السبت 18 / شوّال / 1445 - 27 / أبريل 2024
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام -: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128] قال ابن جرير: يعنيان بذلك، واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك.
وقال عكرمة: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قال الله: قد فعلت وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ قال الله: قد فعلت.
وهذا الدعاء من إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام - كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74]، وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا؛ فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124] قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:124]، وهو قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [سورة إبراهيم:35].
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة  عن النبي ﷺ أنه قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[1]
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] قال سعيد بن منصور: أخبرنا عتَّاب بن بشير عن خُصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبرائيل فأتى به البيت فقال: ارفع القواعد فرفع القواعد، وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا.
ما سبق من ذكر بنيان الكعبة، وما جرى فيه كل ذلك من قبيل الاستطراد، وذلك من عادة ابن كثير - رحمه الله - في مواضع من هذا الكتاب فإنه لربما بلغ موضعاً يتعلق به حدث جاءت فيه روايات، وأخبار، وما إلى ذلك، فيستطرد في الكلام فيه، وسيأتي في بعض المواضع مثل هذا كما في قصة الإسراء مثلاً، فإنه يذكر الصفحات التي يسوق فيها الروايات المختلفة في هذا الموضوع، ولو أن ذلك حذف من هذا المختصر، وأبقيت المعاني المتصلة بالآيات فقط  لربما كان ذلك أكثر ملاءمة، ومناسبة للاختصار، - والله أعلم -.
قوله - تبارك، وتعالى -: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] يحتمل معنيين:
المعنى الأول: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا من الرؤية البصرية، أي أنهم يرونها، ويشاهدونها، ويقفون عليها بالمشاهدة، ويدل على ذلك هذه الرواية: قال إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبريل...، لكن ذلك من جهة الرواية ليس متصلاً فلا يعتمد عليه، ولكن الذي عليه عامة السلف، والخلف من المفسرين أن المراد بالرؤية هنا، الرؤية البصرية بحيث أنه يوقف، ويشاهد المناسك، وذلك يدخل فيه سائر المناسك من الصفا، والمروة...، وما إلى ذلك.
والمعنى الثاني: أن تكون وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا من الرؤية القلبية، فيكون ذلك من جهة التعليم بأن يعرفه، ويعلمه، ولو لم يكن ذلك بالمشاهدة، فبهذا الاعتبار تكون هذه الرؤية قلبية.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - لم يفرق بين الأمرين، ولعل هذا أنسب، - والله تعالى أعلم -؛ إذ إن الآية تحتمل المعنيين، وبينهما ملازمة لا تخفى؛ لأنه حينما يقف على هذه المناسك فيراها ببصره فإن ذلك يقتضي العلم بها، ولا بد، والعلم بها هو الرؤية القلبية، ويدل على الرؤية القلبية القراءة الأخرى أرْنا مناسكنا - بإسكان الراء -، - والله أعلم -.
والمناسك جمع نسك، ويقول بعضهم: إن أصله في كلام العرب الغسل، وفي الشرع فيه كلام معروف، وخلاف؛ إلا أن المناسك تطلق على العبادة عموماً، ولهذا يقال: للذبيحة التي تذبح لله: نسيكة، والمكان الذي يذبح فيه يقال له: منسك، ومكان العبادة أيضاً يقال له: منسك، والله أخبر أنه جعل لكل أمة منسكاً، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [سورة الحـج:67]، وهذا يمكن أن يفسر بأنه مكاناً للتعبد، أو مكاناً للذبح، ولا شك أن الذبح لله من أجلِّ العبادات، فهو مكان للتعبد، ومن جملة ما يتعبد به لله الذبح لله من الهدايا، والقرابين.
والمقصود بقوله: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا قال بعضهم: مناسك الحج، أو مواضع الذبح، وقيل: جميع التعبدات، ولا شك أن ما يتعلق بالحج أولى ما يدخل فيه؛ لأنه قال ذلك عند بناء الكعبة، وإبراهيم ﷺ كما سيأتي هو إمام الحنفاء، وكبير الأنبياء - عليه الصلاة، والسلام - فقد سن سنن الهُدى، فكان ذلك باقياً من بعده، كالختان، ومناسك الحج، ونحو ذلك، وصار الدين الحنيف منسوباً إليه - عليه الصلاة، والسلام - .
