الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِۦمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

َوَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ، وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:130 - 132:].
يقول - تبارك، وتعالى - رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه، وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جَرد توحيد ربه - تبارك، وتعالى - فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين.
قوله: يقول - تبارك، وتعالى - رداً على الكفار فيما ابتدعوه، وأحدثوه من الشرك بالله: طبعاً هذه الآيات جميعاً هي في سياق ذكر بني إسرائيل، فأول من يدخل فيها هم اليهود، والنصارى حيث إنهم خالفوا ملة إبراهيم - صلى الله عليه، وسلم - من جهة الحقيقة إذ إنهم بدلوا، وغيروا، كما أنهم خالفوها من جهة الانتساب، والتسمية حيث إنهم ابتدعوا هذه الأسماء، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا [سورة آل عمران:67:] فالمقصود أن هؤلاء خالفوا دين إبراهيم - صلى الله عليه، وسلم -، وملته فهم أول من يدخل في ذلك مع أنهم يدَّعون الانتساب إليه - عليه الصلاة، والسلام -، وأنهم على دينه - وسيأتي الرد عليهم في هذه الدعوى -، ويدخل فيه أيضاً غيرهم من أهل الإشراك من العرب الذين كانوا يقولون: إنهم على دين إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -، لكن أولى من يدخل فيها هم اليهود، والنصارى لكنها شاملة للجميع؛ لأن من تدل على العموم في قوله: وَمَن يَرْغَبُ [سورة البقرة:130 - 132]، والمعنى أن الرغبة عن ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -، والإعراض عنها لا يمكن أن تقع إلا ممن سفه نفسه. ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرَّأ من أبيه، فقال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ إِنِّي، وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:78 - 79]، وقال تعالى:  وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [(26 - 27) سورة الزخرف:]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:114]، وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة النحل:120 - 122].
ولهذا، وأمثاله قال تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:130] عن طريقته، ومنهجه فيخالفها، ويرغب عنها إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] أي: ظلم نفسه بسفهه، وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال؛ حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية، والرشاد من حَداثة سنّه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء.
قوله: إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ قال: أي ظلم نفسه بسفهه، وسوء تدبيره: أو قول من قال: إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ أي: جهل أمر نفسه فيما يصلحها، ويقومها، ويحملها على الحق، والصواب فلم يفكر فيها، أو قول من قال: إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ يعني أهلك نفسه، وغير ذلك مما يمكن أن تفسر به، أي فعل بنفسه فعل أهل السفه بحيث إنه فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، والمقصود أن كل هذا يمكن أن تفسر به هذه الآية، -  والله تعالى أعلم -، ولهذا فإن مثل ابن جرير - رحمه الله - يقول: إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إلا سفيه جاهل بحظ نفسه فيما ينفعها في عاجلها، وآجلها.
 وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:130] يعني لا يرغب عن ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - أي عن دينه، ومنهجه إلا سفيه لا يعرف حظ نفسه قد أضاع نفسه، وتردى في أودية الهلكة، فالسفيه هو الذي لا يحسن التدبير، ولا يحسن التصرف.
فمن ترك طريقه هذا، ومسلكه، وملّته، واتبع طُرُقَ الضلالة، والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13].
قال أبو العالية، وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:67 - 68].
نعم، يدخل فيه اليهود، ويدخل فيه النصارى دخولاً أولياً، ويدخل فيهم غيرهم من مشركي العرب، وغيرهم ممن خالف دين إبراهيم - صلى الله عليه، وسلم -، وإن كان السياق في الرد على اليهود، والنصارى بالدرجة الأولى.

مرات الإستماع: 0

"سَفِهَ نَفْسَهُ منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل في نفسه، ثم حذف الجار، فانتصب، وقيل: تمييز".

