الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَٰهِۦمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] أي: أمره الله بالإخلاص له، والاستسلام، والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعًا، وقدرًا.
وقوله: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] أي: وصى بهذه الملة، وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة، وهي قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:131] لحرصهم عليها، ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة.
قوله تعالى: وَوَصَّى بِهَا [سورة البقرة:132] سواء، وصاهم بهذه الكلمة فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132]، أو وصاهم بهذه الملة - ملة إبراهيم - فإنها هي الإسلام، فهذا مما تجتمع فيه الأقوال أيضاً، ولا منافاة.
 حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف:28]، وقد قرأ بعض السلف "ويعقوبَ" بالنصب عطفًا على بنيه كأن إبراهيم وصى بنيه، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق، وكان حاضرًا ذلك.قوله: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] إذا كانت بنصب الباء من يعقوب يكون المعنى: وصى إبراهيم بنيه، ومن جملة أبنائه ﷺ حفيده يعقوب - عليه الصلاة، والسلام -، ويمكن أن يكون خصه بالذكر على هذه القراءة، باعتبار أنه أبٌُ للأسباط الذين تفرعت منهم قبائل بني إسرائيل، ولذلك نسبوا إليه فقيل لهم: بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - .
والقراءة المشهورة وَيَعْقُوبُ، - بالضم -، والمعنى أن يعقوب أيضاً، وصى بهذه الوصية بنيه، فيكون يعقوبُ على القراءة المشهورة فاعلاً.
والظاهر، - والله أعلم -، أن إسحاق ولِد له يعقوب في حياة الخليل، وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71]، وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27] الآية، وقال في الآية الأخرى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ، وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [سورة الأنبياء:72]، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد، وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة الحديث[1].
معنى ذلك غالباً أنه كان في حياة إبراهيم ﷺ، وبناءً عليه يكون وجه الإعراب في القراءة السابقة فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71] إذا كانت بنزع الخافض ومن وراء إسحاق بيعقوب، فالخافض هو حرف الجر - الباء - فنزع، وصار ومن وراء إسحاقَ يعقوبَ.
وأيضًا فإن، وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.قوله: وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين: هذا يفسره قوله - تبارك، وتعالى -: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] مع قوله: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي [سورة البقرة:133] فالقرآن يفسر بالقرآن، فيكون يعقوب ﷺ قطعاً قد أوصى بنيه بهذه الوصية.
ومعلوم أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فقوله - تبارك، وتعالى -: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] يعني أنه - على قراءة الضم - قد وصى قطعاً فهو فاعل، ويدل على هذا الآية الأخرى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ... [سورة البقرة:133] كما سيأتي، فتكون الوصية صادرة من إبراهيم، ويعقوب جميعاً.
وتدل قراءة النصب (ويعقوبَ) على أن إبراهيم ﷺ أوصى، ومن جملة من أوصاهم يعقوب - عليه الصلاة، والسلام -، ومعلوم أن القراءتين إذا كان لكل واحد منهما معنى يخصها فإنهما بمعنى الآيتين، فيكون ذلك من باب زيادة الوصف، أو زيادة الحكم إذا كان ذلك يعود إلى موصوف واحد.
والخلاصة: هي أن يعقوب ﷺ هنا موصى، وكذلك هو موصٍ، فكل ذلك حصل، وليس في هذا إشكال، ولا غرابة، - والله تعالى أعلم-.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وقوله: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ، وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير، وُفّق له، ويسر عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه.فهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية هو جواب لسؤال مقدر؛ إذ أن إبراهيم في هذه الوصية يقول موصياً أبناءه: فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فلقائل أن يقول: وهل يملك الإنسان أن يحدد الأمر الذي يموت عليه مع أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وهل المقصود أن يموت الإنسان على الإسلام فحسب، أم أن المقصود أن يسلك سبيل الله وصراطه المستقيم، وأن يلزمه إلى الممات؟
قال ابن كثير جواباً لهذا: المراد بقوله: فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] أي أحسنوا، واستقيموا، وسيروا سيراً صحيحاً لا معوجاً حتى يختم لكم بخاتمة طيبة صالحة، وهي الموت على الإسلام، فالإنسان يموت عادة على ما كان عليه.
وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه، وبينها إلا بَاعٌ، أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه، وبينها إلا باع، أو ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها [2].يعني أن ذلك فيما يبدو للناس كما جاء في بعض الروايات كما في حديث الرجل الذي جاهد مع رسول الله ﷺ فأصيب بجراحة شديدة، وقد أثنى عليه من أثنى عليه من الناس، وأنه لم يبلِ أحد بلاء كبلائه، فقال النبي ﷺ : إنه من أهل النار حتى تبعه رجل فنظر فلما أصيب بتلك الجراحة كأنه استعجل الموت، أو جزع فوضع ذباب السيف بين ثدييه ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه[3].
فمثل هؤلاء لم يكن عملهم على استقامة، وإن كان فيما يبدو أنههم على استقامة، وذلك أنه حينما يخبر الرجل عند موته أنه كان يقاتل حمية لقومه فإن هذا ليس من العمل الصالح.
ومن أعظم ما يكون سبباً لخذلان العبد في الوقت الذي يكون أحوج ما يكون إلى ألطاف الله أن يكون له خبيئة سيئة من نية، أو قصد سيء، أو عمل سيء لا يطلع عليه الناس، وما إلى ذلك مما يريدونه من العلو في الأرض، أو يكون العمل فيه نوع نفاق، أو عمل يكرهه الله ، ويمقت أهله، فهو يعمله في الخفاء، ويدوام عليه حتى الممات، فكل ذلك قد يكون ذلك سبباً لخذلان العبد عند الموت فيختم له بخاتمة السوء، وإلا فإن الله بالناس لرؤوف رحيم، وهو الذي يقول - جل، وعلا -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى، وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [سورة محمد:17]، ويقول سبحانه: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143]، ويقول - تبارك، وتعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43] فهو ينقلهم من هداية إلى هداية، ويثبتهم على الحق كما قال سبحانه: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [سورة إبراهيم:27]، ومن هذا التثبيت أن يثبتهم عند الموت، وإنما العبد هو الذي يجني على نفسه، هو الذي يسيء إليها فيخذل بسبب عمله السيء.
لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس[4]، وقد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى، وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ ۝ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {سورة الليل:5 - 10].
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب يَزِفُّونَ [سورة الصافات:94] النسلان في المشي (3186) (ج 3/ ص 1231)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة (520) (ج 1 / ص 370).
  2. أخرجه البخاري بهذا اللفظ في كتاب القدر - باب في القدر (6221) (ج 6 / ص 2433).
  3. البخاري في كتاب المغازي - باب غزوة خيبر (3966) (ج 4 / ص 1539)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (112) (ج 1 / ص 106).
  4. سبق تخريجه آنفاً.

