السبت 13 / شوّال / 1446 - 12 / أبريل 2025
وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُوا۟ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِۦمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يقول: لا يقضون منه، وطرًا يأتونه، ويرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه".
فقوله - تبارك، وتعالى -: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] أي واذكروا إذ جعلنا البيت مثابة للناس، وأمناً.
والمراد بقوله: مَثَابَةً قيل: مرجعاً يرجع إليه الناس بعد تفرقهم، وبعضهم يقول: مثابة من الثواب، أي أنه موضعاً للثواب، فهو مكان تعظُم فيه الحسنات، وتكثَّر فيه الأجور، وتحط فيه الخطايا، والهاء يمكن أن تكون للمبالغة، أو للتأنيث.
فالمقصود أن قوله: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] إما أن يكون المراد أنه محلاً للثواب، أو أنهم يثوبون إليه فيكون ذلك موافقاً لما جاء، أو روي عن ابن عباس لا يقضون منه، وطراً يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، بمعنى أنهم لا يكتفون بزيارة واحدة إليه، بل كلما أتوا إليه، ورجعوا إلى أهليهم تاقت نفوسهم إليه ثانية.
وابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد جعل ذلك من خصائص مكة، وهذا شيء مشاهد،
َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] يثوبون أي يرجعون إليه.
قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يقول: لا يقضون منه، وطرًا، يأتونه يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] يقول: وأمنًا من العدو، وأن يُجعَل فيه السلاح."

يعني يمكن أن يكون قوله: وَأَمْنًا اسم مكان، أي موضع أمن إذ جعلناه مثابة يثوبون إليه كلما فارقوه، تاقوا إليه ثانية.
وقوله: وَأَمْنًا أي مكاناً يأمنون فيه من الخوف من العدو، ومن الاعتداء، وأن يجعل فيه السلاح، ولهذا نهى النبي ﷺ عن حمل السلاح بمكة.
"وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفًا به شرعًا، وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا.

قوله: شرعاً، وقدراً أي أن الله جعل مكة موضعاً للأمن كما قال الله : َوَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، فجعلهم بهذه المثابة، أي يأمنون فيه مع كثرة المخاوف المحيطة به، فالناس يحصل لهم من السبي، والقتل، وما إلى ذلك مما يحصل من غارات القبائل، وما إلى ذلك، وأما مكة فقد جعلها الله موضعاً يأمنون فيه على نفوسهم، وأموالهم، وهذا معنى قدراً، وأما شرعاً فحرمة مكة معلومة حيث إن الله قد حرمها مذ خلق السموات، والأرض، وقد قال النبي ﷺ: إن إبراهيم حرم مكة[1].
"ولا تقضي منه، وطراً، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، ، في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37] إلى أن قال: رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [سورة إبراهيم:40]، ويصفه تعالى بأنه جعله آمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل، ثم دخله كان آمنًا، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا."
هذا الكلام قال به بعض السلف، ولكنه ليس محل اتفاق، إذ إن البيت لا يجير من قد أصاب دماً حراماً، أو مالاً حراماً، أو نحو ذلك، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يؤخذ من أحدث فيه حدثاً.
وتكلم العلماء - رحمهم الله - أيضاً على ما إذا بغى أهل مكة على الإمام، ولم يمكن دفعهم عن ذلك البغي إلا بالقتال، فالمقصود أن الحرم موضع للأمن؛ ولكن ليس معنى ذلك أن السارق يسرق فيترك، والقاتل يقتل فيترك، فيكون الحرم محلاً لاجتماع المجرمين، إذ لو كان الأمر كذلك فكل من جنى جناية سيلجأ إلى الحرم.
"وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً، وهو خليل الرحمن كما قال تعالى: َوَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [سورة الحـج:26]، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۝ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97].
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده فقال: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125].
وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] قال: الحَجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة، ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه."

قوله تعالى: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، في القراءة الأخرى المتواترة، قراءة نافع، وابن عامر بفتح الخاء: (واتَّخَذوا) على سبيل الخبر، والقراءة الأولى على سبيل الأمر، َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، ولا منافاة بين القراءتين، إذ إن كل واحدة منهما تدل على مشروعية الصلاة عند مقام إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - .
والمقصود بمقام إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - على المشهور من أقوال أهل العلم أنه الحجر المعروف الذي فيه موطئ قدمه ﷺ، وأصل ذلك على المشهور عند أهل العلم أنه كان يرتقي عليه لبناء الكعبة، فظهر أثر قدميه على هذا الجحر مع ملامسة ما يبنى به الطين، ونحو ذلك، وليس ذلك كما يقول بعضهم من أنه كان يغتسل عليه، أو أنه اغتسل عليه؛ فهذا ليس له علاقة بموضوع بناء الكعبة بل ليس له أصل، إذ لو كان قد اغتسل عليه لاختلفت قدماه، أي أن الماء حينما يمتزج بالطين فإنه لا يكون ذلك موضعاً متميزاً تظهر فيه آثار القدم بالأصابع، بمعنى أنه لو كان محلاً للاغتسال لاختلفت قدماه، فلا تنطبع فيه بهذه الطريقة، والمغتسِل كذلك لا يجعل رجله بهذه المثابة، وإنما هو بحاجة إلى غسلها، فالمقصود أن ذلك الحجر إنما كان يرتقي عليه لبناء الكعبة.
 وهذا الحجر كما جاء عن أنس بن مالك أن أصابع إبراهيم ﷺ كانت ظاهرة فيه، وأنس من صغار الصحابة كان يقول بأنه أدرك الحجر، وأن أصابع قدم إبراهيم كانت ظاهرة فيه، وطبعاً الأصابع الآن غير ظاهرة، وإنما الموجود أثر قدم ليس لها آثار الأصابع، ويذكر أن ذلك قد ذهب بسبب مسح الناس عليها، وهذا من أعجب الأمور؛ وذلك أن تلك الآثار بقيت تلك المدة الطويلة، ومرت بفترة الجاهلية، وهم أهل أوثان ثم ذهبت في مدة يسيرة حيث أدركها أنس وجوداً، وعدماً بسبب مسح الناس عليها فهذا يدل على نشاط الشيطان، والجهود الحثيثة التي يؤز بها الناس من أجل دفعهم إلى التشبث بالأحجار، وما إلى ذلك، فالناس يسرعون إلى مثل هذه الأشياء، وكثير منهم يتعلقون بها، والدلائل، والشواهد على هذا كثيرة جداً، ومن ذلك خبر عمر في الشجرة التي رأى الناس يسرعون إليها في طريقه بين مكة، والمدينة فأمر بقطعها، إلى غير ذلك من الأخبار.
"وقال السدي: المقام: الحجر الذي، وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه."
هذا الكلام يفسر الرواية السابقة، فالرواية السابقة قد لا تتضح، وهي: ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه، والمقصود أي أنه كان يغتسل عليه فيما قيل، لكن هذا الكلام فيه نظر.
"حكاه القرطبي، وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدث عن حجة النبي ﷺ قال: "لما طاف النبي ﷺ قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله : َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125][2]."

