قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [سورة البقرة:127] يعني يرفع إبراهيم الأساس وأما القواعد التي في أسفل البناء فإنها لا ترفع على الحقيقة، فإذا قيل: رفعت القواعد فالمعنى رفع البناء فوقها، فقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ يعني يقيم عليها البناء.
وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].
قلت: ويدل على هذا قولهما بعده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [سورة البقرة:128] الآية، فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما.
كما روى ابن أبي حاتم عن وهيب بن الورد أنه قرأ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلَّص في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا [سورة المؤمنون:60]، أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60] أي: خائفة ألا يتقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله ﷺ كما سيأتي في موضعه.
في قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] هو أورد هنا قراءة ابن مسعود: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا..) لأن من المفسرين من يقول: إن هذا الدعاء صدر من إبراهيم ﷺ، ويقولون: إن إبراهيم ﷺ حينما بنى البيت كان إسماعيل ﷺ في غاية الصغر أو كان رضيعاً لم يبن مع أبيه البيت، وهذا في غاية الغرابة، فالله يقول: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ فمعنى ذلك أن إسماعيل ﷺ كان يشاركه البناء سواء كان يناوله اللبن، أو غير ذلك مما يصنعه معه، المهم أنه كان مشاركاً له، ولذلك فإن الدعاء في قوله - تبارك وتعالى -: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] صدر منهما - عليهما الصلاة والسلام - ويدل على ذلك من الآية أنه قال بعده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] أي على سبيل التثنية، فالبناء صادر منهما والدعاء كذلك صادر منهما، فهذا هو سبب إيراد ابن كثير - رحمه الله - هذه القضية؛ لأنه وجِد من خالف في هذا.
يعني أنها كانت تغار منها فأرادت أن لا يكون لها أثر إذا مشت فكانت تخفي أثرها على سارة أم إسحاق.
حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندها جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء ثم قَفَّى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، فقال: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [سورة إبراهيم:37] حتى بلغ: يَشْكُرُونَ [سورة إبراهيم:37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرفَ درعها ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحَدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: فلذلك سعى الناس بينهما.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعينًا.
قال: فجعلت تحوطه: وفي النسخة الأصل تحوضه وهكذا هي الرواية، والمعنى أنها تجعل له حوضاً يجتمع فيه الماء، وفي بعض الروايات: تحفر وهي بمعنى تحوضه أو تحفن أي التراب لتجعل حوضاً، أو تفحص الأرض بيديها.
وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق كَدَاء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا.
قبيلة جرهم يقال: إنهم من العمالقة، والمؤرخون كانوا يسكنون أو أن بعضهم كان يسكن قريباً من مكة، وكانوا يعرفون هذا المكان وأنه ليس فيه ماء.
يقول: أهل بيت من جُرْهم مقبلين من طريق كَدَاء: كداء بالفتح، يعني من أعلى مكة، قال: فنزلوا في أسفل مكة: يعني كأنهم جاؤوا من أعلاها وهذا لا إشكال فيه، فالنبي ﷺ دخل من أعلاها من - كداء - وخرج من أسفلها، فيمكن أنهم جاؤوا من أعلاها حتى بلغوا أسفلها.
قوله: فرأوا طائراً عائفاً: الطائر العائف هو الذي يحلق فوق الماء ولا يجاوزه.
يعني أرسلوا رسولاً مندوباً عنهم أو وكيلاً أو نحو ذلك، وقيل له: جري؛ لأنه يقوم مقام من أرسله أو لأنه يسعى ويبادر في حاجته والمصلحة التي أرسل من أجلها.
يعني أن ذلك صادف شيئاً في نفسها وحاجة وهي أنها تحب الأنس، والأُنس ضد الوحشة فهي كانت مستوحشة فلما عرضوا عليها الإقامة عندها ألفى ذلك شيئاً في نفسها أي حاجة في نفسها.
قوله: وهي تحب الأنس: بالضم هو ضد الوحشة، ويمكن أن يكون بكسر الهمزة، أي وهي تحب الإنس يعني بني جنسها، وبين المعنيين ملازمة لا تخفى، فلا تعارض حينئذٍ.
