فقوله - تبارك، وتعالى -: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] أي واذكروا إذ جعلنا البيت مثابة للناس، وأمناً.
والمراد بقوله: مَثَابَةً قيل: مرجعاً يرجع إليه الناس بعد تفرقهم، وبعضهم يقول: مثابة من الثواب، أي أنه موضعاً للثواب، فهو مكان تعظُم فيه الحسنات، وتكثَّر فيه الأجور، وتحط فيه الخطايا، والهاء يمكن أن تكون للمبالغة، أو للتأنيث.
فالمقصود أن قوله: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] إما أن يكون المراد أنه محلاً للثواب، أو أنهم يثوبون إليه فيكون ذلك موافقاً لما جاء، أو روي عن ابن عباس لا يقضون منه، وطراً يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، بمعنى أنهم لا يكتفون بزيارة واحدة إليه، بل كلما أتوا إليه، ورجعوا إلى أهليهم تاقت نفوسهم إليه ثانية.
وابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد جعل ذلك من خصائص مكة، وهذا شيء مشاهد،
َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] يثوبون أي يرجعون إليه.
قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يقول: لا يقضون منه، وطرًا، يأتونه يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: َوَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [سورة البقرة:125] يقول: وأمنًا من العدو، وأن يُجعَل فيه السلاح."
يعني يمكن أن يكون قوله: وَأَمْنًا اسم مكان، أي موضع أمن إذ جعلناه مثابة يثوبون إليه كلما فارقوه، تاقوا إليه ثانية.
وقوله: وَأَمْنًا أي مكاناً يأمنون فيه من الخوف من العدو، ومن الاعتداء، وأن يجعل فيه السلاح، ولهذا نهى النبي ﷺ عن حمل السلاح بمكة.
"وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس قالوا: من دخله كان آمنًا.
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفًا به شرعًا، وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا.
قوله: شرعاً، وقدراً أي أن الله جعل مكة موضعاً للأمن كما قال الله : َوَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، فجعلهم بهذه المثابة، أي يأمنون فيه مع كثرة المخاوف المحيطة به، فالناس يحصل لهم من السبي، والقتل، وما إلى ذلك مما يحصل من غارات القبائل، وما إلى ذلك، وأما مكة فقد جعلها الله موضعاً يأمنون فيه على نفوسهم، وأموالهم، وهذا معنى قدراً، وأما شرعاً فحرمة مكة معلومة حيث إن الله قد حرمها مذ خلق السموات، والأرض، وقد قال النبي ﷺ: إن إبراهيم حرم مكة[1].
"ولا تقضي منه، وطراً، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، ، في قوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة إبراهيم:37] إلى أن قال: رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [سورة إبراهيم:40]، ويصفه تعالى بأنه جعله آمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل، ثم دخله كان آمنًا، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا."
هذا الكلام قال به بعض السلف، ولكنه ليس محل اتفاق، إذ إن البيت لا يجير من قد أصاب دماً حراماً، أو مالاً حراماً، أو نحو ذلك، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يؤخذ من أحدث فيه حدثاً.
وتكلم العلماء - رحمهم الله - أيضاً على ما إذا بغى أهل مكة على الإمام، ولم يمكن دفعهم عن ذلك البغي إلا بالقتال، فالمقصود أن الحرم موضع للأمن؛ ولكن ليس معنى ذلك أن السارق يسرق فيترك، والقاتل يقتل فيترك، فيكون الحرم محلاً لاجتماع المجرمين، إذ لو كان الأمر كذلك فكل من جنى جناية سيلجأ إلى الحرم.
"وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً، وهو خليل الرحمن كما قال تعالى: َوَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [سورة الحـج:26]، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97].
وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده فقال: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125].
وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] قال: الحَجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة، ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه."
قوله تعالى: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، في القراءة الأخرى المتواترة، قراءة نافع، وابن عامر بفتح الخاء: (واتَّخَذوا) على سبيل الخبر، والقراءة الأولى على سبيل الأمر، َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، ولا منافاة بين القراءتين، إذ إن كل واحدة منهما تدل على مشروعية الصلاة عند مقام إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - .
