السبت 13 / شوّال / 1446 - 12 / أبريل 2025
وَإِذِ ٱبْتَلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال الحافظ - رحمه الله - في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124].
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله ، وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر، والنواهي؛ ولهذا قال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين، وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم، وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت، والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر، والنواهي. 
في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124] الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، و"إذ": منصوب بـ"اذكر" مقدراًً، ولهذا مشى عليه الحافظ - رحمه الله - في التفسير.
قوله: وَإِذِ ابْتَلَى الابتلاء هو الامتحان، والاختبار، ويكون بالخير، والشر كما هو معروف، ويطلق في الاستعمال غالباً على الابتلاء بما يكرهه الإنسان، وسيأتي الكلام على الكلمات في قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124].
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر، والنواهي: أي أن الله امتحنه بكلمات من تكاليف الأمر، والنهي، أو غير ذلك مما قيل مما قد يدخل في معناه، ويرجع إليه غالباً.
قوله: فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن على الوجه المطلوب، فكافأه الله على ذلك بقوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124].
وإبراهيم ﷺ في بعض القراءات المتواترة يُقرأ إبراهام، ويقال: إن هذه اللفظة - هذا الاسم - مكون من شيئين هما: أب، ورحيم، ويقولون: إن ذلك بالسريانية، - والله تعالى أعلم -، كما يقولون في موسى: إنه مركب من كلمتين هما مو، وشى، والمعنى ماء، وشجر، وهذا سبق ذكره في درس ماض من تفسير هذه السورة.
فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن كلهن كما قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37] أي: وفَّى جميع ما شرع له فعمل به - صلوات الله عليه -.
وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120 - 123].
وقال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161].
وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:67 - 68]، وقوله تعالى: بِكَلِمَاتٍ أي: بشرائع، وأوامر، ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم - عليها السلام -: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم:12].
إذا قلت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، حينما تستعيذ بكلمات الله التي لا يجاوزها برٌّ، ولا فاجر، فالمقصود بها الكلمات القدرية الكونية؛ لأنك تريد أن يكفيك الله شر كل ذي شر، وأن يكفيك المخاوف، وإنما يكون ذلك بالكلمات القدرية الكونية.
ولو قلت: أعوذ بكلمات الله، وقصدت بها الكلمات الشرعية التي هي القرآن كلام الله صح ذلك؛ لأنه يجوز الاستعاذة بالصفة، قل أعوذ بعزة الله، وقدرته من شر ما أجد، وأحاذر، أعوذ بكلمات الله التامات، فكل هذا من الاستعاذة بالصفة.
وتطلق، ويراد بها الشرعية كقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [سورة الأنعام:115]: أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرًا، أو نهيًا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة:124] أي: قام بهن.الكلمات في هذه الآية هي كلمات شرعية، والمعنى أن الله ابتلاه بتكاليف معينة أي بشرائع من أمر، ونهي، فقام بها على الوجه المطلوب، وهذا هو المشهور، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري، - رحمه الله - في هذه الآية، وقوله: فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن.قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] أي: جزاء على ما فَعَل، لما قام بالأوامر، وتَرَكَ الزواجر جعله الله للناس قدوة، وإمامًا يقتدى به، ويحتذى حذوه.جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الإمام هو المتقدم على غيره، والله يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة:24]، فإبراهيم ﷺ جعله الله إماماً، وكان أمة فهو رجل جامع لخصال الخير، وجامع للخصال الكاملة التي تفرقت في غيره، وصار مقدماً يقتدي به من جاء بعده، ويكفي أن الله أمر نبيه ﷺ بأن يتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل ، فروي عن ابن عباس في ذلك روايات: فروى عبد الرزاق عن ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك، وكذا رواه أبو إسحاق.الله أخبرنا أنه ابتلى إبراهيم ﷺ بكلمات، ولم يحدد شيئاً دون شيء، فهذه الكلمات هي ما ابتلاه الله به من التكاليف التي كلفه بها، فإلى هذا القدر يمكن أن نقف، ونقول: كلفه بتكاليف فقام بها على الوجه المطلوب الأكمل من غير إخلال، ولا نقص، ولا تفريط فكافأه الله على ذلك أن جعله للناس إماماً، دون أن نخوض في تفاصيل هذه الكلمات التي كلفه الله بها، وهذا الذي مشى عليه بعض المحققين، كابن جرير الطبري - رحمه الله - .
