الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
صِبْغَةَ ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138] قال الضحاك عن ابن عباس - ا -: دين الله، وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمًة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك، ومعنى: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30] أي الزموا ذلك عليكموه.جاء عن بعض السلف مثل قتادة ما يوضح هذا المعنى حيث قال - رحمه الله - إن اليهود يصبغون أبناءهم باليهودية، والنصارى يصبغون أبناءهم بالنصرانية، وإن صبغة الله الإسلام، ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً، ومن بعده من الأنبياء، فهذه الرواية عن قتادة هي من أوضح ما يفسر به قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138]، وأقوال السلف فيها كثيرة جداً، وبعضها يرجع إلى معنى واحد، ومن تلك الأقوال ما يتفرع عن هذا القول حيث يذكرون بعض الأمور، والقضايا التي هي فرع عن الإسلام، وقد تكون شعاراً لأهله، لكن قول قتادة هو أشمل، ويدخل فيه عامة، أو سائر الأقوال فهو من أوضحها.
وبعض أهل العلم يعبرون بعبارة أخرى ليست مخالفة لهذا القول في واقع الأمر، فهم يقولون: إن النصارى - مثلاً - يغمسون أبناءهم، وهم صغار في ماء، ويسمون ذلك بالمعمودية، وكأنهم بهذا يصبغون أولادهم فيصيرون نصارى بهذا الاعتبار، فالله يقول: إن صبغته التي ارتضاها لخلقه هي الإسلام، ويلاحظ أن القول بأنهم يصبغون أولادهم بهذا التعميد يمكن أن يرجع إلى القول السابق الذي قاله قتادة، وهو أن صبغة الله هي الإسلام لا ما تصبغون به أولادكم بجعلهم يهوداً، أو نصارى، أو بهذا التعميد الذي تعتقدون أن الولد يكون به نصرانياً.
وبعضهم يقول: إن المراد بصبغة الله هنا الختان فكما أن النصارى يصبغون أبناءهم بهذا التعميد فإن الذي جاء به إبراهيم ﷺ هو الختان.
ولذلك نجد ابن القيم - رحمه الله - في كتابه تحفة المودود في أحكام المولود تكلم عن الشعار، والسمة التي تميز أتباع إبراهيم ﷺ في أجسادهم، فالله تعالى قال لإبراهيم ﷺ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [سورة البقرة:124]، يعني يقتدى به، ويؤتم به، وإبراهيم ﷺ قد اختتن، وهو ابن ثمانين، وسن ذلك فصار سمة في أجساد أتباع إبراهيم ﷺ تميزهم عن غيرهم، فسمتهم في الدين، والاعتقاد الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، وما إلى ذلك، وسمتهم التي تميزهم في الأجساد هي الختان، ويقول - رحمه الله - ، وهو يوجه هذا القول دون أن يرجحه -؛ ولهذا فسر بعض السلف صبغة الله بالختان.
وعلى كل حال فالنصارى لما كانوا يصبغون الأولاد بالماء بعضهم قال: إن صبغة الله هي الغسل الذي يكون بين يدي الدخول في الإسلام، والكلام في هذه المسألة معروف حيث إن النبي ﷺ أمر بعضهم بالاغتسال، ولم ينقل أنه أمر آخرين فالعلماء مختلفون في هذا الاغتسال هل هو واجب، أو غير واجب.
وبعضهم يعبر بعبارة أخرى يقول: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقر:138] أي تطهير الله، وهذا القول لا ينافي القول بأنه الإسلام؛ لأن الإسلام هو أعظم تطهير يحصل للإنسان، ولا ينافي قول من قال بأنه الاغتسال بين يدي الدخول في الإسلام؛ لأن هذا تطهير، وكذلك لا ينافي قول من قال بأنه الختان، ولا زال الناس يسمون الختان إلى اليوم تطهيراً، فعلى كل حال الإسلام تطهير، والاغتسال تطهير، والختان تطهير، وقصدي من هذا أن ندرك كيف نربط بين الأقوال، وكيف نوجهها، ونرجع بعضها إلى بعض من غير حاجة إلى تكلفات في الترجيح، أو نحو ذلك، وعلى كلٍ فأشمل هذه الأقوال أن صبغة الله هي الإسلام بكل ما فيه من عقائد، وأحكام، فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، ويدخل في ذلك الغسل من الجنابة، والاغتسال عند الدخول في الإسلام، ويدخل فيه أيضاً الختان، - والله أعلم -.
قال ابن كثير: قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله: يعني الإسلام، هذا لا يخالف القول السابق، فدين الله هو الإسلام.
ثم قال: وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي، و نحو ذلك.
قوله: ومعنى: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30]: السياق المناسب أن يقال: إن قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ [سورة البقرة:138] هي كقوله سبحانه: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30] فهذا مثال على تفسير الآية بنظيرتها التي قد تكون أوضح منها حيث يتبادر منها المعنى، ويفهم، وخاصة أن بعض السلف مثل مجاهد يفسر قوله تعالى: صِبْغَةَ اللّهِ بفطرة الله فيقول: صِبْغَةَ اللّهِ أي فطرة الله، وإلا فإن قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ [سورة الروم:30] ليست من ضمن آية البقرة فليُتنبه لذاك.
وإنما قصد ابن كثير - رحمه الله - بيان وجه النصب في قوله: صِبْغَةَ اللّهِ على أنه يمكن أن يكون على الإغراء بمعنى اتبعوا، أو الزموا صبغة الله، فهو يغريهم بلزومها، واتباعها، ويمكن أن تكون بدلاً من ملة إبراهيم ﷺ فتكون بهذا الاعتبار بدلاً من قوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة البقرة:135]، فملة إبراهيم هي صبغة الله، - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"صِبْغَةَ اللَّهِ أي: دينه، وهو استعارة من صبغ الثوب، وغيره، ونصبه على الإغراء، أو على المصدر، من المعاني المتقدمة، أو بدل من مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ".