والمقصود بمقام إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - على المشهور من أقوال أهل العلم أنه الحجر المعروف الذي فيه موطئ قدمه ﷺ، وأصل ذلك على المشهور عند أهل العلم أنه كان يرتقي عليه لبناء الكعبة، فظهر أثر قدميه على هذا الجحر مع ملامسة ما يبنى به الطين، ونحو ذلك، وليس ذلك كما يقول بعضهم من أنه كان يغتسل عليه، أو أنه اغتسل عليه؛ فهذا ليس له علاقة بموضوع بناء الكعبة بل ليس له أصل، إذ لو كان قد اغتسل عليه لاختلفت قدماه، أي أن الماء حينما يمتزج بالطين فإنه لا يكون ذلك موضعاً متميزاً تظهر فيه آثار القدم بالأصابع، بمعنى أنه لو كان محلاً للاغتسال لاختلفت قدماه، فلا تنطبع فيه بهذه الطريقة، والمغتسِل كذلك لا يجعل رجله بهذه المثابة، وإنما هو بحاجة إلى غسلها، فالمقصود أن ذلك الحجر إنما كان يرتقي عليه لبناء الكعبة.
وهذا الحجر كما جاء عن أنس بن مالك أن أصابع إبراهيم ﷺ كانت ظاهرة فيه، وأنس من صغار الصحابة كان يقول بأنه أدرك الحجر، وأن أصابع قدم إبراهيم كانت ظاهرة فيه، وطبعاً الأصابع الآن غير ظاهرة، وإنما الموجود أثر قدم ليس لها آثار الأصابع، ويذكر أن ذلك قد ذهب بسبب مسح الناس عليها، وهذا من أعجب الأمور؛ وذلك أن تلك الآثار بقيت تلك المدة الطويلة، ومرت بفترة الجاهلية، وهم أهل أوثان ثم ذهبت في مدة يسيرة حيث أدركها أنس وجوداً، وعدماً بسبب مسح الناس عليها فهذا يدل على نشاط الشيطان، والجهود الحثيثة التي يؤز بها الناس من أجل دفعهم إلى التشبث بالأحجار، وما إلى ذلك، فالناس يسرعون إلى مثل هذه الأشياء، وكثير منهم يتعلقون بها، والدلائل، والشواهد على هذا كثيرة جداً، ومن ذلك خبر عمر في الشجرة التي رأى الناس يسرعون إليها في طريقه بين مكة، والمدينة فأمر بقطعها، إلى غير ذلك من الأخبار.
"وقال السدي: المقام: الحجر الذي، وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه."
هذا الكلام يفسر الرواية السابقة، فالرواية السابقة قد لا تتضح، وهي: ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه، والمقصود أي أنه كان يغتسل عليه فيما قيل، لكن هذا الكلام فيه نظر.
"حكاه القرطبي، وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدث عن حجة النبي ﷺ قال: "لما طاف النبي ﷺ قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله : َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125][2]."
الروايات الثابتة بأن عمر قال للنبي ﷺ: "لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى"[3]، وإن كان بعض هذه الروايات بمفردها لا يصح من جهة الإسناد كهذه الرواية، ولكن ذلك ثابت بأدلة أخرى من طرق أخرى لا مطعن في ثبوتها.
"وقال البخاري: باب قوله: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] مثابة يثوبون يرجعون، ثم روى عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: "وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر، والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر أما في رسول ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ... [سورة التحريم:5] الآية[4].
وروى ابن جرير عن جابر قال: استلم رسول الله ﷺ الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] فجعل المقام بينه، وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.
وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار قال: "سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله ﷺ فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين"[5].
فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل به ليقومَ فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جداران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم، وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافيًا غير ناعل |
طبعاً عرف أنه حافياً غير ناعل لظهور آثار الأصابع، بينما حالياً لا يظهر فيها أنه حافياً غير ناعل، وعلى كل حال المقام المقصود به الحجر، وهذا هو المشهور، وهو الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، ومن ثم فإن الصلاة تكون مرتبطة به، فمهما تغير مكانه فإنه يصلى خلفه لا خلف المكان الذي هو فيه؛ بدليل أن عمر لما نقله لم ينقل عن أحد لا عمر، ولا غير عمر أنه صلى في موضعه الأول، أو إلى موضعه الأول، فليست العبرة بمكانه كما هو الحال بالنسبة للكعبة، فإنه كما هو معلوم لو أنها هدمت مثلاً فإنه يصلى إلى الجهة، ولو أن الإنسان صلى من السطح فإنه يصلي إلى الجهة، وإن كان لن يقابل البناء، وإنما يقابل ما فوقه، فالمقصود أن الاتجاه، أو الاستقبال، أو الصلاة تكون خلف الحجر، وليس خلف مكان الحجر.