قوله: وأنْفَسَهم وأعجبهم: من النفاسة، أي أنه صار نفيساً ومرغوباً فيه عندهم فزوجوه وصاهروه.
يقول: أنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم: أي صار إسماعيل مرغوباً فيه ولم يكن كاسداً .
قوله: وتعلم العربية منهم: هذا يدل على أن أبويه من غير العرب، وهذا هو المعروف المشهور، وأما ما جاء من أن إبراهيم ﷺ أول من تكلم بالعربية فإن الذي يصح من ذلك ما جاء مقيداً باعتبار أن إسماعيل ﷺ هو أول من فتق الله لسانه بالعربية الفصحى، فإسماعيل ﷺ كان أفصح من جرهم بما ألهمه الله وألهمه، فصارت عربيته أحسن من عربيتهم، وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم كثير، وذلك في قضية العرب العاربة والعرب المستعربة، وهل يقسم الناس بهذا الاعتبار لما فيه من الإشكال في كون العرب من يرجعون في نسبهم إلى إسماعيل ﷺ والنبي محمد ﷺ منهم فهل يقال: هو من العرب المستعربة، وإذا تأملت هذا الخلاف والإشكال الوارد في هذا قد تخرج بنتيجة أن المسألة لا تحتمل ذلك باعتبار أن هؤلاء صاروا هم العرب، والله وصف نبيه ﷺ بأنه منهم فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] ووصف هذا القرآن بأنه بلسان عربي مبين، وتبقى المسألة في التسمية، هل يليق هذا أو لا يليق؟
ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].
قال في الحديث: إنه جاء وهو يبري وقد تزوج، وهذا رد واضح وصريح على أولئك الذين قالوا: إن إبراهيم ﷺ بنى البيت وإسماعيل طفل صغير، لا يطيق البناء معه، وأن الدعاء صدر من إبراهيم وحده، وعلى كل حال مسألة بناء البيت والأحاديث الواردة فيها صح منها ما صح ولم يصح منها ما لم يصح، والأخبار الإسرائيلية كثيرة جداً، وأخبار الحجر الأسود ومن أين جاء صحت جملة من الأحاديث بأنه نزل من السماء، وعلى كل حال ليس هذا محلاً للكلام على هذه الأشياء.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله ﷺ خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يَهُمُّون بذلك ليسقفوها ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضماً فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تُطْرَحُ، فيها ما يُهْدَى لها كل يوم َتَتشدق على جدار الكعبة.
قوله: َتَتشدق على جدار الكعبة: أي أنها كانت تخرج لسانها، وهذه قضية معروفة في صفة الحية، فهي كانت تخرج على الجدار وتنظر إلى هؤلاء الناس وتتشدق، فهي في منظر لا شك مخيف ومفزع ولا يستطيع أحد الاقتراب من البئر.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مَخزُوم.
قوله: ينتحلون هذا الكلام للوليد: يعني ينسبونه إليه.
وهذه التفاصيل بهذه الصورة تذكر في كتب السير، ولا شك أن أصل ذلك ثابت وهو أنهم أعادوا بنائها وأن رسول الله ﷺ شاركهم في وضع الحجر وقضية الحية التي كانت موجودة، هي موجودة في بعض أشعارهم ويذكرون هذا في السير، فالله تعالى أعلم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضًا.
قوله: كالأسنمة: يعني كأسنمة الإبل.
وقوله: آخذ بعضها بعضاً: يعني أنها مشبكة، ووصفها بالأسنمة ظهر في وقت ابن الزبير لما هدمها وبناها من جديد، حيث أخرج لهم تلك القواعد فرآها الناس وأشهدهم على ذلك ووصفوها بهذه الصفة وهي أنها متداخلة وكالأسنمة، وشوهدت في هذا العصر حينما جدد بناؤها قريباً ووصف من شاهد ذلك أيضاً بمثل هذه الصفة.
يقول المفسر – عليه رحمة الله -:
النزاع في وضع الحجر الأسود وقضاء محمد بن عبد الله القضاء العادل ﷺ.
