نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم، وفعالهم؛ وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [سورة النساء:46].قوله تعالى: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ما المراد بـ رَاعِنَا وإلى أي شيء ترجع؟
إذا جمعت أقوال، وعبارات المفسرين تجد أنها مأخوذة من الرعاية، ومن الرعونة، ومن الرفق، وراعنا بمعنى أمهلنا، وقال بعضهم: راعنا، بمعنى تكلم بكلام نفهمه عنك، وبمعنى ارقبنا، وبمعنى أَرْعِنا سمعك.
فلو نظرنا في المعاني، وأرجعناها إلى ما يمكن أن يفسر به راعنا؛ فإنها ترجع إلى أصل، وجذر في الكلام، فإذا قلنا: إنها بمعنى أرْعِنا سمعك، أو ارقبنا، أو من الرعاية، أو أنها من الرفق، فهل هي مثل الرعونة؟
الجواب: لا، وإنما الرعونة مأخوذة من رعن، وهذه المعاني ترجع إلى رعى، وإذا قلنا: إنها من رعن يرعن رعونةً فهو راعن، وأرعن، وكلمة راعن، وأرعن تدل على الطيش والهوج، يقولون: فلان أرعن يعني أهوج، لا تقترب منه، لا تدري ما الذي يصيبك من مقاربته إذ هو أََحمق، رعن يرعن رعونة فهو راعن وأرعن، فالذين فسروها بأن اليهود كانت تلوي ألسنتها، فمعنى ذلك أن هذه اللفظة تعود إلى شيئين، المعنى الأول: أن هذه اللفظة عند اليهود لفظة سبٍّ في لغتهم يعني في غير العربية، فإن قيل: كيف استعملوا لغة أعجمية في مخاطبة النبي ﷺ وهو عربي؟.
يقال: لما استعملها الصحابة في المعنى الآخر استغل اليهود الفرصة، وصاروا يطلقون هذه اللفظة الأعجمية التي هي عبارة عن سب باللغة العبرية بحيث صاروا يستعملونها يقصدون بها المعنى الذي في لغتهم، والذي هو من أقبح السب، وأبشعه، والسامع يظن أنهم يتكلمون بلفظة عربية حيث اتفقت لفظة مع لفظة، لكنها في معناها عند العبرانيين سب قبيح، فصاروا يطلقونها، ويتضاحكون فيما بينهم، فالمقصود أنهم استغلوا التوافق في اللغة.
المعنى الثاني: أنها عربية من الرعونة، والمعنى أنهم يعبرون بلفظة ظاهرها قد يستعملها اليهودي مريض القلب في معنىً سيء، فالمسلم يقول: راعنا يقصد ارقبنا، وانظرنا، لكن هذا يستغلها كأنه يقول له: يا أرعن، ولهذا جاء في قراءة تنسب للحسن البصري، وهي شاذة: (راعناً) بمعنى أنهم ينسبونه إلى الرعونة، فالمتكلم بها يحتمل أن يقصد بها ارقبنا ، وانظرنا، ويحتمل أن يقصد بها نسبته إلى الرعونة، والإنسان لا يتكلم بالألفاظ المحتملة المجملة، وهذا أصل كبير يذكره أهل العلم، وأهل السنة سواء في قضايا الاعتقاد، أو في غيره، وهي أن الإنسان يتكلم بالكلام البين الواضح الذي لا يحتمل الحق، والباطل؛ لئلا يفهم عنه غير المراد.
وهذه الآية أصل في هذا الباب، وهي أصل أيضاً في باب التشبه، فلا تتشبه بهؤلاء اليهود الذين يطلقونها، ويقصدون بها المعنى السيئ، وإن قصدت معنىً حسناً.
وإذا فسرت هذه اللفظة بأنها من رعى نجد المعاني التي ذكرت - ارقبنا، وانظرنا، وأمهلنا ، وما أشبه ذلك - بمعنى لا تعجل علينا، فراعنا، وارقبنا، وانظرنا من الرعاية؛ ولهذا يقال لراعي الغنم: راعٍ؛ لأنه يلاحظ هذه الدواب، ويرقبها، وما إلى ذلك، ويقال للحاكم، أو الأمير، أو الوالي، أو الملك، أو الخليفة راعي، وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته[1]، فذلك يرجع إلى معنى ارقبنا، واحفظنا، وما أشبه ذلك.
