، وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا".
القبض بمعنى الرفع.
وقال ابن جرير: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحوَّل الحلالُ حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر، والنهي، والحظر، والإطلاق، والمنع، والإباحة.
هو ذكر هنا أقسام الحكم التكليفي، وبين أن النسخ إنما يكون في الإنشاء بمعنى الأمر والنهي سواءً كان على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو النهي، سواءً كان على سبيل التحريم، أو الكراهة، يعني النهي الجازم والنهي غير الجازم، والأمر الجازم، وغير الجازم، وبقي طرف خامس وهو الإباحة، والمقصود بها هنا قطعاً الإباحة الشرعية، وليست الإباحة الأصلية، فالإباحة الأصلية لا يكون رفعها من قبيل النسخ، وإنما يكون ابتداء حكم جديد، وإنما المقصود رفع الإباحة الشرعية، يعني الإباحة التي صدرت من الشارع بأن أباح لهم هذا الشيء، ثم حرمه مثلاً، فهذا هو الذي يكون من قبيل النسخ مثل المتعة، لما رخص لهم في المتعة صار حكم المتعة مباحة إباحة شرعية، ثم لما حرمت صار ذلك من قبيل النسخ، لكن الأشياء التي كانوا يتعاطونها قبل مجيء الشرع، ثم جاء الحكم بتحريمها – مثلاً - فإن ذلك يكون من قبيل فرض الأحكام الجديدة، وليس من قبيل النسخ.
وكذلك الأمر في الواجبات، والمستحبات، فالصلاة قبل أن تجب عليهم مطلقاً كان الأصل براءة الذمة، وبالتالي فإن وجوب الصلوات بعد ذلك ليس ناسخاً وهذا معنى كلام ابن جرير، وكلامه واضح حيث يصرح فيه بأن النسخ بمعنى النقل.
فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ، ولا منسوخ.
لو سأل سائل وقال: لماذا لا يكون في الأخبار ناسخ، ومنسوخ؟ فالجواب هو أنه لا يصح ذلك؛ لأن النسخ هنا يكون تكذيباً، فلو قلت: ذهب زيد، ثم قلت: لم يذهب زيد فإن هذا تكذيب للخبر؛ ولذلك لا يقع النسخ في الخبر إلا إذا كان مضمناً لمعنى الأمر، أو النهي بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233] فهذا ظاهره الخبر، ومعناه الإنشاء، وهو الأمر، فهو يأمرهن أن يرضعن أولادهن حولين كاملين، ثم بين أن هذا ليس على سبيل الإلزام، والوجوب فقال: لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [سورة البقرة:233].
وكذلك في مثل قوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [سورة البقرة:240] فهذا ظاهره الخبر، ومعناه الإنشاء.
وكذلك في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] فهذا خبر مضمن معنى الإنشاء، بمعنى أنه أمر من الله لأهل الإيمان أن لا يمكنوهم من دخولها إلا في حال الهدنة، أو إعطائهم الأمان، ونحو ذلك، فيدخلون في حال من الخوف إلى هذه الأماكن، والأمثلة على ذلك كثيرة، والله تعالى أعلم.
فإذا قيل: إن النسخ لا يكون في الأخبار فالمقصود الخبر الذي هو خبر صيغةً، ومعنىً، وما عدا ذلك مما يراد به الخبر المحض فإنه لا يدخله.
ويقولون كذلك: إن النسخ لا يدخل في الثوابت، وأصول الدين، فلا يدخل في العقائد، ولا في أصول الأخلاق.
وأصل النسخ من نسَخَ الكتاب وهو نقلُه من نسخة.
يصلح أن يكون من نَسَخ الكتاب، وأن يكون من نَسْخ الكتاب بمعنى نقله، ولو كان يقصد هنا من نَسَخ الكتاب لقال: ومن نَسَخ الكتاب إذا نقله.
وأصل النسخ من نسْخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره.
نسْخ الكتاب كما قلنا يكون مع بقاء الأصل، لكن النسخ الذي لا يكون مع بقاء الأصل مثل ما ذكرنا: نسخت الريح الأثر، ومن ذلك قول الله : فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [سورة الحـج:52] بمعنى الإزالة، والإبطال، أي: يبطل الله ما يلقي الشيطان.
فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله، ونقل عبَارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها، أو خطها؛ إذ هي كلتا حالتيها منسوخة.
وقوله تعالى: أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ فقرئ على وجهين: "ننسأها، ونُنْسها".
هاتان قراءتان متواترتان، بفتح النون.
والهمزة بعد السين فمنها نؤخرها.
ونُنْسها هذه قراءة أبي عمر، وابن كثير من السبعة، وأما من قرأها بفتح النون، والهمزة نَنسأها فهي بمعنى التأخير، أي نؤخرها، والمعنى نؤخرها عن النسخ، فلا ننسخها، تقول: نسأت هذا الأمر بمعنى أخرته، ويقول الله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة] فالنسيء بمعنى التأخير، أي أنهم يؤخرون الأشهر الحرم، فالشهر الحرام هو مثلاً شهر رجب فيعلنون في الحج، ويقولون: السنة القادمة سيكون الشهر الحرام هو شعبان، والسنة التي بعدها يجعلونه رمضان، والسنة التي بعدها يجعلونه شوال، وهكذا، وهذا أحد المعاني التي فسر بها قول النبي ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض[1] قالوا: بمعنى أنه وافق شهرُ ذي الحجة شهرَ ذي الحجة الذي كان على هيئته التي جعله الله  عليها من غير تأخير، ويقولون: الحجة التي حجها أبو بكر لم تكن في ذي الحجة، وهذا الكلام على هذا التفسير بغض النظر على هذا المعنى، والمقصود أن قوله: أو ننسأها بمعنى أو نؤخرها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [سورة البقرة:106] يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : أَوْ نُنسِأهَا نثبت خطها، ونبدل حكمها.
