السبت 20 / شوّال / 1446 - 19 / أبريل 2025
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118] روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله ﷺ: يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ.بغض النظر عن صحة هذه الرواية، وهي لا تخلو من ضعف، لكن رافع بن حريملة هو من اليهود، وعلى هذا الاعتبار إذا أخذنا بهذه الرواية وقلنا: إنها سبب النزول، فيكون المراد بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ هم اليهود، وعلى هذا جرى بعض أهل العلم فقالوا: المراد به اليهود.
وذهبت طائفة -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله- إلى أن ذلك يراد به النصارى؛ لأن النصارى هم الذين يوصفون بعدم العلم، فهم أهل بالجهل وأهل الضلال.
ومما احتجوا به أنهم، قالوا: إن الآية التي قبلها في النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] لكن كما عرفنا أنها ليست محمولة على النصارى بالاتفاق؛ بل منهم من قال هي في أهل الإشراك؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، ومنهم من قال: في اليهود؛ لأنهم قالوا: عزير ابن الله، ومنهم من قال: إنها في النصارى، وأشهر من نسب إلى الله هذه الفرية هم النصارى، ومن أهل العلم من حملها على جميع الطوائف التي وقعت في هذا الأمر.
على كل حال ابن جرير -رحمه الله- كان يحمل الآية السابقة على النصارى، وبالتالي فهو يقول: إن هذه الآية أيضاً لا زالت تتحدث عن النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ، وهذه الرواية التي سبق ذكرها تقول: إنها في اليهود، وهو ظاهر صنيع ابن كثير -رحمه الله-.
 ولا شك أن المشركين كما قص القرآن طلبوا من النبي ﷺ في مناسبات متعددة مثل هذا الطلب، حيث أكثروا على النبي ﷺ في طلب الآيات، ولا شك أن هؤلاء المشركين أولى من يصدق عليه عدم العلم، فهم أهل جهل، ويمكن أن تحمل الآية على كل من وقع منه ذلك؛ لأن هذا الطلب إنما يصدر عن من كان موصوفاً بقلة العلم؛ لأنه يطلب الآيات على سبيل التعنت، فهو لم يكتف بما شاهد من الآيات، بل يريد الآيات التي يقترحها هو، فهو يريد من الله أن يكلمه بشخصه أو ينزل عليه كتاباً يقرؤه كما أنزل على هذا النبي، أو أن الله يحقق من الآيات ما اقترحه هو، كأن يحول الصفا ذهباً، أو يأتي الله مع رسوله ﷺ والملائكة قبيلاً، أو أن يرقى النبي في السماء، وليس ذلك فحسب بل لا بد وأن يأتي معه بكتاب من الله يقرؤونه، إلى غير ذلك من الآيات التي اقترحوها.
قوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ إذا فسرناها بما جاء في القرآن فإننا سنجد أن ذلك وقع كثيراً من المشركين، وكل من طلب هذا الطلب من هؤلاء المتعنتين فهم من الذين لا يعلمون، سواء كان لقلة معرفتهم أو كان عندهم من العلوم ما لا ينفعهم، فالعلم إذا كان غير نافع لصاحبه فإنه يكون كالعدم، ولهذا سمى الله من عصاه جاهلاً، والسبب في ذلك أن العلم يورث الخشية، لذلك يقول تعالى: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54].
وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ قال: هم اليهود والنصارى، ويؤيد هذا القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:124] الآية.في قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ: الذين من قبلهم هم اليهود والنصارى، وهذا قاله بعض السلف هنا، وعلى قول ابن جرير -رحمه الله- أن الذين قالوا لولا يكلمنا الله هم النصارى، فإن المقصود بقوله كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ هم اليهود.
وقوله تعالى: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [سورة الإسراء:90] إلى قوله: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:93] وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21] الآية وقوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً [سورة المدثر:52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً [سورة النساء:153] وقال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55].
وقوله تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي: أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ۝ أَتَوَاصَوْا بِهِ [سورة الذاريات:52-53] الآية.
وقوله: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118] أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله -تبارك وتعالى-.
ولذلك وصفهم بأنهم لا يعلمون فقال: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني أنه قد جاء من الآيات ما يكفي لأهل العلم واليقين أن يؤمنوا بها ويكون برهاناً دالاً على صحة ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيبقى أهل العناد والتعنت والجهالة يقترحون الآيات.
وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس96-97].

