وقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118] روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله ﷺ: يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ.بغض النظر عن صحة هذه الرواية، وهي لا تخلو من ضعف، لكن رافع بن حريملة هو من اليهود، وعلى هذا الاعتبار إذا أخذنا بهذه الرواية وقلنا: إنها سبب النزول، فيكون المراد بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ هم اليهود، وعلى هذا جرى بعض أهل العلم فقالوا: المراد به اليهود.
وذهبت طائفة -ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله- إلى أن ذلك يراد به النصارى؛ لأن النصارى هم الذين يوصفون بعدم العلم، فهم أهل بالجهل وأهل الضلال.
ومما احتجوا به أنهم، قالوا: إن الآية التي قبلها في النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] لكن كما عرفنا أنها ليست محمولة على النصارى بالاتفاق؛ بل منهم من قال هي في أهل الإشراك؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، ومنهم من قال: في اليهود؛ لأنهم قالوا: عزير ابن الله، ومنهم من قال: إنها في النصارى، وأشهر من نسب إلى الله هذه الفرية هم النصارى، ومن أهل العلم من حملها على جميع الطوائف التي وقعت في هذا الأمر.
على كل حال ابن جرير -رحمه الله- كان يحمل الآية السابقة على النصارى، وبالتالي فهو يقول: إن هذه الآية أيضاً لا زالت تتحدث عن النصارى، وهي قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ، وهذه الرواية التي سبق ذكرها تقول: إنها في اليهود، وهو ظاهر صنيع ابن كثير -رحمه الله-.
ولا شك أن المشركين كما قص القرآن طلبوا من النبي ﷺ في مناسبات متعددة مثل هذا الطلب، حيث أكثروا على النبي ﷺ في طلب الآيات، ولا شك أن هؤلاء المشركين أولى من يصدق عليه عدم العلم، فهم أهل جهل، ويمكن أن تحمل الآية على كل من وقع منه ذلك؛ لأن هذا الطلب إنما يصدر عن من كان موصوفاً بقلة العلم؛ لأنه يطلب الآيات على سبيل التعنت، فهو لم يكتف بما شاهد من الآيات، بل يريد الآيات التي يقترحها هو، فهو يريد من الله أن يكلمه بشخصه أو ينزل عليه كتاباً يقرؤه كما أنزل على هذا النبي، أو أن الله يحقق من الآيات ما اقترحه هو، كأن يحول الصفا ذهباً، أو يأتي الله مع رسوله ﷺ والملائكة قبيلاً، أو أن يرقى النبي في السماء، وليس ذلك فحسب بل لا بد وأن يأتي معه بكتاب من الله يقرؤونه، إلى غير ذلك من الآيات التي اقترحوها.
قوله: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ إذا فسرناها بما جاء في القرآن فإننا سنجد أن ذلك وقع كثيراً من المشركين، وكل من طلب هذا الطلب من هؤلاء المتعنتين فهم من الذين لا يعلمون، سواء كان لقلة معرفتهم أو كان عندهم من العلوم ما لا ينفعهم، فالعلم إذا كان غير نافع لصاحبه فإنه يكون كالعدم، ولهذا سمى الله من عصاه جاهلاً، والسبب في ذلك أن العلم يورث الخشية، لذلك يقول تعالى: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54].
وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ قال: هم اليهود والنصارى، ويؤيد هذا القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:124] الآية.في قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ: الذين من قبلهم هم اليهود والنصارى، وهذا قاله بعض السلف هنا، وعلى قول ابن جرير -رحمه الله- أن الذين قالوا لولا يكلمنا الله هم النصارى، فإن المقصود بقوله كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ هم اليهود.
وقوله تعالى: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [سورة الإسراء:90] إلى قوله: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:93] وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21] الآية وقوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً [سورة المدثر:52] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً [سورة النساء:153] وقال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55].
وقوله تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي: أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ [سورة الذاريات:52-53] الآية.
وقوله: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:118] أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله -تبارك وتعالى-.ولذلك وصفهم بأنهم لا يعلمون فقال: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني أنه قد جاء من الآيات ما يكفي لأهل العلم واليقين أن يؤمنوا بها ويكون برهاناً دالاً على صحة ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيبقى أهل العناد والتعنت والجهالة يقترحون الآيات.
وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس96-97].