وقال عكرمة: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قال الله: قد فعلت وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ قال الله: قد فعلت.
وهذا الدعاء من إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام - كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74]، وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا؛ فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124]، وهو قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [سورة إبراهيم:35].
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[1].
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] قال سعيد بن منصور: أخبرنا عتَّاب بن بشير عن خُصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبرائيل فأتى به البيت فقال: ارفع القواعد فرفع القواعد، وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا.ما سبق من ذكر بنيان الكعبة، وما جرى فيه كل ذلك من قبيل الاستطراد، وذلك من عادة ابن كثير - رحمه الله - في مواضع من هذا الكتاب فإنه لربما بلغ موضعاً يتعلق به حدث جاءت فيه روايات، وأخبار، وما إلى ذلك، فيستطرد في الكلام فيه، وسيأتي في بعض المواضع مثل هذا كما في قصة الإسراء مثلاً، فإنه يذكر الصفحات التي يسوق فيها الروايات المختلفة في هذا الموضوع، ولو أن ذلك حذف من هذا المختصر، وأبقيت المعاني المتصلة بالآيات فقط لربما كان ذلك أكثر ملاءمة، ومناسبة للاختصار، - والله أعلم -.
قوله - تبارك، وتعالى -: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] يحتمل معنيين:
المعنى الأول: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا من الرؤية البصرية، أي أنهم يرونها، ويشاهدونها، ويقفون عليها بالمشاهدة، ويدل على ذلك هذه الرواية: قال إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبريل...، لكن ذلك من جهة الرواية ليس متصلاً فلا يعتمد عليه، ولكن الذي عليه عامة السلف، والخلف من المفسرين أن المراد بالرؤية هنا، الرؤية البصرية بحيث أنه يوقف، ويشاهد المناسك، وذلك يدخل فيه سائر المناسك من الصفا، والمروة...، وما إلى ذلك.
والمعنى الثاني: أن تكون وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا من الرؤية القلبية، فيكون ذلك من جهة التعليم بأن يعرفه، ويعلمه، ولو لم يكن ذلك بالمشاهدة، فبهذا الاعتبار تكون هذه الرؤية قلبية.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - لم يفرق بين الأمرين، ولعل هذا أنسب، - والله تعالى أعلم -؛ إذ إن الآية تحتمل المعنيين، وبينهما ملازمة لا تخفى؛ لأنه حينما يقف على هذه المناسك فيراها ببصره فإن ذلك يقتضي العلم بها، ولا بد، والعلم بها هو الرؤية القلبية، ويدل على الرؤية القلبية القراءة الأخرى أرْنا مناسكنا - بإسكان الراء -، - والله أعلم -.
والمناسك جمع نسك، ويقول بعضهم: إن أصله في كلام العرب الغسل، وفي الشرع فيه كلام معروف، وخلاف؛ إلا أن المناسك تطلق على العبادة عموماً، ولهذا يقال: للذبيحة التي تذبح لله: نسيكة، والمكان الذي يذبح فيه يقال له: منسك، ومكان العبادة أيضاً يقال له: منسك، والله أخبر أنه جعل لكل أمة منسكاً، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [سورة الحـج:67]، وهذا يمكن أن يفسر بأنه مكاناً للتعبد، أو مكاناً للذبح، ولا شك أن الذبح لله من أجلِّ العبادات، فهو مكان للتعبد، ومن جملة ما يتعبد به لله الذبح لله من الهدايا، والقرابين.
والمقصود بقوله: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا قال بعضهم: مناسك الحج، أو مواضع الذبح، وقيل: جميع التعبدات، ولا شك أن ما يتعلق بالحج أولى ما يدخل فيه؛ لأنه قال ذلك عند بناء الكعبة، وإبراهيم ﷺ كما سيأتي هو إمام الحنفاء، وكبير الأنبياء - عليه الصلاة، والسلام - فقد سن سنن الهُدى، فكان ذلك باقياً من بعده، كالختان، ومناسك الحج، ونحو ذلك، وصار الدين الحنيف منسوباً إليه - عليه الصلاة، والسلام - .
