وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها، وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة، والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [سورة البقرة:137 - 138].
يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُواْ يعني الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِأيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله، ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم فَقَدِ اهْتَدَو أي: فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه. فقوله - تبارك، وتعالى -: بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ من المراد بذلك؟ هل للقرآن مثلٌ، أو هل لإيمانهم مثل سواء كان بالقرآن، أو بجميع الرسل، وبجميع الكتب، وكذلك الإيمان الصحيح بالله هل له مثلٌ؟
هذا السؤال يجيب عنه العلماء بأجوبة متعددة، فبعضهم يقول: إن لفظة "مثل" صلة، وقولهم هذا من باب التأدب في العبارة، وإلا فإن هذه اللفظة إذا قالوها فإنهم يقصدون بها أنها زائدة من جهة الإعراب، وهذا القول موجود في قوله - تبارك، وتعالى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11]، ومعلوم أن الله ليس له مثل، لكن فمن الأجوبة التي تقال هناك: إن لفظة "مثل" صلة أي زائدة، ومعلوم أن القرآن ليس فيه زيادة، وأن ذلك القول لا يليق، وليس من التأدب مع كلام الله ، وقد تكلم على دعوى الزيادة في شيء من ألفاظ القرآن جماعة من أهل العلم لكن ليس المقصود أنها مقحمة في القرآن بحيث يقال: إنه جاء بها أحد آخر، وإنما يقصدون أنها لا محل لها من الإعراب، والكلام على مثل هذا ذكره الزركشي في البحر المحيط، في أصول الفقه في موضعين حيث يقول: لا زيادة في القرآن، وذكره غيره أيضاً، ويقصدون إعراباً كما ذكرنا، ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وهؤلاء حينما يقولون: هذه زائدة، وفي الوقت الذي قد لا يذكر فيهم بعضهم لها معنى جديداً يقولون: إنها تفيد التأكيد، ونحو ذلك، وهذا أحد الأجوبة على لفظة "مثل" في القرآن.
من لم ينح هذا النحو - يعني من لم يقل: إنها صلة - تفرقت أقاويلهم، فمنهم من قال: معلوم أنه ليس له مثل، ولكنه قال لهم ذلك تبكيتاً لهم، فهؤلاء الذين كفروا، وفرقوا بين رسل الله ، وبين كتبه يقول لهم: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ [سورة البقرة:137] أي فليبحثوا عن إيمان صحيح يوازي هذا الإيمان المقبول عند الله ، والهدى الذي أنتم عليه فيكون المراد بذلك التبكيت.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ يعني أنتم آمنتم بكتب الله من غير تحريف، فإن آمنوا بها على وجهها كما جاءت عن الله فقد اهتدوا.
ووجه آخر - ولعله من أحسنها، وأجودها -، وهو: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ أي إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين، ومهتدين فقد اهتدوا، والذي آمنتم به أنتم هو الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر من غير تحريف لهذه الكتب، ومن غير تفريق بين الله، ورسله، ومن غير تفريق بين الكتب، فإن سلكوا مثل مسلككم فقد صاروا على هدى، واستقامة.
وهذا مثال يمكن أن نمثل به على قضية، وهي أن التنقير، والتشقيق لربما يورث الإشكالات، فأنت حينما كنت تسمع هذه الآية من قبل فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمعنى المتبادر إلى ذهنك هو أنهم إن سلكوا الطريق الصحيح في الإيمان بأن آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله فقد صاروا على هدى، هذا الذي يتبادر إلى الذهن، وبالتالي قد لا يرد في ذهنك أصلاً مثل هذا السؤال، والإشكال إلا إذا جلس الإنسان يفحص الحروف، والألفاظ، ويقلبها على وجوه الاحتمال.وَّإِن تَوَلَّوْاْ [سورة البقرة:137] أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [سورة البقرة:137] أي: فسينصرك عليهم، ويُظْفِرُك بهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137].القول الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - كأنه جرى فيه على القول الأخير، أي فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله، ورسله، وبما صرتم به على الإيمان فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه، وإن تولوا أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم من التولي، وهو الإعراض فإنما هم في شقاق، تقول: تولى فلان إذا أعرض، وقوله: فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] أي: لا تديروا الظهر منهزمين، معرضين عن مواجهة عدوكم، وفراراً عن أرض المعركة.
قوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [سورة البقرة:137]: لم يذكر هنا معنى الشقاق، وعلى كل حال فإن الشقاق مأخوذ من الشق، وهو الجانب، فجانب الشيء شقه، والمشاقة، والشقاق معناه كأن هذا قد صار في شق، والآخر صار في الشق الآخر، ومثله العداوة كأن هذا في عدوة، وهذا في عدوة، والعدوة هي جانب الوادي كما في قوله تعالى: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42]، وهذا المعنى إذا فسروه فإنهم يولدون منه إشكالات أيضاً لسنا بحاجة إليها؛ لأنها متكلفة، وهي إنما تدور في أذهان أهل الكلام من أهل التكلف، والتعمق، والخوض الباطل الذي يورث الشبهات، أما معنى الشقاق في كلام العرب فهو أن يكون هذا في شق، وهذا في شق بحيث تكون بينهما مباينة، ومفارقة، ومفاصلة، وكل واحد منهم في حال، وعلى اعتقاد، وعمل مباين للآخر، ومثل ذلك معنى المحادَّة فهذا في حد، وذاك في حد.
وبعضهم يقول: إن هذا مأخوذ من فعل ما يشق، والمعنى أن كل واحد من هؤلاء المختلفَين يتطلع، ويبذل، وسعه في الوصول إلى ما يشق به على الطرف الآخر، فهو يهيئ الأسباب التي يحصل بها المكروهِ للطرف الآخر، ويسعى لعداوته، ومخالفته، ونحو ذلك، وهذا المعنى فيه بُعد؛ فالشقاق هو المخالفة، والمباينة، والمفارقة، أي أنهم ليسوا على دينكم، ومسلككم، والهدى الذي أنتم عليه بل هم مباينون لكم، ومخالفون لكم، ومفارقون للحق الذي أنتم عليه.
روى ابن أبي حاتم قال: أخبرنا زياد بن يونس، قال: حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه، قال زياد: فقلت له: إن الناس ليقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل فوقع الدم على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137] فقال نافع: بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية، وقد قَدَّم.هذا ذكره ابن كثير - رحمه الله - من قبيل الاستطراد، وأقول من قبيل الاستطراد؛ لأنه لا يتوقف فهم المعنى عليه، وإنما هي لطيفة من اللطائف التي تذكر في التفسير؛ إذ أنها ليست من معاني القرآن، وليست من صلب التفسير، إنما هي من اللطائف، والملح التي تذكر، ويزعمون إلى الآن أن المصحف الموجود في المتحف في تركيا أنه مصحف عثمان ، وأن الدم موجود عليه، وعلى كل حال هذه من الموافقات التي قد تقع للإنسان أحياناً في يومه، وليلته، فأحياناً يقول الإنسان شيئاً، ويسمع القارئ في المذياع يقرأ نفس الآية التي توافق نطقه، أو يقرأ نفس الآية التي لربما تتعلق بما كان يهم به، أو تكلم به، أو نحو ذلك فهذه موافقات قد تقع.