لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ملة إبراهيم وردّ على هؤلاء اليهود والنصارى الذين يدعون أنهم على ملته، وأنه كان على دينهم، فعلّم أهل الإيمان كيف يقولون؟ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:136] إلى أن قال: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] صبغة الله، أي: ألزموا صبغة الله، وصبغته هي دين الإسلام، على ما جاء في عبارات السلف فمن بعدهم في تفسير هذه الصِبغة، إلا أن ذلك يرجع إلى معنىً واحد، كقول من قال: بأن صبغة الله هي الإسلام، ومن قال: بأن صبغة الله هي فطرة الله، فالفطرة هي الإسلام خلقت عبادي حنفاء وكذلك قول من قال: بأن فطرة الله هي دينه، فدينه هو الإسلام، ونحو ذلك من العبارات المتقاربة، فهذا من قبيل اختلاف التنوع.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً هذا استفهام مُضمن معنى النفي، أي: لا أحد أحسن من الله صبغة، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالزموها وأعلنوها وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] خاضعون ومُطيعون ومُنقادون.
فقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:138] أي: الزموا صبغة الله الذي هو دينه؛ وذلك يقتضي القيام به على أكمل الوجوه، بالتحقق بأعماله الظاهرة والباطنة، ما يتصل بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، في كل الأحوال والأوقات، حتى يكون لكم كالصِبغ في الثوب، بحيث يتخلل ويتغلغل في أعماق النفس، وتصطبغ به الجوارح، ويظهر أثره على أهله، والمتدينين به، كظهور أثر الصِبغ على الثوب.
صِبْغَةَ اللَّهِ فقيل للدين: صِبغة؛ لأنه يصبغ أهله وأتباعه بحيث يظهر أثره على جوارحهم وأحوالهم وأعمالهم ومُعاملاتهم وأخلاقهم وزيهم ولابسهم، ويظهر أيضًا على وجوههم، بإشراق الوجه، واستنارته؛ وذلك حينما يستنير القلب، ويُشرق بنور الله -تبارك وتعالى- فالله يقول: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ يعني: هداه في قلب المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.
فهذا القلب يستنير بنور الله -تبارك وتعالى- فيستنير الوجه، وتظهر أنوار الهداية والإيمان بقدر ما يقوم في القلب من هذه الأنوار، وكذلك أيضًا تظهر هذه الآثار والأنوار على الجوارح، والنبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- في الحديث المشهور: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.
فحينما يصطبغ بصبغة الله يكون الله -تبارك وتعالى- بهذه المثابة بالنسبة إليه كنت يده التي يبطش بها بمعنى: أنه لا يُحرك ولا يبطش إلا وفق مرضاة الله ولا يمشي برجله خطوة واحدة إلا فيما يكون رضًا لربه -تبارك وتعالى- فيكون عمله في رضاه، وتكون أنفاسه في طاعته، فيكون مُستغرقًا العمر والأنفاس واللحظات في طاعة ربه ومليكه وخالقه ومولاه، جل جلاله وتقدست أسماؤه، وحينما يصطبغ القلب والعبد بصبغة الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك لا بد أن يُرى عليه أثره، بقدر ما يحصل من هذا الصبغ، فإن أثر الصبغ يظهر ولا بد، ومن هنا يتميز المؤمن بسمته وهديه ودله، ويتميز بمعاملاته وأخلاقه، ويتميز بلباسه ومظهره، فإذا رآه أحد ميزه وعرفه من بين ملايين البشر، أن هذا من أهل الإيمان، فإذا قوي ذلك فإن ذلك يُعرف بوجهه، بل قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن أهل الفراسة يعرفون ثوب التقي الصالح من ثوب غيره، ولو لم يكن عليه، يعني: ولو لم يكن لابسًا له، ثوب مُعلق لإنسان صالح، وثوب مُعلق لإنسان فاسق، يُعرف أن هذا الثوب لإنسان من أهل الصلاح، وهذا لإنسان من أهل الفساد، هذا في الثوب فكيف بالإنسان؟
ولذلك لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أحد الإيمان، ويعزوا ذلك إلى قلبه، وأنه قد استقر فيه، ثم بعد ذلك لا يظهر شيء من ذلك عليه: المعاملة فاسدة، واللسان فاسد، والأعمال فاسدة، والجوارح فاسدة، والوجه مُظلم، واللباس ليس بلباس أهل الإيمان، إذا رأيته لم تُميز هل هذا من البوذيين أو من النصارى؟ وهل هذا ممن لا دين له أصلاً كالملاحدة؟ فالمظهر والهيئة والصورة لا تدل أبدًا على أن هذا من أهل الإيمان، فضلاً على كونه من أهل الصلاح إطلاقًا، في لباسه يتشبه بمن لا خلاق لهم، وفي هيئته وأعماله وتعاملاته كذلك، هذا حينما يحصل المسخ ويحصل تصحر الإيمان في قلب الإنسان، فيحصل انحسار آثار الإيمان على جوارح العبد ومظهره وأعماله وتعاملاته ولسانه، فيكون حاله ربما أسوء في ظاهره من حال من لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فيصدر عنه من الأقوال والأفعال ما يكون فتنة لغيره، فيكون صادًا عن سبيل الله لأنه ينتسب إلى الإسلام اسمًا، ولكن هو أبعد الناس عن امتثال شرائعه.