فالمقصود على كل حال أن قوله تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي ما يتعبد به لله ، ومن أخص ما يدخل في ذلك ما يتعلق بأعمال الحج من، وقوف بعرفة، ورمي للجمار، ووقوف عند المشعر الحرام بمزدلفة، وطواف بالبيت، وسعي بين الصفا، والمروة، وما إلى ذلك، - والله أعلم- .
فالنص الذي أورده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فيما يتعلق ببناء قريش للكعبة بعد إبراهيم الخليل راجعت هذا النص، وقابلته على عدد من الكتب مثل سيرة ابن هشام، وإتحاف الورى، وسبل الهدى، وغيرها، ففيما يتعلق ببعض الألفاظ كقوله مثلاً: وما يهدى لها كل يوم تتشدق على جدار الكعبة: الموجود في نسختنا تتشدق، وفي بعض نسخ ابن كثير تتشرق، وهي في الكتب التي ذكرتها آنفاً، والتي هي أصل لهذا المنقول تتشرق - بالراء - حتى إنهم ضبطوها بالخط هكذا: بمثناة فوقية، فشين معجمة، فراء مفتوحات، وهذا واضح أنها تتشرق، وفسروها أيضاً من جهة المعنى فقالوا: تتشرق أي تبرز للشمس.
ومما راجعته قوله هنا: وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت، وهكذا هي في ابن هشام - احزألت بالحاء - قال: أي رفعت رأسها، لكن، وجدتها في غيره مثل سبيل الهدى قال: اخزألت بالخاء، وضبطها أيضاً بالكتابة فقال: بخاء معجمة، فزاي فهمزة مفتوحة، فلام مشددة، فتاء تأنيث - اخزألت -، ويقول: أي رفعت ذنبها، والمُخْزَئِل المرتفع، وعلى هذا يكون في بعض النسخ بالخاء اخزألت، وفي بعضها احزألت بالحاء، وهذا لا يستغرب؛ وذلك أنك تجد اللفظة جاءت بهذا، وبهذا، وهذا له نظائر كثيرة.
قال: وكشت، كشَّت هي هكذا، ومعناها صوتت، يقال: الكشيش صوت احتكاك جلد الحية حيث تتحرك فيظهر صوت لجلدها إذا احتك بعضه ببعض.
وقال في نفس الصفحة: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة، وقد وجدتها ينحلون هذا الكلام، ومعنى ينحلونه أي يضيفونه إليه، وينسبونه إليه.
وقال: للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو؛ وفي ابن هشام: "للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر"، وهي مضبوطة بفتح الميم، وضم العين، فهي عمر، وليست عمرو.
ومما قاله هنا: على أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة: والمشهور أنه كالأسنمة، والذي في سبل الهدى، وابن هشام كالأسنمة، والمراد أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل عظام السنام بعضها في بعض، لكن الشاهد أنه يقول: ومن رآه كالأسنة جمع سنان، وهذا يعني أنه جاء أيضاً كالأسنة، وهو الرمح، وتشبيهها بالأسنة من جهة أنهم قالوا: إن في لونها خضرة، وهذا لا يستغرب فمن المعروف أن جبال مكة أنها إذا نزل عليها المطر تحول لونها إلى شيء من الخضرة، حتى إن في قوله - تبارك، وتعالى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحـج:63] فالفاء تدل على التعقيب المباشر في اللغة، فعلى القول بأن المراد بالآية الخضرة السريعة قال بعض أهل العلم: إن "أل" من الأرض هنا العهدية فالمقصود بها أرض مكة، وقالوا ذلك؛ لأن النبات لا ينـزل بعد المطر مباشرة، وإنما يحتاج إلى وقت، إذن هذا خاص في مكة، والمقصود أنه لما كانت جبالها تحتوي على عنصر النحاس فإذا نزل عليها المطر صارت تميل إلى الخضرة، لكن هذا الكلام فيه نظر في تفسير الآية تلك، وإنما الفاء للتعقيب المباشر لكنه في كل شيء بحسبه، وعلى كل حال فالمقصود أن من قال: كالأسنة فهو ضبطها بهذه الطريقة، وقال في اللون.
ومما قاله المؤلف: فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، وهكذا، وجدتها في هذه المصادر تنقضت، وهي مضبوطة أيضاً، وفسروها بأنها اهتزت، أي اهتزت مكة بأسرها.
