الإثنين 12 / ذو القعدة / 1445 - 20 / مايو 2024
وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۦمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: إن إبراهيم حَرَّم بيت الله، وأمَّنَه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها، ولا يقطع عضاهها[1]، وهكذا رواه النسائي، وأخرجه مسلم.إبراهيم حرم مكة إما باعتبار أن المخاطبة للمكلفين كانت بتحريم مكة، وإن كان قد حرمها الله   يوم خلق السموات، والأرض كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، ولكن الله   لم يخاطب الناس به، وإنما أظهر ذلك، وخاطبهم به على لسان إبراهيم ﷺ، وهذا هو وجه الجمع بين النصوص الواردة في تحريم مكة يوم خلق الله السموات، والأرض، وبين ما ورد من أن إبراهيم ﷺ هو الذي حرم مكة، فيكون باعتبار أن الله لم يخاطب به حينما حرمها، وإنما كان الخطاب به على لسان إبراهيم ﷺ فنسب إليه.
ويمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إن الله حرم مكة فهو - تبارك، وتعالى - مصدر الأحكام، وهو الذي يحكم، وهو الذي يحلل، ويشرع، والرسل إنما يبلغون عن الله ، فإبراهيم ﷺ دعا ربه لمكة، واستجاب الله   دعاءه، فكان ما كان مما قضاه الله - تبارك، وتعالى - تجاه بيته المعظم، ومن ذلك أنه جعله حرماً آمناً تهفو إليه الأفئدة، ورزق أهله من الثمرات ممن آمن بالله، واليوم الآخر، ومن لم يؤمن، - والله تعالى أعلم - فهذان، وجهان في الجمع بين هذه النصوص، وكلها يحتمل، ويمكن أن يقال: إنه لا منافاة بينها أصلاً، والأمر في ذلك قريب، - والله أعلم -.
قوله: ولا يقطع عضاهها: الشجر الذي له شوك يقال له: عضاه، والكلام في حرم المدينة ليس هذا محله، والمقصود أن الله حرم مكة، وإبراهيم ﷺ حرم مكة، وإبراهيم مبلغ عن الله .
وقد وردت أحاديث أخَرُ تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات، والأرض، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة: إن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السماوات، والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعْضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلْتَقَط لُقَطَتُه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خَلاهَا فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَر فإنه لقَينهم، ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر[2].قوله: لا يختلى خلاها يعني لا يحتش الحشيش منها.
وقول العباس: فإنه لقينهم: القين بمعنى الحدَّاد - وهذا في الأغلب، والأشهر -، ويطلق على الصانع عموماً، فالحداد يحتاج للإذخر من أجل صنعته.
قوله: فإنه لقينهم، وبيوتهم: يعني يوضع في السقف فوق الخشب، ثم يوضع فوقه الطين.
وهذا الحديث فيه مسألة معروفة عند الأصوليين في باب التخصيص عند الكلام على الاستثناء، إذ أن من التفاصيل الداخلة تحت موضوع الاستثناء أن الاستثناء إنما يكون من متكلم واحد في أوله، وفي آخره، فتقول مثلاً: لك مائة درهم إلا ثلاثة، يعني لك سبع، وتسعين درهماً، وهذا كلام ظاهر، لكن إذا كان الاستثناء من طرف آخر، كأن يقول إنسان: له مائة فقال شخص آخر: إلا ثلاثة، فهل هذا يصح، أم لا بد أن يكون من متكلم واحد؟
هذا فيه كلام عند الأصوليين، ومن قال: إن ذلك يصح فقد احتج بهذا الحديث، وعلى كل حال مثل هذا لا يخفى، فإذا كان قد أقر به، وكان ذلك متصلاً بكلامه الأول عرفاً فإن ذلك ينـزل منـزلة كلامه، وإلا فليس لأحد أن يفتات على متكلم فيلزمه بما لا يلزمه.
وعن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي - أيها الأمير - أن أحدثَك قولاً قام به رسولُ الله ﷺ الغَد من يوم الفتح.قال ذلك لعمرو بن سعيد الأشدق حينما كان يبعث البعوث لقتال عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وفي أيام يزيد حيث قتل عبد الله بن الزبير على يد الحجاج، فقبل ذلك كان عمرو بن سعيد يبعث الجيوش يجيشها من المدينة إلى مكة.
سَمِعَته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به، إنه حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله ﷺ فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب، فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرْبَة"[3]، رواه البخاري، ومسلم، وهذا لفظه.قوله: ولا فارًّا بخَرْبَة يعني، ولا فارَّاً بجناية.
أتى له بالحديث، وواضح، وصريح في حرمة مكة فقال له: نحن أعلم منك بهذا، وهذا مثل مروان لما أراد أن يخطب في العيد قبل الصلاة من أجل أن يسمع الناس له فلما أخذ أبو سعيد الخدري  بثوبه جبذه مروان منه، وصعد المنبر، فقال له أبو سعيد: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ذهب ما تعلم يا أبا سعيد، إن الناس ما عادوا يسمعون لنا.
وعلى كل حال عمرو بن سعيد هذا ذبحه صاحبه عبد الملك بن مروان ذبحاً كما تذبح الشاة حيث سلطه الله عليه، فقلته شر قتلة بيده، نسأل الله العافية.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات، والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم حَرَّمها؛ لأن إبراهيم بَلَّغ عن الله حُكْمه فيها، وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم  لها، كما أنه قد كان رسول الله ﷺ مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدِل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ [سورة البقرة:129] الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه، وقَدَره، ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بَدْءِ أمرك، فقال: دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام[4]، أي: أخْبِرْنا عن بدء ظهور أمرك، - كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله -.هذا واضح في الجمع بين هذه النصوص، وهو كون التحريم أظهره الله على لسان إبراهيم ﷺ.
وقوله تعالى إخبارًا عن الخليل أنه قال: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] أي: من الخوف، أي لا يَرْعَبُ أهله، وقد فعل الله ذلك شرعًا، وقدرًا كقوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67] إلى غير ذلك من الآيات، وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه.
وفي صحيح مسلم عن جابر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح[5]، وقال في هذه السورة: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] أي: اجعل هذه البقعة بلدًا آمنًا، وناسب هذا؛ لأنه قبل بناء الكعبة.
وقال تعالى في سورة إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35]، وناسب هذا هناك؛ لأنه، والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت، واستقرار أهله به.