قول ابن عباس: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها: نحن قلنا: ننسأها بمعنى نؤخرها عن النسخ، وهذا معنى نتركها فلا ننسخها، فقول ابن عباس هذا يمكن أن يكون تفسيراً لقراءة الفتح – ننسأها -، ويمكن أن يكون تفسيراً لقراءة الضم – ننسها -؛ يمكن ذلك؛ لأن ننسها أيضاً يمكن أن يكون من معنى الإنساء الذي هو بمعنى ذهاب المعلوم
ذهاب ما علم قل نسيان والعلم في السهو له اكتنان
فالفرق بين النسيان، والسهو أن السهو المعلوم مكتن، أي أن المعلومة مكتنة في الذهن لكنه سها عنها، لكن النسيان هو ذهاب المعلوم، فيمكن أن يكون قوله: أَوْ نُنسِهَا من النسيان الذي هو إذهابها أصلاً من القلب، ويمكن أن يكون ذلك من معنى الإنساء الذي هو بمعنى التأخير.
فقول ابن عباس يحتمل أن يكون تفسيراً لقراءة الفتح، وقد يحتمل أن يكون هنا تفسيراً لقراءة الضم، لكن بعض الأمثلة في التفسير لآية، أو لفظة فيها قراءتان أحياناً لا يحتمل التفسير إلا أن يكون تفسيراً للقراءة الأخرى مع أنها أحياناً لم تذكر، فهو ليس بقول آخر في المسألة، وإنما هو تفسير للقراءة الأخرى.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : أَوْ نُنسِأهَا نثبت خطها ونبدل حكمها.
قوله: نثبت خطها، ونبدل حكمها: هذا يكون من قبيل التفسير بالمثال فحسب، ولا يحمل على شيء آخر، أي أنه قرب المعنى بصورة من الصور التي يقع عليها النسخ.
وقال عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء: أَوْ ننسأها نؤخرها، ونرجئها، وقال عطية العوفي: أَوْ ننسأها نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضاً، وكذا الربيع بن أنس.
وأما على قراءة أَوْ نُنْسِهَا فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا قال: كان الله ينسي نبيه ﷺ ما يشاء، وينسخ ما يشاء.
هذا بمعنى ينسيه ﷺ فقوله: نُنْسِهَا من النسيان، فالنسيان ذهاب المعلوم بمعنى يرفعها من القلوب أصلاً - هذا احتمال - ويحتمل أن يكون النسيان بمعنى الترك، كما في قوله: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67]، وقوله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، والله  كما قال عن نفسه: قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طـه:52] فالله تعالى لا يضل ولا ينسى، ومعنى لا ينسى بمعنى لا يحصل له النسيان الذي هو بمعنى ذهاب العلم، وإنما يفسر النسيان في حق الله بمعنى الترك، فقوله: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] بمعنى أنه تركهم في العذاب.
فهنا في قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا: قال: كان الله ينسي نبيه ﷺ ما يشاء، وينسخ ما يشاء: يمكن أن يفسر هذا على قراءة الضم، ويمكن أن يفسر أيضاً على قراءة الضم بمعنى الترك، يعني أَوْ نُنسِهَا أي: نتركها، فلا نبدلها، ولا ننسخها، فيكون بهذا الاعتبار عائداً إلى الأول، وهو نتركها، وهذا الذي اختاره ابن جرير فيكون قد ذكر النسخ، ومقابله، والذي يقابل النسخ المقصود به الترك، أي عدم النسخ، فهو ذكر الحالين، وهذا القرينة التي جعلت ابن جرير - رحمه الله - يفسر قوله: أَوْ نُنسِهَا بمعنى نتركها يعني نتركها من النسخ، قال: إنه ذكر الأول، وذكر الثاني المقابل، أي ذكر النسخ، وذكر ترك النسخ، واضح؟
وقوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106] أي: في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ فلا نعمل بها أَوْ نُنسأهَا أي: نرجئها عندنا، نأت بها، أو نظيرها.
بعضهم يفسر أو ننسأها بمعنى أنها لا تنزل أصلاً، ولكن هذا فيه إشكال، وعلى كل حال قوله هنا: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا هذا وعد من الله ، وهذه الآية أصل في الكلام على مسألة أصولية معروفة في باب النسخ، وهي هل يكون النسخ إلى غير بدل، أو لا بُد فيه من البدل؟
الذين قالوا لا بد فيه من البدل كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم، وجماعة من أهل العلم احتجوا بهذه الآية، قالوا: هذا وعد من الله، وهو لا يتخلف، والقول بأن النسخ يكون إلى غير بدل، تكذيب لهذا النص.
والذي عليه الجمهور أن النسخ يصح من غير بدل، ولكن كيف يفسرون هذه الآية؟
يقولون: الله يقول: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا المقصود أن الشارع لا يترك المكلفين هملاً من غير حكم، فلا بد من حكم، فالتخفيف بمعنى ترك الإيجاب أصلاً، هذا تخفيف، ورحمة، فهو خير لهم من هذه الجهة حيث خفف الله عنهم، ورفع هذا الحكم بالكلية، وهذا هو الخير بالنسبة لهم، فلم يتركهم هملاً، بعد أن كان يجب عليهم هذا الأمر صار لا يجب.
ومثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن قال بقوله يقولون: قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا إذا رفع الوجوب بقي الاستحباب، وأوضح مثال لهم يمثلون به على هذا هي آية النجوى، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [سورة المجادلة:12]، فهذه الآية كان يجب على الواحد منهم أن يقدم بين يدي المناجاة للنبي ﷺ صدقة، ثم خفف الله عنهم بعدها حيث قال سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المجادلة:13].
شيخ الإسلام - رحمه الله - وابن القيم يقولون: الصدقة بقيت مستحبة، وإنما رفع الوجوب فقط، وأولئك يقولون: لا، بل رفع الحكم بالكلية، فلا يحتاج المناجي إلى تقديم صدقة، لكن لو سألت هؤلاء: ما حكم الصدقة بين يدي المناجاة؟ لقالوا: إنها مستحبة، فإن قيل: إذن أنتم توافقونهم؟ سيقولون: نحن لا نخص ذلك بين يدي مناجاة النبي ﷺ هل نقول: إنه يؤجر أم يأثم؟ سيقولون يؤجر.
فالمقصود أن خلافهم إذا نظرت إليه بهذا الاعتبار فإنه يكاد أن يكون خلافاً لفظياً، فهؤلاء يوجهون البدل إلى أن الشارع لم يتركهم هملاً فأبقى لهم مثلاً الإباحة بدلاً من التحريم، وهذا خير للمكلفين من جهة التخفيف، وأولئك قالوا: لا، بل ينسخ الوجوب ويبقى الاستحباب، يقال لهم: وهل وإذا نسخ التحريم تبقى الكراهة؟!.
فالذي أظنه - والله تعالى أعلم - أن النسخ يكون إلى غير بدل، ويوجَّه ذلك بما ذُكر وهو أن البدل هو التخفيف، فبدلاً من التحريم صار ذلك الأمر مباحاً، وبدلاً من الوجوب صار ذلك لا يجب، وقد يبقى مستحباً، وقد لا يبقى، فإن بقي مستحباً فذاك نسخ إلى بدل خاص بهذا الحكم المعين، والله تعالى أعلم.
لكن هذه المسألة هل يترتب عليها شيء من الناحية العملية التطبيقية، ما الذي يترتب عليها؟
لا يترتب عليها شيء بهذه الطريقة التي ذكرت - نسخ إلى بدل ونسخ إلى غير بدل - ونبقى في مناقشة أوضح مثال، وهو تقديم الصدقة بين يدي المناجاة ماذا نقول فيه؟
إذا نظرنا إلى هذه القضية سنقول: هل بقيت الصدقة مستحبة بين يدي المناجاة، أو أنه لا يجب، ولا يستحب؟ وهل الذين يقولون بأن النسخ إلى غير بدل، يقولون: لا تستحب الصدقة؟
لا، بل يقولون: تستحب الصدقة في هذا الموضع، وفي غيره، وذلك أنه إذا أذنب تصدق، ويتصدق ابتداءً، ويتصدق بين يدي دعائه، ويتصدق في كل أحواله، فالمسألة إذا نظرت إليها لا تترتب عليها أمور، وهذا بخلاف بعض المسائل الأخرى مثل: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فهذه يترتب عليها أشياء فيما لم يرد في شرعنا ما يخالفه هل هو شرع لنا أم ليس بشرع لنا؟ والله أعلم..
وقال السدي: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نأت بخير منها في العاجل بالتخفيف، وإذا كان النسخ إلى أثقل، حيث قد ينسخ الحكم إلى الأخف، وقد ينسخ إلى الأثقل، كما قال صاحب المراقي:
ويُنسخ الِخفُّ بما له ثِقَلْ وقد يجيء عارياً من البدل
ومثال نسخ الأخف بالأثقل تحريم شرب الخمر بعد أن كان مباحاً بشرط أن لا يقربوا الصلاة في حال السكر، فيشربونه من بعد الفجر فإذا جاء الظهر يكون قد أفاق، ثم حرم بالكلية، وهذا على القول بأن تحريم الخمر نسخ، ومثل ذلك صوم عاشوراء حيث كان واجباً، ثم نسخ الوجوب إلى الاستحباب بصيام رمضان فهو نسخ إلى الأثقل.
ووجه الخيرية هنا كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، وجماعة من أهل العلم: الخيرية في الآجل يعني بالأجر، والمثوبة عند الله فالأجر على قدر المشقة، ويمكن أن يكون في العاجل أيضاً من جهة أنه زيادة في التكاليف، ولا شك أنها تستصلح بها نفوسهم، وتستقيم أحوالهم، والشارع عليم حكيم، فصوم رمضان خير لهم من صوم عاشوراء، فيحصل لهم من الخيرات العاجلة بصيام رمضان ما لا يخفى، وكذلك تحريم الخمر خير لهم في العاجل، ونسخ المتعة خير لهم في العاجل، وقل مثل ذلك في نسخ الأمور التي نسخت بالأثقل.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ[سورة البقرة:106-107] يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق، والأمر، وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصحُّ من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ويختبر عباده، وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم - لعنهم الله - في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً، وكفرا،ً وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراءً، وإفكاً.
لما ذكر الله النسخ عقبه بهذا التعقيب: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] عقبه بهذا الاستفهام الذي يمكن أن يفسر في معناه الاستفهام التقريري، يعني قد علمت أن الله على كل شيء قدير، ولا شك أن النبي ﷺ يعلم ذلك، فإذا فسر بهذا المعنى فلا إشكال فيه.
وبعضهم يقول: إن ذلك فيه خطاب للنبي ﷺ في ظاهره، ولكن المراد غيره - عليه الصلاة والسلام - ممن استبعدوا النسخ، أو أنكروه، فيكون بهذا الاعتبار من قبيل الاستفهام الإنكاري، فهو ينكر عليهم: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فلا يمتنع عليه ذلك، فهو ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء.
  1.     أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [سورة التوبة:36] (4385) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج3 / ص 1305).

