الجمعة 02 / ذو القعدة / 1445 - 10 / مايو 2024
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِۦمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وأما قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:127-128] فالقواعد: جمع قاعدة وهي السارية والأساس.

قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [سورة البقرة:127] يعني يرفع إبراهيم الأساس وأما القواعد التي في أسفل البناء فإنها لا ترفع على الحقيقة، فإذا قيل: رفعت القواعد فالمعنى رفع البناء فوقها، فقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ يعني يقيم عليها البناء.

يقول تعالى: واذكر - يا محمد - قومك بناء إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - البيت ورفْعهما القواعدَ منه، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].
وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].
قلت: ويدل على هذا قولهما بعده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [سورة البقرة:128] الآية، فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما.
كما روى ابن أبي حاتم عن وهيب بن الورد أنه قرأ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلَّص في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا [سورة المؤمنون:60]، أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60] أي: خائفة ألا يتقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله ﷺ كما سيأتي في موضعه.

في قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] هو أورد هنا قراءة ابن مسعود: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا..) لأن من المفسرين من يقول: إن هذا الدعاء صدر من إبراهيم ﷺ، ويقولون: إن إبراهيم ﷺ حينما بنى البيت كان إسماعيل ﷺ في غاية الصغر أو كان رضيعاً لم يبن مع أبيه البيت، وهذا في غاية الغرابة، فالله يقول: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ فمعنى ذلك أن إسماعيل ﷺ كان يشاركه البناء سواء كان يناوله اللبن، أو غير ذلك مما يصنعه معه، المهم أنه كان مشاركاً له، ولذلك فإن الدعاء في قوله - تبارك وتعالى -: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] صدر منهما - عليهما الصلاة والسلام - ويدل على ذلك من الآية أنه قال بعده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] أي على سبيل التثنية، فالبناء صادر منهما والدعاء كذلك صادر منهما، فهذا هو سبب إيراد ابن كثير - رحمه الله - هذه القضية؛ لأنه وجِد من خالف في هذا.

وقد روى البخاري[1] عن ابن عباس - ا - قال: "أول ما اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه.
يعني أنها كانت تغار منها فأرادت أن لا يكون لها أثر إذا مشت فكانت تخفي أثرها على سارة أم إسحاق.
حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندها جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء ثم قَفَّى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، فقال: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [سورة إبراهيم:37] حتى بلغ: يَشْكُرُونَ [سورة إبراهيم:37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرفَ درعها ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحَدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: فلذلك سعى الناس بينهما.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا. فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي ﷺ: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعينًا.

قال: فجعلت تحوطه: وفي النسخة الأصل تحوضه وهكذا هي الرواية، والمعنى أنها تجعل له حوضاً يجتمع فيه الماء، وفي بعض الروايات: تحفر وهي بمعنى تحوضه أو تحفن أي التراب لتجعل حوضاً، أو تفحص الأرض بيديها.

قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق كَدَاء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا.

قبيلة جرهم يقال: إنهم من العمالقة، والمؤرخون كانوا يسكنون أو أن بعضهم كان يسكن قريباً من مكة، وكانوا يعرفون هذا المكان وأنه ليس فيه ماء.
يقول: أهل بيت من جُرْهم مقبلين من طريق كَدَاء: كداء بالفتح، يعني من أعلى مكة، قال: فنزلوا في أسفل مكة: يعني كأنهم جاؤوا من أعلاها وهذا لا إشكال فيه، فالنبي ﷺ دخل من أعلاها من - كداء - وخرج من أسفلها، فيمكن أنهم جاؤوا من أعلاها حتى بلغوا أسفلها.
قوله: فرأوا طائراً عائفاً: الطائر العائف هو الذي يحلق فوق الماء ولا يجاوزه.

فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين.

يعني أرسلوا رسولاً مندوباً عنهم أو وكيلاً أو نحو ذلك، وقيل له: جري؛ لأنه يقوم مقام من أرسله أو لأنه يسعى ويبادر في حاجته والمصلحة التي أرسل من أجلها.

فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس قال النبي ﷺ: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس.