مرات الإستماع: 0

"وَأَوْصَى بِهَا أي: بالكلمة، والملة".

هذه قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: وَوَصَّى بِهَا والمعنى واحد، إلا أن (وصّى) تدل على التكثير؛ لأن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى.

وَوَصَّى و (وأوصى) أي بالكلمة، والملة، والكلمة هي قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 131 - 132] وبعضهم يقول: الضمير يعود على الملة المتقدمة في قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا [البقرة: 130 - 131] ووصى بها، أي الملة، وهي: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

ويمكن أن يرجح أنها الكلمة، وهي أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ باعتبار أنها أقرب مذكور، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهذا الذي اختاره صاحب البحر[1] أعني أبا حيان، باعتبار أنه مصرح به، بخلاف الكلمة.

إضافة إلى أن الملة أجمع من عبارة من قال: الكلمة.

والقولان بينهما ملازمة، لكن الكلام في الضمير هنا، إلى ماذا يرجع من جهة اللفظ؟ فيحتمل أن يرجع إلى قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ويحتمل أن المقصود الملة المذكورة قبل ذلك، ووصيته إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فهذا يصدق على قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا ويصدق على الملة، فإن قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فهذا هو الملة التي اختارها لهم.

"وَيَعْقُوبُ بالرفع عطف على إِبْرَاهِيمُ فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفًا على بَنِيهِ فهو موصى".