صِبْغَةَ اللَّهِ أي دينه، وهذا قال به أكثر السلف، منقول عن ابن عباس، ومجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والعوفي، وعبد الله بن كثير، والربيع بن أنس، والسُّدي.

قال: "وهو استعارة من صبغ الثوب، وغيره" باعتبار أن الصِّبِغ يظهر أثره واضحًا جليًا على المصبوغ، فصبغة الله هي دينه، وهذا يظهر على سمت صاحبه، فيظهر في أفعاله، وهديه، ودله، وسمته، فيتميز بذلك، هذا هو المشهور.

وبعض المعاني التي يذكرها السلف ترجع إلى هذا، وبعضهم: كقتادة قال في قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ بأن اليهود تصبغ أولادها يهودًا، والنصارى تصبغ أولادها نصارى[1] وإن صبغة الله هي الإسلام، فهذا يرجع إلى ما سبق.

يقول: "ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام، ولا أطهر"، وبنحو هذا المعنى قال ابن جرير - رحمه الله -[2] فهذا يرجع إلى معنى الدين.

وبعضهم ذكر بعض المعاني، فقال: صِبْغَةَ اللَّهِ أي: الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، فهذه صبغة الله، وبعضهم يقول: الختان، وبعضهم عبّر بعبارة قريبة فقال: تطهير الله.

وفسره مجاهد بالفطرة صِبْغَةَ اللَّهِ أي فطرة الله[3] والواقع أن الدين تطهير، ومن شرائع الدين الختان، وسنن الفطرة، والدين هو دين الفطرة، فصبغة الله هي دينه، بعض أهل العلم يقولون: كان النصارى إذا ولد المولود يصبغونه بماء أصفر، يقال له: ماء المعمودية، يسمونها التعميد، فإذا صبغوه بهذا - غمسوه بهذا الماء - قالوا: الآن صار نصرانيًا، فالله يقول: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً فصبغته هي دينه، كما قال الشاعر:

وكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ
صَبَغْنَا عَلَى ذَلِكَ أَبْنَاءَنَا فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ[4]