هذا الكلام ليس بقاطع، وإنما هو احتمال، وهذه من الوجوه التي يتلمسها المفسرون فيما يسمى بالمتشابه اللفظي، فهنا قال: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126]، وهناك جاء بالتعريف، رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35]، فإذا قيل: لماذا فارق بينهما؟ فيمكن أن يقال: قبل بناء البيت كان موضع البيت بواد غير ذي زرع فدعا ربه أن يكون بلداً آمناً، أي أن يتحول هذا الموضع إلى بلد آمن، فلما صار بلداً دعا له مرة أخرى بـ"أل" العهدية: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] لكن هذا القول هو كغيره مما يذكرونه في هذه الوجوه فلا يقطع به؛ لأنه قد يكون المقام واحد أصلاً، والدعاء واحد لم يتكرر، - والله تعالى أعلم -، وقد سبق الكلام على قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] هل ذلك من قبيل الشرع، أو القدر.
وقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97]، وإن كان يحتمل هذا، وهذا إلا أن قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، هذا يكون بالقدري؛ فهو يريهم أمراً يشاهدونه، ويعرفونه، وبالتالي يجاب عن الإشكال الذي قد يرد، وهو أن ما يقع فيه من القلاقل في بعض الأحيان فإن ذلك لا عبرة به، وإنما العبرة بالغالب، وهذا مثل قول الله : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21] فهذا أمر قد قضى الله به، ومع ذلك قد يقتل النبي، وقد يهزم جيشه، وما إلى ذلك، فلا يحكم بعدم الغلبة في مثل هذه الحالات القليلة التي تعتبر حالات استثنائية، وإنما العبرة بالعاقبة، ثم إن الغلبة أيضاً تكون بالحجة، والبيان، وإن هزم المسلمون في أُحد، ومعهم رسول الله ﷺ في أرض المعركة، وهو ثابت ﷺ لم ينهزم فهذا لا ينافي قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة21:]، إذ إن المسلمين قد غَلبوا، وكانت العاقبة لهم.
كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت، واستقرار أهله، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنًّا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة؛، ولهذا قال في آخر الدعاء: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [سورة إبراهيم:39].
وقوله تعالى: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].
روى ابن جرير عن أبي بن كعب: قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] قال: "هو قول الله تعالى"، وهذا قول مجاهد، وعكرمة.
إبراهيم ﷺ قال: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] خص المؤمنين بهذا الدعاء، وذلك بأن يرزقهم الله   من الثمرات، وقد قلنا: إن بعض أهل العلم ذكر في هذا لطيفة، وهي أن الله   لما أدب خليله ﷺ حينما قال في الإمامة: وَمِن ذُرِّيَّتِي [سورة البقرة:124] حيث علمه الله   أن الإمامة لا تكون لغير أهل الإيمان فقال: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124]، فعهده لا ينال ظالماً، ولا يعطى لظالم، والكافر هو من أظلم الظالمين كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13]، فظن إبراهيم ﷺ بعد ذلك أن الدعاء يقيد أيضاً في طلب الرزق فلذلك قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] فعلمه الله  مرة أخرى، وبين له أن الأمر هنا يفترق، فقال تعالى: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].
فقول الله : قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] هذا من كلامه - سبحانه، وتعالى -، والمعنى أن الله قال: ومن كفر فإنه يُرزَق أيضاً؛، وذلك أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فالمقصود أن قوله: قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] هو من كلام الله - تبارك، وتعالى - في مقابل قول إبراهيم ﷺ حينما خصص أهل الإيمان بالدعاء بقوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجُرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله، ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقًا لا أرزقهم؟! أمتعهم قليلا، ثم أضطرهم إلى عذاب النار، وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا [سورة الإسراء:20] رواه ابن مَرْدُويه.
ورُوي عن عكرمة، ومجاهد نحو ذلك أيضًا، وهذا كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:70]، وقوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:23 - 24]، وقوله: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ ۝ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:33 - 35].
وقوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار، وبئس المصير، ومعناه: أن الله تعالى يُنْظرُهم، ويُمْهلهُم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا، وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة الحـج:48].
وفي الصحيحين: لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولداً، وهو يرزقهم، ويعافيهم[6]، وفي الصحيح أيضًا: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102][7].
  1. صحيح مسلم في كتاب الحج - باب فضل المدينة، ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها، وشجرها، وبيان حدود حرمها (1362) (ج 2 / ص 992)، والنسائي في السنن الكبرى في كتاب الحج - باب ثواب من صبر على جهد المدينة، وشدتها (4284) (ج 2 / ص 487)، واللفظ له.
  2. أخرجه البخاري في  أبواب الجزية، والموادعة - باب إثم الغادر للبر، والفاجر (3017) (ج 3 / ص 1164)، ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) (ج 2 / ص 986).
  3. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب (104) (ج 1 / ص 51)، ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1354) (ج 2 / ص 987).
  4. أخرجه أحمد (ج 5 / ص 262)، والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 175)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية.
  5. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة (1356) (ج 2 / ص 989).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين  (6943) (ج 6 / ص 2687)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم - باب لا أحد أصبر على أذى من الله -عز، وجل- (2804) (ج 4 / ص 2160).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة هود (4409) (ج  / ص 1726)، ومسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب - باب تحريم الظلم (2583) (ج   / ص 1997).

