الثلاثاء 03 / جمادى الأولى / 1446 - 05 / نوفمبر 2024
قُولُوٓا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلْأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِىَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136].
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد ﷺ مفصلاً، وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء.
فقوله - رحمه الله -: أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة إلى آخره: جعل ابن كثير قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ.. إلى آخره خطاباً للمؤمنين، مع أن السياق كما سبق هو في مخاطبة بني إسرائيل، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ذلك متوجه إلى غير المسلمين من أهل الكتاب، وغيرهم من الكفار، أي: أيها المفرقون بين الله، ورسله، والمفرقون بين الكتب تؤمنون ببعض، وتكفرون ببعض آمنوا بالله إيماناً صحيحاً، وقولوا آمنا بالله، وما أنزل إلينا.. إلى آخره -، والقول بأن هذا خطاب للكفار يساعده سياق هذه الآيات جميعاً.
ولا يمنع أن يكون ذلك خطاباً للجميع ليكونوا على استقامة، وسير صحيح؛ فالجميع مطالب بهذا الأمر، والمعنى أن الله   لما بيَّن كفر اليهود، والنصارى، وتناقضهم، وقولهم على الله بلا علم وجه الخطاب للمؤمنين، ووجه غيرهم إلى الإيمان الصحيح، وكيف ينبغي أن يكونوا، وعلمهم كيف يصلُح إيمانهم، واعتقادهم خلافاً لأهل الكتاب، وما هم عليه من التفريق بين الله، ورسله يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلّهم.أي أنه ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - الذين تتصل أنسابهم بهم، أو هم من أشهر أنبيائهم، فذكر لهم إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -، وهو إمام الحنفاء حيث تتنازعه جميع الطوائف، فكل طائفة تزعم أنه منها - اليهود، والنصارى، والعرب أهل الإشراك - .
وذكر لهم إسحاق ﷺ، وأنسابهم ترجع إليه، وذكر يعقوب، واليهود منتسبون إليه، وهذا مما يقوي أن الخطاب لأهل الكتاب، ومن أخص ما يدخل فيه اليهود، كما ذكر لهم موسى، وعيسى، فموسى هو أكبر أنبياء بني إسرائيل، وعيسى ﷺ جفوه، وتكلموا في حقه، وفي حق، والدته بما لا يليق.
والمقصود أنهم مطالبون بالإيمان بهؤلاء الرسل جميعاً ممن ينتسبون إليهم، ويعظمونهم، أو ممن جفوهم، وكفروا بما جاؤوا به، ورموهم بما لا يليق من الشناعات.
كما ذكر إسماعيل ﷺ، وقلنا: إن الخطاب لجميع الطوائف - للعرب، ولليهود، والنصارى - فهم جميعاً مطالبون بالإيمان، ولكن أولى ما يدخل في هذا الخطاب - كما سبق - هم أهل الكتاب لا سيما اليهود، - والله أعلم -.
ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:150 - 151] الآية.في بعض الآيات يذكر الله بعض الأنبياء، وفي بعضها يذكر آخرين، وهكذا في كل مقام بحسبه، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [سورة البقرة:136]، وفي بعضها يذكر نوحاً - عليه الصلاة، والسلام -، وعيسى، ومحمد - عليه الصلاة، والسلام -، وهكذا.
وبعض أهل العلم فسروا قوله - تبارك، وتعالى -: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35]، بما جاء في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب:7]، فقالوا: هؤلاء الخمسة هم أولو العزم.
وعلى كل حال يذكر الله بعض الأنبياء عليهم الصلاة، والسلام - في كل موضع بحسبه، ولا شك أن هؤلاء الذين ذكروا هم من كبارهم، وعظمائهم، ولكن ذلك لا يعني أن هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل خاصة دون غيرهم، فهذا لا أعلم دليلاً يقوم عليه.