مرات الإستماع: 0

"ما نَنْسَخْ أي: نزيل حكمه، ولفظه، أو أحدهما، وقرئ بضم النون أي نأمر بنسخه."

مَا نَنْسَخْ نزيل حكمه ولفظه أو أحدهما. يعني نسخ التلاوة، والحكم، أو نسخ الحكم، أو نسخ التلاوة، فهذه ثلاث صور للنسخ.

الصورة الأولى: نسخ الحكم، والتلاوة. مثل حديث عائشة - ا - : كان فيما أُنزل عشر رضعات يحرمن[1] فنُسخ لفظه، وحكمه.

الصورة الثانية: نسخ الحكم فقط دون التلاوة. مثل المتاع إلى الحول فيما يتعلق بالمعتدة عدة الوفاة على قول الجمهور.

الصورة الثالثة: نسخ التلاوة دون الحكم. مثل آية الرجم، تلاوة دون الحكم، هذا المراد.

أما النسخ في اللغة: فإنه يأتي بمعنى النقل، تقول: نسخت الكتاب. بمعنى نقلته، تناسخ المواريث، ونحو ذلك، هذا معنى في اللغة، وهو الذي اختاره ابن جرير  - رحمه الله -: أن النسخ بمعنى النقل[2]. فإذا أردت أن تُركب عليه المعنى الشرعي تقول: نقل المكلفين من حكم لآخر.

ويأتي بمعنى الإبطال، والإزالة، وهذا نوعان:

النوع الأول: يكون مع إحلال غيره مكانه. تقول: نسخت الشمس الظل. فصارت الشمس مكان الظل، فهذا يكون بمعنى الإبطال، والإزالة مع إحلال غيره مكانه.

النوع الثاني: يكون من غير إحلال. لما تقول: نسخت الريح الأثر. أبطلته، ومحته، ما الذي حل مكانه؟ لا يوجد شيء، فهذا يكون بمعنى الإزالة، والإبطال، ومن هذا قوله تعالى - يعني الإبطال والإزالة -: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج: 52] يعني: يبطله، فهذا معنى الإبطال، فهذه إطلاقات للنسخ: يأتي بمعنى النقل، ويأتي بمعنى الإبطال، والإزالة بنوعيها في كلام العرب.

