الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
فَإِنْ ءَامَنُوا۟ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهْتَدَوا۟ ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا۟ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير الأسباط، وقال الخليل بن أحمد، وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل؛ وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم كما قال موسى لهم: اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا [سورة المائدة:20] الآية، وقال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا [سورة الأعراف:160] قال القرطبي: والسبط: الجماعة، والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها، وبرسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة، والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [سورة البقرة:137 - 138]. 
يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُواْ يعني الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِأيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله، ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم فَقَدِ اهْتَدَو أي: فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه. 
فقوله - تبارك، وتعالى -: بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ من المراد بذلك؟ هل للقرآن مثلٌ، أو هل لإيمانهم مثل سواء كان بالقرآن، أو بجميع الرسل، وبجميع الكتب، وكذلك الإيمان الصحيح بالله هل له مثلٌ؟
هذا السؤال يجيب عنه العلماء بأجوبة متعددة، فبعضهم يقول: إن لفظة "مثل" صلة، وقولهم هذا من باب التأدب في العبارة، وإلا فإن هذه اللفظة إذا قالوها فإنهم يقصدون بها أنها زائدة من جهة الإعراب، وهذا القول موجود في قوله - تبارك، وتعالى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى:11]، ومعلوم أن الله ليس له مثل، لكن فمن الأجوبة التي تقال هناك: إن لفظة "مثل" صلة أي زائدة، ومعلوم أن القرآن ليس فيه زيادة، وأن ذلك القول لا يليق، وليس من التأدب مع كلام الله ، وقد تكلم على دعوى الزيادة في شيء من ألفاظ القرآن جماعة من أهل العلم لكن ليس المقصود أنها مقحمة في القرآن بحيث يقال: إنه جاء بها أحد آخر، وإنما يقصدون أنها لا محل لها من الإعراب، والكلام على مثل هذا ذكره الزركشي في البحر المحيط، في أصول الفقه في موضعين حيث يقول: لا زيادة في القرآن، وذكره غيره أيضاً، ويقصدون إعراباً كما ذكرنا، ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وهؤلاء حينما يقولون: هذه زائدة، وفي الوقت الذي قد لا يذكر فيهم بعضهم لها معنى جديداً يقولون: إنها تفيد التأكيد، ونحو ذلك، وهذا أحد الأجوبة على لفظة "مثل" في القرآن.
من لم ينح هذا النحو - يعني من لم يقل: إنها صلة - تفرقت أقاويلهم، فمنهم من قال: معلوم أنه ليس له مثل، ولكنه قال لهم ذلك تبكيتاً لهم، فهؤلاء الذين كفروا، وفرقوا بين رسل الله ، وبين كتبه يقول لهم: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ [سورة البقرة:137] أي فليبحثوا عن إيمان صحيح يوازي هذا الإيمان المقبول عند الله ، والهدى الذي أنتم عليه فيكون المراد بذلك التبكيت.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ يعني أنتم آمنتم بكتب الله من غير تحريف، فإن آمنوا بها على وجهها كما جاءت عن الله فقد اهتدوا.
ووجه آخر - ولعله من أحسنها، وأجودها -، وهو: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ أي إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين، ومهتدين فقد اهتدوا، والذي آمنتم به أنتم هو الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر من غير تحريف لهذه الكتب، ومن غير تفريق بين الله، ورسله، ومن غير تفريق بين الكتب، فإن سلكوا مثل مسلككم فقد صاروا على هدى، واستقامة.