يعني القراءة بالنصب شاذة، والقراءة المتواترة وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ إبراهيم موصي بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يعني يعقوب أيضًا، وصّى أبناءه، ويدل عليه قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ الآية، فهذه، وصية إبراهيم  ووصية يعقوب فكلهم أوصى بنيه بهذا.

أما أن يعقوب موصى (ووصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوبَ) يعني، وصى يعقوب أيضًا مع أبنائه، وهو حفيده، فهذه القراءة شاذة، لكن هذا المعنى يدخل في جملة قوله: بَنِيهِ فهو من أبنائه، فابن الابن ابن وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ لكن القراءة سنة متبعة، فهذه هي القراءة المتواترة وَيَعْقُوبُ أي وصى يعقوب بنيه، لكن من جهة المعنى فإن يعقوب داخل في جملة أبناء إبراهيم، الذين أوصاهم بلزوم هذه الملة، وهي الإسلام، وكذلك يعقوب أوصى بنيه - والله أعلم -.

  1. البحر المحيط في التفسير (1/636).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله : وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] حثَّ إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام- أبناءهما على الامتثال والثبات على الإسلام قائلين: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة:132] اختار لكم هذا الدين دين الإسلام، وهو الذي كان عليه جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] لا تفارقوا هذا الدين، ولا تتخلوا عنه بأي حال من الأحوال إلى الممات.

ويُؤخذ من هذه الآية: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] توصية إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام- أبناءهما بلزوم الدين الذي اصطفاه الله لعباده، هذا أعظم ما يوصى به؛ ولذلك نجد في وصايا السلف وفي وصايا العلماء من بعدهم حينما يكتبون الوصايا فإنهم يوصون أبناءهم بأن يثبتوا على الإسلام، وأن يتمسكوا بشرائعه وأن يلزموا سنة رسوله ﷺ فكل ذلك مما يُقدم في الوصية؛ وذلك أنه أهم المُهمات، وأعظم المطالب قبل أن يُذكر ما يحتاج إلى الوصية به من أمور مالية دنيوية، وغير ذلك، ونجد في مثل هذه الآية التي تضمنت هذه الوصية جملة من المؤكدات التي تدل على شدة أهمية هذا المضمون الذي تضمنته هذه الوصية.

فعُبر بالماضي وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] وذلك لأنه أمر مُتحقق، أو قد تحقق وقوعه، وكذلك أيضًا لفظ الوصية يدل على أمر مؤكد يُحث على فعله، أو نهي يُحث على اجتنابه، ونحو ذلك ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [سورة الأنعام:151] فهذه الوصايا تدل على أن ما تضمنته أمر مؤكد يحُث عليه الموصي؛ ولذلك يُعبر بها في كلام الناس، وكذلك تخصيص الأبناء بهذا وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] لأن هذا هو أهم المطالب، فأولى ما توجه العناية إليه هو هذه القضايا: الإيمان والتوحيد، وإذا كان الإنسان مؤمن بأهمية هذه الأمور والقضايا فينبغي أن يكون أول من يوجه ذلك إليه هم أقرب الناس إليه، ومن الخطأ أن يولي الإنسان اهتمامه وبذله ونُصحه للأبعدين، ويكون أقرب الناس إليه لا ينتفعون به، بسبب تقصيره، وإعراضه عنهم، وانشغاله بغيرهم، فهذا خطأ، قد يزهد فيه أقرب الناس إليه، وهذا أمر لا يُنكر، فإن أزهد الناس بالعالم هم أهله وجيرانه، وهذا على مر الدهور، ولكن عليه أن يبذل جهده؛ ولذلك في الغالب للأسف وليس دائمًا أنك تجد أقل الناس انتفاعًا بالعالم هم أقرب الناس إليه، لكن هذا أيضًا لا يُعفيه من بذل النصيحة والجهد، فهؤلاء الأنبياء الكبار -عليهم الصلاة والسلام- يوصون أبناءهم بمثل هذا.

وكذلك أيضًا لاحظ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] يعني: وصّى يعقوب بنيه، فبنيه أُضيف إلى المعرفة (الهاء) وذلك يُفيد العموم، يعني: جميع الأبناء، لم يوص بعضهم، ولم يوص الأقرب منهم مثلاً، أو الأقرب إليه، أو الأصلح في نظره، وإنما عمّم هذه الوصية.

