الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِى قَالُوا۟ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ۝ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:[133 - 135].
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ...
قوله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء: "أم" في الآية يُحتمل أن تكون منقطعة بمعنى "بل"، ويُحتمل أن تكون متصلة بما قبلها، والمقصود أن الله ينكر عليهم هذه الدعاوى الباطلة، والكذب على الله ، وعلى أنبيائه كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب - عليهم الصلاة، والسلام - من أنهم كانوا يهوداً، أو نصارى، فهو يكذبهم بذلك، ويذكر أقاويل هؤلاء الأنبياء، ويبين حالهم، وأنهم كانوا على الإسلام، ولم يكونوا يهوداً، ولا نصارى.
ونجد في كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل، نجد أنه عمَّمها في أهل الكتاب، والمشركين، وأما ابن جرير - رحمه الله - فهو على عادته في هذه الآيات من أولها - من ذكر خلق آدم ﷺ إلى هذه الآيات جميعاً - يرى أن الخطاب متوجه إلى اليهود، والنصارى، ومنها ما يتعلق باليهود، ومنها ما يتعلق بالنصارى، فهو يرى أن هذه الآية رد على النصارى الذين ادعوا أن إبراهيم ﷺ، أو يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - كان يهودياً، فهو لا يزال يرد عليهم هذه الدعوة الكاذبة، وعلى كل حال فالسياق كله في بني إسرائيل.
بأن يعقوب لما حضرته الوفاة، وصى بنيه بعبادة الله، وحده لا شريك له، فقال لهم: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة البقرة:133]، وهذا من باب التغليب؛ لأن إسماعيل عمُّه.قوله: وهذا من باب التغليب: أي أنه عدَّد الآباء الذين تناسل منهم، والعمُّ ليس من نسله، بمعنى أن إسماعيل ﷺ ليس جداً ليعقوب ﷺ فذكره من جملة آبائه.
قال ابن كثير: وهذا من باب التغليب: وهذا الذي ذكره، وجه وهو أنه عدَّد الآباء، وذكر معهم العمَّ من باب التغليب، فإذا كان الجم الغفير الأكثر يصدق عليهم الوصف فإن ذلك لا يؤثر إذا دخل فيهم من ليس متصفاً بذلك، إذا قيل: إن هذا من باب التغليب.
والوجه الآخر في الجواب - وربما كان هو الأحسن - أن العم يقال له: أب، فهو يوصف بذلك، وهذه الآية تشهد لهذا حيث قال يعقوب لبنيه: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة البقرة:133] فهم ذكروا عمهم إسماعيل ﷺ فهو أب له.
ومن المعلوم أن جماعة من المفسرين يقولون في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [سورة الأنعام:74] إن المقصود بأبيه في الآية هو عمه، وليس بأبيه الذي هو من صلبه، وهذا الكلام مردود، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في سورة الأنعام، وإن كان مما احتجوا به لهذا القول أنهم قالوا: إن عادة العرب أنهم إذا ذكروا الأب لا يذكرون معه اسمه، فإن أرادوا به العم، أو غيره ممن لم يتناسل منه فإن المراد بذلك يكون غير الأب الذي كان له به ارتباط، ولادة، بمعنى أنه لو كان آزر أباً لإبراهيم لقال: إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت كذا، وكذا، وعلى كل حال هذا كلام مردود فهو ضعيف، وليس صحيحاً.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبًا، وحجب به الأُخوة، كما هو قول الصديق حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس، وابن الزبير .قوله: من جعل الجد أبًا، وحجب به الأُخوة: هذه المسألة في الفرائض، وذلك في حال عدم، وجود الأب، وإلا فإن الأب يحجب الجد قطعاً بلا إشكال.
وأصل المسألة أنه في حال عدم وجود الأب الذي يحجب الأخوة حيث يرث السدس، والباقي تعصيباً، فهل الجد ينـزل منزلة الأب في ذلك فيرث السدس، والباقي تعصيباً - بمعنى أن الجد يقوم مقامه - أم أنه يرث مع الأخوة فلا يكون حاجباً لهم؟ هذه مسألة معروفة مختلف فيها منذ عهد أصحاب النبي ﷺ.
ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين - ا -، وبه يقول الحسن البصري، وطاووس، وعطاء.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: إنه يقاسم الإخوة؛ وحكي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - أجمعين -، وجماعة من السلف، والخلف.
مسائل الفرائض الخلافية قليلة معدودة، ومن أشهرها مسألة الجد، والأخوة.
وقوله: إِلَهًا وَاحِدًا أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئا غيره، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا، وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83].يعني أنهم لا ينازعون الله في أحكامه الشرعية، ولا القدرية، فهم منقادون لأحكام الله  مستسلمون لأقداره، ومستسلمون لشرائعه، وأحكامه، ودينه، وهذه هي حقيقة الإسلام، فهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وأهله.
والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمنها قوله ﷺ: نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا، واحد[1].يعني أن الذين أشركوا بالله ، وادعوا له الولد من اليهود، والنصارى هؤلاء ليسوا على دين أحد من الأنبياء، وإنما هم ضلال على الكفر، والشرك، وهم حطب جهنم، ومن شك في ذلك فهو معهم، وفي حكمهم، ولا يجوز لأحد أن يدعي أن هؤلاء على الإيمان، وأنه لا يكفرهم، وأنهم لا يستحقون هذه الأوصاف، بل هم مستحقون لها، وأهلها، وهم فداء لأهل الإسلام، وفكاك لهم من النار؛ كما قال النبي ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار[2]
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270)، ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837)، إلا أن لفظهما: الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى، ودينهم، واحد
  2. أخرجه مسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2767) (ج 4 / ص 2119).