وكلام السلف كثير في هذه الآية، وسواء قلنا: كلفه بشرائع الإسلام، أو كلفه ببعض التكاليف بالمناسك، أو بأداء الرسالة، أو بالطهارة، أو بفراق قومه في الله، حينما أمر بمفارقتهم، وبمحاجة النمرود، أو بالصبر على ما وقع له من الأذى العظيم، وإلقاءه في النار، والهجرة من الأوطان، أو ما يتعلق بالضيافة، وخبره في ذلك مع الملائكة معروف، أو ما ابتلي به من ذبح ولده، ووحيده، فكل ذلك على كل حال هو من جملة التكاليف التي كلفه الله بها، فكل ذلك داخل تحت هذا المعنى الكبير، وليس هناك يوجب تخصيص بعض هذه المعاني دون بعض، وبالتالي يكفي أن نعرف هذا القدر من المعنى، فهو كلفه بتكاليف فقام بها على الوجه المطلوب، - والله تعالى أعلم -.
وروى عبد الرزاق - أيضاً - عن ابن عباس: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [سورة البقرة:124] قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ في الرأس قَص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفَرْق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونَتْف الإبط، وغسل أثر الغائط، والبول بالماء، قال ابن أبي حاتم: ورُوِي عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنَّخَعي، وأبي صالح، وأبي الجلد، نحو ذلك.وكل هذه من جملة التكاليف؟
قلت: وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - ا - قالت: قال رسول الله ﷺ: عَشْرٌ من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة[1]، قال، وَكِيع: انتقاص الماء، يعني: الاستنجاء.البراجم، والرواجب بعضهم يقول: البراجم العقد التي في ظاهر الكف، والرواجب هي ما يقابلها من باطن الكف، وبعضهم يعكس هذا ذلك، وعلى كل حال إذا قرأت في الفقه غسل البراجم، والرواجب فمعناها تعاهد هذه المسافط التي قد ينبو عنها الماء.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط[2]، ولفظه لمسلم.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجَّته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه، وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم.
قوله: ليحرقوه في الله على هول ذلك: ليس المعنى ليحرقوه في الله على هول هذا الجزاء، وإنما المقصود مع شدة ذلك.
وما أمره به من الضيافة، والصبر عليها بنفسه، وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله، وأخلصه للبلاء قال الله له: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] على ما كان من خلاف الناس، وفراقهم.على كل حال كل هذه المعاني - فيما سبق - ترجع إلى شيء واحد، وهو التكاليف، والأمر، والنهي.
وقوله: قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] لما جعل الله إبراهيم إمامًا، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته.قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي يحتمل أن يكون من قبيل السؤال، والطلب، والدعاء، أي أن الله أخبره أنه سيجعله إماماً، فدعا ربه لما أخذته الشفقة، وما جبل عليه من محبة الخير للذرية، فقال: وَمِن ذُرِّيَّتِي أي اجعل أئمة سواء قيل: بإن "من" بيانية أو قيل: إنها تبعيضية كما هو الخلاف في قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:104]، فهذه تحتمل أيضاً أن تكون بيانية، وأن تكون تبعيضية، فحينما يقول الرجل لأبنائه مثلا: أريد منكم أبناء بررة، فـ"من" هنا بيانية؛ لأنه لا يريد أن يكون بعض هؤلاء الأبناء بررة، والباقين عققة، لكن لما تقول: أريد منكم رجلين يذهبان إلى مكان كذا، وكذا، فـ"من" هنا تكون تبعيضية، والمقصود هنا أن قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي يحتمل أن تكون "من" بيانية يعني اجعل ذريتي أئمة، وتحتمل أن تكون تبعيضية، أي اجعل بعضهم أئمة.
فيحتمل أن يكون هذا طلباً، ويحتمل أن يكون على سبيل الاستفهام لما أخبره أنه سيجعله للناس إماماً سأل عن الذرية ما شأنهم، هل ستكون لهم الإمامة أو لا؟ فأجابه بأن ذلك لا ينال الظالمين منهم، والأقرب أن ذلك على سبيل الطلب، فهو طلب ربه - تبارك، وتعالى - أن يجعل من ذريته أئمة كذلك.
قوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي الذرية يمكن أن تكون مأخوذة من الذر كما في فالحديث المفسر لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الأعراف:172]، وأنه مسح على ظهر آدم فاستخرج ذريته أمثال الذر.