الروايات الثابتة بأن عمر قال للنبي ﷺ: "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى"[3]، وإن كان بعض هذه الروايات بمفردها لا يصح من جهة الإسناد كهذه الرواية، ولكن ذلك ثابت بأدلة أخرى من طرق أخرى لا مطعن في ثبوتها.
"وقال البخاري: باب قوله: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] مثابة يثوبون يرجعون، ثم روى عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر، والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر أما في رسول ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ... [سورة التحريم:5] الآية[4].
وروى ابن جرير عن جابر قال: استلم رسول الله ﷺ الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] فجعل المقام بينه، وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.
وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: "سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله ﷺ فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين"[5].
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل به ليقومَ فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جداران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم، وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيًا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك."
طبعاً عرف أنه حافياً غير ناعل لظهور آثار الأصابع، بينما حالياً لا يظهر فيها أنه حافياً غير ناعل، وعلى كل حال المقام المقصود به الحجر، وهذا هو المشهور، وهو الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، ومن ثم فإن الصلاة تكون مرتبطة به، فمهما تغير مكانه فإنه يصلى خلفه لا خلف المكان الذي هو فيه؛ بدليل أن عمر لما نقله لم ينقل عن أحد لا عمر، ولا غير عمر أنه صلى في موضعه الأول، أو إلى موضعه الأول، فليست العبرة بمكانه كما هو الحال بالنسبة للكعبة، فإنه كما هو معلوم لو أنها هدمت مثلاً فإنه يصلى إلى الجهة، ولو أن الإنسان صلى من السطح فإنه يصلي إلى الجهة، وإن كان لن يقابل البناء، وإنما يقابل ما فوقه، فالمقصود أن الاتجاه، أو الاستقبال، أو الصلاة تكون خلف الحجر، وليس خلف مكان الحجر.
وهناك من قال: إن مقام إبراهيم المقصود به عرفة - وهذا بعيد -، ومنهم من فسره بما هو أوسع من هذا، فقالوا: مقام إبراهيم، أي مقاماته في الحج، ومقاماته في الحج عرفة، ومزدلفة، ومنى، والجمار، وما إلى ذلك، وعلى هذا فالمقصود بقوله تعالى: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] أي اتخذوا منها متعبدا، وهذا بعيد، - والله أعلم -.
"وقد أدرك المسلمون ذلك فيه، فعن أنس بن مالك قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه ، وأخْمَص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. 
قلت: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك.
وكان الخليل لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب أحدُ الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله ﷺ: اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر، وعمر[6]، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛، ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه - أجمعين -.
قال عبد الرزاق عن ابن جُرَيج حدثني عطاء، وغيره من أصحابنا: قال: أول من نقله عمر بن الخطاب .
وروى عبد الرزاق أيضًا عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب .
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي عن عائشة - ا - أن المقام كان في زمان رسول الله ﷺ، وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب ، وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم. 
قوله تعالى: َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] قال الحسن البصري: قوله: َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [سورة البقرة:125] قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى، والنَّجَس، ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: قوله: أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125] قال: من الأوثان.
وقال مجاهد، وسعيد بن جُبَير: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ أن ذلك من الأوثان، والرفث، وقول الزور، والرجس."

