الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [سورة البقرة:129].
يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، أي: من ذرية إبراهيم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد صلوات الله، وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين من الإنس، والجن، والمراد أن أول من نَوّه بذكره، وشهره في الناس إبراهيم ، ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى بن مريم حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، ولهذا قال في هذا الحديث: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم، وقوله: ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام[1] قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصته على قومها فشاع فيهم، واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة.
وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه، ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام، وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك[2]، وفي صحيح البخاري: وهم بالشأم[3].
وقوله تعالى: َوَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يعني: القرآن، َوَالْحِكْمَةَ يعني: السنة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، وغيرهم، وقيل: الفهم في الدين، ولا منافاة.
فقوله - تبارك، وتعالى -: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [سورة البقرة:129]، قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يعني القرآن، وهذا لا إشكال فيه فهو في غاية الوضوح، اللهم إلا في موضع آخر، وهو قوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2]، وهي القرآن، ثم قال: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فهناك قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ قال جماعة من أهل العلم: المراد به الكتابة، وعللوا هذا بأمرين اثنين: قالوا: الأمر الأول: أن في الآية ما يدل على هذا القول، وذلك من جهة أن الله ذكر القرآن قبله حيث قال: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] فمن أجل ألا يكون ذلك تكراراً في الكلام فإن التأسيس مقدم على التوكيد، وبناء على هذه القاعدة، قالوا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] الكتاب يعني الكتابة التي هي الخط بالقلم، وفي الآية قرينة أخرى، وهي أنه ذكر الأميين فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2]، والأمي هو الذي لا يكتب، أو لا يعرف الكتابة، والقراءة، فهو يمتن عليهم ببعثه ﷺ، ومن جملة هذا الامتنان أن عرفوا الكتابة بعد أن كانوا أبعد الناس عنها إذ لم يكن يعرفها منهم إلا نفر يسير لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
فالمقصود أن هناك الآية تحتمل، وأما هنا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:129]، فهو القرآن، وأما قوله: وَالْحِكْمَةَ فإن الحكمة في أصلها من الحُكم، وهو يدور على معنى المنع، وبعض أهل العلم يذكر له أصلاً آخر كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، والمشهور عند كثير من أهل العلم أنه يدور على أصل واحد، وهو المنع، فتأتي الحكمة تارة بمعنى النبوة، وتارة بمعنى الفقه في الدين، وتأتي تارة بمعنى وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، بمعنى الإصابة بالقول، والعمل.
فهنا قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] قال: يعني السنة، وقيل: الفهم في الدين، وقال: لا منافاة؛ لأن من عرف السنة فإن السنة تكون شارحة للقرآن، فقد فهم عن الله مراده، فلا منافاة بين قول القائل في قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] إن الحكمة يعني السنة، أو الفهم في الدين، لأن من كان بالسنة أعلم فهو أفقه في دين الله ، ولهذا فإن قول من قال هي الفقه في الدين لا إشكال فيه، ولا يعارض من قال: إنها السنة.