ويحتمل أن تكون مأخوذةً من: ذرأ، يقال: ذرأ الله الخلق، وقال تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة النحل:13]، ويحتمل غير ذلك باعتبار أن اللهً ذرأهم على الأرض كما يذرأ الزارع الحب، - والله أعلم -.
لما جعل الله إبراهيم إمامًا سأل اللهَ أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27] فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله، وسلامه عليه.وأما قوله تعالى: قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فيخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده، ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره، وإن كان من ذرية خليله.
قوله تعالى: قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] العهد المقصود به عهده بالإمامة، أي: لا ينال عهدي بالإمامة المذكورة في قوله: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي [سورة البقرة:124] أي الإمامة المشار إليها.
وبعضهم يقول: هي النبوة، وعلى كل حال فالنبوة داخلة في الإمامة؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - أئمة يقتدى بهم.
وبعضهم يقول: لاَ يَنَالُ عَهْدِي أي: الخلاص، والنجاة من عذاب الآخرة، لكن هذا المعنى لم يجر له ذكر، ولا يوجد ما يدل عليه، فهو لم يسأل ربه الخلاص لذريته، والنجاة، فقال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي ليس لهم عندي عهد بذلك.
وقول من قال: إن المقصود بالعهد هنا دين الله فهذا أيضاً لا يخلو من بُعد، بل بعضهم يذكر معنى أبعد من هذا كله فيقول: أي: لا عهد عليك لظالم فتطيعه، وإنما الأقرب - والله أعلم - أي: لا ينال الإمامة التي أخبر - تبارك، وتعالى - عنها أنها كائنة لإبراهيم ﷺ، ومن ثَمَّ دعا ربه أن يرزقه ذلك.
وسيأتي حينما أخبر الله عنه أنه دعا لمكة: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:126] أنه قيد ذلك بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] فهو خص الدعاء بأهل الإيمان بالله، وباليوم الآخر تأدباً؛ وذلك أنه لما سأل الإمامة لذريته في الأول فأخبره الله أن ذلك لا يحصل للظالمين ظن أن الدعاء بالرزق أيضاً إنما يختص بأهل الإيمان، فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126]، وهذا من أدب الأنبياء مع الله ، فهو ظن أن ذلك لا يصح أن يكون لأهل الكفر فبين الله له الفرق بين الرزق، والإمامة، وأن الإمامة تختلف، فقال: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] فالدنيا تعطى للمؤمن، والكافر، والرزق لا يختص بأهل الإيمان فهو شأن يختلف عن الإمامة، ولذلك فالإمامة في قوله - تبارك، وتعالى -: وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] ليس المقصود بها تحصيل الرئاسة، والملك؛ فهذا يقع لأهل الخير، والفضل، ويقع للظالمين، ولأهل الكفر، وإنما المقصود أن يكون إماماً يقتدى به في خصال الخير، ويقدم على غيره في الطاعة، والصلاح، والهدى، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74]، - والله تعالى أعلم -.
واختار ابن جرير أن هذه الآية، وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل  أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه.
وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة، ولا حاكماً، ولا مفتياً، ولا شاهداً، ولا راوياً.
يعني يؤخذ منها، ويفهم منها أن الظالم لا يصلح أن يقدم في الناس، ولكن ذلك ليس من الأمر القدري بحيث إن الله قضى ذلك، وحكم به، وقدره بحيث إنه لا يحصل للظالمين، وإنما هو أمر يفهم من هذه الآية، وهو أنه إذا كانت الإمامة في الدين لا تصلح للظالمين فكذلك أيضاً كل وجه يقدم به أهل الظلم، والفجور، والكفر ينبغي أن يمنع.
لكن الآية هي خبر كما هو ظاهر، فيُفْهَم منها هذا المعنى ضمناً، وخاصة أنه لم يرد هذا الخبر لتقرير هذه المعاني ابتداء، وما سيق لذلك، وإنما لما قال الله: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فهم أن هذه الإمامة في ذرية إبراهيم ﷺ كما قال : وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ، وَعَلَى إِسْحَقَ، وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ، وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ [سورة الصافات:113]، - والله تعالى أعلم -. 
  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب خصال الفطرة (261) (ج 1 /  ص 223).
  2. أخرجه البخاري في  كتاب اللباس - باب تقليم الأظافر (5552) (ج 5 / ص 2209)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب خصال الفطرة (257) (ج 1 /  ص 221).