فهي ما يظهر على الإنسان من الدين، في أعماله، وأحواله، وأقواله، وسمته، وهديه، فيتميز بذلك عن غيره، صِبْغَةَ اللَّهِ تصبغ بها القلوب بالإيمان، والاعتقاد الصحيح، بعيداً عن الشرك، والرجز، والاعتقادات الفاسدة، وتصبغ بها الجوارح، وتصبغ بها اللسان، ويصبغ بها ظاهر الإنسان فيتميز عن غيره، فإذا رأيته علمت أنه من أهل الإسلام، يرى ذلك في وجهه، من الاستنارة، وعلامات الفطرة، ويدخل فيه إعفاء اللحية، والسمت الحسن، ويدخل فيه الأعمال التي شرعها الله - تبارك، وتعالى - فيقوم بها ظاهراً، وباطناً، فهذه صبغة الله، يصطبغ بها في باطنه، وظاهره؛ ولهذا كان التشبه بالكفار هو خروج عن هذه الصبغة، وكان الترك لشرائع الدين، والعمل بها، ومخالفة ذلك هو نقص في هذه الصبغة، فيتكدر القلب، ويتكدر اللسان، ويحصل الانحراف في أعمال الجوارح، ويظهر أثر ذلك على الوجه، حتى يتلاشى أثر هذه الصبغة، فلا تميز بين هذا المسلم، وهذا الوثني، أو النصراني، أو اليهودي، ترى صوراً، وأشكالاً، لا تدري هل هذا مسلم، أو غير مسلم؟ مع أن اللائق أن المسلم حينما تراه تعرف ذلك، وكلما تحقق بالإيمان، وبصبغة الله كان فيه ذلك أظهر، تظهر عليه أنوار السنة؛ ولذلك فإن أهل البدع يظهر على وجوههم من أثر البدعة بحسب بدعهم، قد تجد أثر العبادة في جبينه، أو نحو ذلك، لكن الوجه أسود، مظلم، إذا رأيته تنقبض منه؛ لما ترى من ظلمة البدعة في، وجهه، وهذا مشاهد في طوائف من أهل البدع الغليظة، كالرافضة، ونحوهم، تميزه من بين ملايين الناس، مباشرة تعرف أن هذا صاحب هوى، وبدعة، ونحو ذلك، فهذا داخل في قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ - والله المستعان -.

يقول: "ونصبه على الإغراء، أو على المصدر، من المعاني المتقدمة، أو بدل من مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ" أي الملة التي جعلها الله شعاراً كالصبغة عند اليهود، والنصارى، أي الزموا صبغة الله، وبعضهم يقول: مفعول مطلق، نائب عن عامله، يعني صبغنا صبغة الله، أو أنه وصف لمصدر محذوف دل عليه فعل (آمنا بالله)، والتقدير آمنا إيماناً، صبغة الله، أو على التمييز، فهذا يحتمل، لكن معنى الصبغة هي الدين، وكثير من المعاني المذكورة ترجع إليه، والقول بأن هذا على الإغراء، قريب - والله أعلم -. 

  1.  تفسير الطبري (3/118).
  2.  المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق (3/119).
  4.  للشاعر يزيد ابنُ ذي المشعال الهمداني، كما في شمس العلوم، ودواء كلام العرب من الكلوم (6/3652).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ملة إبراهيم وردّ على هؤلاء اليهود والنصارى الذين يدعون أنهم على ملته، وأنه كان على دينهم، فعلّم أهل الإيمان كيف يقولون؟ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:136] إلى أن قال: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] صبغة الله، أي: ألزموا صبغة الله، وصبغته هي دين الإسلام، على ما جاء في عبارات السلف فمن بعدهم في تفسير هذه الصِبغة، إلا أن ذلك يرجع إلى معنىً واحد، كقول من قال: بأن صبغة الله هي الإسلام، ومن قال: بأن صبغة الله هي فطرة الله، فالفطرة هي الإسلام خلقت عبادي حنفاء[1] وكذلك قول من قال: بأن فطرة الله هي دينه، فدينه هو الإسلام، ونحو ذلك من العبارات المتقاربة، فهذا من قبيل اختلاف التنوع.

وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً هذا استفهام مُضمن معنى النفي، أي: لا أحد أحسن من الله صبغة، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالزموها وأعلنوها وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] خاضعون ومُطيعون ومُنقادون.

فقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:138] أي: الزموا صبغة الله الذي هو دينه؛ وذلك يقتضي القيام به على أكمل الوجوه، بالتحقق بأعماله الظاهرة والباطنة، ما يتصل بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، في كل الأحوال والأوقات، حتى يكون لكم كالصِبغ في الثوب، بحيث يتخلل ويتغلغل في أعماق النفس، وتصطبغ به الجوارح، ويظهر أثره على أهله، والمتدينين به، كظهور أثر الصِبغ على الثوب.