ولهذا فإن مثل ابن جرير الطبري كبير المفسرين - رحمه الله - يفسر الحكمة هنا بأنها العلم بأحكام الله التي جاء بها رسوله ﷺ فإن ذلك لا يعرف إلا من طريقه - عليه الصلاة، والسلام -، ومن ثمََّ فإن هذا العلم بأحكام الله هو العلم بالسنة؛ لأن الأحكام لا تعرف إلا من طريق النبي ﷺ.
وعلى كل حال أصل الحكمة من الحكم الذي هو المنع، ومن ثم يقال: الحكم الفصل بين الناس، والحاكم يقال له: حاكم؛ لأنه يفصل بين الناس، ومعنى المنع متحقق فيه، إذ أنه يمنع أحد الخصمين من التعدي على حق الآخر، ولذلك لو أتيت بأي لون من ألوان استعمال هذه اللفظة تجد فيها معنى المنع، فإذا قلت هي من الحَكَمَة التي توضع في الفرس، فإنها تمنعها من الانفلات، وإذا قلت: فلان حكيم فمعنى ذلك أن حكمته تزِم رأيه، ولسانه فلا يحصل منه الخطل، والشطط في القول، ولا في الحُكم، بل تجد أقواله على استقامة، وأحكامه على استقامة، فهو واقع على الصواب في القول، وفي العمل، وهكذا.
قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] أي فصل قضاء الله  بين الناس، وأحكامه بحيث يعرفون ذلك، ويفقهون دين الله ، ويعرفون السنة..الخ، وكل هذه الأقوال التي ذكرها السلف، وما لم يذكروه كله صحيح، وهذا يسمى خلاف التنوع، إلا أن من قال بأن الحكمة هي النبوة مثلاً، فهذا يحتاج إلى لون ربط، وجمع قد يكون أعسر إلى حد ما من مثل هذه الأقوال، مع أنه يمكن أن يجمع بين هذا، وهذا من جهة أن النبي هو الذي يحكم بين الناس.
ولا بد أن يفهم أن المقصود بتفسير الحكمة بالنبوة أنه يعلمهم النبي مضامين النبوة التي جاء بها من الله عن طريق الوحي، فيعلمهم أحكام الشريعة التي أنبأه الله بها، فلا يقول قائل في تفسير الحكمة بالنبوة أن المعنى يعلمهم النبوة بمعنى أنهم يكونون أنبياء مثله، أو نحو ذلك، فهذا المعنى غير وارد على الإطلاق.
وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني طاعة الله.قوله: وَيُزَكِّيهِمْ قال: يعني طاعة الله: وبعضهم يذكر غير هذه العبارة، وكل ذلك بمعنى، واحد؛ لأن طاعة الله هي تطهير للنفوس، فإنما يكون طهرها، وصلاحها، واستقامتها حينما تكون ملتزمة بالحق الذي جاء به الرسول ﷺ فالرسول يزكيهم بمعنى أنه يطهرهم من أدران الشرك، والضلال، والزيغ، وكل لون من ألوان الانحراف الذي يدنس نفوسهم، فكل ما يذكر هنا صحيح؛ لأن المراد بذلك كله هو تزكية النفوس بتطهيرها من الشرك، وما تفرع منه.
وقوله: إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [سورة البقرة:129] أي: العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء.اسم العزيز من العزة أي العزيز الذي لا يغالب، ولا تطاق سطوته، والعزة إنما تحصل من مجموعة أوصاف إذا وجدت، وتحققت كان ذلك الموصوف عزيزاً، والعزيز لا يكون إلا قوياً، ولا يكون إلا قادراً، وما إلى ذلك، ولهذا يفسره بعضهم بقوله: أي الذي لا تطاق سطوته، وبعضهم يقول: الذي لا يغالب، أو الذي لا يضام، ولا يرام، وكل هذا داخل في معنى العزيز.
الحكيم في أفعاله، وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه، وحكمته، وعدله.اسم الحكيم جمع بين أمرين هما العلم، ووضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فهذا هو الحكيم، والحكمة هي الإصابة بالقول، والعمل، وهذه الإصابة لا يمكن أن تكون إلا بتحقق العلم مع الوصف الآخر الذي هو وضع الشيء في موضعه.
  1. أخرجه أحمد (ج 5 / ص 262)، والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 175)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية.
  2. أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم (1037) (ج 3 / ص 1524) كلاهما بلفظ مقارب.
  3. صحيح البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331).