مرات الإستماع: 0

"وَإِذِ ابْتَلى أي اختبر، فالعامل في (إذ) فعل مضمر تقديره اذكروا".

بعض أهل العلم يقولون: إنه إذا جاء مثل هذا "وإذ كذا" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة: 61] ونحو ذلك أنه يكون معمولًا لفعل مقدر محذوف "واذكر" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ واذكر إذا ابتلى إبراهيم ربه، وبعضهم يقول غير هذا.

"أو قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ".

قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا هذا بعيد - والله أعلم - لكن القول بأن (إذ) معمول لمقدر محذوف تقديره "اذكر" هذا المعنى أوضح، وإن لم يكن محل اتفاق، فبعض أهل العلم يربط ذلك بمذكور في الآية بعده، ويقول: هو العامل فيه، لكنه لا يتبادر إلى الذهن من جهة المعنى - والله أعلم -.

"وقوله: بِكَلِماتٍ قيل: مناسك الحج، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، ونتف الإبطين، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقيل هي ثلاثون خصلة: عشر ذكرت في براءة من قوله: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ وعشر في الأحزاب من قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وعشر في المعارج من قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ".

هذا التحديد لا دليل عليه، قوله: بِكَلِمَاتٍ قيل: مناسك الحج، وهذا مروي عن ابن عباس - ا -[1] والسلف قد يفسرون بالمثال، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهو أيضًا مروي عن ابن عباس، وعن جماعة من التابعين: كابن المسيب، ومجاهد، والشعبي، وإبراهيم النخعي[2] يقولون: هي خصال الفطرة، التي هي: المضمضة، والاستنشاق... إلخ.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ولو أنه فُسر بما يشمل ذلك، وينتظمه، فيقال مثلًا: بِكَلِمَاتٍ أي بتكاليف دون تحديد؛ لأنه لم يرد في ذلك تحديد، لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله ﷺ ابتلاه بكلمات أي بتكاليف، فأداها على وجه تام، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] فوفى ما أمره الله به، وكلفه به، وهذا الذي اختاره ابن جرير[3] وابن كثير[4] حيث يرون أن بِكَلِمَاتٍ أي: بتكاليف، فتشمل أمورًا لم يحددها الله - تبارك، وتعالى - هنا بشيء من هذه المذكورات بعينها، وإنما المراد أنه ابتلاه بتكاليف، فأتى بها على أكمل الوجوه، وأتمها، فتكون هذه الأشياء المذكورة التي ذكرها بعض السلف يمكن أن تكون من قبيل التفسير بالمثال.

فالسلف قد يفسرون بالمثال، وقد يفسرون بلازم المعنى، يعني مثل الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ فالذين قالوا: يتبعونه حق اتباعه، يمكن أن يكون هذا من قبيل التفسير بلازم المعنى، وليس بلازم؛ لأن من معنى التلاوة الاتباع، لكنه يمكن أن يكون هو أحسن من القول بأنه تفسير له بدلالة التضمن، يعني فسره ببعض معناه، فذكر الأهم، وهو الاتباع، لكن هذا الاتباع في الواقع لا يتأتى إلا بالقراءة، فالقراءة هي الطريق التي يكون معها التدبر، فيحصل بذلك العمل، والامتثال، فالتلاوة تشمل هذا، وهذا بدلالة المطابقة، بدلالة اللفظ على كامل المعنى، فإذا فُسر بالقراءة فقط، أو فُسر بالعمل، والاتباع، فهذا تفسير له ببعض معناه، هذه التي يقال لها: دلالة التضمن، فيكون قد فسره ببعض معناه، وأي المعنيين ذكر، المعنى الأهم، لكن الواقع أن هذا الاتباع لا يتأتى أصلًا إلا بالقراءة، فالتلاوة لا بد فيها من القراءة؛ لأنها الطريق إلى العمل، والامتثال؛ ولذلك فإنا إذا أردنا أن نفسر المعنى بكامل ما تدل عليه اللفظة، فنقول: القراءة، والاتباع، والعمل، والامتثال، والسلف قد يفسرون بهذا، يعني ببعض المعنى، أو بجزء المعنى، وقد يفسرون بلازمه.