وهذا مثال يمكن أن نمثل به على قضية، وهي أن التنقير، والتشقيق لربما يورث الإشكالات، فأنت حينما كنت تسمع هذه الآية من قبل فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمعنى المتبادر إلى ذهنك هو أنهم إن سلكوا الطريق الصحيح في الإيمان بأن آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله فقد صاروا على هدى، هذا الذي يتبادر إلى الذهن، وبالتالي قد لا يرد في ذهنك أصلاً مثل هذا السؤال، والإشكال إلا إذا جلس الإنسان يفحص الحروف، والألفاظ، ويقلبها على وجوه الاحتمال.وَّإِن تَوَلَّوْاْ [سورة البقرة:137] أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [سورة البقرة:137] أي: فسينصرك عليهم، ويُظْفِرُك بهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137].القول الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - كأنه جرى فيه على القول الأخير، أي فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله، ورسله، وبما صرتم به على الإيمان فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه، وإن تولوا أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم من التولي، وهو الإعراض فإنما هم في شقاق، تقول: تولى فلان إذا أعرض، وقوله: فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] أي: لا تديروا الظهر منهزمين، معرضين عن مواجهة عدوكم، وفراراً عن أرض المعركة.
قوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [سورة البقرة:137]: لم يذكر هنا معنى الشقاق، وعلى كل حال فإن الشقاق مأخوذ من الشق، وهو الجانب، فجانب الشيء شقه، والمشاقة، والشقاق معناه كأن هذا قد صار في شق، والآخر صار في الشق الآخر، ومثله العداوة كأن هذا في عدوة، وهذا في عدوة، والعدوة هي جانب الوادي كما في قوله تعالى: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42]، وهذا المعنى إذا فسروه فإنهم يولدون منه إشكالات أيضاً لسنا بحاجة إليها؛ لأنها متكلفة، وهي إنما تدور في أذهان أهل الكلام من أهل التكلف، والتعمق، والخوض الباطل الذي يورث الشبهات، أما معنى الشقاق في كلام العرب فهو أن يكون هذا في شق، وهذا في شق بحيث تكون بينهما مباينة، ومفارقة، ومفاصلة، وكل واحد منهم في حال، وعلى اعتقاد، وعمل مباين للآخر، ومثل ذلك معنى المحادَّة فهذا في حد، وذاك في حد.
وبعضهم يقول: إن هذا مأخوذ من فعل ما يشق، والمعنى أن كل واحد من هؤلاء المختلفَين يتطلع، ويبذل، وسعه في الوصول إلى ما يشق به على الطرف الآخر، فهو يهيئ الأسباب التي يحصل بها المكروهِ للطرف الآخر، ويسعى لعداوته، ومخالفته، ونحو ذلك، وهذا المعنى فيه بُعد؛ فالشقاق هو المخالفة، والمباينة، والمفارقة، أي أنهم ليسوا على دينكم، ومسلككم، والهدى الذي أنتم عليه بل هم مباينون لكم، ومخالفون لكم، ومفارقون للحق الذي أنتم عليه.
روى ابن أبي حاتم قال: أخبرنا زياد بن يونس، قال: حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه، قال زياد: فقلت له: إن الناس ليقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل فوقع الدم على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137] فقال نافع: بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية، وقد قَدَّم.هذا ذكره ابن كثير - رحمه الله - من قبيل الاستطراد، وأقول من قبيل الاستطراد؛ لأنه لا يتوقف فهم المعنى عليه، وإنما هي لطيفة من اللطائف التي تذكر في التفسير؛ إذ أنها ليست من معاني القرآن، وليست من صلب التفسير، إنما هي من اللطائف، والملح التي تذكر، ويزعمون إلى الآن أن المصحف الموجود في المتحف في تركيا أنه مصحف عثمان ، وأن الدم موجود عليه، وعلى كل حال هذه من الموافقات التي قد تقع للإنسان أحياناً في يومه، وليلته، فأحياناً يقول الإنسان شيئاً، ويسمع القارئ في المذياع يقرأ نفس الآية التي توافق نطقه، أو يقرأ نفس الآية التي لربما تتعلق بما كان يهم به، أو تكلم به، أو نحو ذلك فهذه موافقات قد تقع.