والنسح هو: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي متراخ عنه مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: أي نأمر بنسخه. فسره بعضهم أن ذلك من أنسخت الكتاب إنساخًا يعني وجدته منسوخًا، لاحظ مَا نَنْسَخْ قرئ بضم النون يعني (نُنْسِخ من آية) ما معنى نُنسخ؟ بعضهم يقول: هذا من أنسخت الكتاب. أي: وجدته منسوخًا، وما ذكره ابن جزي هنا: أي ما نأمر بنسخه. حكاه الأزهري، وبه فسرها السيوطي في معترك الأقران[3] فسر هذه القراءة (نُنسخ) يعني نأمر بنسخه، وعلى المعنى الأول: من أنسخت الكتاب يعني وجدته منسوخًا، لكن عبارة الأزهري: نأمر بنسخه. هذه حكاها الأزهري ولم يقلها من عند نفسه.

وفسره الأكثرون (ما نُنسخ من آية) أي: ما نزله فنمحوه من قلب النبي ﷺ وأصحابه، هذا الذي اختاره جمع: كالواحدي[4] وشيخ الإسلام ابن تيمية[5] والسعدي[6] وابن عاشور[7] وقبلهم: ابن عباس، وقتادة، والحسن، وعبيد بن عمير، والربيع[8] وقال ابن جرير معناه: الترك[9]. مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا وهذا الموضع لا يخلو من إشكال، وهو من المواضع المُشكلة، يعني وجه الإشكال فيه مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ هذا واضح: نرفع حكم هذه الآية بأنواع النسخ الثلاثة أَوْ نُنْسِهَا الانساء هنا هل معناه التأخير؟ نؤخر إنزالها، كما قد يكون المتبادر نُنْسِهَا قال بعده: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فهل إذا أخرها يأتي بخير منها، أو مثلها؟ هذا الإشكال، فالانساء يأتي التأخير، وهو المتبادر، لكن يُشكل عليه هنا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وقد يكون الانساء هنا بمعنى أنها تُرفع من القلوب، فتُمحى من قلب النبي ﷺ ومن قلوب الصحابة  أَوْ نُنْسِهَا هذا لا يُشكل عليه آخر الآية، وهذا الذي اختاره هؤلاء من ذكرت لهذا السبب - والله أعلم - نُنْسِهَا ليس معناها التأخير، وإنما الرفع من القلوب هذا الذي مشى عليه الواحدي، وشيخ الإسلام، والسعدي، ومن المعاصرين: الشيخ محمد الصالح العثيمين - رحمه الله - وقبلهم ابن عباس، والربيع، وغير هؤلاء، فابن جرير يقول: أَوْ نُنْسِهَا يعني: نترك نسخها.

هذا المعنى يحتمله اللفظ لكنه فسر هنا نُنْسِهَا بمعنى الترك؛ لأن النسيان يطلق، ويراد به الذهول عن المعلوم، ذهاب المعلوم، ويأتي بمعنى الترك، فابن جرير حملها على الترك، لكنه يُشكل عليه، أو نتركها، يعني نترك نسخها: نبقيها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يشكل عليه هذا الموضع بعده، إذا تركها فلم ينسخها هل يكون بعد ذلك الوعد بالإتيان بخير منها، أو مثلها؟ إنما يأتي بخير منها، أو مثلها بدلًا منها، وهذا فيما لو أنه رفعها من القلوب، فيكون بهذا المعنى، فصارت المعاني بهذا الاعتبار ثلاثة:

المعنى الأول: نُنْسِهَا: نؤخر نزولها. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا يُشكل عليه هذا الموضع.

المعنى الثاني: نُنْسِهَا أي: نرفعها من القلوب. فهذا لا يُشكل عليه ما بعده.

المعنى الثالث: نُنْسِهَا أي: لا نرفعها، نترك نسخها كما يقول ابن جرير. فهذا يُشكل عليه ما بعده. 

يقول كثير من أهل العلم: بأن النسخ لا يقع إلا لبدل. أخذًا من هذه الآية، لا بد من البدل سواء كان مساويًا أو أخف أو أثقل؛ لأنهم قالوا: هذا وعد.