فالمقصود على كل حال أن قوله تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي ما يتعبد به لله ، ومن أخص ما يدخل في ذلك ما يتعلق بأعمال الحج من، وقوف بعرفة، ورمي للجمار، ووقوف عند المشعر الحرام بمزدلفة، وطواف بالبيت، وسعي بين الصفا، والمروة، وما إلى ذلك، - والله أعلم- .
فالنص الذي أورده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فيما يتعلق ببناء قريش للكعبة بعد إبراهيم الخليل  راجعت هذا النص، وقابلته على عدد من الكتب مثل سيرة ابن هشام، وإتحاف الورى، وسبل الهدى، وغيرها، ففيما يتعلق ببعض الألفاظ كقوله مثلاً: وما يهدى لها كل يوم تتشدق على جدار الكعبة: الموجود في نسختنا تتشدق، وفي بعض نسخ ابن كثير تتشرق، وهي في الكتب التي ذكرتها آنفاً، والتي هي أصل لهذا المنقول تتشرق - بالراء - حتى إنهم ضبطوها بالخط هكذا: بمثناة فوقية، فشين معجمة، فراء مفتوحات، وهذا واضح أنها تتشرق، وفسروها أيضاً من جهة المعنى فقالوا: تتشرق أي تبرز للشمس.
ومما راجعته قوله هنا: وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت، وهكذا هي في ابن هشام - احزألت بالحاء - قال: أي رفعت رأسها، لكن، وجدتها في غيره مثل سبيل الهدى قال: اخزألت بالخاء، وضبطها أيضاً بالكتابة فقال: بخاء معجمة، فزاي فهمزة مفتوحة، فلام مشددة، فتاء تأنيث - اخزألت -، ويقول: أي رفعت ذنبها، والمُخْزَئِل المرتفع، وعلى هذا يكون في بعض النسخ بالخاء اخزألت، وفي بعضها احزألت بالحاء، وهذا لا يستغرب؛ وذلك أنك تجد اللفظة جاءت بهذا، وبهذا، وهذا له نظائر كثيرة.
قال: وكشت، كشَّت هي هكذا، ومعناها صوتت، يقال: الكشيش صوت احتكاك جلد الحية حيث تتحرك فيظهر صوت لجلدها إذا احتك بعضه ببعض.
وقال في نفس الصفحة: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة، وقد وجدتها ينحلون هذا الكلام، ومعنى ينحلونه أي يضيفونه إليه، وينسبونه إليه.
وقال: للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو؛ وفي ابن هشام: "للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر"، وهي مضبوطة بفتح الميم، وضم العين، فهي عمر، وليست عمرو.
ومما قاله هنا: على أساس إبراهيم  أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة: والمشهور أنه كالأسنمة، والذي في سبل الهدى، وابن هشام كالأسنمة، والمراد أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل عظام السنام بعضها في بعض، لكن الشاهد أنه يقول: ومن رآه كالأسنة جمع سنان، وهذا يعني أنه جاء أيضاً كالأسنة، وهو الرمح، وتشبيهها بالأسنة من جهة أنهم قالوا: إن في لونها خضرة، وهذا لا يستغرب فمن المعروف أن جبال مكة أنها إذا نزل عليها المطر تحول لونها إلى شيء من الخضرة، حتى إن في قوله - تبارك، وتعالى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [سورة الحـج:63] فالفاء تدل على التعقيب المباشر في اللغة، فعلى القول بأن المراد بالآية الخضرة السريعة قال بعض أهل العلم: إن "أل" من الأرض هنا العهدية فالمقصود بها أرض مكة، وقالوا ذلك؛ لأن النبات لا ينـزل بعد المطر مباشرة، وإنما يحتاج إلى وقت، إذن هذا خاص في مكة، والمقصود أنه لما كانت جبالها تحتوي على عنصر النحاس فإذا نزل عليها المطر صارت تميل إلى الخضرة، لكن هذا الكلام فيه نظر في تفسير الآية تلك، وإنما الفاء للتعقيب المباشر لكنه في كل شيء بحسبه، وعلى كل حال فالمقصود أن من قال: كالأسنة فهو ضبطها بهذه الطريقة، وقال في اللون.
ومما قاله المؤلف: فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، وهكذا، وجدتها في هذه المصادر تنقضت، وهي مضبوطة أيضاً، وفسروها بأنها اهتزت، أي اهتزت مكة بأسرها.
ومن الألفاظ أيضاً قوله: فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا، وتخالفوا هكذا في نسختنا، وأما في سبيل الهدى تحاوزوا، وتحالفوا: فهنا تحاوروا، وتخالفوا، وهناك تحاوزوا، وتخالفوا أي انحازت كل قبيلة إلى جهة، والتحالف معروف.
وفي ابن هشام، وفي سائر الأصول تحاوروا، وتخالفوا كما هنا، وعلى هذا فهو جاء بهذا، وبهذا.
ثم قال: ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا، وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر، وليس ابن عمرو، فهذا ما يتعلق ببعض العبارات، والألفاظ.
وبالنسبة لضبط الأبيات يقول:
عَجِبْتُ لَمَا تَصَوَّبَتِ العُقَاب إِلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ
وَكَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وثَاب
إِذَا قُمْنَا إِلَى التَّأْسِيسِ شَدَّت تُهَيّبُنُا البناءَ وَقَدْ تُهَابُ
فلما أن خَشِينا الرِّجز جاءت عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ لَهَا انْتصِبَابُ
فضمتها إليها ثم خَلَّت لَنَا البنيانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إِلَى بِنَاءٍ لَنَا مِنْهُ القواعدُ وَالتُّرَابُ
غَدَاةَ نُرَفِّع التَّأْسِيسَ مِنْهُ وليس على مُسَوِّينا ثياب
قوله: وليس على مُسَوِّينا ثياب: ضبطها بعضهم مساوينا - جمع سوءة -، والمسوي يعني الباني، أي ليس على من يقوم بالبناء ثياب، وعلى الضبط الآخر يكون المعنى، وليس على العورات ثياب، أي أنهم كانوا يبنون مع التعري يفعلون ذلك ديانة يتقربون بذلك إلى الله .
ثم يقول:
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ    ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب
فَبَوَّأنا المليكُ بذاكَ عزّا وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
هذا ضبط بعض الألفاظ في ذلك النص، وعموماً هذا من كلام أهل السير، ومعروف ما جاء في هذه الكتب أنه إذا طبقت عليه شروط المحدثين ذهب أكثره، فقضية هذه الحية، وما أشبهها كله يحتاج إلى إثبات، وأهل السير معلوم أنهم يذكرون مثل هذه الأشياء، ويتساهلون فيها حتى إنهم يقولون: إن هذا الثعبان جاء منذ مئات السنين - من أيام العمالقة -، وعاش مئات السنين، ويقولون عنها: إنها كانت إذا التفت على الكعبة التصق رأسها بذيلها من طولها، ويذكرون أهل السير أيضاً أنه نزل شخص في بئر الكعبة ليسرق كنز الكعبة فسقط عليه حجر ثم جاءت هذه الحية بعد ذلك، وأن هذا الكلام كله منذ أكثر من خمسمائة سنة من وقت بناء الكعبة، لكن هذا الكلام كله ليس هناك ما يثبته، - والله أعلم -.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] قال سعيد بن منصور أخبرنا عتاب بن بشير عن خُصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم : وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد فرفع القواعد، وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو مِنًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّر، وارمه.قوله: فلما كان من العقبة أي العقبة التي عندها الجمرة.
وهذا الأثر يدل على أن الرؤية في قوله: وَأَرِنَا [سورة البقرة:128] رؤية بصرية تقتضي علماً بهذا المبصَر، فيكون بذلك الجمع بين التفسيرين، أي أرنا رؤية بصرية تقتضي علماً بالمبصَر، وبهذا نكون جمعنا بين القولين في تفسير قوله: وَأَرِنَا [سورة البقرة:128].
فكبر، ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به جبريل، وإبراهيم قال له: كبر، وارمه فكبر، ورماه، فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرات، قال: نعم، وروي عن أبي مِجْلز، وقتادة نحو ذلك.ذكرت في سبب تسمية عرفات بهذا الاسم، وجوه متعددة، وأقوال، فمنهم من قال: إن آدم، وحواء التقيا فيها بعد أن أهبطا إلى الأرض فتعارفا هناك - وهذا ليس عليه ما يثبته -، وبعضهم يقول: إن جبريل ﷺ كما هو هنا سأل إبراهيم ﷺ: وهل عرفت يعني المناسك؟ قال: نعم، فقيل لها: عرفات، وبعضهم يقول غير هذا، وليس على شيء من ذلك دليل يمكن أن يوقف عنده، والعلم عند الله ، وعلى كل حال هم يذكرون ذلك فقد يكون صحيحاً، وقد لا يكون كذلك، - والله أعلم -. 
قوله تعالى: وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128]، توبة الله على العبد تأتي بمعنى توفيقه للتوبة، وقبولها منه، والتجاوز عنه، وعدم المؤاخذة على التقصير، والذنب، والخطأ الذي يحصل منه كما قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ [سورة التوبة:118] أي وفقهم للتوبة، وقبلها منهم.
فالتوبة هي الرجوع، وتوبة الله على العبد تعني رجوع الله على العبد بالتجاوز عن التقصير، والإساءة، أو الذنب، أي رجع عليهم بالتوبة، ورجع عليهم بالمغفرة، ورجع عليهم بالتجاوز.
وتوبة العبد تعني رجوعه من تقصيره، وذنبه إلى الحق، ومعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وتكون من غيره كالتقصير الذي قد لا يكون ذنباً، فهذه هي توبة الله على العبد التي تفسر قوله: وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128]، - والله أعلم -.
  1. صحيح مسلم في كتاب الوصية - باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد، وفاته (1631) (ج 3 / ص 1255).