فيقول الله : َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ [سورة البقرة:125]: عهده أي أمره، أي أمرناهما بتطهير البيت، وهذا التطهير يشمل جميع الأقوال التي قالها السلف ، إذ إنه يشمل التطهير الحسي، كما يشمل التطهير المعنوي، فقد أمرهما الله بتطهيره من النجاسات الحسية من كل قذر يدنسه، وكذلك من النجاسات المعنوية كالشرك، والفجور، والفواحش، وأشباه ذلك، فينبغي أن يكون حرم الله أطهر بقعة حساً، ومعنى.
"وأما قوله تعالى: لِلطَّائِفِينَ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: لِلطَّائِفِينَ يعني: من أتاه من غُرْبة.
الطائفين يحتمل معنيين، المعنى الأول، وهو المشهور المتبادر: أنهم الذين يطوفون بالكعبة، فيطهر لهم؛ لأن مكة تفترق عن غيرها؛ إذ فيها عبادة تختص بها لا توجد في مكان آخر، وهي الطواف، فإذا ذكر الطواف مع البيت فإن المقصود به الطواف المعروف.
ومن أهل العلم من حمل الطواف في قوله: لِلطَّائِفِينَ على معنى آخر أي من يطوف به بمعنى العابر، ومن يلم به، أي من يكون مجيئه عارضاً دون من هم أهل مكة، وهؤلاء الذين يفسرونه بهذا التفسير يجعلون الكعوف مقابلاً له، بمعنى أن الطائف هو الذي يأتي البيت من خارج، ويكون العاكف على هذا الاعتبار هو المقيم بمكة، وتفسير الطائفين بهذا المعنى فيه بعد؛ فالأصل حمل ألفاظ القرآن على المعنى المتبادر المشهور دون المعنى البعيد، - والله تعالى أعلم -.
قال تعالى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125]: لما تقول: طفت البلاد، أو تقول: فلان طاف البلاد فمعنى ذلك أنه زارها، وقدم إليها، ومر بها، ونحو ذلك، ولذلك من الطبيعي أن يفسر العاكفين بضد الطائفين ما دام فسر الطائفين بالواردين إليه من خارجه، إلا أن العكوف لا يفسر بما يقابل الطواف بهذا الاعتبار، وإنما هو لون من ألوان العبادة؛ إذ إن الله ذكر هذه العبادات في بيته الحرام، وهي الطواف - وهو العبادة المعروفة -، والاعتكاف، وهو العبادة المعروفة أيضاً، فيكون قوله: وَالْعَاكِفِينَ يعني الملازمين للعبادة فيه على سبيل المجاورة.
وأصل العكوف معروف، فهو يعني البقاء مدة معتبرة يصح أن يقال عنها عكوف على وجه التعبد، وهذا المعنى هو معنىً تقريبي للعكوف، تقول: فلان عاكف على كذا بمعنى أنه يطيل المكث، ومن هنا نعرف أن من قال: إن الاعتكاف يصح، ولو لحظة، ولو ساعة، وإذا دخلت لتصلي فرضاً فانوِ الاعتكاف، نعرف أن هذا غير صحيح، وبه نعرف أيضاً أنه يعتبر قول من قال بأن أقل الاعتكاف يوم، وليلة، فالاعتكاف هو المكث مدة طويلة في المكان، وإن لم يكن ذلك محدداً بساعات كيوم، وليلة، أو أقل، أو أكثر، بل ملازمة طويلة عرفاً يقال لها اعتكاف، وكل من لازم شيئاً يقال له: عكف عليه فهو عاكف، قال تعالى عن إبراهيم : إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [سورة الأنبياء:52].
وعلى كل حال فإن أحسن ما يفسر به قوله تعالى: َوَالْعَاكِفِينَ أنه الاعتكاف المعروف الذي هو المجاورة على سبيل التعبد - والله أعلم -، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - مع أنه كما ذكرنا بأن جمع من أهل العلم من السلف، والخلف قالوا: إن المراد بالعكوف هنا الإقامة، فيكون ذلك كما قلت مقابلاً للطائفين على تفسيره بأنه مَن ورد عليه من غير أهل مكة، فيكون العاكف بهذا الاعتبار هم أهل الحرم، أهل مكة، لكن القول الآخر أحسن، والله أعلم.
"وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125] المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال سعيد بن جبير، وأما قوله تعالى: َوَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] فروي عن ابن عباس، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء، وقتادة."
هذا كله حينما ينظر إليه، ويعتبر يمكن أن يفسر به ما قبله، فهو ذكر الطواف، والاعتكاف، والصلاة، وهذه هي العبادات أظهر العبادات، وأشهر العبادات التي يمكن أن تكون في بيت الله الحرام، وهناك عبادات أخرى مثل الذكر، والصدقة، وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، ولكن أظهر هذه العبادات هي الاعتكاف، والصلاة، والطواف، يعني هذه العبادات هي مما يكون أكثر اختصاصاً بالمسجد. 
"وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [سورة النــور:36]، ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها، وتطييبها، وغير ذلك من صيانتها من الأذى، والنجاسات، وما أشبه ذلك، ولهذا قال : إنما بنيت المساجد لما بنيت له[7]، وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة، ولله الحمد، والمنة."
  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب أحد يحبنا، ونحبه (3856) (ج 4 / ص 1498)، ومسلم في كتاب الحج - باب فضل المدينة، ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها، وشجرها، وبيان حدود حرمها (1361) (ج 2 / ص 991).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد، والجماعات - باب القبلة (1008) (ج 1 / ص 322)، وقال الألباني: ضعيف منكر كما في سنن ابن ماجه.
  3. أخرجه البخاري في أبواب القبلة - باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة (393) (ج 1 / ص 157)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عمر    (2399) (ج 4 / ص 1865)، واللفظ للبخاري.
  4. أخرجه البخاري في أبواب القبلة - باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة (393) (ج 1 / ص 157)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر  (2399) (ج 4 / ص 1865)، واللفظ للبخاري.
  5. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام (1547) (ج 2 / ص 588)، ومسلم في كتاب الحج - باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف، والسعي (1234) (ج 2 / ص 906).
  6. أخرجه الترمذي في كتاب المناقب - باب في مناقب أبي بكر، و عمر ا كليهما (3662) (ج 5/ ص 609)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2895). 
  7. أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد (569) (ج 1 / ص 397).

مرات الإستماع: 0

"الْبَيْتَ الكعبة، مَثابَةً اسم مكان من قولك: ثاب إذا رجع؛ لأن الناس يرجعون إليه عامًا بعد عام".

أصل الثوب العود، والرجوع، ثاب إلى رشده يعني رجع إلى رشده، وبعضهم يقول: من الثواب أنهم يحجون فيثابون، ويعتمرون فيثابون جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً أي يثاب الناس على حجهم، وعمرتهم، فهو من الثواب، مثابة من الثواب، وأن الهاء للمبالغة، وبعضهم يقول: للتأنيث، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن مثابة بمعنى أنهم لا يقضون، وطرهم، ونهمتهم منه، فبمجرد ما ينتقلون، ويرتحلون عنه، تهفو نفوسهم إليه ثانية، فيرجعون، وهكذا، وهذا لا يوجد لبلد آخر، الإنسان يزور بلدًا من البلدان، ثم بعد ذلك يطلب غيرها، إذا كان يريد النزهة، يعني لا يذهب لعمل، فلا تكون زيارته الثانية كالأولى، فإذا كرر ذلك سئم، أما مكة فبمجرد ما ينتقل الإنسان منها، ويرجع إلى بلده يبدأ الحنين يعاوده، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في خصائص البيت، ومكة، وهذا استجابة لدعاء إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - حيث قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] فهو مأوى الأفئدة.