صِبْغَةَ اللَّهِ فقيل للدين: صِبغة؛ لأنه يصبغ أهله وأتباعه بحيث يظهر أثره على جوارحهم وأحوالهم وأعمالهم ومُعاملاتهم وأخلاقهم وزيهم ولابسهم، ويظهر أيضًا على وجوههم، بإشراق الوجه، واستنارته؛ وذلك حينما يستنير القلب، ويُشرق بنور الله -تبارك وتعالى- فالله يقول: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ يعني: هداه في قلب المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.

فهذا القلب يستنير بنور الله -تبارك وتعالى- فيستنير الوجه، وتظهر أنوار الهداية والإيمان بقدر ما يقوم في القلب من هذه الأنوار، وكذلك أيضًا تظهر هذه الآثار والأنوار على الجوارح، والنبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- في الحديث المشهور: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه[2]

فحينما يصطبغ بصبغة الله يكون الله -تبارك وتعالى- بهذه المثابة بالنسبة إليه كنت يده التي يبطش بها بمعنى: أنه لا يُحرك ولا يبطش إلا وفق مرضاة الله ولا يمشي برجله خطوة واحدة إلا فيما يكون رضًا لربه -تبارك وتعالى- فيكون عمله في رضاه، وتكون أنفاسه في طاعته، فيكون مُستغرقًا العمر والأنفاس واللحظات في طاعة ربه ومليكه وخالقه ومولاه، جل جلاله وتقدست أسماؤه، وحينما يصطبغ القلب والعبد بصبغة الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك لا بد أن يُرى عليه أثره، بقدر ما يحصل من هذا الصبغ، فإن أثر الصبغ يظهر ولا بد، ومن هنا يتميز المؤمن بسمته وهديه ودله، ويتميز بمعاملاته وأخلاقه، ويتميز بلباسه ومظهره، فإذا رآه أحد ميزه وعرفه من بين ملايين البشر، أن هذا من أهل الإيمان، فإذا قوي ذلك فإن ذلك يُعرف بوجهه، بل قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن أهل الفراسة يعرفون ثوب التقي الصالح من ثوب غيره، ولو لم يكن عليه، يعني: ولو لم يكن لابسًا له، ثوب مُعلق لإنسان صالح، وثوب مُعلق لإنسان فاسق، يُعرف أن هذا الثوب لإنسان من أهل الصلاح، وهذا لإنسان من أهل الفساد، هذا في الثوب فكيف بالإنسان؟

ولذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أحد الإيمان، ويعزوا ذلك إلى قلبه، وأنه قد استقر فيه، ثم بعد ذلك لا يظهر شيء من ذلك عليه: المعاملة فاسدة، واللسان فاسد، والأعمال فاسدة، والجوارح فاسدة، والوجه مُظلم، واللباس ليس بلباس أهل الإيمان، إذا رأيته لم تُميز هل هذا من البوذيين أو من النصارى؟ وهل هذا ممن لا دين له أصلاً كالملاحدة؟ فالمظهر والهيئة والصورة لا تدل أبدًا على أن هذا من أهل الإيمان، فضلاً على كونه من أهل الصلاح إطلاقًا، في لباسه يتشبه بمن لا خلاق لهم، وفي هيئته وأعماله وتعاملاته كذلك، هذا حينما يحصل المسخ ويحصل تصحر الإيمان في قلب الإنسان، فيحصل انحسار آثار الإيمان على جوارح العبد ومظهره وأعماله وتعاملاته ولسانه، فيكون حاله ربما أسوء في ظاهره من حال من لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فيصدر عنه من الأقوال والأفعال ما يكون فتنة لغيره، فيكون صادًا عن سبيل الله  لأنه ينتسب إلى الإسلام اسمًا، ولكن هو أبعد الناس عن امتثال شرائعه.

وهكذا المرأة حينما تصطبغ بصبغة الله فإن ذلك يظهر عليها في حشمة وحياء ووقار وحجاب ضاف وساتر، وليس فيه عبث ولا تلاعب، وليس فيه أي لون من ألوان التبرج بزينة تظهر فيه، أو بمزاولات وتصرفات تتصرفها هذه المرأة؛ لتُلتفت أنظار الرجال بهذا الحجاب، فإن ذلك من صبغة الله فتكون المرأة ذات قرار ووقار وحشمة وحياء، فتكون في حال من الجلال والبهاء، كما قال الله : يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى يعني: أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [سورة الأحزاب:59].