ويُؤخذ من وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة:132] أنها وصية مطلقة غير مُقيدة بوقت من الأوقات، أو بحال من الأحوال، أو بموضع من المواضع، لزوم الدين في السراء والضراء، ولزوم شرائع الإسلام في السفر والحضر، وفي أوقات الغربة، وظهور أعلام النبوة وأنوارها، فهذا يكون في كل شأن، وحيث كان ذلك يوافق ما في نفس الإنسان، أو كان مما يثقل عليه، فهذا لا بد من لزومه واتباع ما شرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده.

وفي قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] النهي عن الموت على غير الإسلام، فهذا يدل على شدة أهمية هذا الأمر الذي ينبغي أن تُختم به حياة الإنسان، كما يعيش عليه المرء.

فيُؤخذ من هذه الآية أيضًا اللطف والرفق بمن يُخاطبهم الإنسان من أولاده، ومن يوصيهم وينصحهم، أو من يعظهم أو يذكرهم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة:132] خاطبهم بهذه اللفظة التي تجذب أرواحهم، وتسترعي انتباههم يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] وإبراهيم حينما خاطب أباه كان يقول: يا أبتي، وبأرق العبارات يخاطبه، ومن الناس من إذا خاطب ولده فإنه ربما يُخاطبه بعبارات جارحة وقاسية، وربما نصحه ويصفه ويُسميه في هذه النصيحة، ويقول له: اسمع يا كذا، واسمع يا كذا، مما يُنفره من هذه النصيحة، ويُنفره من الناصح، ويُكره إليه ذلك كله، فلا تحصل الاستجابة، وإنما يقول: يا بُني، كما جاء في وصية لقمان -رحمه الله- لابنه وهو يعظه، فكان يُكرر عليه هذه العبارة، يا بُني، يا بُني، وإذا كانوا جمعًا يقول يا بني، أو يا أبنائي، فالناس يحتاجون إلى شيء من هذا اللطف؛ لأن المقصود هو الاستجابة، فإذا كان ذلك هو المطلوب فينبغي أن يُسلك له أقرب طريق يوصل إليه، أما أن يُنشق الإنسان الخردل، ويُصك بالجندل، ثم بعد ذلك يُقال له: استجب، فهذا لا يكون.

فقد يكون من الناس من يحتاج إلى شيء من التعنيف أو القسوة إذا اقتضى المقام ذلك، ولكن هذا خلاف الأصل، فالأصل في النصيحة أن تكون بالحُسنى، وأن تكون الدعوة بالحُسنى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا [سورة طه: 44] فليس بعد هذا شيء، ففرعون أعتى الخلق، ويُطالب موسى وهارون -عليهما السلام- بمخاطبته باللين والرفق، فلا داعي لاستعمال العبارات الموحشة في المخاطبات الدعوية، وفي النُصح والتعليم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، سواء كان ذلك مقولاً يُشافه به المنصوح، أو كان ذلك مكتوبًا، يبعثه إليه، أو ينشره على الملأ، فاستخدام العبارات اللطيفة أدعى إلى القبول، وانظروا إلى كلام أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره، يُقدم بين يدي نصائحه لقوم من الصوفية التصوف الشركي القبوري، ويُقدم بين يدي هذه النصائح كلامًا يُثني على هذا المنصوح بأشياء هي فيه: من الزهد، وما جعل الله له من القبول بين أتباعه، وما إلى ذلك من كلام يستميله به، فمثل هذا ينبغي أن يضع الإنسان الهدف أمامه ماذا يريد أن يصل إليه في مخاطباته ودعوته وكلامه وظهوره الإعلامي بقناة، أو غير ذلك، يرد أو يُناقش أو يحاور أو يخاطب الجمهور أو غير ذلك، فيحتاج أنه يُحدد المراد والهدف، فيكون هذا الخطاب بناء على ذلك.