فالإشكال على تفسير الكلمة بالمعنى الثاني - وهو أنها من "رعى" - أنهم عبروا بلفظة محتملة استعملتها اليهود على وجه قصدوا به المعنى السيئ، واستعملها المسلمون من الصحابة في معنىً حسن، فـ "راعنا" حينما يقولها المسلمون فهي قطعاً ليست من الأول، بل هي من الثاني قطعاً، وأما اليهود فحينما لووا بها ألسنتهم فهم إنما نطقوا بها على أنها أعجمية – سب عندهم - أو نطقوا بها على أنها عربية، وقصدوا الرعونة.
وبعض أهل العلم - ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - لمّا أرجعها إلى أصلها أرجعها إلى المعنى الثاني أولاً، وآخراً، وعلل سبب النهي عنها بما لا يرجع إلى المعنى الأول، فقال: راعنا المراعاة تدل على مفاعلة بين شيئين كالملاحظة، والمراقبة، والمبارزة، والمصانعة، والمناجزة، والمقاتلة، والمبايعة، وما أشبه ذلك.
فهو يقول: إن معنى هذا الكلام أي: إذا قالوا: راعنا فمعناه افهم عنا نفهم عنك، وارقبنا نرقبك، واسمع منا نسمع منك، فصارت القضية على سبيل المشارطة، والمقابلة، وهذا لا يليق في خطاب النبي ﷺ، وإنما يليق في ذلك ما كان على سبيل الإفراد لا على سبيل المقابلة، فجاء لهم بلفظة بديلة لا تقتضي هذا، وهي أن يقولوا: انظرنا؛ لأنه لا يقال: انظرنا ننظرك، فالمقصود النهي عن التكلم مع النبي ﷺ بهذه الطريقة وكأنها مقايضة بحيث لا يسمعون منه حتى يسمع منهم.
هذا هو المعنى الذي ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله - فهو لم يذهب بها إلى أن النهي من أجل أنها توهم معنى الرعونة، وإنما لقلة الأدب فيها مع النبي ﷺ بمعنى أنهم جعلوه كأدنى الناس ممن تقول له: اسمع مني، وأسمع منك، ارقبني وأرقبك، أرْعِني سمعك وأرعيك سمعي، وهذا لا يليق في الخطاب مع النبي ﷺ.
وبهذا القول تستطيع أن تجمع الأقوال التي قيلت، وتعرف إلى أي شيء ترجع، وبهذا نعرف أن كلمة: "راعنا" لم يطلقها من أطلقها من المسلمين بقصد المعنى الأول - من الرعونة -، لكن نهى الله عنها لما فيها من سوء الأدب في التعبير مع النبي ﷺ، والشريعة جاءت بما يحسن، ويجمل من الألفاظ، والتعابير، والكلام، ولهذا لا يقال: عبدي، وأمتي لكن يقال: فتاي، وفتاتي، ولا يقال: وضئ ربك، وإنما يقال: وضئ سيدك، قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [سورة النــور:63] سواء فسرت بأنها في المناداة والمخاطبة بمعنى لا ترفع صوتك، فتتكلم معه كما لو تكلمت مع غيره من الناس، أو كما تتحدثون فيما بينكم، بل تكلم بأدب، وخفض صوت، كما قال في الآية الأخرى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [سورة الحجرات:2]، أو كان المراد به: لا تقل: يا محمد - مثلاً - كدعاء بعضكم بعضاً، بل قل: يا رسول الله، فإن المقصود من ذلك هو تعليمهم الأدب في الألفاظ، إما لأن هذه اللفظة محتملة، وقد تستغل كما فعل اليهود حيث استعملوها استعمالاً سيئاً، أو لأنه لا يليق مخاطبة النبي ﷺ بذلك؛ لأنها تُفهِم معنى المفاعلة، وأياً كان، سواء كان هذا، أو هذا فكل ذلك لا يليق، ولذلك علمهم الله الأدب في تعاملهم معه بحيث استبعد الألفاظ الموهمة للمعاني الباطلة، وجاء بالألفاظ التي - أيضاً - لا رعونة فيها، ولا جفاء، ولا سوء أدب معه ﷺ.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:].
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون: السامُ عليكم، والسام هو الموت؛ ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم"، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً، وفعلاً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:104]
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة، والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم[2]، وروى أبو داود عنه : من تشبه بقوم فهو منهم[3] ففيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد، والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم، وأفعالهم، ولباسهم ، وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، ولم نُقَرر عليها.فذكرت في الدرس الماضي خلاصة ترجع إليها أقوال أهل العلم في معنى هذه الآية: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا [سورة البقرة:104]، والذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كما هو ظاهر هنا أن ذلك من أجل أن لا نشابه اليهود، حيث أطلقوا هذه الكلمة وأرادوا بها معنىً من المعاني السيئة قصدوه، وذهب بها - رحمه الله - إلى أنهم قصدوا بها الرعونة.