مرات الإستماع: 0

"فِيهِمْ أي في ذرّيتنا. رَسُولًا مِنْهُمْ هو محمد ﷺ؛ ولذلك قال ﷺ: أنا دعوة أبي إبراهيم[1] والضمير المجرور لذرية إبراهيم، وإسماعيل، وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من نسل قحطان فاختلف هل هم من ذرّية إسماعيل، أم لا؟ آيَاتِكَ هنا القرآن. وَالْحِكْمَةَ هنا هي السنة".

الحكمة هنا هي السنة، فإذا ذُكرت مع الكتاب فهي السنة، هذا هو المتبادر، والغالب - والله تعالى أعلم - وهذا الذي قال به كثير من أهل العلم، من السلف، ومن بعدهم، مروي عن الحسن، وقتادة، ومقاتل، وأبو مالك، وغير هؤلاء، وهو اختيار الحافظ ابن كثير[2].

وابن جرير حملها على معنى لا ينافي هذا، إذ يقول: بأن الحكمة يعني العلم بأحكام الله التي لا يُدرك علمها إلا ببيان رسول الله ﷺ[3] فهو مأخوذ من الحُكم الذي بمعنى الفصل بين الحق، والباطل، أي: وفصل قضائك، وأحكامك، وهذا يرجع إلى السنة، وإن ذلك لا يوصل إليه - كما يقول - إلا بسنة رسول الله ﷺ .

"وَيُزَكِّيهِمْ أي: يطهرهم من الكفر، والذنوب".

وأيضًا بمعنى: يرفعهم بالإيمان، والطاعة؛ لأن التزكية تشمل الأمرين: تشمل التطهير، وتشمل أيضًا عمارة القلوب، وما يتبعها من الجوارح، بالإيمان، والعمل الصالح، أصل هذه الكلمة - كما مضى في الغريب - زكى يزكو تدل على تطهير، ونماء، فالزكاة التي شرعها الله في المال هي تطهير للنفس من الشُح، وتطهير للمال، وهي أيضًا نماء لهذا المال، وكذلك أيضًا تزكية النفوس قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] أي من طهرها من الشرك، والمعاصي، والأرجاس، بالإضافة إلى عمارتها بالقلوب، كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: بأن ذلك بمثابة الزرع، فإنه لا يحصل تمامه إلا بتنقية المحل، يعني الأرض لا بد من استصلاحها، وتنقيتها من الشوائب، والنباتات الطفيلية، ونحو هذا، فيحصل بذلك نماء الزرع، فتطهير، ونماء، هذه التزكية، فهنا ذكر الأول يطهرهم من الكفر، والذنوب، ويضاف إليه، ويرفعهم بالإيمان، والطاعة. 

  1. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1/ 173)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 306-1463)، ولفظه: أنا دعوة إبراهيم ونسبه لكتاب ابن عساكر.
  2.  تفسير ابن كثير (1/ 444-445).
  3.  تفسير الطبري (3/ 87).

مرات الإستماع: 0

ما زال الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بهذه الدعوات التي دعا بها خليل الرحمن إبراهيم لما بنى الكعبة.

فكان من دعائه : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129].

ولما دعا لنفسه وللذرية، قال: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:127، 128].

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] ابعث في هذه الأمة التي هي من ولد إسماعيل الذي وضعه إبراهيم مع أمه في مكة بوادٍ غير ذي زرع، عند بيت الله المحرم.

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] من ذرية إسماعيل يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [سورة البقرة:129] القرآن والحكمة، وهي السنة، ويُطهرهم من الشرك، وسوء الأخلاق والرذائل إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه شيء الْحَكِيمُ الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.

فيُؤخذ من هذه الآية -أيها الأحبة- الدعاء بهذا الاسم الكريم (ربنا) وما يدل عليه، وقد مضى التنبيه على ذلك، هذا الاسم الكريم (الرب) من معاني الربوبية التربيب والتربية، وإصلاح حال المربوبين، ومن معانيها: العطاء والنفع والدفع، وإجابة الدعوات، وإعطاء السائلين؛ ولذلك كان دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن (ربنا) فهنا يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129].