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تُكَذبوهم، وقولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا[1]علمهم كيف يقولون - يعني هذه الآية -، والخطاب في هذا الحديث موجه لأهل الإيمان من قِبَل رسول الله ﷺ، وذلك يؤيد أن الخطاب كما أنه متوجه لأهل الكتاب فهو متوجه للمؤمنين، ولا يلزم أن يكون الخطاب في الآية لأهل الإيمان استدلالاً بهذا الحديث؛ لأن الآية قد تنزل في شيء، وتستعمل في معنى آخر أخذاً بعمومها، وهذا له نظائر، مثل قوله تعالى: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54]، فهذه الآية في الذي يجادل في البعث، أو يجادل في آيات الله، أو في الوحي، أو في وحدانية الله ، فالله ذكر ذلك على سبيل الذم لهؤلاء، ولكن النبي ﷺ استعملها لما جاء إلى علي، وفاطمة - ا -، ووجدهما نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : "إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء بعثها" فرجع النبي ﷺ يلطخ فخذه، ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[2]، فمع أن الآية لم تأت أصلاً لتقرير هذا المعنى إلا أن عمومها يصلح أن يستعمل في هذا، وفي كل مجادل، ولو لم يكن يجادل في آيات الله، أو يجادل في الوحدانية، أو في البعث، - والله أعلم -.
ومثل ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24]، فقد دعا النبي ﷺ أبا سعيد بن المعلا، وهو يصلي فلم يجبه، قال: ثم أتيت فقال: ما منعك أن تأتي فقلت: كنت أصلي فقال:  ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:[24][3]، فمع أن الآية إنما نزلت بدعوة رسول الله ﷺ لهم إلى الإيمان، لكن إذا قال: يا أبا سعيد، أو يا فلان فهل الآية نزلت في هذا بحيث أنه يدخل فيها؟ طبعاً لا يدخل فيها، لكن عمومها أدخله؛ لأن النبي ﷺ لا يدعوهم إلا إلى خير، - والله أعلم -.
ومثل ذلك أيضاً الآية التي في سورة التوبة: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [سورة التوبة:108]، السياق في هذه الآية معلوم أنه في أهل قباء، لكن لما اختلف الخدري مع العوفي حيث العوفي يقول: هو مسجد قباء، والخدري يقول: هو مسجد رسول الله ﷺ فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فقال –عليه الصلاة، والسلام -: هو مسجدي هذا، فالسياق في مسجد قباء، فيمكن أن يقال: إن النبي ﷺ ذكر أحق ما يدخل فيها، فإنه وإن كان السياق في مسجد قباء، فإن مسجد رسول الله ﷺ أولى بهذا الوصف، وهو لا يخرج مسجد قباء عنه، وهكذا.
ومن أمثلة ذلك: قول النبي ﷺ على المنبر: إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراةً غرلاً، ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104][4] فأصل الآية إنما جاءت للدلالة على القدرة على البعث، فالذي خلق أولاً قادر على الإعادة ثانياً إلا أن عمومها يمكن أن يؤخذ منه هذا المعنى، وهكذا.
وللعلم فإني إنما أذكر هذا لأن مثل هذه الأشياء تنمي الملكة، وتبقى مع الإنسان، وإن نسي المعاني التي يقرؤها.
وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عباس –ا - قال: كان رسول الله ﷺ أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بـآمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136] الآية، والأخرى بـآمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:52][5].يعني أنه كان يقرأ في الركعة الأولى من سنة الفجر هذه الآية: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136]، وفي الركعة الثانية يقرأ آية آل عمران: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:52]، وهذا في صحيح مسلم.
وورد في صحيح مسلم أيضاً أنه قرأ في الركعة الثانية: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:64]، فالحاصل أنه يقرأ بهذا مرة، وبهذا مرة.
والمشهور في قراءته ﷺ في سنة الفجر أنه كان يقرأ في الأولى بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1]، والثانية بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ سورة الإخلاص:1]، وكانت صلاته قبل الفجر –أعني الركعتين - خفيفة كما في حديث عائشة حتى كانت تقول: : كان رسول الله ﷺ إذا طلع الفجر صلى ركعتين أقول: هل يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب[6].