مرات الإستماع: 0

"بَلَدًا يعني مكة. آمِنًا أي: مما يصيب غيره من الخسف، والعذاب، وقيل: آمنًا من إغارة الناس على أهله؛ لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح؛ لقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنًا [القصص: 57] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] فإن قيل: لم قال في البقرة هذا بَلَداً آمِنًا وفي إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم: 35] فعرّف الْبَلَدَ في إبراهيم، ونكَّر في البقرة؟

أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت، في قوله: الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد، ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف."

الجواب الثاني: قاله السهيلي: وهو أن النبي ﷺ كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم؛ لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: الْبَلَدَ بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعَرفها بلام الحضور؛ وفي هذا نظر؛ لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم فلا فرق بين نزوله بمكة، أو المدينة.

الجواب الثالث: قاله بعض المشارقة: أنه قال: هَذَا بَلَدًا آمِنًا قبل أن يكون بلدًا، فكأنه قال: اجعل هذا الموضع بلدًا آمنًا، وقال: هَذَا الْبَلَدَ بعد ما صار بلدًا، وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حكي لفظه فيها على وجهين".

هذا الذي أضافه إلى بعض المشارقة، يقصد به الرازي، فالرازي[1] ذكر هذا الجواب، وحاصله: أنه قال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم: 35] فأول مرة جاء لم يوجد بلد؛ لما وضع هاجر، وإسماعيل  قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا لم يوجد بلد وادٍ غير ذي زرع، فدعا أن يكون بلدًا، فلما جاء في المرة الأخرى، وكانت جُرهم قد نزلت مكة، فصار بلدًا، قال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا فدعا بعد وجود البلد، فهذا أوضح إن كان ذلك قد حصل مرتين، وأما إن لم يكن كذلك، فهذه الأجوبة لا تخلو من تكلف - والله تعالى أعلم - فالجواب الأول: أنه تقدم في البقرة ذكر البيت في قوله: الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ومن ثم قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا فما احتاج إلى تعريفه؛ لأنه قد مضى ما يُحدده، في قوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فقال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا لكن هذا القول لا يخلو من إشكال؛ لأن ذكر القواعد جاء بعد هذا.

يقول في الجواب الثاني: وهو أن النبي ﷺ كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم؛ لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: الْبَلَدَ بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعَرفها، يعني أن (أل) تكون للعهد الحضوري اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ [إبراهيم: 35] الذي نحن فيه مكة، وفي المدينة قال: جْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا - والله أعلم -.

لكن كما قلت من قبل: بأن هذه الفروق اللفظية أنها ظنية، فما ظهر، وجهه فلا بأس، وما كان متكلفًا فيُترك؛ لئلا يكون الإنسان قائلًا على الله بلا علم، ومن تتبع، وتأمل ما يذكره البلاغيون، وأصحاب المصنفات، التي تتعلق بالمتشابه اللفظي في توجيه ذلك، حيث يذكرون أشياء يمكن أن يُعترض عليها بمواضع أخرى من القرآن، تدل على خلاف ما ذكروا، وهذا كثير؛ ولهذا بعض أهل العلم ينكر مثل هذا، والاشتغال به من أصله.

"مَنْ آمَنَ بدل بعض من كل".

قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ "أهل" هنا مضاف إلى معرفة، فيفيد العموم، يعني ارزق جميع أهله، ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل بعض من كل، كأنه قال: وارزق من آمن من أهل مكة، فيكون ذلك مخصصًا بأهل الإيمان.