يعني: يُعرف أنها حرة، فلا يطمع بها ضعفاء النفوس، فإن الحرة تكون ضافية الثياب، ومحتشمة ومستترة غاية الاستتار، بخلاف الأمة المُتبذلة فتكون في جلالها وفي حجابها الأسود ذات مهابة وجلالة، كما نرى هذه الجلالة والمهابة التي تكسو بيت الله وكعبته المشرفة، في حجابها الأسود، فإنه يزيدها بهاءً وجلالة وقُدسية وعظمة.

فالمرأة المسلمة حينما تحتجب فإن ذلك يزيدها بهاءً وجمالاً وحشمة وعظمة، وتفرض احترامها على غيرها، بخلاف من كانت مُتبذلة كالحلوى المكشوفة التي يقع عليها الذباب والآفات والأقذار، فلا تُقبل عليها النفوس، ولا تطلبها، بل تعافها وتمُجها، هكذا إذا كان ذلك في حلوى ومطعوم، فكيف بالنفوس والأرواح حينما تُشرق بالإيمان، وتستنير بطاعة الله والعمل بمرضاته، أو تبتعد عن ذلك، فهذا الصبغ لأهل الإيمان بمنزلة ذلك التعميد الذي يفعله النصارى، حينما يصبغون أولادهم فهم حينما يولد المولد يضعونهم في ماء أصفر يُقال له: ماء المعمودية، يصبغونهم فيه، ثم يقولون هو بذلك تم تعميده، وصار بذلك نصرانيًّا، فهم يصبغون أولادهم، بينما صبغة الله هي أحق وأولى وأعظم وأجل.

وكذلك أيضًا هؤلاء النصارى يصبغون أولادهم بما يُلقنونهم من دينهم واعتقادهم الفاسد، وكذلك اليهود يصبغون أولادهم، وأهل المِلل يصبغون أولادهم، كما قال النبي ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يمجسانه[3] ولم يقل: أو يُسلمانه؛ لأنه يولد على الفطرة، فصبغة الله هي دينه، الزموا صبغة الله، واتبعوها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فهذا استفهام بمعنى الإنكار والنفي، فلا أحد أحسن من الله صبغة، و(أحسن) هنا وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [سورة البقرة:138] أفعل التفضيل، وليس على بابه؛ لأنه لا يمكن المُفاضلة بين صبغة الله وصبغة غيره، فلكل قوم صبغة، وكما قال الشاعر:

وكلّ أناسٍ لهم صبغةٌ وصبغة همدان خيرُ الصِّبغ[4].

فالشاهد أن صبغة الله لا تُقاس ولا تُقارن بغيرها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] وفي قوله: وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] قدّم الجار والمجرور (له) فهذا فيه إفادة الإخلاص والاختصاص والتوحيد لله -تبارك وتعالى؛ وذلك أيضًا للاهتمام.

وهذا القصر الإضافي وَنَحْنُ لَهُ يعني: ليس لغيره، وفي هذا تعريض بأولئك الذين يعبدون غيره، ويُشركون معه آلهة أخرى، كالنصارى، واليهود، وطوائف المشركين وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] وعبّر بالجملة الاسمية وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فهذا يُشعر بالثبوت والدوام، وأن ذلك ثابت دائم مستمر في كل حال، ومع كل نفس، هذا إذا قُدر جملة اسمية وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138].

ويمكن أن يُقال أيضًا بأن قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [سورة البقرة:138] أن ذلك يجري مجرى التعليل، يعني: لماذا نلزم صبغة الله؟ لأنه لا أحد أحسن من الله صبغة، ومن ثَم أقول: بأن من يريد الكمال الباطن فإن ذلك لا يُنال بفلسفات ونظريات مُستوردة من قوم لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- ثم بعد ذلك يتبع الناس أوهامًا، أو أخلاطًا من حق أو باطل، يقولون: أطلق العملاق الذي في نفسك، ونحو ذلك من التُرهات والأباطيل والأكاذيب التي تروج على الناس، ويتبعها من يتبعها من ضعفاء العقول، فيعطون الإنسان هالة وقُدرات خارقة بعيدة وخارجة عن قدر الله -تبارك وتعالى- وعما يدخل تحت طوق الإنسان وقدرته وإمكاناته، فإن هذا الإنسان محدود لا يمكن أن يتحول إلى صاحب قدرة يمكن أن يحمل بها الجبال، كما يقول هؤلاء.