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسمّوا الأسباط.على قول هؤلاء العلماء من السلف فإن الأسباط هم بنو يعقوب، وهم بهذا العدد، ومنهم تفرعت قبائل بني إسرائيل، فهم كانوا على اثنتي عشرة قبيلة، وقد جاء هذا في عدد من آيات القرآن، فهذا هو القول المشهور، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وهو أن الأسباط هم أولاد يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - .
وبعض أهل العلم يستشكل هذا من جهة أن المعروف أن الأسباط هم قبائل الإسرائيليين، فالأولاد الاثنا عشر لا يمثلون قبائل، وبالتالي قال بعضهم: هم أولاد أولاد يعقوب، فهم من الكثرة بحيث يمكن أن يقال: إن كل واحد من هؤلاء الذين تفرعوا من أولاده يمثل مجموعة من الناس، فهم عبارة عن مجموعات كل مجموعة ترجع إلى واحد من ولد يعقوب ﷺ.
لماذا سموا بالأسباط:
يمكن أن يقال: هل هذه كلمة عربية في أصلها أم لا؟ فإن كانت عربية فيمكن أن نفسرها من كلام العرب بذكر مادة اشتقاقهاً، وإن كانت غير عربية فلا مجال لهذا؛ لأنك لا تقول مثلاً: من أين أخذت إبراهيم بالعربية، لكن بالأعجمية يمكن كما سبق أن ذكرنا أن بعضهم يقول: إن أصل إبراهيم أب رحيم، وموسى بالعبرانية موشى، ويقولون: أصلها ماء، وشجر، وربما يكون ذلك صحيحاً لكن ذلك لا يرجع إلى العربية، إلا أن اللغة العبرانية فيها تشابه إلى حد كبير مع اللغة العربية، فهي أقرب إلى اللغة العربية من اللغة الإنجليزية مثلاً، لذلك تجد كلمات من كلام العبرانيين يمكنك فهمها لكن قد يكون السين شيناً مثلاً، وهكذا.
الحاصل أن بعضهم يقولون: إن الأسباط من السبط، وهو التتابع، فالأسباط هم جماعة متتابعون، وبعضهم يقولون: إنها بالفتح من السبط، وهو الشجر، والمعنى أنهم من الكثرة بمنزلة الشجر، وهذا المعنى لا يخلو من غرابة.
وبعضهم يقول: هم أولاد أولاد يعقوب؛ لأن الكثرة فيهم، وليست في أولاد يعقوب، وعلى كل حال فالمشهور أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وبعضهم يقول: هم قبائل الإسرائيليين، وسواء قلنا هذا، أو هذا فقبائل الإسرائيليين إنما ترجع إلى أولاد يعقوب، وبالتالي بين القولين نوع ملازمة، وليس من الضرورة أن نرجح بين هذين القولين، وأما الذين قالوا: إنه من الشجر لكثرته، أو بمعنى التتابع فإن هذا لا يعارض أن يكون المراد به قبائل بني إسرائيل، فهم لا ينكرون هذا، لكن القول بأنهم سموا بذلك لتتابعهم، أو لكثرتهم فهذه محاولة لتعليل التسمية، وليس هناك ضرورة لمثل هذا، ولا يترتب عليه كبير فائدة، ولا يتوقف عليه العمل بكتاب الله - تبارك، وتعالى -، والله أعلم-. 
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب قوله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ، وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [(136) سورة البقرة:] (4215) (ج 4 / ص 1630).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب في المشيئة، والإرادة وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [(30) سورة الإنسان:] (7027) (ج 6 / ص 2716)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (775) (ج 1 / ص 537).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [(87) سورة الحجر:] (4426) (ج 4 / ص 1738).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6161) (ج 5 / ص 2391)، ومسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها – باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة (2860) (ج 4 / ص 2194).
  5. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما، وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما (727) (ج 1 / ص 502)، وأبو داود في كتاب الصلاة - باب في تخفيفهما - أي ركعتي الفجر - (1259) (ج 1 / ص 403)، والنسائي في صفة الصلاة - باب القراءة في ركعتي الفجر (944) (ج 2 /  ص 155)، ولفظ: أن كثيراً ما كان يقرأ...الخ في أبي داود.
  6. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما، وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما (724) (ج 1 / ص 500).