مرات الإستماع: 0

"فَسَيَكْفِيكَهُمُ وعد ظهر مصداقه فقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وغير ذلك".

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ هذا مثال لما حصل من إجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وإظهاره الله على أهل خيبر، وكفاه الله ما كانوا يدبرون، من محاولة قتله ﷺ والمعنى يشمل هذا، وغيره. 

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله : فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137].

فإن آمن هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم بمثل الذي آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوا يعني: إلى الحق، وإن أعرضوا عنه فإنما هم في خلاف شديد، فسيكفيك الله شرهم، وسينصركم عليهم، وهو السميع لأقوالكم وأقوالهم، والعليم بأحوال الجميع.

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [سورة البقرة:137] يعني: بما آمنتم به، وهذا واضح، لكن حينما نشق الشعرة والشعيرة ونُشقق هذه الألفاظ هنا تأتي الإشكالات، يعني: هؤلاء الذين يُشققون الألفاظ يورثون الإشكالات بتشقيقهم هذا، وإنما أذكر ذلك للتنبيه عليه؛ لأنه كثير في كتب التفسير، فهذه الآية المعنى واضح، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، يعني بما آمنتم به، فإذا قيل: آمنوا بمثل ما آمنتم به، وهل الذي آمنا به له مثل؟ وهل يصح إيمانهم بهذا المثل أو أنهم يُطالبون أن يؤمن بما آمن به بعينه لا بمثله؟ وليس له مثل أصلاً، فهنا يتكلمون على حل هذا الإشكال، والجواب عنه، وهل (مثل) هذه زائدة أو ليست بزائدة؟ وهكذا في مثل قوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11] وهل له مثل؟ وهل لمثله مثل؟ حتى تدخل الكاف، والكاف للتشبيه، ومثل للتشبيه، ليس مثل مثله شيء، وهل له مثل حتى يكون لمثله شيء؟ ليس هذا هو المراد، وإنما العرب تذكر ذلك وتُريد به عينه وذاته، فيقال: مثلك لا يفعل ذلك، يعني أنت لا تفعل ذلك فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [سورة البقرة:137] يعني: بما آمنتم به، هذا هو المعنى، والله تعالى أعلم، وأما شق الشعرة والشعيرة فهو يورث مثل هذه الإشكالات، ويكثر الكلام في ذلك، والجواب عنه في كتب التفسير.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [سورة البقرة:137] قد هنا دخلت على الفعل الماضي؛ وذلك للتحقيق، يعني: أن هدايتهم متحققة، فقد اهتدوا، يعني: أنه لا يمكن أن يتحقق لهم الاهتداء إلا بأن يؤمنوا بهذا الذي آمنا به، وأن يؤمنوا برسول الله ﷺ وأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله عليه، وإلا فهم في شقاق، وفي خلاف شديد وبُعد عن الحق، ومن ثَم فإن أولئك الذين يصححون أديان هؤلاء الكفار من أهل الكتاب أو غيرهم، مخالفون لنص هذه الآية ولغيرها من الآيات بهذا المعنى في كتاب الله فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [سورة البقرة:137] معناها: أنهم إن بقوا على دينهم لا يمكن أن يُقال: إن هؤلاء يدخلون الجنة، كما يقوله بعض المفترين، فهذا تكذيب لنص القرآن.

وكذلك في هذه الآية رد على من يدعون إلى الجمع بين الأديان، أو ما يُسمى بالدعوة إلى توحيد الأديان، أو الدعوة إلى تقريب الأديان، أو نحو ذلك، وهذه دعوة معروفة، ولهم مراكز في العالم، ولهم مؤسسات ومُنشئات، فتجد في بعض هذه المسجد والكنيسة ومعبد اليهود في مجمع واحد، وفي بعضها يوجد معبد أيضًا للبوذيين، فهذه الدعوة دعوة باطلة، ومُخالفة لنصوص القرآن، ومخالفة لنصوص السنة، والنبي ﷺ يقول: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[1] فلا يصح أن يُقال: إن هؤلاء يؤمنون بالله، ويصيرون إلى الجنة، ويتورع بعض هؤلاء من إطلاق الكفر عليهم، بل هم كفار بنص القرآن لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [سورة المائدة:73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [سورة المائدة:17] وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة:30] فهذا كله كفر صريح، وهذه قضية لا تحتاج إلى تنبيه، ولكن للأسف وجد في بعض من ينتسب إلى الإسلام من يُجادل ويُغالط في مثل هذه المسلمات.

ويقول الله هنا: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [سورة البقرة:137] فجاء بهذه الصيغة، والتوكيد بـ(إنما) ودخول ضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة، هم في شقاق، فهذا يدل على أن هذا الشقاق مستمر إن بقوا على دينهم، وأنهم في خلاف شديد معنا، لا يمكن الاجتماع، ولا يمكن المُقاربة مع هؤلاء بحال من الأحوال، والله يقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [سورة البقرة:217] ويقول الله -تبارك وتعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] فرضاهم لن يتحقق، وقتالهم لن يتوقف إلا بتركنا للدين، وأما الرضا فلن يتحقق إلا إذا اتبعنا ملة هؤلاء، وليس بتركنا للدين فحسب، فلاحظ التأكيد هنا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ وأيضًا جعلهم في شقاق (في) هذه تفيد الظرفية، يعني كأنهم مظروفون في الشقاق، وكأنهم في داخل الشقاق، فهم متوغلون ووالغون وواقعون ومُنغمسون فيه إلى النُخاع، يعني: أن ذلك لا يمكن أن ينفك، أو أن يُفارقهم بحال من الأحوال، فهو مستولٍ عليهم من جميع جوانبهم كالظرف الذي يُحيط بالمظروف.

ثم أيضًا هذا يدل على أنه لا حجة لأحد ممن يدع دين رسول الله ﷺ وهو دين الإسلام، الذي اختاره الله واصطفاه على سائر الأديان، إلا أن يكون في شقاق، يعني: ليس عنده إلا الشقاق، وليس هناك شيء آخر وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [سورة البقرة:137] إذًا: ليس إلا الاهتداء بهذا الحق الذي حبانا الله به، أو الشقاق، وليس هناك قسم ثالث.