ومن الألفاظ أيضاً قوله: فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا، وتخالفوا هكذا في نسختنا، وأما في سبيل الهدى تحاوزوا، وتحالفوا: فهنا تحاوروا، وتخالفوا، وهناك تحاوزوا، وتخالفوا أي انحازت كل قبيلة إلى جهة، والتحالف معروف.
وفي ابن هشام، وفي سائر الأصول تحاوروا، وتخالفوا كما هنا، وعلى هذا فهو جاء بهذا، وبهذا.
ثم قال: ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا، وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر، وليس ابن عمرو، فهذا ما يتعلق ببعض العبارات، والألفاظ.
وبالنسبة لضبط الأبيات يقول:
عَجِبْتُ لَمَا تَصَوَّبَتِ العُقَاب | إِلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ |
وَكَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ | وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وثَاب |
إِذَا قُمْنَا إِلَى التَّأْسِيسِ شَدَّت | تُهَيّبُنُا البناءَ وَقَدْ تُهَابُ |
فلما أن خَشِينا الرِّجز جاءت | عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ لَهَا انْتصِبَابُ |
فضمتها إليها ثم خَلَّت | لَنَا البنيانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ |
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إِلَى بِنَاءٍ | لَنَا مِنْهُ القواعدُ وَالتُّرَابُ |
غَدَاةَ نُرَفِّع التَّأْسِيسَ مِنْهُ | وليس على مُسَوِّينا ثياب |
ثم يقول:
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي | فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب |
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ | ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب |
فَبَوَّأنا المليكُ بذاكَ عزّا | وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب |
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] قال سعيد بن منصور أخبرنا عتاب بن بشير عن خُصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم : وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد فرفع القواعد، وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر، وارمه.قوله: فلما كان من العقبة أي العقبة التي عندها الجمرة.
وهذا الأثر يدل على أن الرؤية في قوله: وَأَرِنَا [سورة البقرة:128] رؤية بصرية تقتضي علماً بهذا المبصَر، فيكون بذلك الجمع بين التفسيرين، أي أرنا رؤية بصرية تقتضي علماً بالمبصَر، وبهذا نكون جمعنا بين القولين في تفسير قوله: وَأَرِنَا [سورة البقرة:128].
فكبر، ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به جبريل، وإبراهيم قال له: كبر، وارمه فكبر، ورماه، فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرات، قال: نعم، وروي عن أبي مِجْلز، وقتادة نحو ذلك.ذكرت في سبب تسمية عرفات بهذا الاسم، وجوه متعددة، وأقوال، فمنهم من قال: إن آدم، وحواء التقيا فيها بعد أن أهبطا إلى الأرض فتعارفا هناك - وهذا ليس عليه ما يثبته -، وبعضهم يقول: إن جبريل ﷺ كما هو هنا سأل إبراهيم ﷺ: وهل عرفت يعني المناسك؟ قال: نعم، فقيل لها: عرفات، وبعضهم يقول غير هذا، وليس على شيء من ذلك دليل يمكن أن يوقف عنده، والعلم عند الله ، وعلى كل حال هم يذكرون ذلك فقد يكون صحيحاً، وقد لا يكون كذلك، - والله أعلم -.
قوله تعالى: وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128]، توبة الله على العبد تأتي بمعنى توفيقه للتوبة، وقبولها منه، والتجاوز عنه، وعدم المؤاخذة على التقصير، والذنب، والخطأ الذي يحصل منه كما قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ [سورة التوبة:118] أي وفقهم للتوبة، وقبلها منهم.
فالتوبة هي الرجوع، وتوبة الله على العبد تعني رجوع الله على العبد بالتجاوز عن التقصير، والإساءة، أو الذنب، أي رجع عليهم بالتوبة، ورجع عليهم بالمغفرة، ورجع عليهم بالتجاوز.
وتوبة العبد تعني رجوعه من تقصيره، وذنبه إلى الحق، ومعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وتكون من غيره كالتقصير الذي قد لا يكون ذنباً، فهذه هي توبة الله على العبد التي تفسر قوله: وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128]، - والله أعلم -.
- صحيح مسلم في كتاب الوصية - باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد، وفاته (1631) (ج 3 / ص 1255).