يعني أن ذلك صادف شيئاً في نفسها وحاجة وهي أنها تحب الأنس، والأُنس ضد الوحشة فهي كانت مستوحشة فلما عرضوا عليها الإقامة عندها ألفى ذلك شيئاً في نفسها أي حاجة في نفسها.
قوله: وهي تحب الأنس: بالضم هو ضد الوحشة، ويمكن أن يكون بكسر الهمزة، أي وهي تحب الإنس يعني بني جنسها، وبين المعنيين ملازمة لا تخفى، فلا تعارض حينئذٍ.

فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ وتعلم العربية منهم، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.

قوله: وأنْفَسَهم وأعجبهم: من النفاسة، أي أنه صار نفيساً ومرغوباً فيه عندهم فزوجوه وصاهروه.
يقول: أنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم: أي صار إسماعيل مرغوباً فيه ولم يكن كاسداً .
قوله: وتعلم العربية منهم: هذا يدل على أن أبويه من غير العرب، وهذا هو المعروف المشهور، وأما ما جاء من أن إبراهيم ﷺ أول من تكلم بالعربية فإن الذي يصح من ذلك ما جاء مقيداً باعتبار أن إسماعيل ﷺ هو أول من فتق الله لسانه بالعربية الفصحى، فإسماعيل ﷺ كان أفصح من جرهم بما ألهمه الله وألهمه، فصارت عربيته أحسن من عربيتهم، وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم كثير، وذلك في قضية العرب العاربة والعرب المستعربة، وهل يقسم الناس بهذا الاعتبار لما فيه من الإشكال في كون العرب من يرجعون في نسبهم إلى إسماعيل ﷺ والنبي محمد ﷺ منهم فهل يقال: هو من العرب المستعربة، وإذا تأملت هذا الخلاف والإشكال الوارد في هذا قد تخرج بنتيجة أن المسألة لا تحتمل ذلك باعتبار أن هؤلاء صاروا هم العرب، والله وصف نبيه ﷺ بأنه منهم فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] ووصف هذا القرآن بأنه بلسان عربي مبين، وتبقى المسألة في التسمية، هل يليق هذا أو لا يليق؟
 

وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشَرّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئًا. فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جَهْد وشدَّة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غَيِّرْ عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك. وَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم - وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم - فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله ، قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي ﷺ: ولم يكن لهم يومئذ حَب ولو كان لهم لدعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة - وأثنت عليه - فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].

قال في الحديث: إنه جاء وهو يبري وقد تزوج، وهذا رد واضح وصريح على أولئك الذين قالوا: إن إبراهيم ﷺ بنى البيت وإسماعيل طفل صغير، لا يطيق البناء معه، وأن الدعاء صدر من إبراهيم وحده، وعلى كل حال مسألة بناء البيت والأحاديث الواردة فيها صح منها ما صح ولم يصح منها ما لم يصح، والأخبار الإسرائيلية كثيرة جداً، وأخبار الحجر الأسود ومن أين جاء صحت جملة من الأحاديث بأنه نزل من السماء، وعلى كل حال ليس هذا محلاً للكلام على هذه الأشياء.

ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل بمدد طويلة قبل مبعث رسول الله ﷺ بخمس سنين، وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله ﷺ خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يَهُمُّون بذلك ليسقفوها ويهابون هَدْمها، وإنما كانت رَضماً فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تُطْرَحُ، فيها ما يُهْدَى لها كل يوم َتَتشدق على جدار الكعبة.

قوله: َتَتشدق على جدار الكعبة: أي أنها كانت تخرج لسانها، وهذه قضية معروفة في صفة الحية، فهي كانت تخرج على الجدار وتنظر إلى هؤلاء الناس وتتشدق، فهي في منظر لا شك مخيف ومفزع ولا يستطيع أحد الاقتراب من البئر.

تتشدق على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تَتَشدق على جدار الكعبة، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مَخزُوم.
قوله: ينتحلون هذا الكلام للوليد: يعني ينسبونه إليه.

وهذه التفاصيل بهذه الصورة تذكر في كتب السير، ولا شك أن أصل ذلك ثابت وهو أنهم أعادوا بنائها وأن رسول الله ﷺ شاركهم في وضع الحجر وقضية الحية التي كانت موجودة، هي موجودة في بعض أشعارهم ويذكرون هذا في السير، فالله تعالى أعلم.

قال: ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحَطيم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها: فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترعْ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله، فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضًا.
قوله: كالأسنمة: يعني كأسنمة الإبل.