مرات الإستماع: 0

"وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا، وفي الموضع الأول كفار العرب، على الأصح، وقيل: هنا هم اليهود، والنصارى".

قوله: "وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا، وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح" ويعني بالموضع الأول قوله - تبارك، وتعالى -: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وقد مضى الكلام على هذا، وهذا قال به كثير من أهل العلم من السلف، كأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسّدي[1].

وبعض أهل العلم يقولون: إن المراد بهم في هذا الموضع: كفار العرب، وفي الموضع الأول: اليهود، والنصارى.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول محتجًا للقول بأنهم العرب: إن ذلك يؤيده قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124] وقوله: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء: 90] ونظائر ذلك: كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان: 21][2].

فقولهم هذا كقول من قبلهم من اليهود، والنصارى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء: 153]، وقوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] فهذا صدر عن كفار العرب، وعن أهل الكتاب: اليهود، والنصارى.

فإذا قلنا: إن هذا يُراد به العرب، فالذين من قبلهم هم اليهود، كقولهم لموسى - عليه الصلاة، والسلام -: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] حيث طلبوا مثل ما طلب العرب.

وإذا قلنا: إن هذا في اليهود، والنصارى، أو العرب، واليهود، والنصارى معاً، فإن قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم السابقة، حينما طلبوا من أنبيائهم مثل هذه المطالب.

والحاصل أن هذا الموضع فيه ثلاثة أقوال:

الأول: أن المراد بهم النصارى، وهو قول ابن جرير[3].

باعتبار أنه يذهب إلى أن الكلام قبله، وهو قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا في النصارى، ورد عليهم، ثم قال: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ وأن هؤلاء النصارى هم أهل الجهل، والضلال، فهو ربط هذا بالذي قبله، فيرى أن السياق في النصارى بهذا الاعتبار.

الثاني: أن المراد: كفار العرب.

الثالث: أن المراد: اليهود، والنصارى.

وهناك أيضًا قول رابع: وهو أن المراد بهم الجميع، اليهود، والنصارى، وكفار العرب.

"لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ (لولا) هنا عرض، والمعنى أنهم قالوا: لن نؤمن حتى يكلمنا الله".

عرض بمعنى طلب، بصيغة العرض، فمعنى: لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا الله.

"أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة من المعجزات، كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء: 9] وما بعده.

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني اليهود، والنصارى على القول: بأن الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ كفار العرب، وأما على القول بأن الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اليهود، والنصارى، فـالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم أمم الأنبياء المتقدمين".

الله - تبارك، وتعالى - يقول: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] فاليهود، والنصارى سألوا مثل هذه الأسئلة، وطلبوا مثل هذه الأمور، فهذا كله وقع منهم، والآية إذا كانت تحتمل معانٍ، ويدل على هذه المعاني دلائل من الكتاب، أو من السنة، أو كانت هذه المعاني صحيحة من جهة محملها، ولا يوجد ما يمنع من الحمل عليها، فإن الآية تحمل على ذلك جميعًا.

فهذه الآية: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يحتمل أن يُراد بها الكفار من العرب، ويحتمل أن يراد بها اليهود، والنصارى.

وقوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعني أن هذا أمر قد تتابعت عليه، وتوافقت عليه قلوب الكفار من الأمم.

لكن قد دل القرآن على أن الجميع طلب ذلك، في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ  فكلهم طلبوا مثل هذه الأمور كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ يعني ليس ذلك بجديد، بل هي السنن؛ ولهذا قال الله - تبارك، وتعالى -: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فلما تشابهت القلوب، تشابهت، وتتابعت الألسن.

"تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الضمير لـلذين لا يعلمون، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ما لا يصح أن يطلب، وهو قولهم: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ".