وبعض أهل العلم يقولون: أنه لما سأل مرة ثانية تأدب في السؤال، فسأل الرزق للمؤمنين، فبين الله له أن الرزق ليس كالإمامة، فالرزق يكون للمؤمنين، والكفار، فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

"وَمَنْ كَفَرَ أي: قال الله: وأرزق من كفر؛ لأن الله يرزق في الدنيا المؤمن، والكافر." 
  1. تفسير الرازي - مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير (4/ 49).

مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].

ذكرنا في مُناسبات سابقة أن "إذ" هذه تكون مسبوقة بفعل مُقدر، وهو واذكر إذ قال، وهذا يدل على أهمية هذا الأمر الذي يُذكر بعدها، ذكره الله لنبيه ﷺ ذكره الله في أشرف كتاب، لأشرف أمة، واذكر إذ قال إبراهيم حينما دعا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] يعني: مكة، بلدًا آمنًا من الخوف وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:126] من أنواع الثمرات، وطلب وسأل أن يخص بهذا الرزق قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] يعني: وارزق أهله ثم جاء بالبدل قال: مَنْ آمَنَ يعني: كأنه قال: وارزق من آمن منهم بالله واليوم الآخر، كما قال الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ كل الناس، ثم قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فهذا بدل بعض من كل، فكذلك هنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ هذا يشمل كل أهل مكة أهل الحرم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فهذا بدل بعض من كل، يعني: وارزق من آمن منهم فقط من الثمرات.

فالله -تبارك وتعالى- قال له: ومن كفر منهم فارزقه في الدنيا قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] أُلجأه إلى عذاب النار وبئس المرجع والمصير والمُقام.

يؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] هذا الدعاء من إبراهيم اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ قدم الأمن على الرزق؛ لأن الأمن هو الأهم فإذا تحقق الأمن للناس قامت معايشهم ومصالحهم وأسواقهم، وراجت تجاراتهم، ثم بعد ذلك هم يهنئون ويطمئنون بما يطعمون من الطعام والشراب، أما إذا حصل الخوف فلا ترى إلا أسواقًا موصدة، وتجارات كاسدة، ونفوسًا خائفة وجلة لا تهنأ بالطعام.

الإنسان إذا كان في حال من الخوف فإن نفسه تكون في حال من الاستفزاز المُستمر تكون مشدودة، وكما يقولون بأن القلب يبعث الدماء بقوة في أحوال للإنسان كالخوف والغضب، في حال الخوف القلب يضطرب ونبضه يزداد ويقوى وتكون أحوال الإنسان وأعضاؤه وجوارحه مُهيأة للانطلاق للهرب إذا خاف، يريد أن يفر إذا سمع فزعًا، سمع خوفًا، قيل له: جاء العدو فتجد أن هذا الإنسان يبدأ الدم يضخ فيه بقوة ليكون ذلك أدعى لانفلاته وانطلاقه.

فحينما يتفرق هذا الدم في هذه الأعضاء في اليدين والرجلين ونحو ذلك، هنا لا مجال للتفكير بصورة سليمة مُستقرة، فيبقى الناس في حال الخوف، تكاد الأذهان تُشل، لا يُفكر الإنسان إلا بشيء واحد، كيف يحصل له النجاة والخلاص؟ ليس هناك تفكير في الآخرين، وإذا اشتد الخوف كما في الآخرة يوم القيامة هنا لا أحد يشتغل بأحد لا الوالد بالولد، ولا الولد بالوالد، فكل واحد يفر من الآخر، والأبصار شاخصة.

وهكذا في أحوال الهول الشديد، فالله قال في يوم الأحزاب مصورًا الحال التي بلغت بأهل الإيمان حينما حوصروا: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10] تبلغ الحناجر، بعض العلماء يقولون: معنى هذا أن الرئة تنتفخ في حال الخوف، ولا أدري هل هي من الناحية الطبية تنتفخ فعلاً، أو أن هذا انتفاخ يكون في القولون مثلاً؟

يقولون: تنتفخ الرئة فيرتفع القلب إلى أعلى، فيشعر الإنسان كأنه سيخرج قلبه.

وبعض أهل العلم يقولون: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10] بمعنى أن ذلك من قبيل التصوير لشدة الخوف، يعني: كأن القلب يكاد يخرج من حنجرة الإنسان لشدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الأحزاب:10].

وفي الآية الأخرى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] يعني: بلغت الشدة الغاية حتى ترد هذه الخواطر في ما أظنه أقرب من أقوال المفسرين في معنى الآية ومحملها اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ على هذه القراءة المتواترة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [سورة يوسف:110] القراءة الأخرى (كذّبوا) واضحة لا إشكال فيها، لكن كُذِبُوا بمعنى تخلف النصر الذي وعدوا به، هذا كيف يقع من الرسل؟