"وَاتَّخِذُوا بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم وبالكسر أمر لهذه الأمة".

(واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) يقول: بالفتح، وهذه قراءة متواترة، لنافع، والتي عليها هذا الكتاب، وابن عامر، فيكون إخبارًا (واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) يعني أتباع إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - والقراءة التي نقرأ بها وَاتَّخِذُوا بالكسر، على أنه أمر، وقد عرفنا إنه إذا كان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فيكون ذلك إخبارًا عن أتباع إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - والمعنى الثاني للقراءة الأخرى: أنه أمرٌ من الله - تبارك، وتعالى -.

"وافق قول عمر : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى".

قول عمر المشهور: "وافقت ربي في ثلاث، وذكر منها أنه قال: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى"[1] فأنزل الله : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.

وعمر قصد المقام الذي هو موضع القدمين، المعروف، وهو الحجر الذي كان يرقاه إبراهيم ﷺ عند بناء الكعبة، فظهر فيه آثار القدمين، قصد هذا؛ ولهذا فإن النبي ﷺ صلى خلف المقام امتثالًا لأمر الله - تبارك، وتعالى - في هذه الآية، وهذا المعنى يدل عليه السنة؛ ولهذا قال: "مقام إبراهيم هو الحجر الذي صعد به، حين بناء الكعبة، وقيل: المسجد الحرام".

فالقول بأنه الحجر جاء عن ابن عباس - ا - وسعيد بن جبير، والسُّدي، وقتادة، والربيع، وسفيان، وبعضهم فسره بمقامات إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - في الحج، وهي الشعائر، يعني وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى يعني اجعلوها أماكن للعبادة: كالدعاء، والعمل الذي تؤمرون به في تلك المواطن: منى، وعرفة، ومزدلفة، ورمي الجمار، فيكون مقام إبراهيم مفرد مضاف يفيد العموم، يعني مقامات إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وليس عين الحجر، وهذا رواية عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء[2].

وجاء عن السُّدي، والحسن، وقتادة، والربيع[3]: أنه الحجر الذي وضعته زوج إسماعيل لإبراهيم ﷺ تحت قدمه، حتى غسلت رأسه، لكن هذا بعيد، يعني هو الحجر، لكن ما علاقة هذا الحجر بإبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ؟ قال: بأنه اغتسل عليه، أو غسل رأسه على هذا الحجر، فظهرت آثار أقدامه، هذا رده بعض السلف: كسعيد بن جبير[4] ورده بعضه المفسرين: كالقرطبي[5] هذا بعيد، وإنما ذكرته للتنبيه إلى أنه يوجد من قال من السلف: بأن مقام إبراهيم هذا الحجر أنه لم يكن لبناء الكعبة، وإنما كان ذلك لأن زوج إسماعيل قد غسلت رأس إبراهيم، وهو على هذا الحجر، يعني وضعت له هذه الحجر، وغسلت رأسه عليه، فظهرت آثار القدمين، وهذا بعيد.

والمقصود أن قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فيه معنيان مشهوران للسلف:

الأول: أنه الحجر المعروف، ويدل عليه السنة، وهذا يدخل فيه دخولًا أوليًا.

الثاني: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى يعني مقامات إبراهيم في الحج: كالصفا، أو المروة، السعي، وكذلك، وأيضًا: عرفة، ومزدلفة، ومنى، ورمي الجمار، ونحو ذلك، ويكون معنى مُصَلًّى أي: متعبدًا.

فإذا أردنا أن نرجح بين القولين نرجح الأول؛ لأن السنة دلت عليه، وهي تفسر القرآن، والمعنى المتبادر لكلمة مُصَلًّى ومَقَامِ إِبْرَاهِيمَ كل ذلك، فالمقام يتبادر إلى الحجر المعروف، والمصلى يعني مكان الصلاة، والمعنى الثاني أيضًا تحتمله الآية، فيمكن أن يدخل فيها، فيقال: الحجر هذا يُصلى خلفه، وكذلك تتخذ هذه المقامات في الحج أماكن للتعبد، كما أمر الله - تبارك، وتعالى - وشرع.

 
"وقيل: أمر لإبراهيم، وشيعته، وقيل: لبني إسرائيل، فهو على هذا عطف على قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وهذا بعيد.

مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام. وَعَهِدْنا عبارة عن الأمر، والوصية. طَهِّرا بَيْتِيَ عبارة عن بنيانه بنية خالصة، كقوله: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الأصنام".

 

يدخل في التطهير: الطهارة المعنوية، يعني من الشرك، ودعاء غير الله وكذلك الطهارة الحسية من النجاسات، والأقذار، ونحو هذا، وقد جاء عن الحسن: من الأذى، والنجس[6] وجاء عن ابن عباس: من الأوثان[7].

وجاء عن مجاهد، وسعيد بن جبير: من الأوثان، والرفث، وقول الزور، والرجس[8] يعني الكلام الذي لا يليق من السب، والشتم، والغيبة، والكذب، فالرفث كل كلام لا يليق، ولا يصح أن يقال في بيت الله - تبارك، وتعالى - ينزه، ويُطهر، فيشمل التطهير الحسي، والتطهير المعنوي فيما يتصل بالشرك، ودعاء غير الله، وكذلك كل ما لا يحل من الأقوال، والأفعال، وكذلك أيضًا كل مستقذر، أو نجاسة حسية، فإن ذلك يدخل في التطهير، فالتطهير لا يكون فقط من النجس حكمًا، وشرعًا، وإنما يكون التطهير أيضًا من المستقذرات.

البصاق ليس بنجس، لكن لا يليق، ولا يصح، ولا يحل لأحد أن يبصق في المسجد الحرام، يعني النبي ﷺ ذكر في النهي عن أن يبصق عن يمينه، أو قِبَل وجهه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه[9] وهذا حينما كان المساجد في السابق على غير الحال التي نشاهدها الآن، أما الآن فلا شك أن هذا تلويث، وتقذير لها، فتطهر من ذلك.