الأمم السابقة كانوا يقولون مقالات تتفق مع مقالات من بُعث فيهم النبي ﷺ فتواطؤ القلوب، والألسن على هذا الباطل، صرح به القرآن، كما قال الله : كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ۝ أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات: 52، 53] يعني كأنه أمر يتواصى به الأمم، يوصي بعضهم بعضًا أن يقولوا: ساحر، أو مجنون، مع إن الواقع أنهم لم يتواصوا به؛ ولهذا أضرب عن قوله: أَتَوَاصَوْا بِهِ فقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 53] يعني الواقع أن هذا بسبب طغيانهم، وكفرهم، وعتوهم على الله - تبارك، وتعالى - وتمردهم على أنبيائهم، ورسلهم، فكانت المقالة هي المقالة - والله المستعان -.

"قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أخبر تعالى أنه قد بين الآيات الدالة على وحدانيته، وصدق رسوله - عليه الصلاة، والسلام - فكيف تطلب الآيات بعد بيانها؟ ولكن إنما فهمها الذين يُوقِنُونَ فلذلك خصهم بالذكر، بخلاف الكفار المعاندين، فإنها لا تنفعهم الآيات لعنادهم".

"قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ والله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: 59] يعني آية مبصرة، وليس ذلك صفة للناقة، أنها ذات بصر، وإنما الآية مبصرة يعني واضحة، لا خفاء فيها، فظلموا بها.

فالمقصود بالآيات هنا ما يطلبونه من المعجزات، وخوارق العادات، والله - تبارك، وتعالى - كما أخبر النبي ﷺ: ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر[4] يعني أعطاه ما يثبت نبوته من الدلائل، والبراهين، ولكن هؤلاء يطلبون أمورًا يقترحونها هم، فهذا قد وقع لمن قبلهم، فكذبوا، ولم تنفعهم هذه الآيات، فكان ذلك سببًا لمحقهم، وعذابهم. 

  1. تفسير ابن كثير (1/399).
  2. تفسير ابن كثير (1/399-400).
  3. تفسير الطبري (2/555).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب قول النبي ﷺ بعثت بجوامع الكلم رقم (7274)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم (152)، واللفظ له.

مرات الإستماع: 0

 وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118].

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الذين لا علم عندهم، وهم أهل الجهالة من المشركين ونحوهم للنبي ﷺ على سبيل العناد والتعنت في طلب الآيات الدالة على صدقه: هلا يكلمنا الله مباشرة ليخبرنا أنك رسول، أو تأتينا معجزة من الله تدلنا على صدقك، وقد جاءهم من المعجزات ما فيه الغَناء والكفاية، وهذا القول قد سبقوا إليه، ليس هؤلاء أول من قال هذه المقالة ولا أول من طلب مثل هذه المطالب، فقد قالت الأمم قبلهم لرسلهم على سبيل التعجيز والعناد والمكابرة كهذا القول، وذلك لتشابه قلوب السابقين باللاحقين في الكفر والضلال والعناد والعتو على الله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- يبين الآيات التي توضح الحق وتجليه وتدفع مقالة أهل الباطل وتدحضها، وتسلي نبيه ﷺ وأهل الإيمان، لا جديد، فما يقال لكم قد قيل لمن كان قبلكم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هذه الآيات يبينها لقوم يوقنون، الذين صار عندهم الإيمان بمنزلة من الرسوخ، فاستقر في قلوبهم استقرارًا لا يقبل التشكيك، فذلك هو اليقين.

يؤخذ من هذه الآية: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة البقرة:118] فهناك علاقة بين القلوب والألسن، فإذا كانت القلوب فاسدة جرى الفساد على الألسن، وذلك في عموم الناس في الأولين والآخرين، فكما جرى على لسان الأولين وقع ذلك أيضًا للآخرين، فإذا تشابهت القلوب تشابهت الأقوال، تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم، وتشابهت أحوالهم، وتشابهت مطالبهم، وذلك أن الأقوال تابعة لما في القلوب.

ولهذا فإنك قد تعلم مقالة الرجل في الأمر يقع ولم يتكلم به، الأمور الواقعة والفتن التي تحصل في كل مكان وزمان، تعرف مقالات الناس فيها دون أن تسمع منهم، فمن كان صاحب سنة وعلم فإنك تعرف قوله في هذا ولم تسمع منه، ومن كان يتخبط أو من أهل العناد أو التلبيس أو نحو ذلك فإنك تعرف قوله ولم تسمع منه، وهذا أمر معلوم مشاهد.