فالجواب عنه: ما ذكره بعض أهل العلم أن هذا من قبيل الخواطر والواردات في أوقات الشدة العصيبة المُستحكمة فيدفعها المؤمن فلا تضره، تكون خطرات لا تضر حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] إذا كان هؤلاء بهذه المثابة الرُسل ترد عليهم هذه الخواطر، معنى ذلك أن عقل الإنسان في أحوال الخوف الشديد يكاد يتعطل من التفكير، فتتعطل العلوم والمعارف والنهضة والتجارة، تتعطل ضرورات الناس، لا يستطيعون يذهبون إلى المساجد، وانظروا إلى بلاد من حولنا تأتي الجمعة والجمعة ولا يصلون؛ لأنهم يتوقعون حينما يدخلون المسجد يصلون يجتمعون أن يُستهدف هذا المسجد من أي فئة كانت، الخوف من كل مكان، تجتمع الشياطين من كل نواحي الأرض فلا يدري هؤلاء من الذي قتلهم، من الذي جنى هذه الجناية، كل جهة من هذه الجهات يتوقع أن تفعل مثل هذا، فتارة يُرمى هذا على تلك الطائفة، وتارة يُرمى على طائفة أخرى، وتارة يُرمى على طائفة أخرى، وكل ذلك وارد، فيبقى الناس في حال من الهلع فتتعطل الصلوات في المساجد.

وكذلك ما يتعلق بالنفوس، القتل، كثرة الهرج، كما أخبر النبي ﷺ أن العبادة في أيام الهرج لها ما لها من الفضل والمزية، فقال ﷺ: العبادة في الهرج كهجرة إلي [1]

وكذلك أيضًا من الضرورات الخمس: الأعراض، العِرض تخرج البنت أو الولد ولا يرجع، إحصاءات أرقام كبيرة جدًا في الخطف، لا يرجع للناس أولادهم، المدارس الجامعات، يُخطف الولد من عند بيت أهله بل قد يدخلون بيت الأهل ويخطفون البنت أو البنات، ولا يستطيع أحد أن يدفع عن عرضه، عصابات إجرام، فينتشر الفساد العريض، ولا يأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم فضلاً عن أموالهم، فإن الأموال تُستباح والسطو والنهب على التجارات والمتاجر والأسواق، وأنتم ترون كثير من النفوس السبوعية لو حصل لها أدنى فرصة في اختلال الأمن لرأيت النهب كيف يكون للمتاجر والمحلات ولعاثوا فيها فسادًا، نسأل الله العافية. ترون في بعض المقاطع مثل هذه الأشياء.

فهنا قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:126] أرزق أهله من الثمرات، كما قال الله -تبارك وتعالى- مُمتنًا على أهل مكة، على قريش لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ۝ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش:1- 4].

وقوله -تبارك وتعالى: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ "مِن" هذه للتبعيض؛ لأنهم لم يرزقوا كل الثمرات التي على وجه الأرض.

وإذا كان كذلك دعوة إبراهيم وهي إلى هذا القدر مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فإن الله قد حقق ذلك، قال عن الحرم: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] تُجبى من أقاصي الدنيا إلى هذا الوادي الذي لا زرع فيه، وصار هذا الوادي هو أعظم مكان في الدنيا من ناحية الأمن.

وقد ذكرت في الليلة الماضية ما يتعلق بهذا الجانب، وأنه لا يجوز لأحد أن يُفرط فيه، أو أن يتسبب في إخلال بأمنه، أو أن يخوف أهله، أو بأن يعتدي عليهم بأي نوع من أنواع العدوان، أو أن ينشر ما يُثير في نفوس الناس الخوف ليصور أن هذا البلد غير آمن كما ذكرت في هذه المقاطع التي تصور وتُنشر، منها ما يكون بحُسن نية، ومنها ما يكون بسوء نية، منها ما يكون من باب التسلية لربما، ومنها ما يكون لغير ذلك، كل هذا لا يجوز.

يعني: حينما يصور للناس الحرم سقطت رافعة دماء أموات، والناس مقبلون على الموسم على الحج، ما هي الحكمة والمصلحة في نشر هذا وإذاعة هذه الصور للناس؟

الرسالة التي تصل إلى المشاهدين أن هذا مكان غير آمن، وفي توقيت دقيق جدًا وحساس، الناس جاءوا للحج، ومنهم من يتهيأ للمجيء فتُنشر هذه المقاطع، هذا لا يجوز، تصوير هذه الأماكن على أنها مخوفة غير آمنة هذا خلاف مقصود الشارع.

وبعض هذا كذب محض، أحد هذه المقاطع يصور الناس يتسارعون في المسجد النبوي يجرون ثم يُقال كذبًا بأنهم رأوا رجلاً توهموا أنه يحمل حزامًا ناسفًا فانطلقوا، هذه الرسالة ما مفادها؟ أن يتوقع الشر والمكروه في داخل المسجد النبوي، أو المسجد الحرام، بينما الصورة منذ رأيت أولها عرفت أن هذا كذب وذلك أنه معروف أن المسجد كان النساء يخرجن إلى الروضة في وقتين في اليوم في الصباح وفي المساء، فإذا فُتح لهن ووضع الحاجز دون الرجال كان الذين يتسارعون هم النساء منذ زمن من سنين يجرين جريًا، ثم بعد ذلك لما كثُر الناس والوافدون على المسجد النبوي، وجاء كثير من الأعاجم وغيرهم، فصار إذا فُتح لهم وأُغلق على النساء تسارعوا إلى الروضة جريًا، فجاء هذا وصورهم، وقال إنهم فروا هربًا من أمر مخوف وهذا كذب، إنما كان هذا التسارع ليستبقوا إلى الروضة، فهذا الذي يكذب وهو يعلم أنه يكذب، وينشر هذه الصورة كيف تكون حاله؟ 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].