وهكذا المرأة حينما تصطبغ بصبغة الله فإن ذلك يظهر عليها في حشمة وحياء ووقار وحجاب ضاف وساتر، وليس فيه عبث ولا تلاعب، وليس فيه أي لون من ألوان التبرج بزينة تظهر فيه، أو بمزاولات وتصرفات تتصرفها هذه المرأة؛ لتُلتفت أنظار الرجال بهذا الحجاب، فإن ذلك من صبغة الله فتكون المرأة ذات قرار ووقار وحشمة وحياء، فتكون في حال من الجلال والبهاء، كما قال الله : يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى يعني: أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [سورة الأحزاب:59].
يعني: يُعرف أنها حرة، فلا يطمع بها ضعفاء النفوس، فإن الحرة تكون ضافية الثياب، ومحتشمة ومستترة غاية الاستتار، بخلاف الأمة المُتبذلة فتكون في جلالها وفي حجابها الأسود ذات مهابة وجلالة، كما نرى هذه الجلالة والمهابة التي تكسو بيت الله وكعبته المشرفة، في حجابها الأسود، فإنه يزيدها بهاءً وجلالة وقُدسية وعظمة.
فالمرأة المسلمة حينما تحتجب فإن ذلك يزيدها بهاءً وجمالاً وحشمة وعظمة، وتفرض احترامها على غيرها، بخلاف من كانت مُتبذلة كالحلوى المكشوفة التي يقع عليها الذباب والآفات والأقذار، فلا تُقبل عليها النفوس، ولا تطلبها، بل تعافها وتمُجها، هكذا إذا كان ذلك في حلوى ومطعوم، فكيف بالنفوس والأرواح حينما تُشرق بالإيمان، وتستنير بطاعة الله والعمل بمرضاته، أو تبتعد عن ذلك، فهذا الصبغ لأهل الإيمان بمنزلة ذلك التعميد الذي يفعله النصارى، حينما يصبغون أولادهم فهم حينما يولد المولد يضعونهم في ماء أصفر يُقال له: ماء المعمودية، يصبغونهم فيه، ثم يقولون هو بذلك تم تعميده، وصار بذلك نصرانيًّا، فهم يصبغون أولادهم، بينما صبغة الله هي أحق وأولى وأعظم وأجل.
وكذلك أيضًا هؤلاء النصارى يصبغون أولادهم بما يُلقنونهم من دينهم واعتقادهم الفاسد، وكذلك اليهود يصبغون أولادهم، وأهل المِلل يصبغون أولادهم، كما قال النبي ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يمجسانه ولم يقل: أو يُسلمانه؛ لأنه يولد على الفطرة، فصبغة الله هي دينه، الزموا صبغة الله، واتبعوها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فهذا استفهام بمعنى الإنكار والنفي، فلا أحد أحسن من الله صبغة، و(أحسن) هنا وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [سورة البقرة:138] أفعل التفضيل، وليس على بابه؛ لأنه لا يمكن المُفاضلة بين صبغة الله وصبغة غيره، فلكل قوم صبغة، وكما قال الشاعر:
وكلّ أناسٍ لهم صبغةٌ |
وصبغة همدان خيرُ الصِّبغ. |
فالشاهد أن صبغة الله لا تُقاس ولا تُقارن بغيرها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] وفي قوله: وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] قدّم الجار والمجرور (له) فهذا فيه إفادة الإخلاص والاختصاص والتوحيد لله -تبارك وتعالى؛ وذلك أيضًا للاهتمام.
وهذا القصر الإضافي وَنَحْنُ لَهُ يعني: ليس لغيره، وفي هذا تعريض بأولئك الذين يعبدون غيره، ويُشركون معه آلهة أخرى، كالنصارى، واليهود، وطوائف المشركين وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] وعبّر بالجملة الاسمية وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فهذا يُشعر بالثبوت والدوام، وأن ذلك ثابت دائم مستمر في كل حال، ومع كل نفس، هذا إذا قُدر جملة اسمية وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138].
