يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة)، لما ذكرهم بنعمه قال: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:123].
وَاتَّقُوا يَوْمًا معلوم أن اليوم هو ظرف زمان لا يتقى، ولكن جرت لغة العرب أن يعبروا بمثل هذا، يعني: واتقوا أهوال يوم، اتقوا أوجال يوم، فما يقع في ذلك اليوم هو الذي يتقى، ولذلك يفسره أهل العلم بمثل هذا: واتقوا أهوال يوم لا تجزي، أهوال يوم الحساب، يوم القيامة لا تغني نفس عن نفس شيئًا، ولا يقبل منها فدية تنجيها من عذاب الله -تبارك وتعالى- فالعدل هو الفدية الفداء.
وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ يعني: لا يوجد وساطات في ذلك اليوم، فيخلص الإنسان بها إلا ما ثبت لأهل الإيمان، فإن نفي الشفاعة هنا وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ جاء عامًا، فإن الشفاعة هنا نكرة في سياق النفي، وهي للعموم، ولكن من أهل العلم من يقول كأبي جعفر بن جرير -رحمه الله: بأنه من العام المراد به الخصوص وبعضهم يقول: هو من العام المخصوص، يعني: أنه خصصته الأدلة الأخرى التي تثبت الشفاعة لأهل الإيمان، والمقصود أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، وأما الشفاعة المثبتة فهي لأهل الإيمان، وبعضهم يقول: إن الشفاعة المنفية هي التي تكون بغير إذن الله وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28].
وَلا هُمْ يُنصَرُونَ فذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة الأنواع الثلاثة التي يحصل بها الخلاص، الأول هو لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا لا أحد يستطيع أن ينفع غيره، وكذلك أيضًا لا أحد يستطيع أن يدفع فدية فيتخلص، والأمر الثالث وهو أنه لا أحد يستطيع أن يتوسط ويشفع لأحد فيتخلص من عذاب الله إن كان من الكفار، ويبقى الرابع وهو تخليصه بالقوة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ أي يحصل فكاك هذا الإنسان وتخليصه من بين يدي الله بالقوة، وهذا أمر لا يكون، فنفى ذلك جميعًا.
ويؤخذ من هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ تنكير اليوم هنا يدل على التهويل والتعظيم، يوم شديد الأهوال عظيم الأوجال، وإنما يكون اتقاؤه بالعمل الصالح مع الإيمان وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ صفة هذه اليوم أنه لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا لا تَجْزِي نَفْسٌ والنفس هنا أيضًا منكَّرة في سياق النفي، فهذا يشمل كل نفس، لا أحد يستطيع أن يخلص هؤلاء الكفار مهما علت مرتبته، فإبراهيم يقول سائلاً ربه -تبارك وتعالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [سورة الشعراء:87] فيحول أبوه إلى ذيخ وهو الذكر من الضباع، فيقال له: انظر، بحيث إنه لا يُعرف أنه آزر، فيكون ذلك إكرامًا لإبراهيم لكنه لم يتخلص أعني أباه من النار، يتحول إلى ذيخ
كذلك أيضًا النبي ﷺ لما سُئل: هل نفع أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطه في الجاهلية؟ فذكر النبي ﷺ: أنه في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار
وجاء: إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه... فلاحظ هنا لم يكن ذلك مخلصًا لأبي طالب من الخلود في النار، بل هو في النار.
بل حينما سأله رجل عن أبيه قال: أين أبي؟ قال: إن أبي وأباك في النار فذلك اليوم لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، التعلق بمن يعتقد فيهم الصلاح والولاية لا يغني وإنما الإيمان والعمل الصالح.
فهذا ولد نوح هلك وهو في الآخرة من أهل النار، وامرأة نوح وامرأة لوط مع قربهما إلى هذين النبيين الكريمين فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [سورة التحريم:10].
فالنجاة والخلاص لا يكون بالتعلق بالقرابات ونحو ذلك من غير إيمان وعمل صالح، لكن إذا وجد الإيمان الصحيح المنجي فإن الشفاعة تنفع ويُلحق الذرية بالآباء وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [سورة الطور:21].
وهكذا نسب النبي ﷺ فإن أبا لهب هو عمه، وأبو طالب عمه، ومع ذلك هما في النار، لكن من كان على أهل الإيمان فإن النبي ﷺ ذكر أنه في القيامة ينقطع ويبطل كل سبب ونسب قال: إلا سببي ونسبي.
ولاحظ هنا أنه قال: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ أيضًا نكرة في سياق النفي، يعني: لو أنه افتدى بملء الأرض ما قُبل منه، لم يكن ذلك بنافعه عند الله والله -تبارك وتعالى- يقول: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:11] يعني: أقرب الناس إليه وأعلق الناس بقلبه الذين يدفع عنهم في الدنيا، المرأة تقول: ألقي بنفسي في النار من أجل هؤلاء الأولاد، ويوم القيامة يود لو يفتدي بهم وبغيرهم الأم والأب والإخوة والزوجة وكل هؤلاء في سبيل أن ينجو.
وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ أي شفاعة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:123] وجاء هنا بضمير الفصل كما ذكرنا في مناسبات سابقة (هم) لتقوية النسبة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ لا يحصل لهم أي نوع من أنواع النصر، وإنما هو الخذلان الكامل من كل وجه، وتتبرأ منهم معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله .
لاحظ في هذه الآية من سورة البقرة وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:123] وفي الآية التي مضت من هذه السورة وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [سورة البقرة:48] بتقديم الشفاعة على العدل، فمثل هذا التنويع هو من ضروب البلاغة، والتقديم والتأخير يكون بحسب السياق.