والذين قالوا يقع النسخ بلا بدل، قالوا: البدل هو التخفيف. وقالوا: لا تخلوا أحكام المكلفين من واحد من الخمسة التي منها الإباحة، والجواز، يعني أقسام الحكم التكليفي خمسة معروفة، فهنا اثنان في جانب الطلب: جازم وغير جازم، الواجب والمستحب، والنهي جازم وغير جازم، المحرم والمكروه، يبقى الوسط الذي هو مستوي الطرفين المباح، فهذا المباح حكم من الأحكام، فالمكلف لا يخلو من حكم فإذا لم ينزل شيء مكانه يعني لم يوجد بدل قالوا: البدل هو التخفيف والإباحة. لم يبق المكلف بدون حكم، هؤلاء هم الذين قالوا: بأن النسخ يقع إلى غير بدل. والمثال الذي يمثلون به عادة على هذا: نسخ الصدقة بين يدي مناجاة النبي ﷺ أَأَشْفَقْتُمْ [المجادلة: 13] يقولون: إلى غير بدل. هذا أشهر مثال يمثلون به، وشيخ الإسلام ابن تيمية  - رحمه الله -  يميل إلى أن النسخ يكون إلى بدل ولا بد، ويقول: إن البدل هنا أن الصدقة مستحبة، لم تنسخ بالكلية وإنما نسخت من الوجوب إلى الاستحباب. فهي باقية الاستحباب عمومًا، وبين يدي نجوى النبي ﷺ خصوصًا، فهؤلاء يقولون: لا بد من بدل حكم معين يكون مكانها.

"أَوْ نُنْسِها من النسيان، وهو ضد الذكر: أي ينساها النبي ﷺ بإذن الله كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6، 7] أو بمعنى الترك: أي نتركها غير منزلة، أو غير منسوخة، وقرئ بالهمز بمعنى التأخير أي: نؤخر إنزالها، أو نسخها."

بالهمز أي (ننسأها) بمعنى التأخير أي نؤخر إنزالها، أو نسخها، وابن جرير يرى أن قراءة هذه ترجع إلى معنى قراءة نُنْسِهَا فهي نفس المعنى بمعنى الترك عنده، بأي اعتبار؟ باعتبار أن كل متروك فهو مؤخر ما دام باقيًا على حال الترك، وعلى كل حال تفسير القراءة بالهمز بمعنى التأخير، وليس الترك، نؤخر نزولها يعني، هو مروي عن عمر وجماعة من السلف: كأبي العالية، وعطاء، ومجاهد، وعطية، وعبيد بن عمير يقولون: بمعنى التأخير.

بِخَيْرٍ في خفة العمل، أو في الثواب، أو أعم."

هذا وعد من الله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا الخيرية هنا ما المراد بها؟ يقول: في خفة العمل. يعني النسخ إلى أخف، فالنسخ قد يكون إلى أخف، وقد يكون إلى أثقل، وقد يكون إلى مساو، مساوي مثل تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، يعني نفس الجهد بالنسبة للمكلفين، وإلى أثقل مثل صيام رمضان، لما كان عاشوراء، ثم رمضان، وكان رمضان أيضًا على التأخير، ثم صار فرضًا فهذا إلى أثقل، وإذا أخف: كان يحرم عليهم الوطء ليالي الصوم مثلًا قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] فهذا إلى أخف. يقول: أو في الثواب. يعني خير في الثواب فابن جرير  - رحمه الله -  يقول: خير في العاجل بالتخفيف، وفي الآجل بالأجر. ويمكن أن يكون ذلك نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا بوجه من الخيرية من جهة نفعه، وأثره، ونحو ذلك، فالله عليم حكيم، يُشرع لعباده ما فيه نفعهم، وصلاحهم.

"قَدِيرٌ استدلال على جواز النسخ؛ لأنه من المقدورات، خلافًا لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه على الله. وهو جائز عقلًا، وواقع شرعًا، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها."

يعني هم يقولون هذا بأن شريعتهم نسخت ما قبلها، ويعترفون بذلك، فهذا من وجوه الرد عليهم، لكنهم يقولون بامتناع النسخ باعتبار أن شريعتهم لا يوجد بعدها ما ينسخها، فكانت أهواؤهم هذه حملتهم على إنكار النسخ أصلًا، وتناقضوا في دعواهم هذه حيث أقروا بأن شريعتهم قد نسخت ما قبلها، يعني في شريعة آدم - عليه الصلاة والسلام - كان يجوز أن تتزوج الأخت من الأخ من بطنين، يعني ما هو بطن واحد، فكان ذلك جائزًا؛ لأنه لا يوجد إلا أولاد، وبنات آدم لصلبه، فكان جائزًا، ثم نُسخ هذا بعد ذلك، فهو جائز عقلًا يعني لا يمنع من العقل أن يقول الحكيم في وقت: افعلوا كذا، وفي وقت آخر يأمرهم بغيره، أو يناههم عن فعله؛ لأن المصلحة تقتضيه. أما شرعًا فقد دل على ذلك هذه الآية، وغير هذه الآية من الوقائع، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها، فهذه الآية دليل صريح، وواضح على النسخ، وهكذا في قوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ۝ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 143، 144] وقائع صريحة، وللأسف يوجد من يروج إلى الآن بأن النسخ لا وجود له، ويوجد من يقبل هذا، ويتلقفه، ويجادل فيه، مع أن هذا صريح في القرآن. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، رقم: (1452).
  2. تفسير الطبري (2/471).
  3.  معترك الأقران في إعجاز القرآن (2/536).
  4.  التفسير الوسيط للواحدي (1/ 188).
  5.  مجموع الفتاوى (14/72).
  6. تفسير السعدي (ص: 62).
  7.  التحرير والتنوير (15/355).
  8.  تفسير ابن كثير (1/377).
  9.  تفسير الطبري (2/471).