ويمكن أن يُقال أيضًا بأن قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [سورة البقرة:138] أن ذلك يجري مجرى التعليل، يعني: لماذا نلزم صبغة الله؟ لأنه لا أحد أحسن من الله صبغة، ومن ثَم أقول: بأن من يريد الكمال الباطن فإن ذلك لا يُنال بفلسفات ونظريات مُستوردة من قوم لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- ثم بعد ذلك يتبع الناس أوهامًا، أو أخلاطًا من حق أو باطل، يقولون: أطلق العملاق الذي في نفسك، ونحو ذلك من التُرهات والأباطيل والأكاذيب التي تروج على الناس، ويتبعها من يتبعها من ضعفاء العقول، فيعطون الإنسان هالة وقُدرات خارقة بعيدة وخارجة عن قدر الله -تبارك وتعالى- وعما يدخل تحت طوق الإنسان وقدرته وإمكاناته، فإن هذا الإنسان محدود لا يمكن أن يتحول إلى صاحب قدرة يمكن أن يحمل بها الجبال، كما يقول هؤلاء.
فهؤلاء يزعمون أن الإنسان يمكن إذا أطلق هذا العملاق الذي في نفسه أنه يحمل هذا المسجد وحده، والعجيب أن أحد هؤلاء كان يقول مثل هذا الكلام، فلما خرج مع صاحبه الذي كان يهذي عليه بمثل هذا، وجد أن إطار السيارة العجلة قد صارت بحال تحتاج إلى تغيير، فصار يُكابد ويُعاني من أجل أن يرفع السيارة بالرافعة، وجرى له في ذلك عناء وعنت، ووقت طويل، فقال له صاحبه الذي كان يسمع منه هذا التخليط: هذا العملاق الذي تصفه لماذا لا ترفع هذه السيارة بيد، وتضع العجلة الأخرى، ولا تحتاج إلى مفاتيح، ولا تحتاج إلى هذا العرق الذي يتصبب، وهذا السواد الذي يُلطخ يديك وثيابك؟ تقول: العملاق، وتعجز عن رفع عجلة السيارة، وتأتي بهذه الرافعة، وتُكابد وتعاني.
فهؤلاء يوهمون الناس أن الإنسان يمكن أن ينطلق ويفعل أشياء غير مقدورة في طبائع البشر، وأنه يمشي على النار، ويأكل الزجاج، والنار، ونحو ذلك، وهذا الكلام غير صحيح، ومن فعله فإنما يتعاطى ذلك بطريق الشعوذة، واقرأ على هذا وهو يفعل هذه الأشياء آية الكرسي، وارفع صوتك، أو اقرأ المعوذات وارفع صوتك، أو نحو ذلك، وانظر هل يستطيع أن يفعل من ذلك شيء؟ هذا إذا كان يستعين بالشياطين.
فأقول: حينما يصطبغ باطن الإنسان يحصل له الكمال باستنارة القلب والهداية، وينطلق من أسر الأوهام مما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى- أو بغير ذلك مما يقع في خلده مما يعوقه عما هو بصدده، وكذلك أيضًا يحصل له الكمال الخارجي في الظاهر، ما هو الكمال الذي تريد؟ لا يوجد أفضل من صبغة الله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] فلا يزال الإنسان يُخالف شرع الله -تبارك وتعالى- فيظهر عليه أثر المسخ والتشويه، حتى يصير في هيئة تعافها النفوس، وتمجها الفِطر، فلا يطيق الإنسان النظر إليه، فيتحول إلى صورة موحشة مما يفعله بنفسه، وهكذا بقدر مُخالفته يتحول الإنسان أحيانًا إلى هيئة كأنه حيوان أو قرد، بسبب عبثه بنفسه، فيذهب عنه آثار هذه الصبغة والفطرة.
فمن أراد الكمال والشخصية الكاملة فليس بأن يشوه نفسه ويُغير معالم الفطرة، ويتشبه بأعداء الله ممن لا خلاق لهم من أهل العبث والضياع والتفريط، وإنما يمتثل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به، ويقتدي بأكرم وأفضل وأعظم الخلق الذي أُمر بالاقتداء والاتساء به، وهو محمد ﷺ فيظهر عليه آثار الكمال، ما هو الكمال الحقيقي؟ تريد أن تكون عظيمًا كاملاً في شخصية يملأها الوقار والمهابة، ونحو ذلك: ألزم صبغة الله، فهذه فطرته ودينه، فيظهر ذلك بأنوار الإيمان، والسمت الحسن الكمال، بخلاف من يكون حاله أشبه بالمُثلة، من تغيير خلق الله فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [سورة النساء:119] مما يدعو إليه الشيطان، فربما الإنسان يحلق لحيته وشوه نفسه بأعمال وأشياء ومزاولات هي من تزيين الشيطان، وهي خلاف الفطرة، فمن أراد الكمال فليصطبغ بهذه الصبغة، والله أعلم.