مرات الإستماع: 0

"أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام، والإنكار".

(أم) هنا منقطعة، بمعنى (بل، والهمزة)، وبعضهم يقول: متصلة.

يقول: معناها الاستفهام أَمْ كُنْتُمْ والإنكار، وابن جرير - رحمه الله - حمل الخطاب على اليهود، والنصارى[1] أن هذا على سبيل الرد عليهم، والإنكار.

والحافظ ابن كثير حمله على المشركين من العرب، والكفار من بني إسرائيل[2]؛ لأن الكل يدعي أنه على ملة إبراهيم فالعرب كانوا يقولون ذلك، واليهود، والنصارى كل طائفة تدعي أن إبراهيم منها، فيقول لهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ فهو يوصي أبناءه بالإسلام مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي لكن هنا بالنسبة للعرب لو كان في إبراهيم لكان له وجه، لكن المراد هنا يعقوب فتوجيه هذا إلى بني إسرائيل - الكفار منهم - هو الأقرب، كما قال ابن جرير - والله أعلم -.

"وَإِسْمَاعِيلَ كان عمه، والعم يسمى أبًا".

"والعم يسمى أبًا" هذا موجود إلى الآن، فهنا: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فيعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسماعيل عمه، فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ وذكر إسماعيل في جملة الآباء، وهو عم، فدل على أن العم بمنزلة الأب. 

"وَقالُوا كُونُوا أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى".

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى فـ(أو) هذه ليست للتخيير؛ لأن اليهود لا يقولون: إن النصارى على حق، والنصارى لا يقولون: إن اليهود على حق، فليست للتخيير، وإنما هي للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هودًا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى.

"بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل".

إضمار فعل، يعني: بل نتبع ملة، أو بل اتبعوا ملة، يعني الذي عمل فيه النصب، فعل مقدر محذوف اتبعوا ملة، أو بل اتبعوا ملة، أو الزموا ملة، أو على نزع الخافض، والتقدير: نقتدي، أو اقتدوا بملة إبراهيم، ولما حذف حرف الجر صار منصوبًا. 

  1. تفسير الطبري (3/97).
  2. تفسير ابن كثير (1/447).

مرات الإستماع: 0

قال الله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133].

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ أكنتم حاضرين حين جاء الموت يعقوب فجمع بنيه، وسألهم: ما تعبدون من بعد موتي، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك، وذكروا هؤلاء الآباء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا، ونحن له مسلمون، ومنقادون وخاضعون.