مرات الإستماع: 0

"رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي: يقولان ذلك. وَأَرِنا مَناسِكَنا أي: علمنا مواضع الحج، وقيل: العبادات".

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا يعني بيِّن لنا مشاعر الحج، ومواضع العبادة فيه، وعرفها لنا، فنراها، وقد مضى في الغريب الكلام على النسك، وأصل ذلك في اللغة، وهو في الشرع يقال: للعبادة نسك، فلان متنسك يعني متعبد، والمراد هنا مناسك الحج، وبعضهم خصه ببعضها، كمواضع الذبح، باعتبار أن الذبيحة يقال لها: نسيكة، لكن الأقرب أنه أعم من ذلك، وبعضهم يقول: جميع المتعبدات، يعني لا يختص بالحج وحده، فأعمال الحج يقال لها: مناسك، والعبادة يقال لها أيضًا: نُسك، والذبيحة يقال لها: نُسك.

يعني أن النُسك يطلق بإطلاق خاص على الذبيحة، ويطلق بإطلاق أوسع على العبادات التي تتعلق بالحج، ويطلق بإطلاق أوسع على سائر العبادات.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: جمع مَنْسِك، هو الموضع الذي يُنسك لله فيه[1] ويُتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح، إما بذبح... إلخ ما قال، يعني الذبح، وغير الذبح.

قال: وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل، ويألفه، ولهذا سميت المناسك لأنه تُعتاد، ويُتردد إليها بالحج، والعمرة[2].

فتكون أعمال الحج بما فيها الذبح يقال لها: مناسك.

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا الرؤيا هنا تحتمل أن تكون بصرية، وهذا قد جاء في بعض الروايات، لكنها لا تصح، فهي من قبيل المراسيل، لتعليم جبريل - عليه الصلاة، والسلام - لإبراهيم ﷺ المناسك: الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، ومنى، وقال له: هل عرفت؟ قال: نعم، ثلاثًا[3].

فالمقصود أنه قيل: أن تلك الرواية رؤية بصرية، وهذا لا يصح، ويحتمل أن تكون رؤية علمية، يعني بالتعليم، والمعنى: علمنا مواضع الحج، وأعماله.

  1. تفسير الطبري (3/79).
  2.  المصدر السابق (3/80).
  3.  مسند أحمد (4/ 436-2707)، وقال محققو المسند: "رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي".

مرات الإستماع: 0

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] قالا بعد ذلك: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128].

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] في كل الأحوال مع الثبات، ومع كل خطاب وتوجيه وأمر ونهي أن يكون العبد على حال من الاستسلام لربه ومالكه جل جلاله وتقدست أسماءه وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة:128] واجعل من ذريتنا أمة منقادة مستسلمة لك بالإيمان، والعمل الصالح وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] بصرنا بمعالم دينك الذي شرعته لنا، وبمعالم عبادتنا لك وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128] تجاوز عنا، واقبل توبتنا، ووفقنا للتوبة قبل ذلك إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:128] كثير التوبة على العباد، وكثير القبول لتوبة التائبين، وإنابة المُنيبين، وكثير التوفيق إلى التوبة، فكل هذا من معاني كونه التواب، فهو يوفق إلى التوبة، وهو الذي يقبلها عن عباده، فيتوب عليهم.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] فهناك قال: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا وهنا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ تكرار اسم الرب (ربنا) في هذا الدعاء، فهذا فيه مزيد من الضراعة لله  والخضوع له، وقد ذكرت من قبل في بعض المُناسبات: أن عامة دعاء الأنبياء -كما قال الشاطبي رحمه الله وغيره[1]: كان بهذا الاسم الكريم (ربنا)؛ لأن من معاني الرب: القبول والعطاء والمنع والرزق والهداية، فكل هذه معاني الربوبية، ومن معاني الربوبية: التربية والتربيب والإصلاح، فهو المُصلح لأحوال خلقه وشؤونهم، فلا قِوام لهم، ولا صلاح، ولا فلاح، ولا نجح إلا بعونه وتوفيقه ومدده وألطافه النازلة المُتتابعة على عباده.