"فَأَتَمَّهُنَّ أي عمل بهنّ".

يعني جاء بهن على الوجه الأكمل.

"وَمِنْ ذُرِّيَّتِي استفهام، أو رغبة".

استفهام يعني يكون المعنى: أتجعل منهم أئمة؟ فيكون استفهام، أو رغبة بمعنى طلب يعني وَمِنْ ذُرِّيَّتِي اجعل أئمة، وهذا هو الظاهر؛ لأنه قال: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فكأنه طلب ذلك؛ ولهذا يقول العلماء: بأنه قد أخذته الشفقة على الذرية، فطلب لهم الإمامة.

"عَهْدِي الإمامة".

عَهْدِي المقصود بالعهد: الإمامة، وبعضهم قال: النبوة، وبعضهم قال: الأمان من عذاب الآخرة، وهذا بعيد، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن الذي يظهر أن المقصود: الإمامة؛ لأنها هي المذكورة إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي والمقصود الإمامة في الدين، وليس الإمامة في الدنيا، بأن يكون الحكم، والتسلط له، ونحو ذلك فليس هذا هو المراد، فهذا يقع لأهل الإيمان، ويقع للكفار، ويقع للظلمة، لكن هنا الإمامة في الدين، يعني أن عهده بالإمامة لا يصير إلى الظلمة، فلا ينالون الإمامة في الدين؛ لأن الإمامة في الدين شرف وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] الذي يُقتدى به في الخير، فيكون مقدمًا للناس من جهة الأسوة، والقدوة لصلاحه، وتقواه، وعلمه، وعمله، وما أشبه ذلك، فهذا لا يكون للظالمين، فليسوا بأهل لهذا التقديم.

قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي والذرية مضى الكلام في الغريب، قيل: مأخوذ من الذّر، وقيل: من ذرأ الله الخلق، يعني إذا خلقهم، وقيل: لأن الله ذرأهم على الأرض، كما ذرأ الزارع البذر، أي نشره. 

  1.  تفسير الطبري (2/13).
  2.  تفسير ابن كثير (1/406).
  3.  تفسير الطبري (2/15).
  4.  تفسير ابن كثير (1/410).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124].

وَإِذِ ابْتَلَى (إذ) هذه تكون مسبوقة بمقدر دائمًا واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، اذكر أيها النبي حين اختبر الله إبراهيم بكلمات فأتمهن، شرائع تكاليف أداها وقام بها خير قيام، فعندها قال الله بعد هذا الابتلاء: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قدوة يأتم بك غيرك ويقتدون، فإبراهيم قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعني: واجعل من نسلي أئمة، فأجابه الله بأن الإمامة لا تصلح للظالمين لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يعني العهد بالإمامة لا ينال لا يصل إلى الظالمين، عهده بالإمامة لا يتحقق لا يكون لأهل الظلم لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد وَإِذِ ابْتَلَى حينما يُذكر ذلك للنبي ﷺ واذكر إذ ابتلى، هذا يدل على شرف إبراهيم حيث ذكر الله خبره هذا، وهذا الابتلاء الذي نجح فيه لأفضل رسول وفي خير كتاب ولأفضل أمة، ثم إن طلب ذكر ذلك يدل على شرف هذا المذكور وَإِذِ ابْتَلَى واذكر.

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قدَّم إبراهيم عناية واهتمامًا؛ لأنه وقع عليه الابتلاء فهو المحدث عنه، المبين شرفه في هذه الآية، فقد سيقت هذا المساق، فقدمه وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ ما قال: وإذ ابتلى الله إبراهيم، وإنما وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فهذا يدل على أن الإمامة لا تكون إلا بعد الابتلاء.

ولما سئل الشافعي -رحمه الله: هل يُمكَّن للإنسان ثم يبتلى؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يبتلى[1] لا يُمكَّن له حتى يبتلى.

والله يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة:24] وهنا قال من قال من السلف : بأنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة بالدين.