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ يعني منصوب على التشبيه بالمفعول به، يعني أنه يُشبه المفعول به، وهو ليس بمفعول به، وقيل: الأصل في نفسِه، ثم حذف حرف الجر انتصب بنزع الخافض، حرف الجر، وقيل: تمييز، سفه ماذا؟ سَفِهَ نَفْسَهُ وبعضهم يقول المعنى: سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إلا من كانت نفسه سفيهة، وهذا الذي اختاره ابن جرير[1] وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن المتأخرين: الطاهر بن عاشور[2].

وقال بعضهم: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي: من ظلم نفسه، وامتهنها بجهله، وسوء تدبيره، بتركه الحق، هذا الذي قاله ابن كثير[3] واختاره من المتأخرين: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[4] وهذا في الواقع قريب من الذي قبله، فالذي يكون بهذه المثابة فإن نفسه سفيهة، وبعضهم يقول: سَفِهَ نَفْسَهُ أي: جهل أمر نفسه، فلم يفكر فيها، وضيعها، وقيل: أهلك نفسه، وهذا بنحو الذي قبله.

وبعضهم يقول: فعل بها من السفه ما صار به سفيهًا.

والمقصود إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إلا من كانت نفسه سفيهة، لا تميز بين ما ينفعها، أو يضرها، فيفعل بنفسه ما يكون سببًا لسفولها، وانحطاطها، وهلكتها، وهذا إنما يفعله الجاهل الذي لا يحسن النظر في عواقب الأمور، وما يجمل، ويحسن، والسفه هو الخفة - كما سبق في الكلام في الغريب - فالسفيه هو الذي لا يحسن التدبير، والتصرف، فالذي يرغب عن ملة إبراهيم هذا يكون سفيهًا قد ضيع نفسه، وأهلكها.

يُؤخذ منه: أن كل من أعرض عن هذا الدين ففيه من السفه بحسب إعراضه، فإذا كان إعراضه كليًا، فهو غاية في السفه، فهؤلاء سفهاء؛ ولهذا قال الله : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 14] فسماهم سفهاء، وقد يكون بعض هؤلاء من أعلم الناس بالدنيا، وتدبير المعايش، ولكنهم في جهلهم بالحق هم سفهاء، في إعراضهم عنه، وتركهم له، قد يكون في غاية الذكاء، وغاية العلم، ولكنه سفيه؛ لأنه لا يحسن التدبير، والتصرف، وأعظم التدبير هو التدبير لآخرته، وعمارة النفس، والقلب بالإيمان، والعمل الصالح، هذا أعظم التدبير الذي يتحقق به سعادة الدنيا، والآخرة، فإذا تركه، واشتغل في طلب لقمة، وتدبير معيشة قريبة يجفوها، أو تجفوه عما قريب، فهذا في غاية السفه، لم يجاوز نظره أنفه، يعني يكون مثل البهيمة، إنما غاية ما يُفكر فيه هو هذه الأشياء القريبة: الأكل، والشرب، والنكاح، ويعيش لهذا.

  1.  تفسير الطبري (3/90).
  2.  التحرير، والتنوير (1/75).
  3.  تفسير ابن كثير (1/445).
  4.  تفسير السعدي - تيسير الكريم الرحمن (ص: 66).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130].

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما كان عليه إبراهيم من الحنيفية، قال بعد ذلك: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] فهذا الذي يُعرض عن دين إبراهيم وهي ملته، يكون سفيهًا جاهلاً؛ لأنه لا يُحسن الاختيار والنظر والتمييز بين ما ينفع، وما يضر، فيُعرض عن ما ينفعه، ويُقبل على ما يضره إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:130] اخترنا إبراهيم في الدنيا نبيًّا ورسولاً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130] الذين لهم الدرجات العالية عند الله -تبارك وتعالى.