وعلى كل حال سواء كان ذلك مما يعبرون به عن الرعونة باللغة العربية، أو أنها كلمة كانوا يقصدون بها السب، والشتم بلغتهم العبرية، فكل ذلك يجري على النهي عن مشابهتهم، ومضاهاتهم من جهة، وأن لا يعبر الإنسان بالعبارات المحتملة للحق، والباطل، وذكرنا أن المسلمين حينما يطلقون هذه الكلمة أنهم يذهبون بها إلى معنى رعى، أي ارقبنا ، وما أشبه ذلك، فعلموا كلمة بديلة لا تحتمل للباطل؛ لئلا يقعوا في هذه المضاهاة وإن لم يقصدوا المعنى السيئ، وهذا من التأديب الذي أدبهم به الشارع في عباراتهم، وألفاظهم.
وعرفنا أن ابن جرير - رحمه الله - ذهب بها إلى معنىً آخر لا يخرج عن حد التأديب، ولكنه لم يربط ذلك باليهود، وإنما فسرها بأن المقصود هو أن هذه اللفظة لا تليق من جهة أنها بمعنى المفاعلة - ارقبنا نرقبك، واسمع منا نسمع منك، وراعنا نراعك، وما أشبه ذلك - وأن هذا لا يليق، وإنما الواجب على الإنسان أن يسمع، ويطيع ويتأدب مع رسول الله ﷺ، ولا يكون ذلك على سبيل المقابلة، والمقايضة، أو ما أشبه ذلك مما يطلب فيه من المخاطب فعلاً كفعله هو، بحيث يقول: إن فعلت ذلك فافعل ذلك، افعل كذا، وأفعل كذا، هذا لا يليق.
هذا الذي ذهب إليه ابن جرير، وهو غريب؛ وذلك أن ابن جرير - رحمه الله - من كلام الله عن قصة آدم ﷺ وهو يقرر أن ذلك جميعاً مما خوطب به اليهود، أي من قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34]، فهو يقول: إن الله يذكِّر اليهود بهذه القضية، وهكذا في كل قضية بعدها يقول: إن المراد بها اليهود، ثم جاءت قضية النسخ - كما سيأتي -، مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [سورة البقرة:106] وكان المقصود بها الرد على اليهود، ثم جاءت قضية القبلة أيضاً، فقال: والمقصود بها الرد على اليهود، ثم جاءت قضية الولد، وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118]، فجعل مجموعة من الآيات بعدها في النصارى، فالمقصود أنه يجري ذلك على أهل الكتاب، وأغلب هذه الآيات أجراها على اليهود، وإن لم يكن لليهود ذكر فيها، فهذه الآية أولى، وأحرى أن تجعل في اليهود، أو أن يجعل علة النهي من أجل عدم مضاهاة اليهود؛ حيث أطلقوا هذه الألفاظ، لا أن ذلك بسبب أن هذه اللفظة في ذاتها تقتضي المفاعلة، وإنما لأن اليهود قالوا كلمة قصدوا بها معنىً سيئاً، كما قال الله : مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [سورة النساء:46]، فمعنى ذلك أن اليهود كانوا يطلقون كلمة، وظاهرها السلامة ، أو يحتمل السلامة، وقصدوا بها غير ذلك، والله تعالى أعلم.
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا [سورة البقرة:104] قال: كانوا يقولون للنبي ﷺ: أرعنا سمعك، وإنما رَاعِنَا كقولك: عاطنا.قوله: رَاعِنَا كقولك: عاطنا: عاطنا من المعاطاة يعني أنها تقتضي المفاعلة.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، وأبي مالك، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا لا تقولوا خلافاً.قوله: وقال مجاهد: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا لا تقولوا خلافاً: كأنه يقول: لا تقولوا مخالفة، أي لا تقولوا قولاً فيه مخالفة، لا تقولوا شيئاً يخالف ما أمركم الله به، وإنما ينبغي أن تكونوا على حال من الطاعة، والانقياد، والاستقامة.