الصبر على طاعة، والصبر عن معصية، الصبر على أقداره المؤلمة، لا بد من الصبر، فمن الناس من ينكسر حال الابتلاء ويتراجع، يجزع، يتسخط، يتخلى عن مبادئه، يعترض على قدر الله ومن الناس من يضعف يقينه فيتزعزع إيمانه لأدنى تشكيك وشبهة، فالإيمان الراسخ الثابت هو الذي يكون صاحبه من أهل الإمامة، لا تكون الإمامة لمن كان إيمانه ضعيفًا هشًا، قابلاً للتشكيك، فهو يتقلب في كل يوم على رأي ومذهب ودين، إنما يكون راسخًا رسوخ الجبال الرواسي، واقرأوا ما جاء في سير بعض السلف ماذا قيل عند موتهم، تجد بعض العبارات أنه كان على سنن واحد، لم يتغير ولم يتبدل على نهج واحد، هذا هو الثبات.

قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الإمامة هنا الإمامة في الدين بمعنى أنه يكون قدوة متبعًا، وهو المراد بقوله -تبارك وتعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74] فهذا ليس من طلب الرياسة في شيء، وإنما المقصود أن يكون الإنسان في حال من الاستقامة في الاعتقاد والقول والعمل فيكون قدوة لأهل الإيمان، قدوة صالح يقتدون به ويأتمون به، هذا هو المقصود وليس طلبًا للإمارة والرئاسة وما أشبه ذلك.

فإبراهيم أخذته الشفقة على ذريته، فلما قال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعني اجعل أئمة، و "من" هذه تحتمل أن تكون للتبعيض، اجعل من ذريتي، فعلى هذا المعنى كما يقول الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: أن ذلك من آدب الدعاء من جهة أنه علم أن الإمامة لن تكون في جميع الذرية؛ لأنهم يتفاوتون في استقامتهم وصلاحهم وإيمانهم فطلب أن يكون ذلك في بعضهم[2].

وعلى القول بأن "من" هذه بيانية وَمِنْ ذُرِّيَّتِي كما يقول الرجل لأولاده: أريد منكم أولاد بررة، لا يقصد أريد منكم يعني أريد بعضكم دون بعض، وإنما يقصد جميع الأولاد، فتكون "من" بيانية، تقول لإنسان: أريد منك رجلاً شهمًا مجدًا همامًا، أريد منك ليس المقصود التبعيض وإنما "من" بيانية.

إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فأخذته الشفقة فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعني اجعلهم أئمة، فبين الله أن الإمامة لا ينالها أهل الظلم لا يَنَالُ عَهْدِي أي: بالإمامة الظالمين، فهنا دل ذلك كما قال جمع من أهل العلم: أن الإمام لا بد أن يكون من أهل الدين والصلاح والخير والإحسان.

ويؤخذ من هذه الآية: فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده حيث يجزيهم وهو من معاني الشكور من أسمائه، يجزيهم على عملهم القليل بالجزاء الكثير، هذا معنى الشكور، فالله ابتلى إبراهيم بكلمات، كلمات تدل على القلة، وهو الذي تفضل عليه وهداه، وألهمه، وثبته ووفقه، ومع ذلك يجزي عبده الجزاء الأوفى، فكان الجزاء له بهذا الجزاء العظيم إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا والناس هنا يدل على الجنس، جنس الناس، ولذلك لا يوجد أحد رجل أجمع عليه أهل الملل، وكل طائفة تضيفه إلى نفسها مثل إبراهيم اليهود يقولون: بأنه منهم، والنصارى يقولون: بأنه منهم، ولهذا قال الله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [سورة آل عمران:67] فتنازعته الطوائف لعظمه وإمامته ورد الله على هؤلاء هذه الدعاوى في مواضع من كتابه كما هو معلوم أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [سورة البقرة:140] إلى غير ذلك.

وأيضًا يؤخذ من هذه الآية: فضل إبراهيم من جهة الإمامة التي حباه الله بها، ومن جهة أيضًا يؤخذ من هذا الفضل وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ فأضافه إليه، فهذه إضافة تشريف، أضاف ربوبيته إلى إبراهيم وهذه ربوبية خاصة، وكذلك في قوله: فَأَتَمَّهُنَّ وكذلك فيما بعده إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا .

ويؤخذ من هذه الآية: أن سُنن الله لا تحابي أحدًا مهما علا قدره، ولو كان في مكان التكريم، يعني هذه لحظة تكريم لإبراهيم فانتهز الفرصة قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فلم تكن سنن الله تحابي أحدًا، ولو حابت أحدًا لكان ذلك لإبراهيم فقال الله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فإن أهل البدع والضلال والإشراك الفجور لا يصلحون للإمامة في الدين.