فهذه الآية -أيها الأحبة- يُؤخذ منها أهمية التوحيد والإيمان، وأنه أعظم المطالب، فهذا يعقوب في حال النزع والاحتضار إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ففي هذه الحالة حينما يتحدث المُحتضر، ويوصي ويجمع بنيه، وقد ترك الدنيا وراء ظهره، وفارق اللذات، وبقي في حال لا يصلح معها إلا الصدق الكامل، فهنا يوصي يعقوب في هذه اللحظات الحاسمة بنيه بهذا الأصل الكبير مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي لا يوصيهم بالتجارة الفلانية، والأموال فثمروها، والزروع فنموها وتعاهدوها، والضروع والدواب والمواشي والإبل فارعوها، إنما يقول لهم: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي رباهم على هذا مدة الحياة، وعند الموت يريد أن يطمئن ليُفارق الدنيا وهو على حال من الاطمئنان، وأن هؤلاء الأبناء قد لزموا هذا الدين والحق، وأنهم لا يفارقونه من بعده، فلا يبدلون ولا يُغيرون، فقضية الإيمان والتوحيد هي الأصل الكبير الذي تُبنى عليه السعادة في الدنيا والآخرة، وكل شيء يذهب، فالأموال تذهب وتجيء، وقد يُخفق الإنسان في دراسة، أو في عمل، وقد يمرض مرضًا عُضالاً، ولكن المُهم أن يسلم له دينه وإيمانه، وكل شيء بعد هذا فهو يسير وسهل، فالحياة قصيرة، ومتاعها قليل، وذهاب ذلك لا شيء، لكن إذا ذهب الدين، وحصل الانتكاسة والانحراف، فهنا يحصل الضياع والبؤس في الدنيا والآخرة.

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فهذا هو الشغل الشاغل لهؤلاء الأنبياء الكِبار -عليهم الصلاة والسلام- وهذا يدلنا على المهمات التي ينبغي أن نُربي أولادنا عليها، وأن نغرسها في نفوسهم، وأن نتعاهدها حينًا بعد حين إلى أن نُفارق الحياة، وليست القضية أن يتوظف الولد، أو يتخرج، أو أن نُمنيه ونُرجيه بالرُتب والأموال، ثم ماذا إذا كان مُضيعًا لهذا الإيمان والأصل الكبير؟ فلا ينفعه منصبه ولا ماله إذا كان قد ضيع أهم المهمات، وأعظم المطالب.

ثم لاحظوا هذا النفس في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والأنبياء قضوا حياتهم في الدعوة إلى الله  قضوا أعمارًا مديدة بلا كلل ولا ملل ولا توقف ولا يأس، فنوح بقي يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، والله أعلم كم بقي بعد الطوفان، مدة طويلة في الدعوة، وهذا يعقوب إلى لحظات الاحتضار، وهو في حال من مُلاحقة هذا الهم، ومُتابعة الدعوة، وتعاهد الأبناء، والغرس الذي غرسه، فالدعوة لا تتوقف، وهي من أفضل وأجل الأعمال التي يعملها الإنسان، وتبقى آثارها بعد موته، فإن الله -تبارك وتعالى- إذا هدى به أحدًا من الناس، فيكون له مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة، وأولى من يُقدم له ذلك ويُبذل هم هؤلاء الأولاد؛ ولذلك لا تحقرن من المعروف شيئًا[1] فتعليم الولد الفاتحة يقرأها في كل ركعة يكون لك أجرها ما قُرأت من علم آية من كتاب الله فله أجرها ما تُليت[2] والأم حينما تُعلم صغيرها أو صغيرتها والأب حينما يقضي وقتًا معه في ذلك، وله فيه نية صالحة، فهذا يبقى معه، وهذه الأذكار التي يُرددها كل يوم صباح مساء؛ ليكن لك الظفر بأن تكون أنت المُعلم الأول له فيما يُردده في يومه وليلته، فيأتيك من الأجر والثواب ولا تزهد في هذا، وتكله إلى غيرك، فهذا يعقوب إلى آخر اللحظات وهو يدعو ويُبلغ.