فهؤلاء يزعمون أن الإنسان يمكن إذا أطلق هذا العملاق الذي في نفسه أنه يحمل هذا المسجد وحده، والعجيب أن أحد هؤلاء كان يقول مثل هذا الكلام، فلما خرج مع صاحبه الذي كان يهذي عليه بمثل هذا، وجد أن إطار السيارة العجلة قد صارت بحال تحتاج إلى تغيير، فصار يُكابد ويُعاني من أجل أن يرفع السيارة بالرافعة، وجرى له في ذلك عناء وعنت، ووقت طويل، فقال له صاحبه الذي كان يسمع منه هذا التخليط: هذا العملاق الذي تصفه لماذا لا ترفع هذه السيارة بيد، وتضع العجلة الأخرى، ولا تحتاج إلى مفاتيح، ولا تحتاج إلى هذا العرق الذي يتصبب، وهذا السواد الذي يُلطخ يديك وثيابك؟ تقول: العملاق، وتعجز عن رفع عجلة السيارة، وتأتي بهذه الرافعة، وتُكابد وتعاني.

فهؤلاء يوهمون الناس أن الإنسان يمكن أن ينطلق ويفعل أشياء غير مقدورة في طبائع البشر، وأنه يمشي على النار، ويأكل الزجاج، والنار، ونحو ذلك، وهذا الكلام غير صحيح، ومن فعله فإنما يتعاطى ذلك بطريق الشعوذة، واقرأ على هذا وهو يفعل هذه الأشياء آية الكرسي، وارفع صوتك، أو اقرأ المعوذات وارفع صوتك، أو نحو ذلك، وانظر هل يستطيع أن يفعل من ذلك شيء؟ هذا إذا كان يستعين بالشياطين.

فأقول: حينما يصطبغ باطن الإنسان يحصل له الكمال باستنارة القلب والهداية، وينطلق من أسر الأوهام مما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى- أو بغير ذلك مما يقع في خلده مما يعوقه عما هو بصدده، وكذلك أيضًا يحصل له الكمال الخارجي في الظاهر، ما هو الكمال الذي تريد؟ لا يوجد أفضل من صبغة الله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] فلا يزال الإنسان يُخالف شرع الله -تبارك وتعالى- فيظهر عليه أثر المسخ والتشويه، حتى يصير في هيئة تعافها النفوس، وتمجها الفِطر، فلا يطيق الإنسان النظر إليه، فيتحول إلى صورة موحشة مما يفعله بنفسه، وهكذا بقدر مُخالفته يتحول الإنسان أحيانًا إلى هيئة كأنه حيوان أو قرد، بسبب عبثه بنفسه، فيذهب عنه آثار هذه الصبغة والفطرة.

فمن أراد الكمال والشخصية الكاملة فليس بأن يشوه نفسه ويُغير معالم الفطرة، ويتشبه بأعداء الله ممن لا خلاق لهم من أهل العبث والضياع والتفريط، وإنما يمتثل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به، ويقتدي بأكرم وأفضل وأعظم الخلق الذي أُمر بالاقتداء والاتساء به، وهو محمد ﷺ فيظهر عليه آثار الكمال، ما هو الكمال الحقيقي؟ تريد أن تكون عظيمًا كاملاً في شخصية يملأها الوقار والمهابة، ونحو ذلك: ألزم صبغة الله، فهذه فطرته ودينه، فيظهر ذلك بأنوار الإيمان، والسمت الحسن الكمال، بخلاف من يكون حاله أشبه بالمُثلة، من تغيير خلق الله فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [سورة النساء:119] مما يدعو إليه الشيطان، فربما الإنسان يحلق لحيته وشوه نفسه بأعمال وأشياء ومزاولات هي من تزيين الشيطان، وهي خلاف الفطرة، فمن أراد الكمال فليصطبغ بهذه الصبغة، والله أعلم. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم: (2865). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع برقم: (6502). 
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم: (1385). 
  4. البيت ليزيد ابنُ ذي المشعال الهمداني، كما في شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم (6/ 3652).