ولذلك أقول أيها الأحبة: ثلاثة لا يُصدَّرون، قد يكون عند الإنسان فضل ذكاء، وكثرة معلومات، وحفظ، وما أشبه ذلك، لكن عنده مشكلة.

ثلاثة لا يُصدَّرون: صاحب البدعة، والعلم ليس حكرًا عليه، تقول: عنده معلومات، عنده، عنده، لا يُصدَّر لا يُقدَّم للناس.

الثاني: صاحب الهوى والشهوات والمعاصي، فاسق مهما كان حفظه، ومهما كان علمه، لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود، فإنسان مضيع لحدود الله  منتهك لمحارمه، ولو كان عنده علم كثير، مثل هذا لا يُقدَّم للناس؛ لأنه فتنة، قد يؤتى الإنسان ذكاء ولا يؤتى زكاءً.

الثالث: وهو صاحب الشذوذات، يعني كل إنسان عنده آراء لربما تكون غير صحيحة ولا يسلم من هذا أحد، لكن إذا كثر ذلك غلب على الإنسان شذوذات، الغالب عليه يطرح غرائب شذوذات، يُغرب على الناس، فيكون ذلك سببًا لفتنة ولزعزعة دينهم وثقتهم بما هم عليه، فإذا غلب هذا على الإنسان وصار غالبًا عليه، إثارة قضايا غريبة، فتاوى غريبة شاذة، آراء شاذة يتبناها بحيث يكون ذلك سمة له، ليست مسألة ولا مسألتين ولا ثلاث، إنما هو الغالب، فمثل هذا لا يُصدَّر؛ لأنه يكون فتنة للناس، هؤلاء ثلاثة لا يُصدَّرون.

فإن شئت أن تزيد رابعًا فلك أن تزيد من عُرف بحب الشهرة والرئاسة، وحب التصدُّر فمثل هذا لا يعان عليه الشيطان، فإنه يكون مفتونًا، ومثل هذا الذي يكون عنده حب للشهرة والرئاسة والتصدر سيكون تبعًا لأهواء الناس، تبعًا للجماهير؛ لأنه لا يريد أن يخسر هؤلاء الأتباع، فهو يريد أن يتكثر منهم، ومن ثم فإنه يقول لهم ما يوافق أهواءهم، فيعطيهم من الفتاوى المرخصة التي توافق هواه، لا يريد أن يغضب أحدًا منهم، لا يريد أن يجرح أحدًا منهم، لا يريد أن يقول: هذا مبتدع، أو هذه بدعة، أو هذا حرام هذا شرك، أو هذا كذا، وإنما كل شيء عنده إجابات ضبابية لا تأخذ منه حقًّا ولا باطلاً، كما يقال: إجابات دبلوماسية.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [سورة الكهف:29] لا بد من بيان الحق للناس بصورة واضحة جلية لا يكون ملتبسًا عليهم، فهذا الذي لا يعرفون من خلال فتواه أو كلامه الحلال من الحرام ولا السنة من البدعة، ولا الإيمان من الشرك هذه تضلل الناس، يبقى الناس في عماية، فمن الناس من لا يريد أن يخسر أحدًا، أهل البدع والأهواء وأهل الفجور والمعاصي، الكل يربت على كتفه كأنه يقول: لا بأس عليكم، بل لربما يستدل بآيات، يعني بعضهم يستدل بقوله تعالى لقوم فجرة في قناة سيئة يقول: طبيعة الإنسان محبة الخير وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] في محكم التنزيل، الآية وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ يعني المال، هذا معنى الآية، لكنه للأسف يوردها على قوم من أهل الفسق وعرفوا بهذا والفجور وفي قناة كذلك ليقول لهم: لا بأس عليكم طبيعة الإنسان أصلاً حب الخير، أنتم تحبون الخير مهما كنتم من السوء، ويحمل الآية على معنىً محرف غير مراد بالإجماع.

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ يعني: المال، وليس حب الخير، يعني العمل الصالح، أبدًا، فإن من النفوس من يكون صاحبها أبعد عن الخير والعمل الصالح، قد انتكست فطرته فهو يكره الحق وأهله ويعاديه ويحاربه، وهذا أمر مشاهد.