في هذه الآية من سورة البقرة من دعاء إبراهيم : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] وفي سورة إبراهيم:اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] بالتعريف: البلد، وهي مكة، والدعاء لمكة في الموضعين فنُكرت في سورة البقرة اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا وفي سورة إبراهيم:اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا فما وجه التفريق بينهما؟

العلماء -رحمهم الله- يُجيبون على هذا بجواب معروف، وهو: أن الأول وهو في سورة البقرة كان قبل أن تكون مكة بلدًا، يعني: أول ما جاء بهاجر ووضعها في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ولا شيء من مظاهر الحياة بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم:37] فقال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا [سورة البقرة:126] دعا ربه أن يتحول هذا الوادي إلى بلد آمن، ثم لما جاء في المرة الأخرى تحولت مكة إلى بلد حيث نزلت جُرهم بمكة، لما نبع ماء زمزم كما هو معروف، فلما جاء في هذه المرة وقد تحولت إلى بلد، فقال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] فدعا لبلد موجود، قائم يوجد فيه قبيلة من الناس وهي جُرهم.

فهذا وجه المُغايرة بين الموضعين، وكان ذلك بعد ولادة إسحاق فالولد الأكبر وهو الذبيح هو إسماعيل وبين إسماعيل وإسحاق ثلاثة عشرة سنة، فإسماعيل ابن هاجر وإسحاق ابن سارة، وبينهما هذه السن، ولهذا قال في آخر الدعاء في سورة إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [سورة إبراهيم:39] هذا في المرة الثانية؛ لأنه حينما جاء في المرة الأولى ومعه هاجر مع صغيرها حديث الولادة في المهد وهو إسماعيل لم يكن إسحاق قد ولد؛ لأن بينهما ثلاثة عشرة سنة، ففي المرة الأولى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وفي المرة الثانية بعد مدة، وبعد ولادة إسحاق؛ لهذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [سورة إبراهيم:39] فهذا بعد سنين، والله تعالى أعلم.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى- في دعاء إبراهيم في هذه المرة قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [سورة البقرة:126] فقيد في الدعاء لهم بالرزق أن يرزق من آمن بالله واليوم الآخر، يعني: مفهوم المخالفة المسكوت عنه أن من لم يكن مؤمنًا بالله واليوم الآخر فلا ترزقه، وكأن إبراهيم قد تحرز بسبب أنه لم دعا في المرة الأولى بالإمامة لولده إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] فكأنه ظن أن الرزق أيضًا يُدعى به لخصوص أهل الإيمان، فلما دعا بالرزق وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فبين الله له الفرق بين المقامين، قال الله: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126].

فالرزق غير الإمامة، الإمامة في الدين لا تكون إلا لأهل الإيمان والعمل الصالح واليقين، بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، لكن الإمامة لا تكون لأهل الظلم والفجور، الإمامة في الدين فلا يصلح أن يكون قدوة يأتم الناس به على ضلال وفجور، أو أهواء وبِدع ونحو ذلك.

فلاحظ أدب الأنبياء في المرة الأولى قال الله له: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124] يعني: اجعل أئمة، أخذته الشفقة على ذريته فسأل لهم الإمامة فلما سأل الرزق لأهل مكة احترز قال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [سورة البقرة:126] خصوص من آمن، ارزق من آمن، فقال الله له: لا، هذا يختلف، الرزق يكون للبر والفاجر والمؤمن والكافر كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [سورة الإسراء:20] بخلاف الإمامة في الدين، فهذا من أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:126] يؤخذ منها أن هذا المتاع الذي يُعطى هو متاع قليل لا في قدره ولا في مدته، لا فيما يتصل بالأفراد بالنظر إلى الأشخاص، ولا بالنظر إلى الحياة الدنيا، هو قليل، النبي ﷺ يقول: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء [2] لو كانت تساوي جناح بعوضة، جناح البعوضة ماذا يساوي، والبعوضة ماذا تساوي؟ وألف بعوضة ماذا تساوي؟ ومليون بعوضة ماذا تساوي؟ لا، لو كانت الدنيا تساوي جناح بعوضة جناح فقط ما سقى منها كافرًا شربة ماء.

إذًا هي عند الله أقل من جناح البعوضة بما فيها من هذه الثروات والمعادن والذهب والفضة، وهذه المراكب البرية، والبحرية، وناطحات السحاب، والعِمران الواسع، والزروع والدواب، كل ذلك من أوله إلى آخره، من أول الدنيا إلى آخرها، الدنيا بأكملها لا تساوي جناح بعوضة، لو كانت تساوي ما سقى منها كافر شربة ماء.