"لِلطَّائِفِينَ هم الذين يطوفون بالكعبة".

وهذا قاله سعيد بن جبير.

"وقيل: الغرباء القادمون على مكة".

الطائف يعني أن مجيئه عارض، وليس بمستقر فيها، طاف بالمكان يعني إذا أتى عليه.

"والأول أظهر".

يعني أنهم الذين يطوفون بالكعبة.

"وَالْعاكِفِينَ هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون".

بالنسبة للطائفين المعنى المتبادر لا شك أنهم الذين يطوفون بالكعبة؛ ولهذا قدمه على غيره؛ لأنه أخص بالمكان، فالطواف لا يكون إلا بالكعبة، لكن العكوف يكون بالمسجد الحرام، ويكون بغيره من المساجد، لكنه لا يكون إلا بمسجد، فذكره ثانيًا، وأما الصلاة فإن الصلاة تكون في كل مكان في المساجد، وفي غير المساجد، فذكره ثالثًا، فيكون هذا الترتيب بدأ بالأخص، وهو الطواف؛ لأنه يختص بالبيت، ثم بالاعتكاف؛ لأنه يختص بالمساجد، ثم بالصلاة، فهي لا تختص بالمساجد، فالعاكفون هم المعتكفون في المسجد، والاعتكاف يُحمل على هذا المعنى الشرعي؛ لأن ألفاظ الشارع تُحمل على المعاني الشرعية.

"وقيل: المجاورون بمكة من الغرباء، وقيل: أهل مكة".

باعتبار أنه لو فُسر أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ إذا قيل هم الذين يقدمون على البيت من غير أهله، فالعاكفون هم أهله، وقطانه، أهل مكة، وأهل الحرم، فهم العاكفون، لكن المعنى الشرعي للاعتكاف هو الذي يتبادر؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على المعاني الشرعية.

"والعكوف في اللغة: اللزوم".

ممن فسره بأهله المقيمين: قتادة، والربيع بن أنس[10] وَالْعَاكِفِينَ يعني أهل مكة، والله - تبارك، وتعالى - يقول: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج: 25] فهذه تُحمل على العاكف أهل مكة، والباد يعني الذي يرد عليه، لكن هنا في آية البقرة ذكر هذه العبادات متتابعة: الطواف، الاعتكاف، والصلاة، فيحمل الاعتكاف على المعنى الشرعي - والله أعلم -.

وابن جرير - رحمه الله - فسر العاكفين بالعكوف في البيت على سبيل الجوار فيه[11]

  1.  أخرجه أحمد، (1-157)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2.  تفسير الطبري (2/33).
  3.  تفسير ابن كثير (1/414).
  4. المصدر السابق.
  5.  تفسير القرطبي (2/ 113).
  6.  تفسير ابن كثير (1/ 419).
  7.  المصدر السابق (1/ 419).
  8. المصدر السابق.
  9.  أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك المخاط بالحصى من المسجد، وقال ابن عباس: إن وطئت على قذر رطب، فاغسله، وإن كان يابسا فلا برقم (90)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة، وغيرها برقم (548).
  10.  تفسير ابن كثير (1/419)
  11.  تفسير الطبري (2/43).

مرات الإستماع: 0

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125].

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ يعني: واذكر حين جعلنا البيت، بيت الله الحرام الكعبة المشرفة مَثَابَةً لِلنَّاسِ مرجعًا يأتونه ويثوبون إليه، يرجعون إلى أهليهم، ثم ما يلبث الواحد منهم أن يتجدد شوقه إلى هذا البيت العتيق فتتوق نفسه لمعاودة زيارته، وهذا من خصائصه فذلك لا يوجد لموضع في الأرض سوى بيت الله الحرام، كلما قضى الناس وطرهم وعادوا إلى أهليهم عادت وتجددت أشواقهم لمعاودة زيارته.

مَثَابَةً لِلنَّاسِ كما قال الله -تبارك وتعالى- عن دعاء إبراهيم : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37] الأفئدة هي القلوب، قيل لها ذلك لكثرة تفؤدها وتوقدها بالخواطر والإرادات والأفكار فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ.

فاستجاب الله دعاءه فصار بيته الحرام بهذه المثابة مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا يعني: أنهم يأمنون فيه، لا يُغير عليهم عدو، وقد قيل إن مكة من أسمائها -كما هو معلوم- بكة، قيل: لأنها تبُك أعناق الجبابرة، فلم يتسلط عليها أحد من الجبابرة، وكما هو معلوم أن الله -تبارك وتعالى- أهلك أهل الفيل، وذلك في قوله -تبارك وتعالى- مسطور: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ۝ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ۝ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ۝ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۝ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [سورة الفيل:1- 5] هكذا كانت نهايتهم.

قال الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97] فمن دخل بيته الحرام فينبغي أن يكون آمنا، فهذا أعظم مكان يأمن الناس فيه على أنفسهم، وعلى دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] فعل الإرادة يُعدى بنفسه، تقول: أراد عمرو طعامًا، لكن هنا قال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [سورة الحج:25] فعداه بالباء من يُرد بإلحاد، فإذا كان فعل الإرادة لا يُعدى بالباء فهذا يدل على أن فعل الإرادة في بطنه فعل آخر، هذا الذي يُسميه أهل اللغة التضمين، يعني: ضُمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بالباء، ما الذي يصح أن يُعدى بالباء؟ فعل همّ، همّ بكذا، هممت بكذا، هممت بالسفر، هممت بفعل كذا، فيكون فعل الإرادة هنا مضمن معنى الهم.

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] الإلحاد الميل عن الحق، يعني: يُريد يهم، مُجرد الهم ببيته الحرام الهم بالإلحاد بالميل بظلم الناس بأذيتهم، بالإساءة إليهم، بالسرقة فيه، أو بتتبع أعراضهم وعوراتهم أو نحو ذلك نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] نُذقه، فعل الإذاقة يدل على أن هذا العذاب يصل يتغلغل كأنه شيء يُذاق، الذي يُذاق بالعادة هو الشيء المحسوس، فهذا عذاب يصل إلى العظم، فيذوقه الإنسان نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] تنكير العذاب يدل على شدته وعِظمه نُذِقْهُ وهذا في الدنيا قبل الآخرة.