فلاحظ هنا هذا الدعاء، وما خُتم به من هذين الاسمين الكريمين الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإنما يُذكر مع الدعاء ما يُناسبه ويُلائمه من أسماء الله الحُسنى، فبعث الرسول من هذه الأمة التي يُعلمهم التنزيل، ويتلو عليهم الآيات، ويُعلمهم السنة التي تشرحها، ويُزكي نفوسهم بالإيمان، والعمل الصالح، والتخلي عن أضداد ذلك، مثل هذا يمكن أن يُقال -والله أعلم- باعتبار أن كل ما يأتي به الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهو حكمة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة:129] وكذلك من تمسك بهذا الذي بُعث به الرسول فإنه يكون عزيزًا، فإن الله يُعز بهذا الدين والقرآن أقوامًا، ويضع به آخرين، والله يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فمن تمسك بهذا الدين فهو عزيز.

وهذا التعقيب بهذين الاسمين الكريمين يمكن أن يوجه بأن اختيار الرسول من هذه الأمة حيث يُزكيهم ويُعلمهم الكتاب والحكمة يتفق مع حكمته  وتقدست أسماؤه، حيث إن الله -تبارك وتعالى- لا يترك خلقه هملاً، وإنما يبعث في كل أمة رسولاً؛ ليُقيم الحجة عليهم، ويحصل بذلك هداية من شاء الله هدايته، ويظهر في ذلك من حكمته ما كان مُستترًا عن نظر الكثيرين.

وكذلك أيضًا فإن بعث رسول في هؤلاء، وما زالت تلك الناحية في حال من الإقفار ليس فيها أحد، سوى هذا المولود مع أمه، فمن الذي يُحييها؟ ومن الذي يُحيي هذه الأرض في هذا الوادي القفر الذي لا زرع فيه، ولا ماء، ولا عِمران؟ ومن الذي يحوله إلى بلد يعج بقاطنيه، ومن يفدون عليه؟ بلد قفر، فلو أراد أعظم أهل الدنيا من أهل المُلك والمال أن يحول بلدًا لا يوجد فيها في نظر الناظرين شيء من مقومات الحياة جبال ضيقة بوادٍ، وكما تشهدون في الصور: أن الكعبة في موضع في غاية الغور، وليست على مكان مرتفع، ولا في مكان فسيح، وإنما في وادٍ لا زرع فيه، وهي جبال سوداء، فليست في براح من الأرض ومُنبسط، وليست في مروج وأنهار، وإنما بوادٍ غير ذي زرع، فلو أراد أعظم أهل الدنيا أن يُقيم بلدًا في تلك الناحية لأنفق الأموال الطائلة؛ ولما تحقق له مُراده، ولكن من الذي جعلها بهذه المثابة يفد إليها الناس من أقطار الدنيا، ويتشوقون إلى ذلك، ويبذلون فيه النفائس والمُهج، فهذا لا بد فيه من عزيز يتحقق مراده، ولا مُمانع له.

ثم أيضًا يُؤخذ من هذه الآية: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] أن الهم الذي كان يحمله إبراهيم وذلك مما يتصل بهداية الخلق والذرية رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:129] فهذه دعوته لذريته، فلم يقتصر بالدعاء لنفسه، أو الدعاء لولده وزوجه، وإنما دعا لذرية هؤلاء.

وكذلك أيضًا انظروا إلى هذه الدعوة رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [سورة البقرة:129] متى تحققت؟ هل تحققت بعد يوم أو بعد ثلاثة أيام، أو بعد أسبوع، أو بعد شهر، أو بعد ستة أشهر، أو بعد ست سنوات؟ بعد آلاف السنين، ببعث محمد ﷺ فهو الرسول الوحيد من ولد إسماعيل؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أنا دعوة إبراهيم [1] حيث دعا بهذه الدعوة فتحققت، لكن بعد هذه المدة الطويلة، وهذا بالنسبة لله وقت قصير، فحساب الأيام والسنوات عند الله ليس كحسابنا وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحج:47].