وقوله: آخذ بعضها بعضاً: يعني أنها مشبكة، ووصفها بالأسنمة ظهر في وقت ابن الزبير لما هدمها وبناها من جديد، حيث أخرج لهم تلك القواعد فرآها الناس وأشهدهم على ذلك ووصفوها بهذه الصفة وهي أنها متداخلة وكالأسنمة، وشوهدت في هذا العصر حينما جدد بناؤها قريباً ووصف من شاهد ذلك أيضاً بمثل هذه الصفة.

 قال فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع أيضاً بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
يقول المفسر  – عليه رحمة الله -:
النزاع في وضع الحجر الأسود وقضاء محمد بن عبد الله القضاء العادل ﷺ.
قال ابن إسحاق[2]: ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا فيه؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا: لعَقَة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلهم - قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال ﷺ: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا فأتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ﷺ ثم بُنيَ عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله ﷺ قبل أن ينزل الوحي: الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لَمَا تصوبت العُقَاب
وقد كانت يكون لها كشيش
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت
فضمتها إليها ثم خَلَّت
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء
غداة نرَفع التأسيس منه
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا
إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وأحيانًا يكون لها وثَاب
تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ
عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب
لنا البنيانَ ليس له حجاب
لنا منه القواعدُ والتراب
وليس على مُسَوِّينا ثياب
فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب
وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي ﷺ ثمانية عشر ذراعًا وكانت تكسى القباطي.

قوله: وكانت تكسى القباطي: القباطي جمع قُبطية وهي ثياب بيضاء من الكتان تنسج في البلاد المصرية، أي أن الكعبة لم تكن تكسى بالحرير.

ثم كُسِيت بعدُ البُرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.

البُرود – بالواو - أو البُرد - بإسكان الراء وضم الباء - والبرد أصله لحاف مخطط يلتحف به وهي من الثياب الغليظة وفيها خشونة بعض الشيء وهي أفضل من الكتان اللين الذي كانت تكسى الكعبة به قبلُ.

قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين - ا - عن رسول الله ﷺ، ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج فردَّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك.
روى مسلم بن الحجاج في صحيحه عن عطاء قال: لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم أو يُحزبهم على أهل الشام.
يعني حتى إذا رأوا الكعبة محترقة وقع في نفوسهم ما وقع من الغيظ على أهل الشام، فهو يريد أن يحرك نفوس الناس تجاه أهل الشام برؤيتهم بيت الله كيف صنعوا به.
 فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟
قال ابن عباس: فإني قد خرِقَ لي رأي فيها، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبعث عليها ﷺ فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري، فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء.

قوله: أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء: يني أول واحد يبدأ بالهدم تنزل به عقوبة.

فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه.

يعني بدل أن يكون المكان مستوياً بالأرض لا بناء فيه وضع ستوراً يتوجه إليها الناس في صلاتهم، وليكون ذلك أدعى لبقاء المهابة في نفوسهم؛ فإن بيت الله له من المنـزلة في نفوس الناس ما لا يخفى.

وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة - ا - تقول: إن النبي ﷺ قال: لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه وبابًا يخرجون منه قال: فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا فلما زاد فيه استقصره فزاد في أوله عشرة أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه، فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه[3]، وقد رواه النسائي في سننه عن عائشة بالمرفوع منه ولم يذكر القصة.
وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله ﷺ ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك بن مروان، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله ﷺ قال: وددنا أنا تركناه وما تولى.
كما روى مسلم عن عبد الله بن عبيد، قال: وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيبٍ - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله ﷺ: إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع[4].
زاد الوليد بن عطاء أحد رواته: قال النبي ﷺ: ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا، قال: تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يَدَعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم، قال: فَنَكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل[5].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة أخرجاه[6].
وعن عبد الله بن عباس - ا - عن النبي ﷺ قال: كأني به أسودَ أفحَجَ، يقلعها حجرًا حجرًا رواه البخاري[7].
وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حلْيتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله[8]. الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق.

قوله : ذو السويقتين يعني أن ساقه دقيقة، ودقة الساقين هذا غالب حال الأفارقة.
ويقول ابن كثير: الفَدَع: زيغ بين القدم وعظم الساق: هذا أصله تحول في المفاصل، فإذا كان في القدم بحيث كانت القدم متحركة عن الساق وكأنها قد فارقت المفصل فهذا معنى أفيدع، ومثل هذا التصغير يأتي لمعان منها التحقير.

وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج؛ لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج[9].
  1. صحيح البخاري في كتاب الأنبياء – باب يَزِفُّونَ [سورة الصافات:94] النسلان في المشي (3184) (ج 3 / ص 1227).
  2. سيرة ابن هشام (ج1 / ص 196 -197).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها (1333) (ج 2 / ص 968) وفي النسائي في كتاب مناسك الحج - الحِجـر (2910) (ج 5 / ص 218).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها (1333) (ج 2 / ص 968).
  5. المصدر السابق نفسه.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب هدم الكعبة (1519) (ج 2 / ص 579) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - 18 - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (2909) (ج 4 / ص 2232).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب هدم الكعبة (1518) (ج 2 / ص 579)
  8. مسند أحمد (ج 2 / ص 220) وقال شعيب الأرنؤوط: بعضه مرفوع صحيح وبعضه يروى موقوفا ومرفوعا والموقوف أصح
  9. أخرجه البخاري في كتاب الحج – باب قول الله تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ [سورة المائدة:97] حديث رقم (1516) (ج 2 / ص 578).

مرات الإستماع: 0

"رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي: يقولان ذلك. وَأَرِنا مَناسِكَنا أي: علمنا مواضع الحج، وقيل: العبادات".

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا يعني بيِّن لنا مشاعر الحج، ومواضع العبادة فيه، وعرفها لنا، فنراها، وقد مضى في الغريب الكلام على النسك، وأصل ذلك في اللغة، وهو في الشرع يقال: للعبادة نسك، فلان متنسك يعني متعبد، والمراد هنا مناسك الحج، وبعضهم خصه ببعضها، كمواضع الذبح، باعتبار أن الذبيحة يقال لها: نسيكة، لكن الأقرب أنه أعم من ذلك، وبعضهم يقول: جميع المتعبدات، يعني لا يختص بالحج وحده، فأعمال الحج يقال لها: مناسك، والعبادة يقال لها أيضًا: نُسك، والذبيحة يقال لها: نُسك.

يعني أن النُسك يطلق بإطلاق خاص على الذبيحة، ويطلق بإطلاق أوسع على العبادات التي تتعلق بالحج، ويطلق بإطلاق أوسع على سائر العبادات.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: جمع مَنْسِك، هو الموضع الذي يُنسك لله فيه[1] ويُتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح، إما بذبح... إلخ ما قال، يعني الذبح، وغير الذبح.

قال: وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل، ويألفه، ولهذا سميت المناسك لأنه تُعتاد، ويُتردد إليها بالحج، والعمرة[2].

فتكون أعمال الحج بما فيها الذبح يقال لها: مناسك.

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا الرؤيا هنا تحتمل أن تكون بصرية، وهذا قد جاء في بعض الروايات، لكنها لا تصح، فهي من قبيل المراسيل، لتعليم جبريل - عليه الصلاة، والسلام - لإبراهيم ﷺ المناسك: الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، ومنى، وقال له: هل عرفت؟ قال: نعم، ثلاثًا[3].

فالمقصود أنه قيل: أن تلك الرواية رؤية بصرية، وهذا لا يصح، ويحتمل أن تكون رؤية علمية، يعني بالتعليم، والمعنى: علمنا مواضع الحج، وأعماله.

  1. تفسير الطبري (3/79).
  2.  المصدر السابق (3/80).
  3.  مسند أحمد (4/ 436-2707)، وقال محققو المسند: "رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي".

مرات الإستماع: 0

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127].

واذكر حين رفع إبراهيم مع إسماعيل -عليهما السلام- القواعد من الكعبة المشرفة، حال كونهما داعين الله -تبارك وتعالى- وسائلينه القبول رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ [سورة البقرة:127] لأقوالنا وأقوال العباد، وسائر المسموعات الْعَلِيمُ بأحوالنا وأحوال خلقك.

يؤخذ من هذه الآية: هذا المقام من أجل المقامات، وأعظمها وأشرفها بناء الكعبة المشرفة بأمر الله -تبارك وتعالى- ومن يقوم بذلك؟ إنه خليل الرحمن، والخُلة أعلى مراتب المحبة وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء:125] وقال ﷺ: فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا[1] فهذا إبراهيم وهو من هو، بهذه المرتبة والمنزلة عند الله -تبارك وتعالى- ويقوم بأجل الأعمال، ومع ذلك انظروا إلى هذه الضراعة والانكسار كما جاء عن وهيب بن الورد -رحمه الله- أنها حينما يقرأ هذه كان يبكي، ويقول: "يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك"[2].