فهذا كل من يريد أن يُخيف الناس في بيت الله الحرام، في الحرم كله من أوله إلى آخره، البِقاع الطاهرة، مِنى من الحرم، ومزدلفة من الحرم، وعامة مكة من الحرم، ما اشتملت عليه حدود الحرم التي حددها الشارع، وجعل من ورائها المواقيت كأنها حرم آخر يحوط الحرم، ويكون كالسياج عليه له أحكامه التي تختص به.

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [سورة الحج:25] فهذا وعيد لكل من تُحدثه نفسه بفعل ما لا يليق في حرم الله من قتل النفوس، أو ظلم العباد، أو العدوان بأي نوع عليهم، وأعظم هؤلاء أضيافه -تبارك وتعالى- الذين جاءوا استجابة لدعوة إبراهيم بأمر الله : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [سورة الحج:27] فالويل كل الويل لمن اعتدى عليهم، أو ظلمهم، أو أخافهم، أو قتلهم، أو هم بذلك مجرد الهم، معلوم أن من هم بسيئة فلم يعملها الإنسان لا يؤاخذ على السيئات بل إذا لم يعملها كُتبت له حسنة، في الحرم شيء آخر مجرد الهم.

إذًا المعصية في مكة ليست كالمعصية في غيرها، كل إلحاد كل ميل عن الجادة والصراط المستقيم ليس كوقوعه في مكان آخر على وجه الأرض.

وكذلك في هذه الآية الكريمة: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] يأمنون فيه فلا يصح بحال من الأحوال أن يخوف الناس في الحرم سواء كان ذلك بقصد، أو كان ذلك ببلاهة.

بقصد أن يكون الإنسان يريد الإساءة إلى الحرم وأهل الحرم فيبث الشائعات والمخاوف ليوصل رسالة في النهاية إلى الناس وإلى العالم يقول لهم هذا مكان خوف، هذا مكان غير آمن فتنقبض نفوسهم من التوجه إليه.

وقد يكون ذلك ببلاهة، كيف تكون هذه البلاهة؟ تكون أيها الأحبة! بهذه الآلات التي صارت في يد كل أحد مواقع في الحرم تحت الإنشاء، يتوقع كل شيء، قد لا يشعر الناس بهذا؛ لأن كل أحد مشغول بالطواف وبالسعي والمناسك لا يشعر بشيء، فيأتي من يصور نار تشتعل في ناحية مثلاً من حرم الله في هذا الموضع الذي لا زال تحت الإنشاء هناك أعمال، هناك حدادة، هناك لِحام، هناك أشياء، يتوقع أن يحصل شيء، فيأتي هذا ويصورها لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم سلم المعتمرين، اللهم سلم المعتمرين، يصور اللهم سلم المعتمرين.

لماذا يُسجل هذا الكلام؟! ما هي المصلحة الشرعية والعقلية والواقعية والبيئية؟ مصلحة واحدة، أعجز وأنا أُقلب هذا من كل وجه، أبحث عن مصلحة واحدة لتصويره، والله ما وجدت، يُصور ويُنشر لماذا؟! الرسالة التي في النهاية قصد أو لم يقصد ستصل للناس ترى هذا موضع خطر، ترى المجيء إلى الحرم يُمثل خطورة.

كثير من الناس يخاف ونحن في الحج مرت سيارة على علبة عصير وتعرفون أحيانًا علب العصير إذا وطأت عليها السيارة كان لها صوت، فرجل من الأعاجم يدف امرأة كبيرة في عربية في فجاج مِنى، فلما سمع الصوت فزع، وتوقف، وترك العربية، وظل يتلفت إلى الخلف، ويبحث، فقلت له: هون عليك هذه علبة عصير، هون عليك، انطلق بعربيتك وبمن فيها لا تتوقف؛ ترك كل شيء ذُهل، علبة عصير.

من أين جاء هذا الرجل هذا الخوف؟ من هذه المشاهد التي تصور، اللقطات هذه التي تُنشر ما نفعها، وما جدواها؟

هذا حرم الله، ينبغي من يأتي إليه أن يشعر بالأمن الكامل، فحينما نُرسل مثل هذه الصور نصورها نبعثها إلى الآخرين كأننا نقول: هذا مكان غير آمن.

ثم إن حرم الله لا يقبل المساومة في هذه القضايا، ولا يقبل مزايدات من أي جهة كانت، الجميع يُحافظ على الأمن، ولا يصح بحال من الأحوال أن يكون أحد من الناس ممن يدعي الإسلام أو ينتسب إليه يكون سببًا لإخافة الناس في حرم الله .

وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] اتخذوا من مقام، وعلى القراءة الأخرى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، ومقام إبراهيم يصدق على المكان المعروف الذي فيه موضع القدمين، حجر كان يقف عليه في بناء الكعبة لما ارتفع البناء من مقام إبراهيم، يعني يُصلى خلفه، والنبي ﷺ صلى خلفه وقرأ الآية، فدل على أنه يدخل في هذه الآية دخولاً أوليًّا يُصلى خلفه، وهذه الآية تدل على هذا بعد الطواف وليس مُطلقًا، فإذا طاف صلى ركعتين.

ويدخل في مقام إبراهيم ما قاله جمع من السلف مقامات إبراهيم؛ لأن مقام مفرد مضاف إلى معرفة وهو إبراهيم فالأعلام معارف، مقام إبراهيم مُضاف ومُضاف إليه والإضافة إلى المعرفة تُكسبه العموم، يعني: مقامات إبراهيم .