ثم انظر ماذا قال بعد ذلك؟ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:137] فهؤلاء لن يدعوك، وسيبقون في شقاق، فإن لم يهتدوا بهذا، فهم سيعملون جاهدين على صدكم عن الدين ومحاربتكم، كما قال الله في أول سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة الأحزاب:1] ثم قال لما نهاه عن اتباعهم وطاعتهم: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة الأحزاب:2] ثم قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [سورة الأحزاب:3] إذا لم تطع هؤلاء، واتبعت الحق سيكيد لك هؤلاء، إذًا توكل على الله، وسيكفيك.

فهنا قال: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:137] فيُؤخذ منه توكل الدعاة، والرُسل، وأهل الإيمان، على الله -تبارك وتعالى- ولا يضرهم بعد ذلك كيد الأعداء، والله أخبر عن الأموال الطائلة التي يُنفقونها للصد عن سبيل الله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ هذا في الدنيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [سورة الأنفال: 36] فهذا هو النتيجة المُحققة، فلا يهولنّك تلك الأرقام الضخمة، والتريليونات التي يُنفقونها في حرب الإسلام بأنواع الحروب، فهذه كلها كما قال الله : فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [سورة الأنفال:36] لا تكون ضياعًا وهباءً فقط، لا، بل حسرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:36].

فيجب الاعتماد على الله، والثقة به وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3] يعني: كافيه، وهذا ظهر مصداقه في زمن النبي ﷺ حينما وعده الله بهذا فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:137] فغلب النبي ﷺ اليهود في جميع المواقع، في قريظة والنضير وفي بني قينقاع وفي خيبر، ولم تنزل أحكام الفيء إلا في حروب اليهود، ولم يكن مواجهة مع اليهود قط في حرب مع المسلمين، وإنما كان التسليم والنزول عن أموالهم من غير قتال؛ ولهذا يقول الله -تبارك وتعالى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [سورة الحشر:6] هذه الأموال التي حصلتم من هؤلاء اليهود في النضير وغيرها ما أوجفتم عليه من خيل، والخيل تُشير إلى الإغارة والهجوم، والرِكاب السفر الطويل، يعني: كأنه يقول: ما بذلتم مشقة، ولا قطعتم شُقة، ليس لكم شيء من هذا الفيء، وإنما صار ذلك إلى المسلمين من غير كدكم وجُهدكم وقتالكم، فالغنيمة أربعة أخماس للمقاتلين، بينما الفيء ليس للمقاتلين منه شيء، فكفاه الله ذلك كله فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:137] فالتعقيب بالفاء تدل على التعقيب المُباشر بعد هذا الشقاق، ومجيء السين، يعني لم يقل: فسوف يكفيكهم الله، فالسين للتنفيس، لكن ليست كسوف، فهي أقرب منها، فدل على قُرب هذه الكفاية، والله تعالى أعلم.

وإن كان الخطاب في قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [سورة البقرة:137] للنبي ﷺ لكن كما قال الشاطبي - رحمه الله - والحافظ ابن القيم أيضًا في غير هذا الموضع: بأن مثل هذا الوعد الذي يكون للنبي ﷺ هو لأمته من بعده، فهذه الكفاية تكون لأتباعه بقدر اتباعهم له تحصل لهم من الكفاية أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [سورة الزمر:36] فـ(عبد) مُفرد مُضاف يُفيد العموم، وفي القراءة الأخرى المتواترة (عباده) فهذا يشمل الجميع.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5] ويقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ۝ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:1- 6] والحافظ ابن القيم يقول: هذه جميعًا تكون له ولأمته أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [سورة الشرح:1] فيكون لأتباعه من شرح الصدر بقدر اتباعهم له وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [سورة الشرح:2] يكون لهم من حط الأوزار بحسب اتباعهم له، ولزومهم ما جاء به الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الشرح:3، 4] أنه يحصل لهم من رِفعة الذكر بحسب ما يكون لهم من الاتباع للنبي ﷺ والاقتداء به، فهذه حاصلة لأتباعه، والشاطبي يقول: كل ما كان من هذه التي أُعطيها النبي ﷺ من الخصائص إلا ما لا يكون إلا له، كالوحي والنبوة، ما عدا ذلك، فإنه يكون لأتباعه منه نصيب بقدر ما يكون لهم من الاتباع، مثل نُصرت بالرعب مسيرة شهر[2] فهذا لا يختص بالنبي ﷺ وإنما يكون لأتباعه أيضًا، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجُعل الذُل والصغار على من خالف أمري[3] وهكذا.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:137] لا يخفى عليه شيء من الأصوات، ولا يخفى عليه شيء من الأحوال، فهو مُحيط بهم، وبمكرهم، ويسمع كلامهم، وقولهم، وما يُبيتون، فيتوكل أهل الإيمان عليه، فنواصي الخلق بيده.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم: (153).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم: (521).
  3.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (5667) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".