والتكرار أيضًا فيه معنى زائد، وفائدة مُضافة، وهي أن هذا الدعاء مُستقل عن الذي قبله رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا [سورة البقرة:128] فكل دعوة من هذه الدعوات مقصودة بالذات.

وتأمّل قوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] مسلمين لك، فهذا يُفيد الحصر، لك دون ما سواك، فاللام هذه تُفيد الاختصاص، وفيها معنى الحصر، وأن يكون الإسلام لله بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [سورة البقرة:112] فهذا هو التوحيد والإخلاص، فإبراهيم هو إمام الحُنفاء إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ وصى بها بنيه يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132].

فهذا من كمال توحيده وهذا يدل على أن قضية التوحيد هي أهم المُهمات، فهذا كبير الحنفاء، وإمام الحنفاء، والذي أمر الله نبيه ﷺ وهو أفضل الأنبياء على الإطلاق أن يقتدي به، وأن يتبع ملة إبراهيم حنيفًا ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النحل:123] فهذا النبي العظيم يقول: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] لا لغيرك.

وهكذا ينبغي أن يكون أتباع هؤلاء الرسل الكِرام العِظام -عليهم الصلاة والسلام- أن يُسلم الإنسان وجهه لربه وخالقه وفاطره، دون التفات إلى أحد سواه، لا توجه وجهك، ولا يلتفت قلبك إلى مخلوق، فإنه لا يملك لك نفعًا ولا دفعًا ولا ضرًا، فالذي يملك النفع والضر هو الله، والذي له الغِنى الكامل المُطلق هو الله، والذي بيده مقاليد السماوات والأرض هو الله، فوجه وجهتك إليه سبحانه، ولا تلتفت إلى المخلوقين فهم فقراء مثلك، ليس بيدهم شيء لا دفع ولا نفع، ولا رفع، وإذا كانوا كذلك فما حاجة العبد للخلق، حينما يُعلق قلبه بهم، فيكون العبد بهذا مُستسلمًا لله في أوامره الدينية، وهي الأحكام الشرعية: الحلال والحرام، إذا أمره ربه أو نهاه استسلم وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] هذا لا يكون لأهل الإيمان إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] فلا يوجد غير هذا، فهذا هو حقيقة الإسلام والإيمان الكامل، وكذلك الاستسلام لأحكامه الكونية القدرية، وما يُجريه الله في هذا الكون، فإذا وقع المكروه والمُصيبة، ونحو ذلك فلا اعتراض، فكلمة (لماذا يا رب) فهذه غير واردة في قواميس أهل الإيمان والإسلام الصحيح، وإنما يقول: حمدًا لك يا رب، فالله -تبارك وتعالى- لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] شدة الافتقار إلى الله -تبارك وتعالى- بتكرار هذا الاسم الكريم (ربنا) لشدة الحاجة إلى ألطافه، وإلى الربوبية الخاصة، فأضاف (الرب) إلى ضمير المُتكلم (ربنا) فهذه ربوبية خاصة لأهل الإيمان، فهم بحاجة إلى مقتضياتها من الرعاية والحفظ والكلاءة والهداية والتوفيق، فكل هذا يكون لأهل العبودية الخاصة، وإلا فإنه إذا تخلى عن ذلك، فلا تسأل عن هلكته وضياعه وذهاب مصالحه، فيبقى في حال من التشتت والتشرذم، ويُحرم التوفيق، ولا تكون عاقبته إلى الفلاح بحال من الأحوال.

