الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى:تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي: مضت لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [سورة البقرة:134] أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء، والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها، ولكم أعمالكم: وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134]، ولهذا جاء، في الأثر: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه [1]لما ذكر الله تعالى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب - عليهم الصلاة، والسلام - قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [سورة البقرة:134].
والأمة من معانيها الجماعة، فهؤلاء الأنبياء الذين عدّدهم يقول: إن هؤلاء قد مضوا بأعمالهم، وآمالهم، وأفضوا إلى الله - عز، وجل -، وعنده يلقون جزاءهم، وأما أنتم فليس لكم إلا العمل الصالح الذي يرضي وجهه - تبارك، وتعالى - فتقربوا إليه بالتوحيد، والانقياد، والاستقامة على دينه الذي شرعه، واعلموا أنه لا ينفعكم التكثر بهؤلاء الأنبياء، والدعاوى الباطلة أنهم كانوا على دينكم، فإن كنتم تريدون ما عند الله فكونوا على ما كانوا عليه، أما الدعاوى الفارغة فإنها لا تنفع أصحابها، والمتكثر بالصالحين، والأخيار، وأنه من نسلهم، وأنه على دينهم، ومنهاجهم، وشريعتهم، وهو أبعد ما يكون عنهم، بعقائدهم، وأعمالهم، وأخلاقهم فإن هذا لا يغني عنه من الله شيئاً، وهذا أصل كبير يحتاج الإنسان إلى معرفته، والعمل بمقتضاه، فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس.
يقول تعالى: وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134]، يعني لهم أعمالهم، والله هو الذي يتولى عباده، ويجازيهم على ذلك، فدعوا عنكم هذه المنازعة، والتكثر بهؤلاء، وأنتم تتخبطون، وتتمرغون في أودية الشرك، والضلال.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر (2699) (ج 4 / ص 2074).

مرات الإستماع: 0

"أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام، والإنكار".

(أم) هنا منقطعة، بمعنى (بل، والهمزة)، وبعضهم يقول: متصلة.

يقول: معناها الاستفهام أَمْ كُنْتُمْ والإنكار، وابن جرير - رحمه الله - حمل الخطاب على اليهود، والنصارى[1] أن هذا على سبيل الرد عليهم، والإنكار.

والحافظ ابن كثير حمله على المشركين من العرب، والكفار من بني إسرائيل[2]؛ لأن الكل يدعي أنه على ملة إبراهيم فالعرب كانوا يقولون ذلك، واليهود، والنصارى كل طائفة تدعي أن إبراهيم منها، فيقول لهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ فهو يوصي أبناءه بالإسلام مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي لكن هنا بالنسبة للعرب لو كان في إبراهيم لكان له وجه، لكن المراد هنا يعقوب فتوجيه هذا إلى بني إسرائيل - الكفار منهم - هو الأقرب، كما قال ابن جرير - والله أعلم -.

"وَإِسْمَاعِيلَ كان عمه، والعم يسمى أبًا".

"والعم يسمى أبًا" هذا موجود إلى الآن، فهنا: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فيعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسماعيل عمه، فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ وذكر إسماعيل في جملة الآباء، وهو عم، فدل على أن العم بمنزلة الأب. 

"وَقالُوا كُونُوا أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى".

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى فـ(أو) هذه ليست للتخيير؛ لأن اليهود لا يقولون: إن النصارى على حق، والنصارى لا يقولون: إن اليهود على حق، فليست للتخيير، وإنما هي للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هودًا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى.

"بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل".

إضمار فعل، يعني: بل نتبع ملة، أو بل اتبعوا ملة، يعني الذي عمل فيه النصب، فعل مقدر محذوف اتبعوا ملة، أو بل اتبعوا ملة، أو الزموا ملة، أو على نزع الخافض، والتقدير: نقتدي، أو اقتدوا بملة إبراهيم، ولما حذف حرف الجر صار منصوبًا. 

  1. تفسير الطبري (3/97).
  2. تفسير ابن كثير (1/447).

مرات الإستماع: 0

قال الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر وصية إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام- لذريتهما بلزوم دين الإسلام، وأن الإسلام هو الدين الذي كان عليه هؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134].

تِلْكَ أُمَّةٌ من أسلافكم يرد على هؤلاء من أهل الكتاب قد مضت لهم أعمالهم، ولكم أعمالكم، ولا تسألون عن أعمالهم، كما أنهم لا يسألون عن أعمالكم، فكل سيُجازى بعمله، ولا يُؤاخذ أحد بعمل أحد، ولا ينفع أحدًا إيمان أحد، كما أنه لا يضر أحدًا كفر أحد من الناس.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [سورة البقرة:134] فهذه الآية وإن كانت في سياق الرد على أهل الكتاب بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- سؤال يعقوب لبنيه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:133] قال الله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [سورة البقرة:134].

فيمكن أن يُؤخذ أيضًا من هذه الآية، ويستدل بها على ترك الاشتغال ببعض من مضى، كالنزاع الذي حصل بين أصحاب النبي ﷺ فأهل السنة لا يخوضون فيما جرى بين الصحابة وإنما يُمسكون ألسنتهم، ويقولون: تلك دماء قد عصم الله منها أيدينا، وطهر الله منها أيدينا، فلنُطهر ألسنتا.

يقول إبراهيم بن آزر: حضرت أحمد بن حنبل، وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- فأعرض عنه؛ لأن هذا السؤال مرفوض، فقيل له: يا أبا عبد الله! هو رجل من بني هاشم -يعني هذا السائل- وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يعرف لأهل بيت النبي ﷺ قدرهم، فأقبل عليه، فقال: اقرأ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134] [1] فأجابه بهذا الجواب.

فمثل هذا يمكن أن يُساق في هذا الموطن، ويُقال لمن يشتغل بما جرى بين هؤلاء الأصحاب -رضي الله عنهم وأرضاهم- فإن ذكر ذلك لا يحسن؛ لأنه مهما يكن فإن هذا الإيراد والاشتغال لن يسلم معه القلب واللسان، فتبقى القلوب طاهرة نظيفة؛ ولذلك يُنكر على من يورد ويعرض ما جرى من الوقائع بين الصحابة والحروب بالتفصيل، اللهم إلا ما يُذكر في مقام الدفاع عنهم، والذب عن أعراضهم، وأنهم كانوا على حال من الاجتهاد، وأنهم مأجورون، وأن ذلك لم يكن منهم عن اتباع ما تهوى الأنفس، فحاشاهم من ذلك -رضي الله عنهم وأرضاهم- وكذلك في مقام بيان زيف الروايات الكثيرة المُلفقة في هذا الباب، فيُذكر ذلك لمن يصلح له، أما أن يُذكر للعموم، وتُسجل الفتنة التي جرت بين الصحابة ويُنشر على أوسع نطاق، فإن هذا لا يليق، وقد حصل أن بعض العامة سمع بعض تلك المجالس، فكان رده في غاية السوء، أساء الظن بالصحابة وجعلهم مثل من يقتتلون اليوم، ويتعاركون كما نُشاهد.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية كمال عدل الله  حيث لا يؤاخذ أحدًا بعمل أحد وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:134] فالكل مجزي بعمله. 

  1.  مناقب الإمام أحمد (ص: 221).