إذا كان الإنسان في مقام كهذا، ويكون في حال من التضرع والانكسار، وهو بهذه المرتبة عند الله -تبارك وتعالى- ويقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] فماذا يقول من كان دونه؟ وماذا يقول من عمل عملاً دون ذلك من الأعمال الصالحة؟

نحن قد نزاول بعض الأعمال، ونقوم ببعض العبادات من حج، أو عمرة، أو صدقة، أو صيام يصوم الإنسان عاشوراء، أو يصوم غيره، ولربما ظن أنه قد ضمن القبول، بالأمس صام المسلمون يوم عاشوراء، وهنا تتوجه أسئلة وتتوارد من بعض السائلين يقولون: لقد صمنا يوم عرفة، ويوم عرفة يُكفر سنة ماضية وسنة آتية، فلماذا نصوم عاشوراء وهو يُكفر سنة ماضية؟ عرفة يكفي في تكفير سنة ماضية، كأن الإنسان قد ضمن، كأنه قد ضمن القبول، فهو يستكثر أن يصوم يومًا آخر جاء فيه مثل هذا الفضل.

فانظر إلى حالنا وحال إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [سورة البقرة:127] كما قال الله في صفة أهل الإيمان أهل التقوى، أهل الإخبات وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60] قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم[3].

هكذا المؤمن، فهذه الأعمال الصالحة التي نعملها لا يصح الإدلال بها على الله -تبارك وتعالى- فيكون العبد كأنه يُحسن إلى ربه، يحج فيذهب مُتذمرًا ويرجع مُنتقدًا لكل ما شاهده في الحج، ليس هذا حال أهل الإخبات أهل الخضوع لله  الحاج يذهب مُنذ أن يذهب إلى أن يرجع رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] لا ينظر إلى أن هذه الحجة أنه بذل فيها كذا وكذا من الأموال، أو حصل له ما حصل من التعب، أو أن هذه الحجة هي الحجة العاشرة أو المئة، العبرة ليس في هذا، العبرة بالقبول والقبول عند الله، والله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] من اتقاه في هذا العمل، فهذا الذي يحج وهو يتذمر ويرجع وهو يتسخط وينتقد كل شيء، هذا لم يتق الله في هذا الحج، لو كان عندك أجير إذا بعثته في حاجة أو نحو ذلك ذهب وهو يتأفف ويتذمر فمثل هذا لا يمكن أن تُطيق بقاءه معك يومًا واحدًا، إذا بعثته في حاجة يتذمر ويتأفف، فالله غني عن عباده وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:97] غني عنه وعن حجه، غني عن العبد وعن صيامه، أصوم عاشوراء يكفي لا يحتاج أصوم التاسع، يكفي يوم الجمعة صعب الصيام، وأيام العمل صعب الصيام، هذا سيصوم في القبر، أو سيصوم في يوم الحشر.

فمن عرف عظمة الله فإنه يتقال كل عمل يُقدمه ويبذله في سبيل مرضاته، هذه أجل الأعمال ومن أعظم الرجال رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] فماذا نقول إذًا نحن في أعمالنا القليلة مع النيات التي نُخلط فيها كثيرًا؟ والله المستعان.

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [سورة البقرة:127] المدار على القبول، وليس على مجرد العمل، العمل مطلوب، ولكن القبول له شأن آخر، فالمعول عليه، فقد يعمل الإنسان الأعمال العظيمة ويُنفق النفقات الكبيرة، ولكن لا يُقبل منها شيء إما لفساد قصده، وإما لفساد عمله.

فساد القصد: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه[4] هذا في الرياء والسمعة.

وفي الأعمال التي يحصل فيها الابتداع والإحداث، فالله أيضًا لا يقبلها، فالنبي ﷺ يقول: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[5].