وهناك من قال: إن مقام إبراهيم المقصود به عرفة - وهذا بعيد -، ومنهم من فسره بما هو أوسع من هذا، فقالوا: مقام إبراهيم، أي مقاماته في الحج، ومقاماته في الحج عرفة، ومزدلفة، ومنى، والجمار، وما إلى ذلك، وعلى هذا فالمقصود بقوله تعالى: َوَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة:125] أي اتخذوا منها متعبدا، وهذا بعيد، - والله أعلم -.
"وقد أدرك المسلمون ذلك فيه، فعن أنس بن مالك قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه ، وأخْمَص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
قلت: وقد كان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك.
وكان الخليل لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب أحدُ الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله ﷺ: اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر، وعمر[6]، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛، ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه - أجمعين -.
قال عبد الرزاق عن ابن جُرَيج حدثني عطاء، وغيره من أصحابنا: قال: أول من نقله عمر بن الخطاب .
وروى عبد الرزاق أيضًا عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب .
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي عن عائشة - ا - أن المقام كان في زمان رسول الله ﷺ، وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب ، وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
قوله تعالى: َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] قال الحسن البصري: قوله: َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [سورة البقرة:125] قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى، والنَّجَس، ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: قوله: أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125] قال: من الأوثان.
وقال مجاهد، وسعيد بن جُبَير: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ أن ذلك من الأوثان، والرفث، وقول الزور، والرجس."
فيقول الله : َوَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ [سورة البقرة:125]: عهده أي أمره، أي أمرناهما بتطهير البيت، وهذا التطهير يشمل جميع الأقوال التي قالها السلف ، إذ إنه يشمل التطهير الحسي، كما يشمل التطهير المعنوي، فقد أمرهما الله بتطهيره من النجاسات الحسية من كل قذر يدنسه، وكذلك من النجاسات المعنوية كالشرك، والفجور، والفواحش، وأشباه ذلك، فينبغي أن يكون حرم الله أطهر بقعة حساً، ومعنى.
"وأما قوله تعالى: لِلطَّائِفِينَ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: لِلطَّائِفِينَ يعني: من أتاه من غُرْبة.
الطائفين يحتمل معنيين، المعنى الأول، وهو المشهور المتبادر: أنهم الذين يطوفون بالكعبة، فيطهر لهم؛ لأن مكة تفترق عن غيرها؛ إذ فيها عبادة تختص بها لا توجد في مكان آخر، وهي الطواف، فإذا ذكر الطواف مع البيت فإن المقصود به الطواف المعروف.
ومن أهل العلم من حمل الطواف في قوله: لِلطَّائِفِينَ على معنى آخر أي من يطوف به بمعنى العابر، ومن يلم به، أي من يكون مجيئه عارضاً دون من هم أهل مكة، وهؤلاء الذين يفسرونه بهذا التفسير يجعلون الكعوف مقابلاً له، بمعنى أن الطائف هو الذي يأتي البيت من خارج، ويكون العاكف على هذا الاعتبار هو المقيم بمكة، وتفسير الطائفين بهذا المعنى فيه بعد؛ فالأصل حمل ألفاظ القرآن على المعنى المتبادر المشهور دون المعنى البعيد، - والله تعالى أعلم -.
قال تعالى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125]: لما تقول: طفت البلاد، أو تقول: فلان طاف البلاد فمعنى ذلك أنه زارها، وقدم إليها، ومر بها، ونحو ذلك، ولذلك من الطبيعي أن يفسر العاكفين بضد الطائفين ما دام فسر الطائفين بالواردين إليه من خارجه، إلا أن العكوف لا يفسر بما يقابل الطواف بهذا الاعتبار، وإنما هو لون من ألوان العبادة؛ إذ إن الله ذكر هذه العبادات في بيته الحرام، وهي الطواف - وهو العبادة المعروفة -، والاعتكاف، وهو العبادة المعروفة أيضاً، فيكون قوله: وَالْعَاكِفِينَ يعني الملازمين للعبادة فيه على سبيل المجاورة.