فقوله: لا تقولوا خلافاً: كما تقول: لا تقل نكراً، يعني لا تقل منكراً، وهذا التفسير إذا أخذ من حيث هو أي بظاهره هكذا على أنه تفسير "راعنا" ففيه إشكال؛ لأن لفظة راعنا، رعى، والمراعاة، ليس من معانيها المخالفة، وإنما الملاحظة، والمراقبة، والنظر، وأشباه ذلك من المعاني التي تدل عليها هذه اللفظة، أو تفسر بها، أما المخالفة فليس ذلك من معانيها، لكن يمكن أن يوجه هذا القول بأن يكون معناه لا تقولوا قولاً مخالفاً، بمعنى لا تقولوا الألفاظ ، والعبارات التي لا تليق كالعبارات التي يمكن أن توصف بالرعونة، والجفاء، أو التي لا تكون بمعنى الاستجابة، والانقياد لأمر الله كما يقولون: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا [سورة النساء:46] وكأنهم – أي اليهود - يقولون: اسمع لا سمعت، وإن كان يمكن أن يفهم من ظاهر قولهم: واسمع غير مسمع مثل ما يقول بعضهم: ما عليك أمر، وإن كانت اللفظة لا يريدون بها هذا المعنى.
فقوله: لا تقولوا خلافاً: معناها لا تقولوا: سمعنا، وعصينا، وإنما قولوا: سمعنا وأطعنا، فبهذه الطريقة يمكن أن يوجه قول مجاهد، أما أن نفسر لفظة راعنا بمعنى لا تقولوا خلافاً فليس هذا من معانيها، وابن جرير - رحمه الله - أنكر هذا المعنى، ورده، وقال: لا يعرف في معنى راعيت بمعنى خالفت، والله أعلم.
وفي رواية: لا تقولوا: اسمع منا، ونسمع منك.قوله: اسمع منا، ونسمع منك: هذا يجري على قول ابن جرير - رحمه الله -؛ لأن القضية المشكلة ليست عند لفظة "راعنا" أنها قالتها اليهود، ونهينا لأن اليهود قالتها لما فيها من معنىً سيء في لغتهم، أو أنهم قصدوا بها المعنى السيئ، لا، وإنما لأنها خلاف التأدب مع النبي ﷺ بمعنى أنه يجب عليكم أن تسمعوا أنتم فالأمر إليكم، ومن الأدب أنه عليكم سماعه لا أن تشترطوا أن يسمع منكم.
وقال عطاء: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها.راعنا كانت لغة تقولها الأنصار بمعنى أن الأنصار يقولون: راعنا بمعنى ارقبنا، من المراعاة، وبمعنى انظرنا، لكن هذه اللفظة لما كانت تحتمل المعنى السيئ، والمعنى الصحيح نهوا عنها، ولا زالت هذه اللفظة تستعمل بمعنيين إلى يومنا هذا، يستعملها البادية الآن بمعنى نظر البصر، يقولون: راع بمعنى انظر يقصدون بها نظر العين، ويطلقها غيرهم يقصدون بها معنى المراعاة، وهي الالتفات إليهم، ورعي أحوالهم، وملاحظة هؤلاء الناس ليس بالعين، وإنما بالفعل، ويدخل فيه ما يقول المشتري للبائع: راعني في هذا، يقصد بها طلب الالتفات إلى مطلوبه، وحاجته، وتحقيق رغبته في أن يضع له من السعر، وإذا قالها المريض مثلاً فهو يقصد بذلك تقدير حاله، وعجزه، والالتفات إلى ضعفه ، ومرضه بحيث لا يطالب بأكثر مما يطيق.
وهؤلاء قالوها للنبي ﷺ بمعنى لا تعجل علينا، وأمهلنا، وارقبنا، ولاحظ حالنا، حتى نفهم عنك، ونأخذ عنك، ونتلقى عنك، فهم قصدوا هذا المعنى، ولكن هذه اللفظة غير مناسبة في التخاطب مع النبي ﷺ فأعطاهم لفظة تقوم مقامها، ولكنها لا تحتمل المعنى السيئ، وذلك أن يقولوا: انظرنا بمعنى ارقبنا، ولاحظنا، وما أشبه ذلك، فالمقصود أن الأنصار كانوا يعبرون بهذه اللفظة في لهجتهم يقصدون بها ما ذكرت، فعلموا لفظة بديلة ليس فيها احتمال.
وعلى قول ابن جرير اللفظة البديلة لا تقتضي المفاعلة، وإنما تكون من طرف واحد، أي انظرنا من أجل أن نفهم عنك، وليس ارقبنا نرقبك، ولاحظنا نلاحظك..