إذًا لا تغتر بما يُعطى للكفار هو أقل من جناح بعوضة، فلا يُفتن أهل الإيمان بما يُعطى لهؤلاء من ألوان النعيم واللذات والتمكين والثروات، وسابقًا قوة الاقتصاد، وأما الآن فتعرفون ما يعصف باقتصادهم، وما يُعانونه ويُكابدونه، لكن كل ذلك لا يساوي عند الله جناح بعوضة، فلا يغتر المؤمن إذا عرف هذا، هذا من جهة هو قليل فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثم لو نظرنا أيضًا إلى عمر الإنسان حينما يُمتع هذا الإنسان المُمتع كما يعيش إلى ستين إلى سبعين إلى ثمانين إلى تسعين إلى مئة، وإذا وصل إلى المئة تلاشت قواه، وبدأت خلايا المخ تضعف، أو تموت، وينسى كل شيء، ولا يعرف حتى زوجته وأولاده، إذا جالس وقال من هذا؟ من أنت من هذا الرجل الذي جالس؟

ويجلس ويتحدث ويُعيد الكلام مرة بعد مرة، ثم يُعيد ويسألك مرة أخرى ويقول لك من أنت، فتُخبره ثم ما يلبث أن يلتفت ويقول من أنت؟ بعد ما كان في غاية الذكاء وحضور الذهن، هذه الحياة الدنيا إذا عُمر الإنسان.

يسر المرء طول عيش وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حتى لا يرى شيئًا يسره 

إلا من متعه الله بالإيمان والعمل الصالح، وحفظ قلبه وسمعه وبصره وعقله، واشتغل بذكره فهذا يُغبط، وأما إذا لم يبقَ له من ذلك شيء فهذا أرذل العمر الذي استعاذ النبي ﷺ منه.

فأقول: هذه الحياة التي يبقها الإنسان إلى سبعين إلى ثمانين إلى كم، هي مدة قليلة مهما مُتع فيها، ثم يصير إلى دار الخلود، دار الخلود، فإذا كان في النار هؤلاء الكفار فما قيمة سبعين سنة وحينما تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.

وأما هذا النعيم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط [3].

فهذه الحياة يُنسيها غمسة واحدة بما فيها من نعيم أو بؤس، فما قيمة هذه الحياة التي نحرص عليها ونحزن من أجلها، ونتهافت على تحصيل حُطامها، ويبقى الإنسان في قلق من المُستقبل بزعمه وأحزان على الفائت هذا كله لا يستحق غمسة واحدة تُنسيك كل شيء.

فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] مدة قليلة والحياة كلها العمر قصير والحياة كلها قصيرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55] فحري بدار كهذه أن يُزهد فيها.

ثم أيضًا وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] عطاء الله للعبد من الدنيا لا يدل على رضاه ومحبته لهذا الإنسان، بل إن كان على غير إيمان وعمل صالح فهذا من الإملاء وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183] إذا رأيت الله كما قال السلف يُعطي الرجل وهو على معصيته مُقيم على معصيته فهذا من قبيل الاستدراج وَأُمْلِي لَهُمْ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56] هم لا يشعرون أن هذا من قبيل الاستدراج لهم وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا [سورة آل عمران:178] ليزدادوا ماذا خيرًا وطاعة؟ ليزدادوا ماذا؟ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا.

فهذا العطاء إذا كان العبد على حال غير مرضية فمعناه أنه استدراج.

الذي يُعطى للكفار وهم على كفرهم هذا استدراج ليزدادوا إثما، فالمؤمن لا يغتر، ومن هنا هذا السؤال الذي يُورده بعض المسلمين إذا ذهبوا ورأوا ما فيه أولئك الكفار أجواء جميلة وغائمة، وأمطار، وبلاد خضراء، وكذلك أيضًا الحياة مُذللة لهم، فيرد هذا السؤال عند بعضهم، لماذا الكفار في هذا النعيم، وهذا التمكين، وهذا الترفيه وهذه الوسائل التي ذللت لهم المصاعب في الحياة والمسلمون في وضع بائس؟

فيُقال كما قال النبي ﷺ لما وجده عمر : وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة، قال: فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة [4].

فهذا هو الواقع، ولذلك قالوا: الدنيا سجن المؤمن، ما معنى سجن المؤمن؟ معناه أن هناك حدود محظورات، هذا لا يجوز هذا ممنوع، فيبقى يسير في إطار مُحدد.

وجنة الكافر، فإذا نظرت إلى ما يكون للمؤمن من النعيم المقيم الذي لا يُقادر قدره، وما يكون في الدنيا فالدنيا سجن بالنسبة للجنة، وأما بالنسبة للكافر وما يلقاه من العذاب الأليم أبد الآباد فالدنيا بالنسبة له جنة، حتى لو كان يعيش في كوخ، لو كان يعيش في سقيفة، في عريش، لو كان يعيش تحت ظل شجرة في الدنيا هي جنة بالنسبة له بالنظر إلى عذاب النار الذي ينتظره.

ولذلك أقول أيها الأحبة، هذه المعاني يحتاج المؤمن أن يقف عندها فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة:126] ما أُعطي هو قليل، وهذا القليل أيضًا هو في الواقع أنهم يشقون فيه غاية الشقاء.