مرات الإستماع: 0

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:106، 107].

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ما نرفع أو نبدل مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا فسَّرَه جمع من أهل العلم برفعها من القلوب، وهذا الموضوع فيه كلام كثير لأهل العلم في تحديد المراد من هذه الجملة: أَوْ نُنسِهَا وفيه قراءتان متواترتان، فهذا الموضع من أهل العلم من يقول: أَوْ نُنسِهَا يعني: نُأخر الإنزال، لكنه مع أنه فيما يبدو لأول وهلة قريب إلا أنه يرد عليه إشكال قوي، وهو أن الله قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فإذا كان المعنى هو تأخير الإنزال فكيف قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا مع أنها ستنزل، ولكن أخّر الله إنزالها إلى الوقت الذي قدره لذلك، فعلى كل حال نأتي لكم بأنفع منها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو نأتي بمثلها في التكليف والثواب.

أَلَمْ تَعْلَمْ أيها النبي، أو من يصلح أن يتوجه إليه هذا الخطاب: أن الله قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فهذه الآية تتحدث عن قضية النسخ، وهي نص صريح في ذلك، فلا يصح لأحد أن ينكر وقوع النسخ في كتاب الله -تبارك وتعالى- فالله مصرحٌ بذلك في هذه الآية: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا هذا بالإضافة إلى مواضع أخرى من كتاب الله كقوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] فهذا أيضًا من قبيل النسخ، لكنه نسخ لما ثبت في السنة.

وكذلك أيضًا في الصدقة بين يدي النجوى فهو نسخ لما جاء بالقرآن: أأشفقتم [سورة المجادلة:13] فعلى كل حال شواهد النسخ ثابتة وواضحة وصريحة، وليس لأحد أن ينكره، وقد وجد شذوذ في الزمن القديم من أنكره، ولا عبرة بإنكاره، ولكن قد تروج مثل هذه المقالات في مثل هذه الأوقات، ويتلقفها كثيرون، إما محبة في المخالفة والإغراب، أو لشبهة ربما عرضت لهم من قبل بعض من يثير مثل هذه القضايا.

وقد قال الإمام القرطبي -رحمه الله: بأن النسخ لا ينكره إلا الجهلة الأغبياء[1] يعني: أنه قضية مقررة عند أهل العلم لا إشكال فيها.

فيُؤخذ من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- إذا منع عباده المؤمنين شيئًا تتعلق به إرادتهم فتح لهم بابًا أنفع لهم منه، وأسهل وأولى، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في كتابه القواعد الحسان[2] فهنا: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وكذلك في مثل قوله تعالى في غير باب النسخ: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ [سورة النساء: 130] والله -تبارك وتعالى- عليم حكيم.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنَّ أحكام الله -تبارك وتعالى- تختلف وتتفاوت في الخيرية من زمان لآخر، فقد يكون الحكم خيرًا للعباد في وقت، ويكون غيره أفضل منه في وقت آخر، كما دلت عليه هذه الآية: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: تطمين النفوس، حينما توجد بواعث القلق فيها، فقضية النسخ (رفع الأحكام) ربما تكون مشوشة لبعض الأذهان، كما في تحويل القبلة، كما قال الله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] تحويل القبلة التي هي شعار لأهل الإيمان، ولأهلها ولأهل الملة، ليس بالشيء السهل، ولكن الله -تبارك وتعالى- ذكر معه من التطمينات وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ ولما صار اليهود يشغبون على هذه القضية، فيقولون: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ردّ عليهم بقوله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] فله الجهات كلها، وهو الذي يوجه إلى عباده إلى ما شاء منها، هداية منه -تبارك وتعالى- لهم عن علم وحكمة.

كما أن الله -تبارك وتعالى- أيضًا هو القادر على كل شيء، قادر على تغيير الأمور الحسية، والأمور المعنوية، يغير ما شاء في أحوال هذا الكون ومجرياته، وكذلك أيضًا يغير ما شاء من شرائعه وأحكامه، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] في ختم هذه الآية المتعلقة بالنسخ.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] ألم تعلم أيها النبي، وهذا الخطاب يمكن أن يكون موجهًا إلى كل من يصلح له توجيه الخطاب، أو أنَّ النبي ﷺ قد خُوطب بذلك ويكون هذا الخطاب موجهًا للأمة؛ لأن الأمة تخاطب في شخص مقدمها وقدوتها -عليه الصلاة والسلام.