والناس يُكثرون من الكلام في هذه السنوات من الخطاب الدعوي، وتغيير الخطاب، وما أشبه ذلك، وهذا كلام فيه إجمال، وقد يقصد به بعضهم أمورًا غير صحيحة، لكن ما دل عليه القرآن، وما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ لا شك أنه مطلوب.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] اصطفى لكم الدين، واختاره لكم من بين سائر الأديان، ودخول اللام هنا تدل على أن ذلك مصلحة لهؤلاء العبادة، وأنه نعمة قد أصبغها الله -تبارك وتعالى- عليهم، فهو لهم وليس عليهم، فهو ليس بعبء وتكليف ثقيل يُرهق كواهلهم، وإنما هو شيء يتشرفون به، فيكون حِلية يحصل به كمال الإنسانية، ويحصل به كمال المروءات، وتقوم به ضروراتهم، وتتحقق مصالحهم الكُبرى، وكذلك ما يتبعها من الحاجيات والتحسينيات، فتتحقق مصالح الدنيا والدين، وتكون حياتهم على استقامة، وعلى حال من الكمال والتمام، مما يليق بهذا المخلوق الذي خلقه الله في أحسن تقويم.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى-: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فلاحظ هل يملك الإنسان خاتمته؟ ونحن نسمع في بعض العبارات وبعض التغريدات، وربما يتداولها بعض الناس ويُعجبون بها، يقول: أنت الذي تستطيع تحديد خاتمتك، هذا الكلام غير صحيح، فالإنسان لا يملك خاتمته، ولا يستطيع أن يُحدد، فو الله إن أحدكم - أو: الرجل - يعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب يعني: القدر فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[1].

فالإنسان لا يستطيع أن يُحدد الخاتمة، ويسأل ربه دائمًا أن يختم له بخير، وأن يُحسن خاتمته وعاقبته، ونحو ذلك، لكن يموت الإنسان عادة على ما عاش عليه، فيكون ذلك من باب بذل الأسباب، أن يجتهد الإنسان في أن يستقيم على أمر الله وطاعته، فيكون ذلك سببًا لحُسن خاتمته، فالنهي هنا توجه فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] إلى أمر لا يملكه المُكلف، وخطاب الشارع إذا توجه إلى المُكلف في أمر لا يدخل تحت طوقه وطاقته، والله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، فإنه يتجه -هذه القاعدة- إما إلى سببه، أو إلى أثره، ففي هذا المثال: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] يتجه الخطاب إلى السبب، بأن يلزم الإسلام في حياته، ويستقيم على شرع الله  فيكون ذلك سببًا لحُسن خاتمته، أما توجهه إلى أثره، فكما قال الله في سورة النور: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور:2] إقامة الحد في شرعه، وذلك في إقامة الحد على الزُناة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النور:2] فهنا الرأفة تتسلل إلى القلب من غير إرادة، فالرأفة أرق الرحمة، فقد يرحم هذا المحدود والمجلود الذي أوقف أمام الخلق يتفرجون إليه في السوق، أو بعد صلاة الجمعة، فهل يُؤاخذ الإنسان بهذا؟

الجواب: لا؛ لأن ذلك لا يملكه، فيتوجه الخطاب هنا إلى الأثر، ألا يُلغى الحد، ولا يُقلل العدد، ولا يُخفف يعني في الصفة، فيُضرب ضربًا خفيفًا، تحلة القسم، يقولون: مسكين هذا ضعيف، هذا يكفيه هذا، انظروا إلى جزعه وحُزنه وخوفه واضطرابه، يُقال: لا وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فتوجه الخطاب هنا إلى الأثر، لكن هذه الرحمة التي تقع في القلب لا يُؤاخذ الإنسان عليها.

فهنا نهي عن الموت على غير دين الإسلام، وأيضًا التوكيد لمعنى النهي بنون التوكيد المُشددة فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132] فيحتاج الإنسان دائمًا إلى لزوم أمر الله وطاعته، مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه يبدر منه، ويقع التقصير دائمًا والمعصية والخلل، ويُجدد التوبة، فيكون ذلك محوًا لخطاياه وسيئاته وتقصيره، فإذا كان عند الوفاة يكون خفيف الحمل، والظهر، فيُرجى له أن يموت على خير، وأن يموت على الإسلام.

من مات على خير -أيها الأحبة- على السنة غير مفتون، فذلك الذي يُغبط، لا سيما في أوقات الفتن، مثل هذه الأوقات، لكن كما ترون الفتن خطافة: فتن الشهوات، والشبهات، والأعمال بالخواتيم فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:132]. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب في القدر برقم: (6594).