فهذه الأموال والأولاد كما قال الله : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة التوبة:55] فيُعذبون بهؤلاء الأولاد، ويُعذبون بهذه الأموال، فيبقى دائمًا في ملاحقة لها وحذر وحرص وقلق حينما ترتفع العملات، أو حينما تهبط، أو حينما ترتفع البُورصة، أو حينما تنزل، أو حينما ترتفع الأسهم، أو حينما تنزل، فيبقى قلبه يرتفع وينزل فيبقى في عذاب طالع نازل قلق، لذلك تجد بعض هؤلاء على الثراء على الأموال يأكلون الأدوية، وتنتشر فيهم المصحات النفسية، ويعيشون في قلق وضيق دائم وهم مع هذه الأسباب المُذللة، وهذا طبيعي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124].

المعيشة الضنك لكل من أعرض عن ذكر الله وذكره هو كتابه، من أعرض عن هدى الله فلم يذكره بقلبه ويتدبر ويتلو ويعمل به، فإن له معيشة ضنكا، إذا كان المسلم حينما يُقصر وتحصل له شيء من الغفلة يجد في قلبه من الوحشة والضيق والحُزن، وما أشبه ذلك، بسبب بُعده عن ربه، الذي لا يعرف الله، ولا يسجد لله، ولا يؤمن بالقضاء والقدر، ولا يتوكل على الله، ما حاله هذا؟ نسأل الله العافية، قلبه كريشة في مهب الريح ضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ضياع، ضياع ووحشة، أرواحهم في وحشة من جسومهم، نسأل الله العافية يستوحش من كل شيء.

ولذلك هؤلاء أحوج ما يكونون بدلاً من الإعجاب بهم والله هم أحوج ما يكونون إلى رحمة، أن يلتفت إليهم المسلمون، فيُبلغونهم إكسير السعادة، وهو هذا الدين الإسلام الإيمان، فتتحول تلك النفوس المُستوحشة إلى حال من الراحة والسعادة؛ لأن هذه النفس تشقى إذا كانت بعيدة عن الله  إذا كانت بعيدة عن الإيمان تكون في وحشة وشقاء، وإن المرء ليعجب كيف يستطيع هؤلاء العيش؟ الواقع أنهم يلجئون إلى الانتحار، ويوجد عندهم أنواع من الانتحار مُبتكرة بحيث لا يوجد معها ألم، وبعضهم ربما دفع الأموال للمُحامين من أجل ألا يكون هناك مُطالبة لأحد إذا أعطاه هذا الجهاز الذي ينتحر به، أو نحو ذلك.

ما نفعهم الأموال، ولا نفعهم الأجواء الجميلة، ولا نفعتهم الخُضرة المُمتدة، ولا نفعتهم وسائل الراحة والنقل والمواصلات، والخدمات السهلة التي تصل إليه وهو في بيته، كل هذا ما نفع، شقاء يشحط هذه النفوس، يطحنها طحنًا، فترى البؤس في وجوههم.

وانظر إلى حال أهل الإيمان بقدر ما عندهم والموفق من وفقه الله، الذي يأتي لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، اسألوه عن الراحة التي يجدها والطمأنينة والنعيم الذي يجده في قلبه.

يجد من النعيم ما لو علم به أولئك لدفعوا ما بأيديهم من الأموال من أجل أن يحصلوه، هؤلاء يذهبون مساكين يذهبون إلى التِبت، هناك في الصين عند البوذيين التبت هي المنطقة التي فيها معقل الديانة البوذية، يذهبون من أوروبا وأمريكا وكندا إلى التبت يبحثون عن ماذا؟ يبحثون عن وثنية، فيكونوا كالذي فر من الرمضاء إلى النار، نسأل الله العافية، فيزداد وحشة وبؤسًا، هؤلاء أحوج ما يكونون إلى الحق الذي عندنا، يذهب إليهم أبناؤنا، ومن يُسافر هناك وهو يرفع رأسه ويقول هلُم هنا أساس السعادة التي تبحثون عنها، هنا، لكن لا يذهب وقد طأطأ رأسه، وينظر إلى هؤلاء على أنهم عظماء، وأنهم قد حصلوا من الراحة والرغد فيما يبدوا في ظاهر الأمر ما لم يُحصله هذا الذي جاء من الصحراء، الواقع أن هذا الذي يعيش في الصحراء، ولو كان تحت شجرة أنعم وأفضل وأكمل حالاً من هؤلاء.

والسعادة -أيها الأحبة- ليست في أكلة يأكلها الإنسان، ولا في منظر يُشاهده، ولا في أريكة يتكئ عليها، فهذا البائس والله لو أجلسته على آرائك منسوجة بالذهب والفضة، وأطعمته الفالوذج فإنه يبقى زاهدًا في ذلك كله، وفي حال من البؤس والمعاناة.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج، رقم: (2948). 
  2.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في هوان الدنيا على الله U رقم: (2320). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، رقم: (2807). 
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ رقم: (4913)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالىوَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ رقم: (1479).