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [سورة البقرة:128] هما مسلمان، ولكن انظروا إلى فقر الأنبياء، وشدة الافتقار إلى الله  كثير من أهل العلم في هذا الموضع يقولون: المعنى: ثبتنا على الإسلام، وقد تكلمنا على قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وقول من قال: ثبتنا على الصراط المستقيم، وقلنا: المعنى أوسع من هذا، فكذلك هنا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فالله -تبارك وتعالى- له في كل حال عبودية، فكل حال من أحوال العبد تتصل بها عبودية في هذا المقام في السراء والضراء، فإذا تجددت النِعم، أو وقعت المكاره، أو دخل وقت العبادة، أو نحو ذلك، فهذه عبوديات يحتاج العبد إلى استسلام مع كل لون منها، فيكون مُنقادًا مُستجيبًا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ مع الثبات، فإن هذا الإسلام لا يدوم للعبد إلا بتوفيق الله وتثبيته، مَن الذي يأمن على نفسه؟ فو الله إن أحدكم -أو: الرجل- يعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب يعني: القدر فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[2] وإنما الأعمال بالخواتيم[3] ومن الذي يضمن خاتمته؟!

فيحتاج العبد أن يسأل ربه التوفيق والثبات على الهدى، فالقلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء، ولهذا كان النبي ﷺ وهو من هو؟! أهدى الأمة، وأكملها إيمانًا، يقول في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[4] ولهذا جاء في الأثر: لقلب ابن آدم أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا[5].

وجاء في بعض الآثار عن بعض السلف: "بأن القلب كالريشة في مهب الريح، تكفأها يمنة ويسرة" فالإنسان لا يملك قلبه؛ ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24] فالحياة في الاستجابة، وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:24] يحول بينه وبين قلبه، فيريد أن يتوب، ولكن لا يستطيع، ويريد أن يؤمن ولا يستطيع، فإذا طرقت الهداية باب قلبه من أول مرة فينبغي عليه أن يُبادر؛ لئلا يُحرم ويُمنع، ويُحال بينه وبين هدى الله -تبارك وتعالى.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا [سورة البقرة:128] الدعاء للذرية بالصلاح والهدى، فإن إبراهيم في دعاءه كما مضى، حينما قال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [سورة البقرة:124] وهنا: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وأيضًا الذرية وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة:128] فالدعاء للأولاد من الذكور والإناث هذا مطلب، فصلاح هؤلاء الأولاد يعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالبِر، وهي جنة في هذه الدنيا إذا كان الولد صالحًا بارًا مُسارعًا في بر أبويه، وإذا شقي هذا الولد، وكان مُتمردًا على أبويه، أو شاردًا عن ربه -تبارك وتعالى- فلا شك أن هذا أعظم الألم والحسرة في نفوس الأبوين، يغذوانه ويُعلقان الآمال عليه بعد الله  ويرقُبانه، وكما قيل: يذرعانه ويشبُرانه منذ صِغره، متى ينبت ويكتمل ويكبُر؟

فإذا خابت آمالهما إن كان غير صالح، الخسارة في الأموال سهلة، لكن هذا الولد الذي يُجمع المال من أجله، وتوفر الأوقات والجهود من أجله، ثم بعد ذلك تكون النتيجة شرود وإعراض وعقوق وانحراف فهذا من أصعب الأشياء، قبل سنة توفي شاب في حادث دراجة نارية، فأُخبرت من قِبل هؤلاء الذين وقع معهم الحادث بعد أن تأخر مجيئهم، كانوا يبحثون عن بيته وأهله وأبيه، توفي في الحال، فلما دلوا على بيت أهله خرج أبوه مُغضبًا، فقالوا: هذا ولدك قد وقع له حادث، ونريد أن تأتي معنا، فقال: ليس لي ولد، وغضب، وأبى أن يذهب، وكانوا يحاولون عبثًا إقناعه أن يأتي، فكان يرفض كل الرفض، ويقول: ليس لي ولد، ويظهر على هيئة الولد وحاله أنه لم يكن في حالٍ مرضية، ويبدو أن هذا الأب قد عانى الأمرين منه، فهذه لحظة تتكسر فيها الحجارة الصخور وتلين، وهي لحظة موت ومُفاجئ وحادث، فلحظات مؤلمة حينما يأتي خبر مصرع هذا الولد على غير توقع وانتظار أو ميعاد، ويكون الرد بهذه القسوة! هذا يدل على أن هذا الأب قد لقي ما لقي من العنت مما أخرجه عن طبيعة الآباء، وصار قلبه بحال من الشدة والقسوة على هذا الولد.