ما هي مقاماته؟ مقاماته مِنى، والجِمار، مزدلفة، وعرفة، هذه مقامات إبراهيم، الصفا المروة، كل ذلك يدخل فيه، والمُصلى المقصود به على هذا المعنى المُتعبد، يعني: مقامات، ومواضع للتعبد لله بما شرع، من الذي شرعه؟ في مزدلفة المبيت ليلة النحر، في عرفة الوقوف في ليلة التاسع، وليلة العاشر لمن أدرك إلى ما قبل الفجر ولو بلحظة فجر يوم النحر، ومِنى في يوم النحر وأيام التشريق، هذا كله داخل في مقام إبراهيم .

وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [سورة البقرة:125] عهدنا إليه، أمرناه بذلك وأوحينا به إليهم طَهِّرَا بَيْتِيَ الإضافة هنا إضافة تشريف لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] لمن يطوف في هذا البيت، أو يعتكف، أو يُصلي فيه حيث عُبر عن ذلك بالركوع والسجود كما سيأتي.

ويؤخذ من هذه الآية في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ [سورة البقرة:125] تثوب إليه نفوسهم، وترجع إليه أبدانهم مرة بعد مرة، كلما تفرقوا عادوا إليه، فهذا آية من آيات الله في هذا الخلق، وفي هذا البيت الحرام، فقد ذكر الله ذلك وهو أمر يجده كل أحد في نفسه لا يستطيع دفعه.

ثم أيضًا لاحظوا الترتيب في هذه القضايا المذكورة، يقول الله : وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] ذكر ثلاثة أنواع من العبادة: الطواف وهو أخصها قدمه؛ لأنه لا يكون بغير بيته الحرام، لا يوجد مكان في الدنيا يُطاف فيه سوى الكعبة، هي المكان الوحيد التي تتعلق بها هذه العبادة.

ثم ذكر بعد ذلك الاعتكاف فالاعتكاف يكون في المساجد فقط لا يكون في موضع آخر فذكره بعد الطواف، ثم ذكر الصلاة الرُكع السجود؛ لأن الصلاة لا تختص ببيت الله الحرام، ولا تختص بالمساجد، بل النبي ﷺ يقول: وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا[1] فجاء بهذا الترتيب الأخص، ثم بعد ذلك الأقل خصوصية، ثم بعد ذلك الأعم.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] ذكر التطهير هنا لا يدل على أن البيت نجس فيحتاج إلى أن يُطهر، وإنما المقصود التطهير التعبد مُطلقًا طَهِّرَا بَيْتِيَ فيدخل فيه الطهارة الحسية والطهارة المعنوية، تعاهد البيت بالتنظيف، ولا يجوز تلويثه، وينبغي أن تُحفظ قُدسيته وحُرمته، وهذا كما خاطب الله به إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فيجب على كل أحد أن يُراعي حرمة البيت وتطهيره، ويدخل في ذلك الطهارة المعنوية من الشرك، وعبادة غير الله ودعاء غير الله، وقد طهره النبي ﷺ من الأصنام التي كانت على الكعبة وعلى الصفا -كما هو معلوم- فهذا كله من تطهيره، يُطهر من الأرجاس والأدناس والنجاسات الحسية والمعنوية، فهذا التطهير لا يختص بالنجاسات وإنما من كل ما يلوثه.

تأملوا -أيها الأحبة- حالنا، في المشاعر وفي الحرم، المشاعر يأتي الناس إلى المشعر إلى عرفة مثلاً وهي نظيفة، فإذا خرجوا منها رأيت حالاً لا تسر، لماذا لا يُراعي كل أحد حرمة المكان، ويضع هذه الأشياء والنفايات في المواضع المُخصصة لها ويخرج الناس منها كما كانت.

أما قلة المُبالاة هكذا فهي تدل على قلة تعظيم وتدل للأسف على ثقافة غير جيدة، فإن تربية الناس وثقافتهم تبدوا على تصرفاتهم في مثل هذه المقامات، هذا الإنسان الذي يُلقي في كل مكان، وفي الطريق حتى يتحول المكان إلى حال لا تسر هذا خلاف التطهير.

تلويث الحرم بما يكون من الأطفال من غير مُبالاة، ولا إشعار بأن هذا الصبي قد بال في هذا المكان، أو نحو ذلك، تلويث الحرم ببقايا مما يتركه الناس من طعامهم ونحو ذلك.

تصور لو أنه أُتيح للناس في الحج وفي رمضان أن يُدخلوا ما شاءوا من الأطعمة، كثير من الناس يغضب إذا مُنع من إدخال الطعام في رمضان في وقت الإفطار، أو في غير وقت الإفطار يغضب، تغضب لماذا؟ هذه مصلحة الحرم، تصور لو قيل للناس أدخلوا ما شئتم، كيف سيكون حال الحرم وفُرش الحرم؟ وهل سيجد الناس مكانًا يصلون فيه؟ ورائحة الحرم.

ولكن في كثير من الأحيان الإنسان لا ينظر إلا إلى نفسه وشهوته وحاجته نظرًا لا يجاوز أنفه، يعني: لا ينظر إلى المصلحة البعيدة، المصلحة العامة، مصلحة الحرم، مصلحة المصلين.

فهذا كله يدخل في التطهير، تنظيف المكان، أما أن النوى مرمي على السُجاد والناس يصلون العشاء والتراويح، والنوى يعلق بثيابهم، وهذا يمشي على الفُرش بنعليه، وهذا يحمل المياه وكأنه لن يصبر حتى يُصلي هذه الصلاة يضع هذه الكاسات يصفها ويأتي الناس لا يرونها ممن يجوبون ما بين الصفوف في صلاة التراويح، أو القيام فهذا يضرب هذا الكأس، وهذا يضربه برجله من المصلين أمامه لا يشعر به، ويتلوث الفرش.