مرات الإستماع: 0

"لا نُفَرِّقُ أي: لا نؤمن بالبعض دون البعض، وهذا برهان؛ لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبي، فالكفر ببعضهم، والإيمان ببعضهم تناقض".

"وهذا برهان" البرهان هو الدليل القاطع للعذر، أهل المنطق يطلقونه على القياس العقلي، المؤلَّف من اليقينيات، ويسمونها البرهان، وتجدون هذا في كلامهم كثير، نوع من الأقيسة العقلية، يسمى البرهان، وقد مضى الكلام عليه في شرح كتاب (قواعد الأصول، ومعاقد الفصول) في أصول الفقه، في أواخره ذكر البرهان، ذكر أشياء منطقية في الأقيسة، منها القياس العقلي، والقياس العقلي المبني على اليقينيات يقال له: البرهان.

فهنا يقول: "هذا برهان" ولا يقصد مطلق الدليل، وإنما يقصد مصطلح معين عند أهل المنطق، الدليل قياس عقلي مبني على اليقينيات، ومقدمات الأقيسة - كما هو معروف - يكون مقدمة أولى، ومقدمة ثانية، ثم نتيجة مثلًا، فإذا كانت هذه المقدمات يقينية، فهذا عندهم برهان على تفاصيل كثيرة لهم في هذا، فهنا لَا نُفَرِّقُ لا نؤمن بالبعض دون البعض هذا برهان؛ لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبي، فالكفر ببعضهم، والإيمان ببعضهم تناقض، يعني إذا كنت تؤمن بموسى وتقول: لأنه جاء بالمعجزة، طيب فلماذا لم تؤمن بعيسى، وقد جاء بمعجزات؟! ولماذا لم تؤمن بمحمد ﷺ وقد جاء بمعجزات؟ وأعظم هذه المعجزات القرآن، والتحدي قائم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]؟! فهذا تفريق بلا موجب، يلزمكم الإيمان بجميع الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -؛ لأنهم جاءوا بالمعجزات.

مرات الإستماع: 0

نواصل الحديث فيما يتصل بالهدايات المستخرجة من هذه الآيات من سورة البقرة؛ وذلك في جملة ما خاطب الله به بني إسرائيل، أنهم قالوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [سورة البقرة:135] فردّ الله -تبارك وتعالى- عليهم بقوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة البقرة:135].

ثم أمر أهل الإيمان أن يقولوا ما جاء في الآية بعدها: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136] فبعد الإجمال السابق في قوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة البقرة:135] جاء هذا التفصيل فيما يتصل بالإيمان ومتعلقاته.

قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء من أهل الكتاب آمنا بالله، وأقررنا وأذعنا، وانقادت قلوبنا وجوارحنا، وأقرت ألسنتنا بأن الله -تبارك وتعالى- هو الواحد الحق المعبود بحق، وكذلك آمنا بما أُنزل إلينا من القرآن، ومما أوحى الله -تبارك وتعالى- به إلى رسوله ﷺ من الوحي الآخر الذي يشرح هذا القرآن، وهو سنة رسول الله ﷺ فهي وحي من الله.

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136] فـ(ما) هذه تفيد العموم، فيشمل ذلك القرآن والسنة وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:136] من الصُحف وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [سورة البقرة:136] وهم الذرية ليعقوب الأنبياء من قبائل بني إسرائيل، يُقال لهم: الأسباط، وهم من نسل يعقوب ولم يكن أولاد يعقوب سوى يوسف والراجح أن أولاده البقية لم يكونوا أنبياء، فالأسباط يُقال لقبائل بني إسرائيل الذين تفرعوا من هؤلاء الأولاد من أولاد يعقوب فكان فيهم أنبياء، يعني في ذرية يعقوب على مدى أزمان مُتباعدة، كان بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كما قال النبي ﷺ حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، فهذا يدل على كثرة هؤلاء الأنبياء في بني إسرائيل.

فما أوتي موسى من التوراة، وعيسى من الإنجيل، وما أوتي جميع الأنبياء من الوحي من الله -تبارك وتعالى- وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:136] فعمّ بعد أن خصّ؛ وذلك أنه -تبارك وتعالى- هنا ذكر ما أُنزل إلى هذه الأمة، وذكر ما أُنزل إلى إبراهيم وولده، وما كان في ذريته من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لأن هؤلاء ينتسبون إليهم، فلم يذكر لهم ما أُنزل على نوح وهود وصالح -عليهم السلام- وغير هؤلاء من الأنبياء، وإنما ذكر هؤلاء خاصة، ثم عمّ بعد ذلك: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ.

