الإثنين 02 / جمادى الأولى / 1446 - 04 / نوفمبر 2024
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى ٱللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُخْلِصُونَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ۝ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ  [سورة البقرة:139-141].
يقول الله تعالى مرشداً نبيه - صلوات الله، وسلامه عليه - إلى درء مجادلة المشركين: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ أي: تناظروننا في توحيد الله، والإخلاص له، والانقياد، واتباع أوامره، وترك زواجره.
قوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ : يعني يعلمهم كيف يدرؤون، ويدفعون مجادلة المشركين، والمشركون هنا ينبغي أن يدخل فيهم دخولاً أولياً اليهود، والنصارى، وأخص من يدخل في ذلك اليهود، فالسياق إنما هو فيهم، فلا يتوجه هذا إلى المشركين من العرب مثلاً دون اليهود، والنصارى خاصة، وأن الآيات إنما تتحدث عن اليهود، والنصارى، فهذا من دلالة السياق، ولا شك أنهم داخلون في هذا.
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ: يقول: أي أتناظروننا في توحيد الله، والإخلاص له، والانقياد، واتباع أوامره...
والمحاجة في الله تحتمل أن يكون على ما ذكره الحافظ ابن كثير، أي: تخاصموننا في توحيده، وفي دينه، وتقولون بأنكم على الهدى، وأن الحق هو ما أنتم عليه، كما أنها تحتمل أن تكون بمعنى أتحاجوننا في القرب منه، حيث تدَّعون القرب منه، والزلفى عنده؛ وذلك أنهم يقولون: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، ويقولون: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، فهم يقولون: نحن أبناء الله، ونحن أحباء الله، ونحن أقرب إلى الله منكم، وأحظى عنده منكم، والجنة إنما خلقت لنا، وأما أنتم فبعداء عن الله، وأنتم أهل سخطه، وعذابه، ولا زالوا يرددون هذا الكلام إلى اليوم، ونسمع ما ينشر هنا، وهناك من نسبة المسلمين إلى الضلال، والكفر، وأن النار خلقت لهم، وأنهم هم الأشرار، والشياطين، وغير ذلك.
والمقصود أن هذا قول، وهذا قول، ولا نحتاج أن نرجح بين القولين، وإنما يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: وقد قال بهذا جمع من أهل العلم؛ لأننا إذا تأملنا كلامهم رأينا أن ذلك المعنى داخل فيه.
فيمكن الجمع بين القولين بأن نقول: أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ، أي في دينه، وتوحيده، والإيمان به، وتزعمون أنكم على الحق، والصواب، والجادة، وأنكم أقرب إلى الله – عز، وجل - منا، ولكم عنده الحظوة، والزلفى، فهذا وجه محاجتهم، - والله أعلم -.وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139] المتصرف فينا، وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له!أي أنه يقول لهم: أتحاجوننا في الله أي في دينه، وتوحيده، وفي القرب منه، وتقولون: أنتم أقرب إليه إلينا، فالله ربنا، وربكم، هو الذي خلقنا، وهو الذي يتصرف فينا، وفيكم جميعاً، ويتولانا جميعاً، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فالأمر لا يكون على أهوائكم، ودعاواكم الباطلة حيث تقولون على الله - عز، وجل - بلا علم، بل الله رب الجميع، وسيتولى عباده في الثواب، والعقاب، ويتصرف فيهم كيف يشاء، وليس لأحد أن يحكم على الله - عز، وجل - بأهوائه، وأمانيه، ودعاواه الكاذبة. وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] أي: نحن برآء منكم، ومما تعبدون، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس:41]، وقال تعالى: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [سورة آل عمران:20] إلى آخر الآية، وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم : وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ [سورة الأنعام:80] إلى آخر الآية، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ [سورة البقرة:258] الآية.
وقال في هذه الآية الكريمة: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون أي: في العبادة، والتوجه.
أي أن مقتضى ذلك أننا أقرب إلى الله - عز، وجل - منكم؛ لأن الإخلاص هو المعيار الذي يعرف به المحق من المبطل، ويعرف به أهل القرب من الله - عز، وجل -، والحظوة عنده، فهو يقول: أنتم تحاجوننا في الله - عز، وجل -، وفي دينه، وفي القرب منه، والله رب الجميع، وبيده الثواب، والعقاب، وهو المتصرف التصرف المطلق في خلقه، فنحن مختلفون إذ أنتم على دين، ونحن على دين، فلسنا منكم في شيء، ولستم منا في شيء، ونحن على الإخلاص، وأنتم على خلافه، وهكذا كأنه علمهم كيف يردون على هؤلاء بحيث يقولون: نحن على العمل، والاعتقاد الذي تنال به الزلفى عند الله - عز، وجل -، وهكذا في مواضع في القرآن يعلم الله أهل الإيمان وجه المحاجة، والرد على المشركين، وكذلك كان يعلم الله نبيه - صلى الله عليه، وسلم - كيف يرد عليهم.