إذا جاء المطر وغُلفت هذه الفُرش عن الناس انظر إلى حالنا كيف نتسارع إليها وننتزعها انتزاعًا، كل يريد أن يجلس، ولو كان ذلك على حساب تلفها، أليست هذه حالنا؟

فأقول: هذا خلاف ما أمر الله به من التطهير، ولذلك فإن الحائض لا تدخل، وهذا داخل في التطهير، وكذلك أيضًا الجُنب لا يدخل في المسجد أو في الحرم إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [سورة النساء:43] هذه أماكن تحتاج إلى تطهير، ولا يصح فيها شيء من الجِماع ونحو ذلك، أو اللغو. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم: (438)، ومسلم، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: (521). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم: (438)، ومسلم، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: (521). 

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125]. 

بقي أن يُقال: تأمل ما ذُكر في هذه الآية من جمع الطائفين والعاكفين جمع السلامة، الطائفين جمع طائف، والعاكفين، فهذا لكونه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون ويعتكفون، يُجددون الطواف فهنا هؤلاء أعلق بالبيت كما سبق، فالطواف خاص بالبيت الحرام، والاعتكاف خاص بالمساجد، وأما الصلاة التي أشار إليها بالرُكع السجود فإنها لا تختص بالمسجد الحرام، كما لا تختص بالمساجد، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا[2] ولذلك لما يُجمعا جمع سلامة فقال: وَالرُّكَّعِ لم يقل والراكعين الساجدين، كما قال في الطائفين والعاكفين، قال: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] كيف خص الركوع والسجود بالذكر من بين سائر أحوال المصلين؟ الصلاة فيها قيام، وفيها جلوس، وفيها ركوع وسجود ورفع وخفض، فخص الركوع والسجود بالذكر؛ لأن هذه الأحوال هي الأحوال التي تكون أدل على الخضوع، ركوع، حينما ينحني الإنسان لله  لكن نحن حينما ألفنا هذا لم نعد نستشعر، لكن لو رأيت إنسانًا يقف أمام إنسان وقد ركع على هيئة الراكع فهذا يُحرك النفس، ويهز الوجدان، لو رأيت إنسانًا يقف أمام صنم ويركع أمامه فهذا أيضًا يُحرك النفس، كيف يُذلل نفسه بهذا الانحناء؟ لو ركع لك إنسان جاهل لاقشعر جلدك، أليس كذلك؟ لو جاء إنسان وركع لك، فهذا شيء هائل، لو رأيت إنسانًا يسجد لإنسان فهذا أشد.

فحينما يضع الإنسان جبهته على الأرض خضوعًا لله  وتذللاً يضع أشرف شيء، وأعلى شيء في جسده ليكون أخفض شيء على الأرض، الموضع الذي تطأه الأقدام، فهذا غاية التذلل.

ولذلك في هذين الموضعين في الركوع "سبحان ربي العظيم" تعظيم في الانحناء، وفي السجود لما وصل إلى القاع قال: "سبحان ربي الأعلى"، فالعبد قد وضع جبهته في السُفل ويُردد سبحان ربي الأعلى، يقول: يا رب أنا قد وضعت جبهتي على الأرض، وأنت الأعلى أُنزهك في عليائك، فهذه أخص أوصاف الصلاة، وأدل أحوال الصلاة وهيئات الصلاة على الخضوع.

هذا بالإضافة إلى فائدة أخرى وهي: أن التعبير عن العبادة بجزء منها يدل على رُكنيته، وأنه جُزء لا يتجزأ، يعني: أن هذا ليس بشيء مستحب.

مثلاً يُعبر عن الإنسان بالرقبة فَكُّ رَقَبَةٍ [سورة البلد:13] الإنسان المملوك فَكُّ رَقَبَةٍ [سورة البلد:13] لماذا لم يُعبر عنه باليد؟ الرقبة جزء من الإنسان لماذا لم يقل يد أو رجل؟ لأن اليد ممكن أن تنفصل ويبقى الإنسان حيًّا، لكن الرقبة لا تنفصل إلا بانفصال الحياة، مفارقة الروح الجسد، فعُبر عن الإنسان بجزء لا ينفك، ولا ينفصل عنه إلا بمُفارقة الروح.

وكذلك: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] قرآن الفجر يعني القراءة في صلاة الفجر الفريضة، عُبر عن صلاة الفجر بالقراءة فيها؛ لأن القراءة رُكن أقل هذه القراءة الذي يُجزئ، وهو المُتعين في الرُكنية قراءة الفاتحة وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] فمعلوم أن هذا يُقصد به صلاة الفرض وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ليس القراءة خارج الصلاة لو أن أحدًا يقرأ في وقت الفجر؛ فإنه ليس بمقصود في هذه الآية قطعًا باتفاق أهل العلم، وإنما قرآن الفجر الذي يُقرأ في الصلاة تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار، ولذلك شُرع في صلاة الفجر إطالة القراءة تطويل في القراءة.

ثم تأمل أيضًا العطف بين الركوع وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ هنا عطف الرُكع السجود على ما قبله، لكنه لم يعطف السجود على الرُكع، قال: وَالرُّكَّعِ لم يقل والسجود يعني السُجد الساجدين وإنما قال: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ لكن في الطائفين والعاكفين جاء بحرف العطف أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ لم يقل والسجود السُجد، يمكن أن يُقال -والله أعلم: باعتبار أن الطواف والاعتكاف عبادتان لا تلازم بينهما، وهذه عبادة مستقلة تمامًا، وهذه عبادة مستقلة تماما، فعطفها عليها بهذا الاعتبار، يمكن للإنسان أن يعتكف بهذا المسجد، لكن لا يطوف إلا بالكعبة، ويمكن أن يطوف ولا يعتكف، ويمكن أن يعتكف في الحرم ولا يطوف، فعطف هذا على هذا فهي عبادات مستقلة، كذلك الصلاة والرُكع السجود، الصلاة غير الاعتكاف، لكن في الرُكع السجود لم يأت بحرف العطف؛ لأنهما هيئتان تجتمعان في شيء واحد، عبادة واحدة وهي الصلاة، والقُرب بينهما ظاهر، يركع ويسجد ليس بينهما إلا لحظات بخلاف الطواف والاعتكاف فبينهما مُباينة. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم: (438)، ومسلم، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: (521). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم: (438)، ومسلم، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم: (521).