ويُؤخذ من هذه الآية: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ مشروعية الوصية عند حضور الأجل، لكن على أن يكون ذلك في حال يكون فيها المُحتضر يعي ما يقول، يعني: لم يذهب عقله أو يختلط، إن كان عنده ما يوصي به، فيجب عليه أن يكتب وصيته، وإن لم يكن عنده ما يوصي به، فلا يجب عليه ذلك، لكن يمكن أن يوصي أولاده بلزوم الإيمان، وطاعة الرحمن.

وأيضًا لاحظوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إبراهيم من آبائه، وإسحاق من آبائه، أما إسماعيل فهو عمه، فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسماعيل هو أخ لإسحاق، فإبراهيم له إسماعيل وإسحاق، ويعقوب هو ابن إسحاق، ولكنه عده في جملة آبائه قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ العم وَإِسْحَاقَ فذكره في جملة الآباء، فدل على أن العم يُقال له: أب، فإذا قال الرجل لعمه: يا أبتي؛ وذلك أن عم الرجل صنو أبيه، كما أن الخالة بمنزلة الأم.

وكذلك أيضًا في قولهم في هذا الجواب: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [سورة البقرة:133] ذكروا أسماء هؤلاء الآباء على الترتيب، فإبراهيم هو الجد، وإسماعيل هو الابن الأكبر لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك إسحاق، وبينهما ثلاثة عشرة سنة، فجاء بهذا الترتيب، وفي القرآن من هذا كثير، ويوجد أيضًا على خلاف ذلك بحسب السياق والغرض البلاغي.

ويلاحظ هنا قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:133]... إلى آخره، فلم يقولوا: نعبد إلهك وإله آبائك؛ لأن من آباء يعقوب من لم يكن على دين الإسلام وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [سورة الأنعام:74] فآزر هو أبو لإبراهيم وكان يعبد الأصنام، فهنا احترسوا فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [سورة البقرة:133] فما أطلقوا، وإنما حددوا هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الجملة: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [سورة البقرة:133] أنهم عددوا هؤلاء بأسمائهم، يعني: لو أنهم قالوا: نعبد الله لفُهم المراد، ولكن تعداد ذكر هؤلاء الأنبياء بأسمائهم فيه مزيد من التأكيد والإيضاح والبيان، ففي هذا ذكر هؤلاء الآباء الكبار الذين قد بلغوا في الشرف غاية، فيقولون: نحن على سننهم، ونحن بهم مقتدون، وعلى هداهم سائرون، لا نُبدل ولا نُغير، فلنا بهم الأسوة الكاملة، فهذا الإله الذي نعبده، حينما سألتنا ما تعبدون من بعدي، لم يقولوا: نعبد الله، ثم بعد ذلك يحصل لهم تردد، أو نحو ذلك، لا، نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ هذا أمر لا يتحول ولا يتبدل ولا يتغير، فقد كان عليه هؤلاء الآباء الكرام، وقد تلقوا عنهم هذا التوحيد والإيمان، وورثوه وفهموه وعلموه وتيقنوه، فالقضية لم تكن طارئة بالنسبة إليهم، وإنما هو دين وتوحيد راسخ، وملة ثابتة؛ وذلك ما كان عليه آبائهم من قبل.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] أنه عبّر بالجملة الاسمية التي تدل على الثبات، وهنا عبروا بالفعل نَعْبُدُ إِلَهَكَ والعبادة مُتجددة؛ لكنهم عبروا في ختم الآية بما يدل على الثبوت واللزوم بالجملة الاسمية: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133].

ثم يُلاحظ أيضًا التوكيد هنا في تقديم الجار والمجرور، ولم يقل ونحن مسلمون له، وإنما قال: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فهذا يفيد الحصر والقصر أنهم يوحدونه -تبارك وتعالى- ولا يعبدون غيره، ولا يلتفتون إلى شيء سواه، فهذا فيه زيادة توكيد تقديم الجار والمجرور وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

  1.  أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء برقم: (2626). 
  2.  أخرجه أبو سهل القطان في حديثه عن شيوخه (4/ 243/ 2) وانظر السلسلة الصحيحة (3/ 323).