فإذا دعا الإنسان بالأولاد فلا يقول: يا رب ارزقني ذرية، وإنما هب لي من لدنك ذرية طيبة، فليست القضية بأن يُرزق الأولاد، وإنما ذرية طيبة، وهكذا في الدعاء الوارد في القرآن، وفي الآية التي سمعتم: هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [سورة الفرقان:74] وليس بشجن في حلوق الآباء والأمهات، هذه قضية لا يشعر بها الأولاد إلا إذا جربوا ورأوا ولقوا ما يلقون.

ويُؤخذ من هذه الآية من قوله: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، بمعنى: أنها موقوفة على نقل الشارع، يعني: لا يبتدع أحد من عنده عبادات ويخترع ويستحسن، لا، وإنما الأصل في العبادات المنع من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[6] فلا يبتكر الإنسان برأيه، ويستحسن بنظره عبادات يتقرب إلى الله بها، والله لم يشرعها فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا [سورة الكهف:110] فالعمل الصالح هو الصواب، الموافق للشرع وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] أن يكون خالصًا، فهذه شروط قبول العمل: الإخلاص لله  والمُتابعة للنبي ﷺ وأن يكون صاحبه على التوحيد والإيمان، فهذه ثلاثة شروط، فهنا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [سورة البقرة:128] من أجل أن يُتعبد لله بما شرع.

وهكذا أيضًا: وَتُبْ عَلَيْنَا [سورة البقرة:128] فالعبد لا بد أن يعتريه شيء من التقصير والضعف والفتور، ولا بد أن يقع شيء من الخلل في عمله، وربما الغفلة والإساءة، فيحتاج دائمًا إلى التوبة وَتُبْ عَلَيْنَا وفقنا للتوبة، واقبلها منا، فإنه لا يتوب إلا من وفق، ومن الناس من لا يرفع بذلك رأسًا.

وكذلك أيضًا إذا كان هؤلاء الكبار إمام الحنفاء ويقول هذا الكلام في مقام عظيم، وهو بناء الكعبة، فيسأل ربه أن يتوب عليه، فهذا يدل على أهمية التوبة، وأنه لا يستغني عنها أحد، وأن العبد بحاجة إلى ذلك حتى حينما يعمل الأعمال الصالحة، يتوب مما قد يقع فيها من تقصير وخلل؛ ولهذا نستغفر بعد الصلاة ثلاثًا، فنسأله المغفرة، ويستغفر في الأسحار بعد قيام الليل لمن يقوم الليل، وكذلك بعد الحج، وأداء المناسك، فهذه عبادات عظيمة يُستغفر بعدها.

فالتوبة لا يستغني عنها، في أحد بعد إبراهيم وإسماعيل ومقام مثل هذا، ويقول: أنا لا أحتاج إلى التوبة! إذا كان هذا في بناء الكعبة، فماذا يقول فيمن هو دون ذلك؟ وماذا يقول الغافل والعاصي؟ ومن الناس من إذا قيل له: هداك الله غضب.

ومنهم من إذا قيل له: تب إلى الله، قال: أتوب من ماذا؟ هو يرى أنه كامل العبودية، وأنه لا يقع منه خلل ولا تقصير في عبادته وعمله ويقظته ونومه وأحواله كلها، ولا يقول هذا إلا من كان جاهلاً بربه وبنفسه وبصراط الله المستقيم الذي رسمه الله لعباده، وجاهلاً أيضًا بسير هؤلاء الأئمة والقدوات العِظام -عليهم الصلاة والسلام- فهذه التوبة تارة تكون من الكفر والشرك، وتارة تكون من الكبائر، وتارة تكون من الصغائر، وتكون من الغفلة والتفريط، واللغو، والفضول، وتارة تكون من الخلل الذي قد يقع والتقصير والفتور عند أداء العبادة، فكل هذا مما تكون التوبة منه، وقد يتوب العبد من ترك المستحبات، ويتوب من فعل المكروهات، ومن فعل المُشتبهات، فالتوبة تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة، وتارة تكون محرمة، فيما لو تاب من العمل الصالح أن لا يفعله، نسأل الله العافية، فهذا لا يكون. 

  1.  الموافقات (2/ 164). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب في القدر برقم: (6594).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم برقم: (6607). 
  4.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140). 
  5.  أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم: (226) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5147). 
  6.  أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم: (1718).