مرات الإستماع: 0

بعد أن ردّ الله -تبارك وتعالى- على اليهود دعواهم بأنهم على دين إبراهيم وأن إبراهيم كان على دينهم، فاليهود يقولون: كان يهوديًا، والنصارى يقولون: كان نصرانيًا، فردّ الله ذلك، وبيّن أنه كان حنيفًا مسلمًا.

ثم قال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فدينه وفطرته التي فطر عباده عليها: الدين الموافق للفطرة، وهو الإسلام، فهو صبغة الله التي أمرهم بأن يلزموها.

قال بعد ذلك في سياق الرد عليهم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] قل لهؤلاء أتجادلوننا في توحيد الله، والإخلاص له، وهو رب العالمين جميعًا، لا يختص بقوم دون قوم، ولنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، ونحن مخلصون لله العبادة والطاعة، ولا نُشرك به شيئًا، ولا نعبد أحدًا سواه.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] لزوم البراءة من أعمال الكفار على اختلاف مِللهم وأهوائهم وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] .

ويُلاحظ هنا تقديم الجار والمجرور وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] ومعلوم أن تقديم ما حقه التأخير يُفيد الاختصاص والحصر، أي: لنا أعمالنا لا أعمالكم، فأعمالنا تختص بنا، وأعمالكم تختص بكم، والله -تبارك وتعالى- سيُجازي كل عامل بعمله، ثم أيضًا في قوله: وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة البقرة:139] يعني: لم يكتف بقوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا أي: وسيُجازينا عليها، ولا تتحملون من تبعاتها شيئًا، بل قال: وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ من أجل أن لا يتوهم أن يكون المُسلمون مشاركين لهم في أعمالهم، كما أن للمسلمين أعمالهم، فكذلك أيضًا هم لهم أعمالهم لا يُشاركهم المسلمون فيها، ولا يتحملون من تبعاتهم وتبعاتها شيئًا.

ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:1، 2] في الحال مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ في الحال مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ في المستقبل مَا عَبَدتُّمْ [سورة الكافرون:4] وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ في المستقبل مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:5] لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6] فلست بمقيم على دينكم، ولستم كذلك في الحال والحاضر، ولن يحصل هذا التحول في المستقبل، وهو أن أتحول إلى دينكم وعبادتكم، أو تتحولون إلى ديني وعبادتي لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6] فهذا نظير ما في هذه الآية الكريم.

ثم ختم هذه الآية بما يفيد الثبوت والدوام وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] فالجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام على الإخلاص وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [سورة البقرة:139] مقيمون على ذلك دومًا؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصًا، فالإخلاص لازم للعاملين في كل أعمالهم الدقيق والجليل، وكل عمل فقد الإخلاص فهو مردود فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] وَنَحْنُ لَهُ وقُدم هنا الجار والمجرور (له) لإفادة الحصر والاختصاص أيضًا، فذلك يدل على توكيد هذا المعنى، وهو إخلاص العبادة والعمل لله وحده دون ما سواه.

وقد جاء عن سعيد بن جُبير -رحمه الله- أنه قال: الإخلاص أن يُخلص العبد دينه وعمله لله، فلا يُشرك به في دينه، ولا يُرائي بعمله[1] وهناك عبارة للفضيل بن عياض -رحمه الله- مشهورة وهي: أن العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما[2] فهذا العبارة مشهورة، ويمكن أن توجه باعتبار أن ترك العمل من أجل الناس صار الدافع فيه والمحرك سوى النظر إلى مرضاة الله -تبارك وتعالى- وطلب ما عنده، فصارت الإرادة متوجه إلى الناس، فالتفت القلب إليهم، فعده بهذا الاعتبار من قبيل الشرك، أو الرياء، لكن هذا فيه ما فيه، والصحيح أن العمل من أجل الناس شرك ورياء، وترك العمل من أجل الناس خطأ، لكنه ليس بشرك ولا رياء، ترك العمل من أجل الناس.

فالصحيح أن الإنسان يعمل ولا يترك العمل، ويُصحح قصده ونيته، ويريد ما عند الله، ولكن لو أنه ترك العمل خوفًا من الرياء من أجل الناس، أو أنه ترك العمل الصالح خوفًا منهم، فهذا ضعف في اليقين والتوكل والإيمان، لكن هل هو شرك؟

الجواب: لا، لكن توجيهه هو ما ذكرت، هو نظر إلى الإرادة والقصد والتوجه، وما الذي يحركه ويدفعه؟ فرأى أن نظر الناس هو المحرك بهذا الاعتبار، فيترك العمل من أجل الناس، فصار الخوف من الناس مثلاً سببًا لترك ما أمره الله به، فيكون العبد بذلك قد التفت إلى الناس وخافهم دون أن يخاف الله -تبارك وتعالى. 

  1.  الغنية لطالبي طريق الحق (2/ 111). 
  2. الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص:7) والكبائر للذهبي (ص: 11).