فالله -تبارك وتعالى- له ملك السماوات والأرض، فله التصرف والتدبير المطلق الذي لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويُشرِّع لعباده ويأمرهم بما شاء، وينهاهم عما شاء، فما عليهم إلا التسليم والانقياد والطاعة أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [سورة البقرة:107] أي: ليس هناك من يتولاكم، ولا ينصركم من دون الله -تبارك وتعالى- إن خرجتم عن طاعته، وعن الانقياد لشرعه وحكمه، هذا الاستفهام أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ دخل على النفي، فالنفي (لم) والاستفهام بالهمزة أَلَمْ تَعْلَمْ فهو بمعنى التقرير، يعني قد علمت ذلك، وظاهر هذا الخطاب أنه للواحد: أَلَمْ تَعْلَمْ لكن كما سبق يمكن أن يكون قد وجه للنبي ﷺ والمراد الأمة بأكملها، أو أن ذلك لكل من يصلح له الخطاب.

وكذلك أيضًا تأمّل ما في هذه الآية من الالتفات، فهنا لما قال الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا الجماعة مِن رَبِّكُم ثم قال: أَلَمْ تَعْلَمْ فانتقل من الجمع إلى الواحد، وكذلك أيضًا انتقل من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا فهذا فيه تعظيم، كما هو معلوم نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ثم بعد ذلك انتقل إلى الغَيبة بالاسم الظاهر أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ولم يقل: ألم تعلم أننا على كل شيء قادرين، ألم تعلموا أننا، وإنما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ فهذا نوع التفات، ووضع الاسم الظاهر (لفظ الجلالة) في الموضع الذي يصح فيه الضمير، وفيه من التفخيم والتعظيم لتربية المهابة ما فيه.

وكذلك أيضًا مَن عَلِم بأن الله -تبارك وتعالى- هو وليه، لا ولي له، ولا نصير سوى الله -تبارك وتعالى- يعلم أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له، فيفوض أمره إلى الله، فإلى أين المصير؟ وإلى أين المفر؟ فمن كان واثقًا بعلم الله وحكمته وقدرته وإحاطته بكل الأمور، فإنه يركن إليه، ويطمئن إلى تشريعه وحكمه وتقديره، فلا يكون في قلبه أدنى اعتراض أو تشكك، أو تردد في صحة أحكامه الكونية القدرية، أو في صحة أحكامه الشرعية.

فالله -تبارك وتعالى- له الحكم، وإليه يرجع الخلق، فما عليهم إلا التسليم والإذعان، وإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- له ملك السماوات والأرض، وليس للعباد من دونه من ولي يتولاهم، ولا نصير ينصرهم، فإنه ينبغي أن تتوجه القلوب إليه، وأن يكون موضع الرغبة والرهبة، وأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، فيفر العبد منه إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه فيُتقى حق التقوى، ولا يجترئ العبد على معصيته ومخالفته، فإنه ليس له من دونه من ولي ولا نصير.

وربنا الذي نتعامل معه له ملك السماوات والأرض، فخزائنها بيده، فبيده الإمداد والعطاء والمنع، وبيده كل شيء، فينبغي أن يكون القلب منعقدًا على خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والثقة بما عنده، واليقين بذلك كله، وبهذا يحصل سلامة الوجهة والقصد لدى العبد، ويكون موحدًا لربه -تبارك وتعالى- لا يلتفت إلى شيء سواه، فيكون ربه هو الذي يُدبِّره، فإذا شرّع تشريعًا قابله العبد بالإذعان والقبول والتسليم، وإذا قدّر تقديرًا فإن العبد أيضًا يتقبل ذلك عن ربه -تبارك وتعالى- غير متسخط له، وإنما يسلم لأحكامه الشرعية، وأحكامه القدرية، فيكون قد رضي به ربًا.

فالرب هو الذي يتصرف بالمربوب، ويربيه ويرببه، ويصلح شأنه، وهو سيده ومالكه، كل ذلك من معاني الرب، وهو حقيقة الرضا به -تبارك وتعالى- ربًا وإلهًا ومعبودًا، فنحن نقول كل يوم: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبينًا، فيبغي أن يكون ذلك واقعًا نشهده ونعيشه، فيكون العبد في غاية الإذعان والاستسلام والانقياد والطاعة والاستجابة، فيكون مراقبًا لربه في كل أحواله، فلا يطلع ربه على شيء في قلبه من سخط، أو اعتراض، أو تردد، أو شك، أو وجهة إلى غيره -تبارك وتعالى- فحينما يرائي الإنسان بعمله، أو يُسمع به، أو حينما يتعاظم في نفسه، فيعجب، فالله يعلم خطرات النفوس، ويعلم ما يحصل في القلوب من توحيد وضده، ومن محابه ومساخطه، وكذلك أيضًا في أعمال الجوارح. 

  1.  تفسير القرطبي (2/ 62). 
  2.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 124).