قال ابن إسحاق[2]: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا فيه؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلهم - قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال ﷺ: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا فأتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ﷺ ثم بُنيَ عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله ﷺ قبل أن ينزل الوحي: الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَا تصوبت العُقَاب
وقد كانت يكون لها كشيش
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت
فضمتها إليها ثم خَلَّت
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء
غداة نرَفع التأسيس منه
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا
إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وأحيانًا يكون لها وثَاب
تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ
عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب
لنا البنيانَ ليس له حجاب
لنا منه القواعدُ والتراب
وليس على مُسَوِّينا ثياب
فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب
وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي ﷺ ثمانية عشر ذراعًا وكانت تكسى القباطي.
قوله: وكانت تكسى القباطي: القباطي جمع قُبطية وهي ثياب بيضاء من الكتان تنسج في البلاد المصرية، أي أن الكعبة لم تكن تكسى بالحرير.
البُرود – بالواو - أو البُرد - بإسكان الراء وضم الباء - والبرد أصله لحاف مخطط يلتحف به وهي من الثياب الغليظة وفيها خشونة بعض الشيء وهي أفضل من الكتان اللين الذي كانت تكسى الكعبة به قبلُ.
روى مسلم بن الحجاج في صحيحه عن عطاء قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم أو يُحزبهم على أهل الشام.
يعني حتى إذا رأوا الكعبة محترقة وقع في نفوسهم ما وقع من الغيظ على أهل الشام، فهو يريد أن يحرك نفوس الناس تجاه أهل الشام برؤيتهم بيت الله كيف صنعوا به.
فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟
قال ابن عباس: فإني قد خرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها ﷺ فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري، فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء.
قوله: أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء: يني أول واحد يبدأ بالهدم تنزل به عقوبة.
يعني بدل أن يكون المكان مستوياً بالأرض لا بناء فيه وضع ستوراً يتوجه إليها الناس في صلاتهم، وليكون ذلك أدعى لبقاء المهابة في نفوسهم؛ فإن بيت الله له من المنـزلة في نفوس الناس ما لا يخفى.
وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله ﷺ ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك بن مروان، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله ﷺ قال: وددنا أنا تركناه وما تولى.
كما روى مسلم عن عبد الله بن عبيد، قال: وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيبٍ - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله ﷺ: إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع[4].
زاد الوليد بن عطاء أحد رواته: قال النبي ﷺ: ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا، قال: تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يَدَعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم، قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل[5].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة أخرجاه[6].
وعن عبد الله بن عباس - ا - عن النبي ﷺ قال: كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا رواه البخاري[7].
وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حلْيتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله[8]. الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.
قوله : ذو السويقتين يعني أن ساقه دقيقة، ودقة الساقين هذا غالب حال الأفارقة.
ويقول ابن كثير: الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق: هذا أصله تحول في المفاصل، فإذا كان في القدم بحيث كانت القدم متحركة عن الساق وكأنها قد فارقت المفصل فهذا معنى أفيدع، ومثل هذا التصغير يأتي لمعان منها التحقير.
- صحيح البخاري في كتاب الأنبياء – باب يَزِفُّونَ [سورة الصافات:94] النسلان في المشي (3184) (ج 3 / ص 1227).
- سيرة ابن هشام (ج1 / ص 196 -197).
- أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها (1333) (ج 2 / ص 968) وفي النسائي في كتاب مناسك الحج - الحِجـر (2910) (ج 5 / ص 218).
- أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها (1333) (ج 2 / ص 968).
- المصدر السابق نفسه.
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب هدم الكعبة (1519) (ج 2 / ص 579) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - 18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (2909) (ج 4 / ص 2232).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب هدم الكعبة (1518) (ج 2 / ص 579)
- مسند أحمد (ج 2 / ص 220) وقال شعيب الأرنؤوط: بعضه مرفوع صحيح وبعضه يروى موقوفا ومرفوعا والموقوف أصح
- أخرجه البخاري في كتاب الحج – باب قول الله تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ [سورة المائدة:97] حديث رقم (1516) (ج 2 / ص 578).