فنحن نستطيل الأيام والليالي، وربما ييأس الإنسان ويقول: دعوتُ فلم يُستجب لي، والنبي ﷺ أخبر أن الداعي إذا دعا إما أن يُعجل له، وإما أن يُدخر في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من الشر مثل ذلك، إذًا لا مجال لقول قائل: دعوت فلم يستجب لي، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186] فهو يُجيب دعوة الداعين، وهؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مستجابو الدعوة، فأجاب الله دعوته، لكن بعد كم من السنين، بل آلاف السنين، فكما بين إبراهيم ومحمد ﷺ ؟ مدة طويلة جدًا، فمثل هذا يبعث المؤمن على التفاؤل، ونبذ اليأس والقنوط، فإذا دعا الله -تبارك وتعالى- لنفسه أو لأمته، فإنه لا يقول: دعونا فلم يُستجب لنا.

فهذا حال الأمة، كلأ مُباح تُداس كرامتها من قِبل أرذل الخلق، من اليهود والباطنية، وأشباه هؤلاء الذين هم أرذل الناس، فمثل هذا وإن بقي سنوات، وعشرات السنوات، فهي مدة يسيرة، وإذا أردت أن تعرف أنها مدة يسيرة، فانظر إلى صفحات القرون والتاريخ الغابر، منذ بعث الله محمدًا ﷺ وما وقع من الأحداث العِظام، كأنها أحلام، وهكذا ما يقع في مثل هذه الأوقات، ستطوى صفحاتها، ويُبدل الله من حال إلى حال.

أيضًا يُؤخذ من هذه الآية ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله: أنّ هذه الآية الوحيدة التي جمعت بين حفظ القرآن (حفظ الألفاظ) والفهم[2] يعني: التلاوة والفهم، والعمل به يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [سورة البقرة:129] لفظًا وحفظًا وتحفيظًا، فكان النبي ﷺ يحفظها، فلم يكن يقرأ في كتاب سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [سورة الأعلى:6] ويقرأ عليهم فيحفظون وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] هذا المعنى، وبيان المعاني والأحكام بسيرته العملية، وبقوله -عليه الصلاة والسلام- ويُزكيهم بالتربية بالأعمال الصالحة، والتنزه عن أضدادها من الرذائل، فصارت ثلاثة أشياء متدرجة: الحفظ، والتلاوة، والتحفيظ، والثاني: البيان للمعاني، والفقه في الدين، والثالث: التزكية والتربية العملية، وبهذا يحصل الكمال، لا بد من هذه الأمور الثلاثة.

فالتلاوة وحدها لا تكفي، فلا بد من التعليم وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فالفقه في الدين، وفهم معاني القرآن إنما يُتلقى ذلك عن رسول الله ﷺ وعمن أخذوا عنه، وليس لأحد أن يقول: نحن رجال، وهم رجال، ونُريد أن نُفسر القرآن بحسب مُعطيات عصرنا، وبحسب أعرافنا وأفهامنا، فلكل عصر رجاله، فهذا الكلام مُغالطة كبيرة، ولا يمكن أن يتوصل معها إلى هدى، وإنما هو الضلال المُبين، والخروج من رِبقة الدين، فهذه هي النتيجة، فلو أُطلق العنان لكل أحد أن يتكلم في معاني القرآن، بعيدًا عن سنة رسول الله ﷺ وفهم السلف الصالح، فلا تسأل عن ضلالة هؤلاء.

ويدل قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] أنه لا بد من التعليم، فالتلاوة والحفظ وحدها لا تكفي، ويُؤخذ العلم عن أهله، والأمر الثالث: لا بد من التربية، فليست القضية بمعلومات يجمعها الإنسان، وإنما يُقصد بذلك ما بعده من العمل، والامتثال، والتطبيق، والتزكية للنفوس، فهذا هو المطلوب وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] فمن معاني الرباني: الفقيه الذي يُعلم الناس صغار العلم قبل كباره، والذي يُزكي نفوسهم، والذي يرجعون إليه فيما نابهم، ويسوسهم بما يحصل به تربية نفوسهم وأرواحهم، وما إلى ذلك، فلا بد من العمل والتزكية، وإلا فقد يجمع الإنسان العلم الكثير، ويكون وبالاً عليه.