الإنسان لا يستطيع أن يضمن أن عمله قد قُبل، وأنه قد اتقى الله فيه من الناحيتين: النية والقصد والإتيان به على الوجه المشروع، فلا يطلع الله على قلبه وقد تسلل إليه العُجب بهذا العمل، حاج، صائم، قارئ للقرآن مُنفق، أو يتسلل إليه الرياء ليكون -بدلاً من القبول- ليكون أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، فقد أخبرنا النبي ﷺ كما في حديث أبي هريرة في أولئك الثلاثة أول من تُسعر بهم النار، أول من يُلقى فيها أصحاب أعمال جليلة قارئ قرأ القرآن، لكن ليُقال قارئ، ومُنفق بذل الأموال ليُقال منفق وجواد، ومُجاهد قُتل بذل مُهجته لكن ليُقال شجاع[6] فهل نفعه ذلك؟ أبدًا بل صار ذلك -نسأل الله العافية- صار شينًا في حقه وحطًا في مرتبته، ووزرًا يحمله على ظهره يوم القيامة.

القبول عند الله -تبارك وتعالى- لا يعلم الإنسان هل قُبل عمله أم لم يُقبل، ومن ثَم هذا السؤال الذي قد يقوله البعض لماذا أصوم عاشوراء وقد صمت عرفة؟ هو وضع القبول هنا ضمان في جيبه، وهذا لا يقوله من عرف هذه الحقائق الشرعية، والمعاني العظيمة التي تُفهم من نصوص الكتاب والسنة.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ [سورة البقرة:127] هذا حدث في الماضي لم يقل وإذ رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وقالا ربنا تقبل منا، نسأل الله القبول، لا وَإِذْ يَرْفَعُ [سورة البقرة:127] عُبر بالمضارع الذي يدل على الاستمرار؛ ليصور لك هذا المشهد الرفع، عملية البناء كأنك تُشاهدها، هي كانت في الماضي فعُبر عنها بالمضارع وَإِذْ يَرْفَعُ [سورة البقرة:127] واذكر إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، يصور الحال الماضية كأنك تُشاهدها ليُذكر بالمعاني الكِبار، يُذكر بهذا العمل العظيم، وشرف هذا البيت، ومن بناه، ويُذكر بهذه الحال أحوال الكِبار من الضراعة والإخبات وسؤال القبول والتواضع لله رب العالمين.

كلما كان العبد -أيها الأحبة- أعرف بربه كان ذلك أدعى إلى انكساره وتذلله وخضوعه لله وتواضعه للناس، وإذا تعاظم جهله ظهرت عليه أمارات العُجب والكِبر والتعالي، قد يكون فقيهًا، وقد يكون قارئًا، وقد يكون مُنفقًا، وقد يكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، ولكن من غير أساس صحيح، لم يعرف ربه معرفة صحيحة، فتسلل إليه العُجب، يستكثر هذا العمل، فتعاظمت النفس؛ لأنه يرى أنه قد جاء بأعمال جليلة.

وكذلك تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [سورة البقرة:127] لم يقل وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، هما رفعاه، ولكنه أخر إسماعيل بعد ذكر رفع القواعد من البيت وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [سورة البقرة:127] كأن ذلك والله -تبارك وتعالى- أعلم باعتبار أن الأصل في البناء هو إبراهيم  وإسماعيل كان عونًا له، كان يُساعده ويُعينه في البناء، فهو تبع فذُكر إبراهيم أولاً باعتبار أنه الأصل، ثم أُخر إسماعيل باعتبار أنه تبع.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى- في الخبر عن دعائهما هنا: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [سورة البقرة:127] يعني: يا ربنا تقبل منا، فجاء بهذا الاسم الكريم "الرب" فهذا فيه من التلطف والاستعطاف كما يُقال؛ لأن من معاني الرب القبول، من معاني الربوبية العطاء، والقبول، والمنع، والإحسان، والرزق، والإحياء، والإماتة والنفع والضر، فالذي يرجو القبول ويرجو الثواب وما إلى ذلك فالعطاء والمنع كل ذلك داخل في معنى الربوبية، وكلمة الرب تدل على التربيب والتربية والإصلاح، وما إلى ذلك، هذا من المعاني الداخلة تحتها، فهذا الداعي يلتمس أن يُصلح ربه شأنه، وأن يلطف به، وأن يتقبل منه هذا العمل، فلا يذهب ولا يضيع.