وهنا: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ قدموا الضمير المتعلق بهم على لفظ الجلالة: يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ما قالوا: لولا الله يكلمنا لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ فهذا يدل على شدة المكابرة والاعتداد بالنفس.

ثم أيضًا طلب التكليم: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ يدل على أن هؤلاء المشركين كانوا يعلمون أن الله يتكلم كلامًا حقيقيًا يليق بجلاله وعظمته، فهذه قضية يدركها من لم تتلوث فطرته بالعلوم الكلامية، كما وقع لكثير من أهل البدع.

وفي هذه الآية التي ساقها الله للنبي ﷺ ولأمته: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118] تسلية للنبي ﷺ لأن الإنسان من شأنه أن يتسلى بما جرى ووقع لغيره، فحينما يقال له: هذا الذي قيل لك، هذا الذي حصل معك، قد قيل لفلان ممن يأتسي به ويقتدي به ويعظمه ويجله، لا جديد هذه الجرأة ليست بِبِدْعٍ في أقوال هؤلاء ومطالبهم، بل وجه ذلك إلى من كان قبلك من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهذا مما يخفف، بما أن هذه سنة جارية، وعادة مستمرة فيحصل بسبب ذلك تهوين، بخلاف ما إذا انفرد الإنسان بشيء لم يُسبق إلى مثله، فيكون قد انفرد بمصيبته وبليته، لكن إذا كان الناس على هذا المهيع، وأحوالهم على هذا جارية، فإن الإنسان يتسلى وقد يحتاج إلى شيء من التذكير، فيقال له: لست أول من يقع له ذلك، وكانت الخنساء تقول:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي[1]

فالإنسان يتسلى بما يقع للآخرين في عصره، أو في غير عصره، والنبي ﷺ أرشد من أصيب بمصيبة أن يذكر مصيبته فيه ﷺ[2] تخف عليه المصيبة.

وقال الله عن أهل النار: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [سورة الزخرف: 39] بمعنى أن الناس إذا وقعت المصيبة العامة في البلد فإن ذلك يهون على الناس، كثر الموت بسبب الحروب، أو بسبب أوبئة، أو غير ذلك، يخف عليهم الموت، ويسهل، لكن حينما ينفرد في البلد واحد ويموت، ينهال أهل البلد معزين له، وتتعاظم عليه بليته ومصيبته، حينما يقع مرض بإنسان مرض خطير قد يجزع ويخاف ويتعاظم ذلك في نفسه ولكنه لو كان هذا المرض عامًا في الناس فيوجد حوله المئات أو الآلاف فإن ذلك يسهُل عليه.

وكذلك أيضًا هؤلاء الذين يطلبون الآيات لو جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، والله قد ذكر ذلك في مواضع من كتابه: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [سورة الأنعام:111] يحشر عليهم كل شيء، يكلمهم الموتى يقومون من القبور ويتكلمون ويقولون: هذا حق، ونزلت عليهم الملائكة، ومع ذلك لم يؤمنوا، والله يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ [سورة الإسراء:59] يعني المعجزات هذه التي يطلبونها ويقترحونها: إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] يعني آية مبصرة واضحة لا خفاء فيها فَظَلَمُوا بِهَا [سورة الإسراء:59]. 

فالله يرسل مع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الآيات ما يدل على صدقهم وتقوم الحجة به على أقوامهم، وهذا من معاني اسمه: "المؤمن"، يظهر دلائل صدق هؤلاء الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ولكن هناك آيات يقترحها هؤلاء الذين خوطبوا بالرسالة، ووجهت إليهم الدعوة، يقترحونها من عند أنفسهم على سبيل العناد والعنت والمكابرة وليس بقصد الإيمان وبيان الحق، وإلا فكما قال النبي ﷺ: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر[3] آية كافية للدلالة على صدقه.

  1.  انظر: شرح ديوان الحماسة (ص:601)، وسمط اللآلي في شرح أمالي القالي (1/ 145)، والبديع في نقد الشعر (ص:56). 
  2.  أخرجه ابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم (1599)، وقال محققوه: "حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف موسى بن عبيدة: وهو الربذي"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7879). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم (152).