وعلى كل حال فإن الفائدة التي نخرج فيها من هذا أن الإنسان المسلم لا يضاهي أهل الباطل في عباراتهم التي يقصدون بها المعاني السيئة، وكذلك لا يطلق العبارات ابتداءً، وإن لم يقلها أهل الباطل، وأقصد العبارات التي تحتمل معنىً صحيحاً ومعنىً باطلاً، وهذا كثير في كلام أهل العلم من أهل السنة حيث يوضحون موقفهم من مثل هذه الأشياء، ففي العقيدة مثلاً تجدهم يتكلمون على ما إذا خاطبوا أهل الكلام فإنهم ينكرون عليهم استعمال الألفاظ التي تحتمل الحق، والباطل كلفظة الجسم، والعرض، والجوهر، والجهة، والتحيز، وما أشبه ذلك مما يعبرون به عند الكلام على صفات الله ، فأهل الكلام ينفون عن الله هذه المعاني، ويقصدون بها أحياناً، أو غالباً نفي معان صحيحة ثابتة، فينفي الاستواء مثلاً ، ينفي التحيز مثلاً، ويقصد به نفي العلو، والاستواء، وينفي الجسم، ويقصد به نفي الصفات الذاتية غير المعنوية كاليد، والوجه، ونحو ذلك، وينفي الأعراض، ويقصد بها نفي الصفات المعنوية كالضحك، والغضب، وأشباه ذلك، ويقولون: هذه أعراض، وهكذا، فأهل السنة حينما يأتون إلى أهل الكلام، ويناقشونهم يقولون لهم: نحن لا نثبت الجهة، ولا ننفيها، ولا نستجيز إطلاق ذلك، وأما أنتم فماذا تقصدون بالجهة؟ إن قصدتم بها معنى أنه ما فوق العالم فنحن نقول: هذا صحيح، وإن قصدتم أن الله تحوطه جهة من الجهات المخلوقة فالله أعظم شأناً من ذلك، فالله فوق العالم بائن منهم، لا يحوطه شيء من المخلوقات، فالمقصود أنهم يستفصلون منهم هذا الاستفصال عند مثل هذه الألفاظ، والعبارات فلا ينفونها بإطلاق، ولا يثبتونها بإطلاق، بل لا يعبرون بها ابتداءً، وينكرون على من استعمل هذه الألفاظ.
وعلى كل حال هذا الملام في باب الاعتقاد، وقد ذكرنا في الدرس الماضي بعض الأحاديث الواردة في التأديب، واستعمال بعض الألفاظ كعبدي، وأمتي، ماذا يقولون بدلاً من ذلك، فهذه فائدة مهمة، وأساسية.
وأما ما وراء ذلك مثل هل هذه نهي عنها؛ لأن اليهود قالتها بلغتها؟ أو لأنها بمعنى السب عندهم؟ أو قالتها بالعربية، وتقصد بها الرعونة؟ فهذا القدر لسنا مضطرين إليه، يعني لا يتوقف العمل بالآية على هذا القدر من التفسير، وإنما القدر الذي نحتاج إليه هو أن هذا من التأديب في كيفية التعامل مع الألفاظ التي تحتمل معنىً صحيحاً، ومعنىً باطلاً، وما وراء ذلك لا نضطر إليه سواء قالوها بلغتهم، أو قالوها بالعربية، وسواء قصدوا بها معنى الرعونة، أو غير ذلك، فالمهم أنهم استعملوا عبارات ولووا ألسنتهم بالكلام ليصلوا إلى معانٍ قبيحة لا تليق، ونحن منهيون؛ لئلا نضاهي هؤلاء المبطلين من جهة، ولئلا نستعمل الألفاظ التي تحتمل المعاني الصحيحة، والمعاني الباطلة، فهذا القدر هو الذي نحتاج إليه وينبني عليه العمل في تفسير الآية، فإذا نظر طالب العلم إلى مثل هذه القضايا بهذه الطريقة أراح نفسه من كثير من الإشكالات، والدخول في أمور، أو مضائق قد لا يحتاج إليها، أو ليس بمضطر إليها، خاصة وأن القطع بشيء من هذه الإشكالات أمر قد لا يوجد عليه دليل يعتمد عليه، لكن الآية فيما أظن أنه لا يقتصر في تفسيرها على ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - فقط دون غيره، وهو قوله: نحن منهيون لما فيها من معنى المفاعلة، لكن يمكن أن نقول: هي لفظة غير لائقة، فهي تحتمل معانٍ باطلة، ومن ذلك أيضاً أن فيها معنى المفاعلة وهذا أمر لا يليق، والله تعالى أعلم.
وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي ﷺ فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك، واسمع غير مُسْمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غَيْرَ صاغر، وهي كالتي في سورة النساء.في سورة النساء قال الله عن اليهود: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ [سورة النساء:46] فالمقصود أن هذه اللفظة نحن منهيون عنها؛ لأن فيها سوء أدب، واليهود يذهبون بها إلى المعنى السيئ، وعلى كل حال سواء قُصِد بها ما كان بلغتهم أو لا، فالمقصود أننا لا نقول ذلك، وكذلك الأمر في قوله: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ لا يجوز استعمالها أياً كان المقصود بها.
فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا.قوله تعالى: وَاسْمَعُوا يمكن أن يحمل على ما ذكر في الآية، يعني اسمعوا هذا التوجيه، والتعليم بحيث أنكم منهيون عن إطلاق مثل هذه اللفظة، فلا تعبروا بها في مخاطبته ﷺ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم، أي اسمعوا ما أمرتم به عن رسول الله ﷺ، وتلقوا عنه.
وقوله تعالى: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:105] يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب، والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم، وبينهم.
ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد ﷺ حيث يقول تعالى: وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة البقرة:105].هذه الآية أيضاً في أهل الكتاب، وهي من جملة الآيات الكثيرة جداً في سورة البقرة، وفي غيرها من سور القرآن التي يذكر الله فيها ما ينفر قلوب أهل الإيمان عنهم.
وحينما نزلت هذه الآيات من سورة البقرة لم يكن اليهود في ذلك الوقت قد احتلوا شيئاً من بلاد المسلمين أصلاً، ولا غصبوا أموالهم، ولا حاربوهم، ولا اعتدوا عليهم، ومع ذلك فإن الله يذكر هذه الأمور التي توجب الكراهية، والبغض، والبراءة من أعداء الله والله يذكي هذه الكراهية في نفوس المسلمين، وقد صارت هذه الكراهية جريمة لا تغتفر في هذا العصر، وللأسف صار بعض الناس يقولون: ليست العداوة للكفار لأنهم كفار؛ وإنما لأنهم قاتلوا النبي ﷺ وبالتالي إنما تكون العداوة للكفار الذين يقاتلون المسلمين، وهكذا يدلسون على الناس في قوله: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة:8] فتجدهم يفسرون البِرَّ هنا بمعنى المحبة، والموالاة، إلى غير ذلك مما يقال، وإنما المقصود أن الموالاة ليست مرتبطة بأنهم اعتدوا على المسلمين، أو ما اعتدوا، وإنما هم اعتدوا على أعظم حق لله ، وهو التوحيد، فهذا هو الذي أوجب العداوة، والبغضاء، وليس لأنهم يحاربون المسلمين، فهذا كفر على كفرهم، فالعداوة تجب لجميع الكفار سواء حاربوا المسلمين، أو لم يحاربوهم، فالواجب على كل مسلم أن لا يحب أعداء الله، قال تعالى: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [سورة الممتحنة:4]، فالمقصود أن مثل هذه الأمور ينبغي أن يعرفها المسلم، وتكون حاضرة على باله، وتبث في الناس، ويعلمها الصغير، والكبير؛ لئلا تضيع حدود الله ، ويُلعب بالدين، بل وصل الأمر ببعض المعممين إلى أنه قال أكثر من هذا، حتى قال: العداوة التي بيننا، وبين اليهود ليست دينية، وإنما عداوتنا مع الصهاينة فقط؛ لأنهم احتلوا أرضنا!!
نحن نقول: لو أرجعوا فلسطين على طبق من ذهب فهم أعدائنا، وأشد أعدائنا؛ فآيات القرآن واضحة قبل احتلال فلسطين، فهي ليست في الصهاينة فقط، وإنما في عموم هؤلاء الكفار، فالله ذكر طبقاتهم في كفرهم، وعداوتهم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام - باب: قول الله تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء:59] (6719) (ج 6 /ص 2611) ومسلم في كتاب: الإمارة - باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم (1829) (ج 3 / ص1459).
- مسند أحمد (ج 2 / ص 92) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2831).
- سنن أبي داود في كتاب: اللباس - باب في لبس الشهرة (4031) (ج 2 / ص 441)وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6149 ).