ثم أيضًا تأمّل هذا الدعاء، فلم يقل: يعلمهم أمور الدنيا، وسُبل المكاسب والمعايش، وكيف يكسبون الأموال؟ وكيف يدخرونها ويتكثرون منها؟ وكيف تكون أجسامهم في حال من النشاط والتألق وغير ذلك؟ ولم يقل: يُعلمهم صنوف المطعومات والمشروبات، وما إلى ذلك، فمهمة الرسل وأتباعهم هي دلالة الناس على الله، والطريق الموصل إليه، لا تعليم الطهي، ولا تعليم سُبل الكسب المادي، ولا ما يتصل بهذه الأجساد، وكيف نُنميها؟ وكيف نجعلها في حالٍ من النظارة والجمال والتألق؟ فهذا ليس من مهمات الرسل وأتباعهم.

 ولذلك من الخطأ أن يتحول الدعاة إلى الله إلى مُدربين، يتحدثون عن مثل هذه القضايا، كيف تُثمر الأموال؟ وكيف تُجامع؟ وكيف سُبل التغذية الصحية؟ وكيف تُحافظ على الرشاقة وغير ذلك مما قد يُقال للمرأة أو الرجل، فليس هذا من أعمال الرسل، فالناس في غاية الحرص على هذه القضايا، ولا يحتاجون إلى من يتحول إلى مُرشد لهم فيها، ويترك المهم الأعظم، وهو الدلالة على الله والدار الآخرة، وهذا يُبين لنا خطأ مَن يدعي بأن على الدعاة على الله أن يُعنوا بالعمارة المادية، وأن يوجه الاهتمام إلى هذه القضايا، فهذا ليس من مهمتهم، وكل ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا يدل على هذا، يتحول الناس إلى ماديين دنيويين، حتى العبادات يُقال لهم: صلوا، وقوموا الليل من أجل أن يحصل لكم كذا، اقرأوا القرآن من أجل أن يحصل لكم كذا، يعني في الدنيا، صوموا من أجل أن يحصل لكم كذا، فيتحول الإنسان إلى عبد من أجل هذه الدنيا تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة[3] الحديث.

فالفقه في الدين والفهم نور من الله -تبارك وتعالى- ويُقتبس من مشكاة النبوة، والحكمة فُسرت بالسنة، وكل هذه المعاني صحيحة، فالله أمر أزواج نبيه ﷺ أن يذكرن ما يُتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، فالكتاب هو القرآن، وما سوى ذلك مما كان يُتلى في بيت النبي ﷺ هو السنة، فهذه هي الحكمة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4] والفلاسفة ومن وافقهم يسمون الفلسفة بالحكمة، والفلاسفة بالحكماء، فأين هذا من هذا؟! والفلاسفة في قضايا الإلهيات، كما قال شيخ الإسلام: هم أضل الناس[5] لأنهم يتحدثون من منُطلق قاصر محجوب محدود، وهو هذا العقل، والعقل لا يُدرك إلا بعض ما يتصل بهذا العالم المادي، جزء يسير وإلا فهو لا يُدرك أشياء، مما يتصل بروحه التي بين جنبيه، فهذا أمر معلوم لا يخفى. 

  1.  أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (3/ 393) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2343) وهو في المستدرك على الصحيحين للحاكم (3623) بلفظ: أنا دعوة أبي إبراهيم
  2.  تفسير السعدي (ص:66).  
  3. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال برقم: (6435). 
  4. حقوق آل البيت (ص:21). 
  5.  الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق (ص:171).