فيُؤخذ من هذه الآية: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] أنَّ من اختار دينًا غير دين الإسلام فهو سفيه؛ لأن هذه الآية صريحة في ذلك، والله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [سورة آل عمران:19] ويقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [سورة آل عمران:67] فدين إبراهيم وملة إبراهيم هي الإسلام، فمن اختار غير الإسلام، فإنه يكون قد سفه نفسه، والسفيه هو الذي لا يُحسن التدبير والتصرف؛ لضعف رأيه وعقله، وليس هناك أعظم سفهًا من ذاك الذي ضيع سبب السعادة الدنيوية والأخروية، الذي قد اختار الطريق المُظلمة والمُهلكة التي تُؤدي به إلى الشقاء في الدنيا وفي الآخرة، اختار ذلك من أجل لذات مُتقضية، أو مصالح متوهمة، أو نحو ذلك مما يحمله عليه عمى البصيرة.

وإذا كان من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه بهذه الصيغة، التي هي أقوى صيغ الحصر، وهي النفي والاستثناء، وهي التي جاءت بها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بمعنى: أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من كان سفيهًا، لا يمكن أن يُحمل ذلك على محمل آخر، أو أن يُوجّه، أو أن يُعتذر له بعذر، أو أن يكون لهذا الاختيار وجه يمكن أن يكون مُبررًا، مهما كانت أسبابه وأعذاره، فإن النتيجة أنّ هذا الاختيار (اختيار غير دين الإسلام) بُرهان على سفه صاحبه.

وإذا كان هذا في اختيار الملة والدين فكذلك أيضًا خروج العبد عن هذه الملة عن دين الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه يكون لصاحبه من السفه بقدر ما يكون له من هذا الخروج عن شريعة الله -تبارك وتعالى- وقل مثل ذلك فيمن يُفضل الشرائع أو الديانات أو النُظم والقوانين على شرع الله  فهذا لا يصدر إلا عن سفيه لم يعرف حقيقة ما جاء به هؤلاء الرُسل العِظام -عليهم الصلاة والسلام- فهؤلاء سفهاء بنص القرآن إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ولو كان من أصحاب العقول في نظر الناس، ومن أهل الذكاء، فإن المرء قد يؤتى ذكاءً، ولكنه قد لا يؤتى الزكاء.

فالذكاء قد يكون نقمة على صاحبه، والعلم المادي قد يكون نقمة على صاحبه، والله -تبارك وتعالى- قد أخبرنا عن أولئك الذين فرحوا بما عندهم من العلم، حينما جاءت الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يدعونهم إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته، ففرحوا بما عندهم من العلم، فكان ذلك العلم صارفًا لهم عن الاستجابة، فالذكاء قد يكون شقاء يعود على صاحبه بالوبال، وكذلك العلم والمال، إلى غير ذلك مما يُعطاه الناس في هذه الحياة الدنيا، فإن لم يكن ذلك سائقًا وقائدًا له إلى مرضاة الله  ومُسخرًا في طاعته، فإذا انطمست البصائر، فإنه لا ينفع مع ذلك الذكاء والعقل والفطنة والنباهة والمعارف المتنوعة، والثقافة الواسعة، فكل ذلك يضمحل ويتلاشى، فرحوا بما عندهم من العلم.

إذًا: هؤلاء الذين لم يهتدوا بهذا الهدى الذي جاء به الرسول ﷺ وهو الإسلام مهما كان عندهم من الاكتشافات والمخترعات، والصناعات، ومهما كان عندهم من التطور المادي والعمران، فإن هؤلاء يبقون في النهاية سفهاء، وينبغي أن يكون التعامل معهم، والنظر إليهم بهذا الاعتبار أنهم سفهاء بنص القرآن، ومن هنا فإن المؤمن لا يمكن أن يغتر بهؤلاء، وما أوتوا، فإذا ذهب إلى بلادهم، ورأى مظاهر هذه الحضارة المادية، وهذه العلوم التجريبية التي توصلوا إليها، فإنه مُباشرة يتذكر هذه المعاني: أن هؤلاء ما عرفوا أهم المُهمات، وأعظم الأمور والأمر الذي وجدوا في هذه الحياة من أجله، وهو عبادة الله -تبارك وتعالى- وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] الله وهو أعظم ما يُعلم، وهو أعرف المعارف، ما عرفوه، ولا رفعوا رأسًا بذلك، فما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هو أوثق العلوم، وأحسنها وأنفعها، وهذه الهدايات كلها لم يهتدوا ولم ينتفعوا بها، فكانوا عادمين لذلك كله، فهؤلاء في النهاية سفهاء.

