"إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ خطاب للنبي ﷺ والمراد بِالْحَقِّ التوحيد، وكل ما جاءت به الشريعة بَشِيراً وَنَذِيرًا تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، وهذا معناه حيث وقع".
يعني حيث وقع هذا الوصف للنبي ﷺ بَشِيرًا وَنَذِيرًا يعني تُبشر أهل الإيمان، وتنذر الكفار.
"وَلَا تُسْأَلُ بالجزم نهي، وسببها: أن النبي ﷺ سأل عن حال آبائه في الآخرة، فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل، كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله. وقرأ غير نافع بضم التاء، واللام: أي لا تُسأل في القيامة عن ذنوبهم".
قوله هنا: (ولا تَسألْ) هكذا على النهي (لا تَسأل عن أصحاب الجحيم) يحتمل أن يكون هذا النهي على وجهه، باعتبار أن النبي ﷺ قد سأل، فنُهي عن السؤال، وقد جاء عند عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر: أن النبي ﷺ قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت، يعني أنه سأل حقيقة، ما فعل أبواي؟ يعني هل هما من أهل الجنة، أو من أهل النار؟ فقال: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) فيكون هذا النهي على ظاهره، لكن هذه الرواية ضعيفة للإرسال، فهي من رواية محمد بن كعب القرظي، وهو لم يدرك النبي ﷺ فهو من التابعين.
وفي الإسناد أيضًا رجل آخر ضعيف.
وكذلك جاء عند ابن جرير عن داود بن أبي عاصم نحو هذا: أن النبي ﷺ سأل عن أبويه. لكنه أيضًا مرسل، فهذه الروايات ضعيفة، وإذا كانت ضعيفة، فإنه لا يُبنى عليها المعنى، وبناء على ذلك، فإن هذه الاحتمال (ولا تَسألْ) أنه نهي للنبي ﷺ عن السؤال حقيقة؛ لأنه سأل يكون ذلك مستعبدًا؛ لأن الروايات فيه لم تصح.
فيبقى المعنى الثاني على هذه القراءة المتواترة (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم) هو الذي ذكره بعده، حيث قال: "وقيل: إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدة حاله" وهذا يقال في النعيم، والفلاح، ويقال أيضًا في الخسار، والعواقب السيئة، تقول: لا تسأل عن فلان، يعني ما هو فيه من الغبطة، والنعمة، وتقول: لا تسأل عن فلان، عما هو فيه من الحسرة، والألم، والشدة، وسوء العاقبة.
وهذا محمله - والله تعالى أعلم - على هذه القراءة، قراءة نافع (ولا تَسألْ) فهم في أسوأ حال (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم).
وعلى قراءة الجمهور وَلَا تُسْأَلُ يعني لست مسؤولًا عنهم يوم القيامة، لا تُسألُ عن ذنوبهم، بمعنى أن هؤلاء سيتحملون أوزارهم، وإنما عليك البلاغ.
"مِلَّتَهُمْ ذًكرت مفردة، وإن كانت ملتين؛ لأنهما متفقتان في الكفر، فكأنهما ملة واحدة".
يعني لما ذكر اليهود، والنصارى في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هي ليست بملة واحدة، اليهود لهم ملة، والنصارى لهم ملة، وكل طائفة تكفر الأخرى، وتضللها، فهنا وحّد الملة، فقال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ باعتبار أنها واحدة من جهة الضلال، يعني في الحكم أنها ضلالة، وكفر، وعماية، فكأنه ملة واحده بهذا الاعتبار.
والملة مضى في الكلام على الغريب أصل ذلك: أنه من أمللت، يعني أمليت؛ لأنها - الملة - كما يقال: تُبنى على مسموع، أو متبوع، فإذا أُريد الدين باعتبار الدعاء إليه، قيل: ملة.
وإذا أريد باعتبار الطاعة، والانقياد له، قيل: دين، دين، وملة. فالدين باعتبار الدعاء إليه ملة وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وإذا أُريد باعتبار الطاعة، والانقياد له يقال له: دين، دان له بمعنى انقاد، يقال: فلان دانت له العرب، والعجم، يعني انقادوا له، فالدين بهذا الاعتبار الطاعة، والانقياد يقال: دين.
أما ما يُدعى إليه، فيقال: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل: 123] وهذا في مقام الدعاء إليه، ما قال: اتبع دين إبراهيم، والملة، والدين متقاربان، لكن في الاستعمال فرّق بعضهم بهذا الاعتبار - والله أعلم -.
"قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى رد على اليهود، والنصارى، والمعنى: أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي؛ لأنه هدى من عند الله، بخلاف ما يدّعيه اليهود، والنصارى".
لاحظ هذا السياق، والأسلوب قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ أكده بـ(إن) هُوَ الْهُدَى وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ لتقوية النسبة هُدَى اللَّهِ هُوَ ودخلت (أل) على الْهُدَى وهو الخبر، وذلك يفيد، أو يُشعر بالحصر، فلا هدى إلا في هدى الله - تبارك، وتعالى -.
"وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى، ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة، والأقوال المضلة؛ لأنهم اتبعوها بغير حجة، بل بهوى النفوس، والضمير لليهود، والنصارى، والخطاب لمحمد ﷺ وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم، ولكن قال ذلك على وجه التهديد، لو وقع ذلك فهو على معنى الفرض، والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابًا له ﷺ والمراد غيره".
لاحظ هنا قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ولم يقل: ولئن اتبعت ملتهم، فهم فيما يدعون إليه يدعون إلى ملتهم بحسب اعتقادهم، ولكن في حكم الله - تبارك، وتعالى - فإن ذلك من قبيل الأهواء، وليس بدين صحيح، وملة صحيحة، ولهذا قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ فسماها أهواء، فما هم عليه من الدين إنما هي أهواء، قد تفرقوا فيها، وتوجيه الخطاب هنا في ظاهره للنبي ﷺ يقول: "وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم". القاعدة في هذا: أن التعليق على الشرط لا يقتضي الوقوع، يعني الله - تبارك، وتعالى - يقول: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وحاشاه أن يُشرك - عليه الصلاة، والسلام - ويقول عن الأنبياء الكرام الذين ذكرهم في سورة الأنعام: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] وحاشاهم من الإشراك، وقال: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: 81] وهذا أمر محال.
فالتعليق على الشرط لا يقتضي الوقوع، قال: "ولكن قال ذلك على وجه التهديد، لو، وقع ذلك فهو على معنى الفرض، والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابًا له ﷺ " يعني: بمعنى أنه وُجه الخطاب إليه - عليه الصلاة، والسلام - والمقصود بذلك الأمة؛ لأن الأمة تخاطب بشخص مُقَدَّمها - عليه الصلاة، والسلام -.