يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، أي: من ذرية إبراهيم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَرَ الله السابق في تعيين محمد صلوات الله، وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين من الإنس، والجن، والمراد أن أول من نَوّه بذكره، وشهره في الناس إبراهيم ، ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى بن مريم حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، ولهذا قال في هذا الحديث: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم، وقوله: ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام[1] قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصته على قومها فشاع فيهم، واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة.
وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه، ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام، وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك[2]، وفي صحيح البخاري: وهم بالشأم[3].
وقوله تعالى: َوَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يعني: القرآن، َوَالْحِكْمَةَ يعني: السنة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، وغيرهم، وقيل: الفهم في الدين، ولا منافاة.فقوله - تبارك، وتعالى -: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [سورة البقرة:129]، قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يعني القرآن، وهذا لا إشكال فيه فهو في غاية الوضوح، اللهم إلا في موضع آخر، وهو قوله - تبارك، وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2]، وهي القرآن، ثم قال: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فهناك قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ قال جماعة من أهل العلم: المراد به الكتابة، وعللوا هذا بأمرين اثنين: قالوا: الأمر الأول: أن في الآية ما يدل على هذا القول، وذلك من جهة أن الله ذكر القرآن قبله حيث قال: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] فمن أجل ألا يكون ذلك تكراراً في الكلام فإن التأسيس مقدم على التوكيد، وبناء على هذه القاعدة، قالوا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] الكتاب يعني الكتابة التي هي الخط بالقلم، وفي الآية قرينة أخرى، وهي أنه ذكر الأميين فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2]، والأمي هو الذي لا يكتب، أو لا يعرف الكتابة، والقراءة، فهو يمتن عليهم ببعثه ﷺ، ومن جملة هذا الامتنان أن عرفوا الكتابة بعد أن كانوا أبعد الناس عنها إذ لم يكن يعرفها منهم إلا نفر يسير لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
فالمقصود أن هناك الآية تحتمل، وأما هنا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:129]، فهو القرآن، وأما قوله: وَالْحِكْمَةَ فإن الحكمة في أصلها من الحُكم، وهو يدور على معنى المنع، وبعض أهل العلم يذكر له أصلاً آخر كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، والمشهور عند كثير من أهل العلم أنه يدور على أصل واحد، وهو المنع، فتأتي الحكمة تارة بمعنى النبوة، وتارة بمعنى الفقه في الدين، وتأتي تارة بمعنى وضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، بمعنى الإصابة بالقول، والعمل.
فهنا قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] قال: يعني السنة، وقيل: الفهم في الدين، وقال: لا منافاة؛ لأن من عرف السنة فإن السنة تكون شارحة للقرآن، فقد فهم عن الله مراده، فلا منافاة بين قول القائل في قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] إن الحكمة يعني السنة، أو الفهم في الدين، لأن من كان بالسنة أعلم فهو أفقه في دين الله ، ولهذا فإن قول من قال هي الفقه في الدين لا إشكال فيه، ولا يعارض من قال: إنها السنة.
ولهذا فإن مثل ابن جرير الطبري كبير المفسرين - رحمه الله - يفسر الحكمة هنا بأنها العلم بأحكام الله التي جاء بها رسوله ﷺ فإن ذلك لا يعرف إلا من طريقه - عليه الصلاة، والسلام -، ومن ثمََّ فإن هذا العلم بأحكام الله هو العلم بالسنة؛ لأن الأحكام لا تعرف إلا من طريق النبي ﷺ.
وعلى كل حال أصل الحكمة من الحكم الذي هو المنع، ومن ثم يقال: الحكم الفصل بين الناس، والحاكم يقال له: حاكم؛ لأنه يفصل بين الناس، ومعنى المنع متحقق فيه، إذ أنه يمنع أحد الخصمين من التعدي على حق الآخر، ولذلك لو أتيت بأي لون من ألوان استعمال هذه اللفظة تجد فيها معنى المنع، فإذا قلت هي من الحَكَمَة التي توضع في الفرس، فإنها تمنعها من الانفلات، وإذا قلت: فلان حكيم فمعنى ذلك أن حكمته تزِم رأيه، ولسانه فلا يحصل منه الخطل، والشطط في القول، ولا في الحُكم، بل تجد أقواله على استقامة، وأحكامه على استقامة، فهو واقع على الصواب في القول، وفي العمل، وهكذا.
قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:129] أي فصل قضاء الله بين الناس، وأحكامه بحيث يعرفون ذلك، ويفقهون دين الله ، ويعرفون السنة..الخ، وكل هذه الأقوال التي ذكرها السلف، وما لم يذكروه كله صحيح، وهذا يسمى خلاف التنوع، إلا أن من قال بأن الحكمة هي النبوة مثلاً، فهذا يحتاج إلى لون ربط، وجمع قد يكون أعسر إلى حد ما من مثل هذه الأقوال، مع أنه يمكن أن يجمع بين هذا، وهذا من جهة أن النبي هو الذي يحكم بين الناس.
ولا بد أن يفهم أن المقصود بتفسير الحكمة بالنبوة أنه يعلمهم النبي مضامين النبوة التي جاء بها من الله عن طريق الوحي، فيعلمهم أحكام الشريعة التي أنبأه الله بها، فلا يقول قائل في تفسير الحكمة بالنبوة أن المعنى يعلمهم النبوة بمعنى أنهم يكونون أنبياء مثله، أو نحو ذلك، فهذا المعنى غير وارد على الإطلاق.
وَيُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة:129] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني طاعة الله.قوله: وَيُزَكِّيهِمْ قال: يعني طاعة الله: وبعضهم يذكر غير هذه العبارة، وكل ذلك بمعنى، واحد؛ لأن طاعة الله هي تطهير للنفوس، فإنما يكون طهرها، وصلاحها، واستقامتها حينما تكون ملتزمة بالحق الذي جاء به الرسول ﷺ فالرسول يزكيهم بمعنى أنه يطهرهم من أدران الشرك، والضلال، والزيغ، وكل لون من ألوان الانحراف الذي يدنس نفوسهم، فكل ما يذكر هنا صحيح؛ لأن المراد بذلك كله هو تزكية النفوس بتطهيرها من الشرك، وما تفرع منه.
وقوله: إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [سورة البقرة:129] أي: العزيز الذي لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء.اسم العزيز من العزة أي العزيز الذي لا يغالب، ولا تطاق سطوته، والعزة إنما تحصل من مجموعة أوصاف إذا وجدت، وتحققت كان ذلك الموصوف عزيزاً، والعزيز لا يكون إلا قوياً، ولا يكون إلا قادراً، وما إلى ذلك، ولهذا يفسره بعضهم بقوله: أي الذي لا تطاق سطوته، وبعضهم يقول: الذي لا يغالب، أو الذي لا يضام، ولا يرام، وكل هذا داخل في معنى العزيز.
الحكيم في أفعاله، وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه، وحكمته، وعدله.اسم الحكيم جمع بين أمرين هما العلم، ووضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فهذا هو الحكيم، والحكمة هي الإصابة بالقول، والعمل، وهذه الإصابة لا يمكن أن تكون إلا بتحقق العلم مع الوصف الآخر الذي هو وضع الشيء في موضعه.
- أخرجه أحمد (ج 5 / ص 262)، والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 175)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية.
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم (1037) (ج 3 / ص 1524) كلاهما بلفظ مقارب.
- صحيح البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331).