فليست القضية -أيها الأحبة- بحفظ يحفظه الإنسان، أو بمعلومات ربما يكون مكنزًا لها، ويكون وعاء من أوعية العلم، ولكن هذا إذا كان لا يعرف ربه، فإنه يكون في النهاية أجهل الجاهلين، وأسفه السفهاء؛ ولذلك للأسف تجد الكثيرين يتحدثون عن أقوام لا يعرفون الله بالكلية، ويعبدون الأوثان من بعض الأمم الشرقية، ويتحدثون عن نُظم في حياتهم، واكتشافات واستغلال للثروات والبقاع، ويتحدثون عن ما هم عليه من القوانين الصارمة، وحفظ الأوقات، والدقة في المواعيد، ويتحدثون عما عليه هؤلاء من نظافة الطُرق، وغير ذلك مما يُذكر ويُرسل هنا وهناك.

فالواقع أن هؤلاء يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ولكن الأهم هم غائبون عنه، وجاهلون به، فهم عن الآخرة معرضون وغافلون ومُضيعون، وما هو الخير الذي يُرجى من علوم لا تدل على الله -تبارك وتعالى؟! وكيف يقع الإعجاب بأقوام ما عرفوا ربهم الذي خلقهم ويرزقهم ويغذوهم ويُنعم عليهم؟! ويتوجهون إلى حجر، أو يُنكرون وجود الإله بالكلية، فهؤلاء دون مرتبة البهائم؛ لأنها تعرف ربها؛ ولذلك تجد مثل هؤلاء إذا تكلموا في الإلهيات هم أضل الناس.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كلامه على الفلاسفة، وأن هؤلاء من أذكياء العالم، ولكن في الوقت نفسه حينما أثنى على علومهم الرياضية والطب، التي هي من جملة فروع الفلسفة في القديم، قال: إنهم أضل الناس في الإلهيات[1] يعني: هذه العقول والذكاء والإمكانات والطاقات العقلية الهائلة لم توصلهم إلى معرفة المعبود معرفة صحيحة، فإن الطريق إلى ذلك هو ما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والعقل الذي لا يهدي إلى هذا، فإنه عقل فاسد، يكون وبالاً على صاحبه، ولذلك فإن أصحاب العقول الصحيحة هم الذين ينتفعون بها، فيعرفون الله ويعبدونه ويوحدونه؛ ولهذا نجد في خبر أيوب في القرآن لما ذكر قصته قال في ختم ذلك: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:84] وفي موضع آخر لما ذكر خبره قال: وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة ص:43] وإذا جمعت بين هذا وهذا فيما يُعرف بدلالة الإشارة عند الأصوليين، وهي إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد عُلم، ينتج عن ذلك أن أولي الألباب وأصحاب العقول الراجحات هم أهل العبودية، وأنه على قدر ما يكون للعبد من تحقيق العبودية فإن ذلك يدل على كمال عقله.