وفيه أيضًا هنا تأكيد بـ "إن" وهو بمنزلة إعادة الجملة مرتين تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] لقوة يقينهما بسمعه -تبارك وتعالى- أنه يسمع، وأنه يعلم الحال، ومن يتيقن أن ربه يسمع ويرى؛ فإنه يعمل بانشراح ونشاط، إذا كان الإنسان أمام مخلوق جاء الرئيس، العمال إذا حضر مُدير العمل، أو مُدير الشركة، أو نحو ذلك، صاروا يعملون بجد ونشاط وهمة، وقام النائم، وجد المُتقاعس أمام مخلوق.

إذا استشعر العبد أن الله يراه، وأنه يسمعه، يذهب عنه النوم إن كان في قيام ليل، ويذهب عنه التعب إن كان في صيام، وتذهب عنه الوساوس إذا أراد أن يتصدق، يأتيه الشيطان ويقول: كما يبقى في الحساب، إذا دفعت هذه المائة نقص منك كذا وكذا، فهذه من الشيطان، والله يقول: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:265] النفس تتردد حال الصدقة، يحصل لها شيء من الاضطراب، فتحتاج إلى تثبيت، فهنا انظروا إلى ثقة هذين الإمامين بهذه الأوصاف لله  فيدل ذلك على كمال العلم بالله  كونك تسمع وترى تُشاهد الحال فألطافك لا غِنى بنا عنها.

وهذا أيضًا يدل على كمال الصدق والإخلاص، يعني: لو كان الإنسان يقوم في قلبه شيء آخر من الرياء والسمعة سيقول يا رب أنت سميع عليم تعلم الحال، وما في البال الذي في البال إذا كان رياء وسمعة مشكلة، فهذا يدل على ثقة هذين الإمامين بكمال الإخلاص إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] أنت مطلع على أحوالنا، وعلى بواطننا وقلوبنا.

ولاحظ دخول "أنت" ضمير الفصل هنا، لم يقل إنك سميع عليم، أو قال إنك السميع العليم، بل أدخل شيئين قال: إِنَّكَ أَنْتَ [سورة البقرة:127] فجاء بضمير الفصل لتقوية النسبة بين طرفي الكلام "أنت"، ودخول أل على السميع العليم كأن ذلك يدل على الاختصاص، ويُشعر بالحصر، كأنه لا سميع ولا عليم سواك؛ لأن سمع وعلم كل شيء سوى الله -تبارك وتعالى- لا شيء بالنسبة لسمع الله وعلمه إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] وإذا كان هو السميع العليم فلابد من أن يكون عمل الإنسان في غاية الصدق والإخلاص والضبط والإتقان، تقول له أنت السميع العليم، ثم يطلع منك على شيء آخر، كأنك تُشهِده على نفسك بعمل سيء، وببواطن مدخولة، ونيات ومقاصد فاسدة، هذا لا يكون.

تَقَبَّلْ مِنَّا هذا إشعار يعني يُشعر بالاعتراف بالتقصير، فالعبد ضعيف مهما اجتهد، فإذا نظر إلى فضل الله عليه ونِعمه؛ فإنه يتوسل إلى الله بالقبول.

ولذلك -أيها الأحبة- نحن بعد الحج نستغفر، وبعد الصلاة نستغفر، وبعد قيام الليل من يقوم الليل وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [سورة آل عمران:17] بعد القيام يستغفر، فإذا إذا كان الاستغفار بعد هذه الأعمال والعبادات العظيمة، فبعد المعاصي والذنوب من باب أولى.

ثم أيضًا هنا يريدون القبول فالله يسمع ويرى ويعلم، السميع العليم، وفيه إثبات السمع والعلم صفات لله وأسماء أيضًا، أيضًا من أسمائه السميع ومن أسمائه العليم، والسميع والعليم صيغتا مُبالغة، أي: عظيم السمع، يسمع دبيب النمل على الصفا، دبيب النمل يسمعه، يسمع كل شيء، فما يُسره الإنسان يعلمه الله -تبارك وتعالى- وما يكون من نجوى فالله يسمعها، السميع العليم، يعلم كل شيء، لا يخفى عليه خافية، فالطريق هو إصلاح الظواهر والبواطن، بحيث يستوي ظاهر الإنسان مع باطنه، يكون حاله في الخلوة والجلوة على حال سواء، هذا هو الطريق إلى النجاة، ولا طريق سواه. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد، على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد رقم: (532). 
  2.  تفسير ابن كثير (1/ 427).   
  3.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب: ومن سورة المؤمنون، رقم: (3175) 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، (2985). 
  5. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، (1718). 
  6. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905).