يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ...قوله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء: "أم" في الآية يُحتمل أن تكون منقطعة بمعنى "بل"، ويُحتمل أن تكون متصلة بما قبلها، والمقصود أن الله ينكر عليهم هذه الدعاوى الباطلة، والكذب على الله ، وعلى أنبيائه كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب - عليهم الصلاة، والسلام - من أنهم كانوا يهوداً، أو نصارى، فهو يكذبهم بذلك، ويذكر أقاويل هؤلاء الأنبياء، ويبين حالهم، وأنهم كانوا على الإسلام، ولم يكونوا يهوداً، ولا نصارى.
ونجد في كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل، نجد أنه عمَّمها في أهل الكتاب، والمشركين، وأما ابن جرير - رحمه الله - فهو على عادته في هذه الآيات من أولها - من ذكر خلق آدم ﷺ إلى هذه الآيات جميعاً - يرى أن الخطاب متوجه إلى اليهود، والنصارى، ومنها ما يتعلق باليهود، ومنها ما يتعلق بالنصارى، فهو يرى أن هذه الآية رد على النصارى الذين ادعوا أن إبراهيم ﷺ، أو يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - كان يهودياً، فهو لا يزال يرد عليهم هذه الدعوة الكاذبة، وعلى كل حال فالسياق كله في بني إسرائيل.
بأن يعقوب لما حضرته الوفاة، وصى بنيه بعبادة الله، وحده لا شريك له، فقال لهم: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة البقرة:133]، وهذا من باب التغليب؛ لأن إسماعيل عمُّه.قوله: وهذا من باب التغليب: أي أنه عدَّد الآباء الذين تناسل منهم، والعمُّ ليس من نسله، بمعنى أن إسماعيل ﷺ ليس جداً ليعقوب ﷺ فذكره من جملة آبائه.
قال ابن كثير: وهذا من باب التغليب: وهذا الذي ذكره، وجه وهو أنه عدَّد الآباء، وذكر معهم العمَّ من باب التغليب، فإذا كان الجم الغفير الأكثر يصدق عليهم الوصف فإن ذلك لا يؤثر إذا دخل فيهم من ليس متصفاً بذلك، إذا قيل: إن هذا من باب التغليب.
والوجه الآخر في الجواب - وربما كان هو الأحسن - أن العم يقال له: أب، فهو يوصف بذلك، وهذه الآية تشهد لهذا حيث قال يعقوب لبنيه: مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة البقرة:133] فهم ذكروا عمهم إسماعيل ﷺ فهو أب له.
ومن المعلوم أن جماعة من المفسرين يقولون في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [سورة الأنعام:74] إن المقصود بأبيه في الآية هو عمه، وليس بأبيه الذي هو من صلبه، وهذا الكلام مردود، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في سورة الأنعام، وإن كان مما احتجوا به لهذا القول أنهم قالوا: إن عادة العرب أنهم إذا ذكروا الأب لا يذكرون معه اسمه، فإن أرادوا به العم، أو غيره ممن لم يتناسل منه فإن المراد بذلك يكون غير الأب الذي كان له به ارتباط، ولادة، بمعنى أنه لو كان آزر أباً لإبراهيم لقال: إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت كذا، وكذا، وعلى كل حال هذا كلام مردود فهو ضعيف، وليس صحيحاً.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبًا، وحجب به الأُخوة، كما هو قول الصديق حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس، وابن الزبير .قوله: من جعل الجد أبًا، وحجب به الأُخوة: هذه المسألة في الفرائض، وذلك في حال عدم، وجود الأب، وإلا فإن الأب يحجب الجد قطعاً بلا إشكال.
وأصل المسألة أنه في حال عدم وجود الأب الذي يحجب الأخوة حيث يرث السدس، والباقي تعصيباً، فهل الجد ينـزل منزلة الأب في ذلك فيرث السدس، والباقي تعصيباً - بمعنى أن الجد يقوم مقامه - أم أنه يرث مع الأخوة فلا يكون حاجباً لهم؟ هذه مسألة معروفة مختلف فيها منذ عهد أصحاب النبي ﷺ.
ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين - ا -، وبه يقول الحسن البصري، وطاووس، وعطاء.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: إنه يقاسم الإخوة؛ وحكي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - أجمعين -، وجماعة من السلف، والخلف.مسائل الفرائض الخلافية قليلة معدودة، ومن أشهرها مسألة الجد، والأخوة.
وقوله: إِلَهًا وَاحِدًا أي: نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئا غيره، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا، وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة آل عمران:83].يعني أنهم لا ينازعون الله في أحكامه الشرعية، ولا القدرية، فهم منقادون لأحكام الله مستسلمون لأقداره، ومستسلمون لشرائعه، وأحكامه، ودينه، وهذه هي حقيقة الإسلام، فهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وأهله.
والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث، فمنها قوله ﷺ: نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا، واحد[1].يعني أن الذين أشركوا بالله ، وادعوا له الولد من اليهود، والنصارى هؤلاء ليسوا على دين أحد من الأنبياء، وإنما هم ضلال على الكفر، والشرك، وهم حطب جهنم، ومن شك في ذلك فهو معهم، وفي حكمهم، ولا يجوز لأحد أن يدعي أن هؤلاء على الإيمان، وأنه لا يكفرهم، وأنهم لا يستحقون هذه الأوصاف، بل هم مستحقون لها، وأهلها، وهم فداء لأهل الإسلام، وفكاك لهم من النار؛ كما قال النبي ﷺ: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار[2]
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270)، ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837)، إلا أن لفظهما: الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى، ودينهم، واحد
- أخرجه مسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2767) (ج 4 / ص 2119).