ولهذا استنبط الفقهاء -رحمهم الله- من مجموع الآيتين: أنه لو أوصى أحد لأعقل أهل البلد، فإن ذلك يُصرف لأعبد أهل البلد، وأكثر أهل البلد تحقيقًا للعبودية لله  فهؤلاء الكفار الشاردون عن ربهم -تبارك وتعالى- مهما كانت نُظمهم وأوضاعهم الاقتصادية والعسكرية، ومهما كانت أحوالهم المادية، ومهما كانت مُكتشفاتهم، فإنهم سفهاء لا يُميزون بين ما ينفعهم وما يضرهم وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] فهؤلاء قد رغبوا عنها، وسخروا بها، وكذبوا بذلك كله، فهم السفهاء، وإن لم يكن هؤلاء السفهاء فمن هم السفهاء؛ ولذلك انظروا إلى هذا التنصيص الصريح في قوله -تبارك وتعالى- عن اليهود وهم أهل كتاب، وهم أعلم أهل الكتاب سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] فهؤلاء السفهاء المعني بهم اليهود، فهم سفهاء بنص كتاب الله -تبارك وتعالى.

وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130] وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ اللام هذه تدل على التأكيد، وكذلك (إن) في وَإِنَّهُ [سورة البقرة:130] تفيد التوكيد، وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130] فدخلت اللام هنا أيضًا لإفادة التوكيد، فهذا كله توكيد لهذا الخبر، واهتمام أيضًا به، وبما تضمنه؛ ولأن الإخبار عن حالة مُغيبة في الآخرة وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ [سورة البقرة:130] فجاء بما يؤكد الجملة الثانية وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ثم الجملة الثانية التي تتعلق بالآخرة وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130] فجاءت المؤكدات في الجملة الثانية أقوى من المؤكدات في الجملة الأولى، في الجملة الأولى دخول اللام وَلَقَدِ والجملة الثانية لأنها تتعلق بالآخرة جاء بمؤكدين لذلك، فهو يتحدث عن أمر غائب في الآخرة، فيحتاج إلى مزيد من التوكيد، بخلاف حال الاصطفاء، فإنها متوارثة معلومة، يتوارثها الأجيال، ويعلمونها، وليست تخفى.

ولذلك ذكرنا في بعض المناسبات أن الطوائف تنازعت إبراهيم فاليهود يدعون أنه منهم، والنصارى يدعون أنه منهم، والمسلمون يقولون: إنهم ينتسبون إليه أيضًا، فالله -تبارك وتعالى- فَصَلَ بين هذه الطوائف فقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [سورة آل عمران:67] وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] سبب هذا الاختيار والاصطفاء هو مُسارعته بالاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- دون تردد إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] أخلص نفسك منقادًا لله واستسلم بقلبك ولسانك وجوارحك، فكان منه الاستجابة أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] إخلاصًا وتوحيدًا ومحبة وإنابة.

تأمّل قوله -تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] هذا فيه التفات، وقلنا: الالتفات يعني التحول في الخطاب من غائب إلى مخاطب، أو العكس، أو من المفرد إلى الجمع، أو التثنية، أو العكس، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ [سورة البقرة:130] هذا للمُتكلم المُعظم نفسه، يعني: نحن فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة:130] ثم جاء بالغائب إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [سورة البقرة:131] ولم يقل: إذ قلنا له أسلم، وإنما قال: اصْطَفَيْنَاهُ ثم قال: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] فالتفت من التكلم إلى الغيبة، وأضاف إبراهيم إلى الرب إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [سورة البقرة:131] فهذا كله يدل على تشريف إبراهيم وعناية ربه -تبارك وتعالى- بتربيته وتكميله.

وتأمّل أيضًا قوله -تبارك وتعالى- عن قِيل إبراهيم : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] فهذا في غاية المناسبة، مع ما أُمر به (أسلم) قال: (أسلمت) وذكر الربوبية هنا لرب العالمين، كأنه تعليل، فإن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت الذي أوجده، فينبغي أن يكون الإسلام له دون ما سواه، أن يُسلم لمن أوجده وخلقه وزرقه وأعطاه، فهذا الذي ينبغي أن تُسلم له القلوب والوجوه والجوارح، ولا تُسلم لغيره. 

  1.  الرد على المنطقيين (ص: 394).