وأصل العكوف معروف، فهو يعني البقاء مدة معتبرة يصح أن يقال عنها عكوف على وجه التعبد، وهذا المعنى هو معنىً تقريبي للعكوف، تقول: فلان عاكف على كذا بمعنى أنه يطيل المكث، ومن هنا نعرف أن من قال: إن الاعتكاف يصح، ولو لحظة، ولو ساعة، وإذا دخلت لتصلي فرضاً فانوِ الاعتكاف، نعرف أن هذا غير صحيح، وبه نعرف أيضاً أنه يعتبر قول من قال بأن أقل الاعتكاف يوم، وليلة، فالاعتكاف هو المكث مدة طويلة في المكان، وإن لم يكن ذلك محدداً بساعات كيوم، وليلة، أو أقل، أو أكثر، بل ملازمة طويلة عرفاً يقال لها اعتكاف، وكل من لازم شيئاً يقال له: عكف عليه فهو عاكف، قال تعالى عن إبراهيم : إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [سورة الأنبياء:52].
وعلى كل حال فإن أحسن ما يفسر به قوله تعالى: َوَالْعَاكِفِينَ أنه الاعتكاف المعروف الذي هو المجاورة على سبيل التعبد - والله أعلم -، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - مع أنه كما ذكرنا بأن جمع من أهل العلم من السلف، والخلف قالوا: إن المراد بالعكوف هنا الإقامة، فيكون ذلك كما قلت مقابلاً للطائفين على تفسيره بأنه مَن ورد عليه من غير أهل مكة، فيكون العاكف بهذا الاعتبار هم أهل الحرم، أهل مكة، لكن القول الآخر أحسن، والله أعلم.
"وَالْعَاكِفِينَ [سورة البقرة:125] المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال سعيد بن جبير، وأما قوله تعالى: َوَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة البقرة:125] فروي عن ابن عباس، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء، وقتادة."
هذا كله حينما ينظر إليه، ويعتبر يمكن أن يفسر به ما قبله، فهو ذكر الطواف، والاعتكاف، والصلاة، وهذه هي العبادات أظهر العبادات، وأشهر العبادات التي يمكن أن تكون في بيت الله الحرام، وهناك عبادات أخرى مثل الذكر، والصدقة، وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، ولكن أظهر هذه العبادات هي الاعتكاف، والصلاة، والطواف، يعني هذه العبادات هي مما يكون أكثر اختصاصاً بالمسجد.
"وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [سورة النــور:36]، ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها، وتطييبها، وغير ذلك من صيانتها من الأذى، والنجاسات، وما أشبه ذلك، ولهذا قال : إنما بنيت المساجد لما بنيت له[7]، وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة، ولله الحمد، والمنة."
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب أحد يحبنا، ونحبه (3856) (ج 4 / ص 1498)، ومسلم في كتاب الحج - باب فضل المدينة، ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها، وشجرها، وبيان حدود حرمها (1361) (ج 2 / ص 991).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد، والجماعات - باب القبلة (1008) (ج 1 / ص 322)، وقال الألباني: ضعيف منكر كما في سنن ابن ماجه.
- أخرجه البخاري في أبواب القبلة - باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة (393) (ج 1 / ص 157)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عمر (2399) (ج 4 / ص 1865)، واللفظ للبخاري.
- أخرجه البخاري في أبواب القبلة - باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة (393) (ج 1 / ص 157)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر (2399) (ج 4 / ص 1865)، واللفظ للبخاري.
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام (1547) (ج 2 / ص 588)، ومسلم في كتاب الحج - باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف، والسعي (1234) (ج 2 / ص 906).
- أخرجه الترمذي في كتاب المناقب - باب في مناقب أبي بكر، و عمر ا كليهما (3662) (ج 5/ ص 609)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2895).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد (569) (ج 1 / ص 397).