على كل حال أيضًا لاحظ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أراد الخير لذريته هذه جبلة، وقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [سورة إبراهيم:35] فالإنسان يدعو لأولاده بالصلاح، ويحرص على تربيتهم التربية الصحيحة؛ لأن هؤلاء امتداد له، والنبي ﷺ قال: أو ولد صالح يدعو له[3] هؤلاء هم مدخراتك مع العمل الصالح، هؤلاء من جملة العمل الصالح الذي يبقى من بعدك إذا صلحوا، وكل من رآهم دعا قال: رحم الله والديه، هؤلاء الأولاد من الصلحاء يدعون له يرفعون أيديهم يدعون الله  لكن إذا كان الولد غير صالح فهو لا يدعو لنفسه، ولا يدعو لأبيه فهو مشغول بالغيّ والشهوات، ومطالب النفوس الدنية.

فإصلاح الأولاد والعناية بهم، والمحافظة عليهم والدعاء لهم بالصلاح، لا تدعُ عليهم، وأيضًا القسوة المفرطة، يعني من الناس من يخسر أولاده بسبب القسوة المفرطة، فهذا التدليل والتربية الفاسدة أن يقال: لا تضغط على الولد، دعه يفعل ما يشاء، البنت تلبس ما تشاء، لا تضغط، هذا غلط، إنما وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [سورة طه:132] قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [سورة التحريم:6] كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته[4] بالحسنى بالكلام الطيب بالإقناع، وإذا ما نفع فبالإلزام، لا أتركه يترك الصلاة وهو فراشه، وأذهب إلى المسجد، بل يقوم ويخرج إلى المسجد ولا يبقى في البيت، لكن من الناس من يقسو قسوة مفرطة كأن يقول للولد: إذا تأخرت عن الساعة الحادية عشرة الباب مقفل ولن تدخل، ولربما طرده من البيت، فيتلقفه الشياطين ويخسر هذا الولد، ويزيد انحرافًا وسوء وشرًّا، فيحتاج إلى احتوائه ومعالجته بالطرق اللائقة.

أما هذه الشدة والقسوة فإنها قد تقطع حبال الود، ولا أحصي كم أولئك الذين يقولون: بأن آباءهم لا يحبونهم، أو أولئك الفتيات اللائي يقلن: بأن أمهاتهن كذلك، وتحاول جاهدًا أن تقنع، وأن هؤلاء إنما يفعلون ذلك معك بدافع الحرص والمحبة، محبة الخير لك، ومع ذلك أنا أقول أيها الأحبة: أكثر هذه المحاولات كانت فاشلة، هو مصر على أن أباه يكرهه، وأن أمها تبغضها، بل أكثر من هذا، فقد يسأل بعضهم بعد الوفاة، يقول: لا زال في قلبي أشياء وأحاول أن أدفعها ولا أستطيع، لاحظوا بعد الموت يذهب كل شيء من العداوات ماذا بقي؟ وهذا لأبيه وهذه تجاه أمها تقول: لا زال بقايا، أحاول أن أطيب قلبي تجاهها ولا أستطيع بعد الموت، فهذه كيف ستدعو لها، أو كيف هذا سيدعو لأبيه.

وعلى كل حال، يؤخذ من هذه الآية أن الإمامة ليست مجرد وراثة أصلاب وأنساب، وليست تؤخذ بالقرابة والدم والجنس ودعاوى الجاهلية، إنما تؤخذ بالإيمان والعمل الصالح.

وهكذا أيضًا في قوله تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يدل على أن العدل الذي يقابل الظلم، العدل هو أساس استحقاق هذه الإمامة، ومن اتصف بالظلم فإنه لا يصلح لذلك.

ولاحظ هذه الآية إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا إلى آخره، جاء فيها ثلاث عشرة لفظة ومع ذلك جاء فيها الخبر والاستخبار والأمر والنهي والوعد والوعيد، ستة أنواع من المخاطبات، فهذا من فصاحة القرآن، حوار بثلاث عشرة لفظة تضمن ستة أنواع من ألوان الخطاب.

  1.  الفوائد لابن القيم (ص: 208). 
  2.  التحرير والتنوير (1/ 705). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته رقم: (1631). 
  4.  أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [سورة التحريم:6] رقم: (5188)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، رقم: (1829).