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [سورة البقرة:136] بمعنى أننا لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض، وإنما نؤمن بالجميع، فالواجب هو الإيمان المُجمل بالرسل الكِرام -عليهم الصلاة والسلام- وبالوحي والكتب المُنزلة عليهم إجمالاً، ومن بلغه شيء من أسماء هؤلاء الأنبياء بأعيانهم، أو هذه الكتب كالتوراة والإنجيل، فيجب عليه أن يؤمن بأنها كتب منزلة من عند الله على سبيل التخصيص والتحديد، وإلا فالإيمان المُجمل يكفي، يعني: لو أن أحدًا من عامة المسلمين، لم يعرف أسماء هؤلاء الأنبياء، يعرف سورة الفاتحة، وقِصار السور، ويعرف نبينا ﷺ لكنه لا يعرف أسماء الأنبياء، فهو يؤمن إيمانًا مجملاً، ولا يعرف أسماء الكتب غير القرآن، فهل يُقال: إن إيمانه الواجب قد نقص؟ وأن إيمانه لم يتم؟ الجواب: إن إيمانه صحيح، لكن إذا بلغه شيء من ذلك وجب عليه الإيمان به، هذا معنى الإيمان المُجمل، والإيمان المفصل.

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة:136] فهذا إسلام القلوب والجوارح، فلا يكون في القلب أدنى معارضة، وتستسلم الجوارح وتنقاد، ويستسلم اللسان.

ويُؤخذ من هذه الآية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [سورة البقرة:136] أي: بألسنتكم، وهذا الأصل في القول أنه يكون باللسان، لكن مع مواطأة القلب؛ لأن الإيمان لا ينفع بمجرد نُطق اللسان، فالمنافقون كانوا ينطقون بألسنتهم بكلمة التوحيد، لكن من غير مواطأة القلب، فكان ذلك من النفاق.

كما أنه لا ينفع التصديق القلبي دون انقياد القلب، ودون الإذعان والإقرار القلبي، يعني مجرد التصديق وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل:14] فهذا الذي وقع في قلوبهم من التصديق سواء كان ذلك فيمن بُعث إليهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أو في المشركين الذين بُعث فيهم النبي ﷺ فالتصديق وحده لا يكفي، وليس هو الإيمان المطلوب شرعًا، بل المطلوب التصديق الانقيادي يعني تصديق خاص، فالإيمان ليس بمعنى التصديق حتى في لغة العرب، وقد ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- نحو سبعة أوجه من الفروقات بين الإيمان والتصديق في اللغة[1] ولذلك الإيمان هو تصديق خاص، تصديق انقيادي بمعنى الإقرار والإذعان ونحو ذلك، فهنا قولوا بألسنتكم مع مواطأة القلوب، هذا القول الذي ذكره الله -تبارك وتعالى.

ولاحظوا هنا: قالوا آمنا بالله قُدم الإيمان بالله؛ لأنه هو الأصل في جميع الشرائع، ثم أيضًا قدم قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا مع أن الذي أُنزل على هذه الأمة جاء مُتأخرًا بالنظر إلى من ذكر من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من لدن إبراهيم  إلى عيسى  وذلك أن الإيمان بما جاء به النبي ﷺ شرط في صحة إيمان هؤلاء، فإن إيمانهم بهذه الكتب المُنزلة عليهم، وبهؤلاء الرسل الكِرام -عليهم الصلاة والسلام- لا يكفيهم، ولا يُغني عنهم شيئًا إن لم يؤمنوا بما أُنزل على النبي ﷺ.

ثم بالنسبة لهذه الأمة، وهم لا شك أن الذين أدركوا النبي ﷺ هم من جملة أمته حتى أهل الكتاب، فهم من أمة الدعوة، ممن يتوجه إليهم الخطاب، فهم مطالبون بالإقرار بالنبي ﷺ فقدّم ذلك قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وقوله هنا: قُولُوا آمَنَّا وفي خطاب النبي ﷺ: قُلْ آمَنَّا [سورة آل عمران:84] فوجّه الخطاب إليه ﷺ لمزيد الاختصاص بمُباشرة الرد على هؤلاء من أهل الكتاب فدعوته تشملهم، وجاء بجمع الضمير قُولُوا آمَنَّا هذا لعموم الأمة تعليمًا لها.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [سورة البقرة:136] جاء على نسق من الترتيب بحسب الزمان إلا فيما يتعلق بما أُنزل على محمد ﷺ وهذا يدل على أن الترتيب في القرآن في جملة المذكورات لا يدل على الترتيب بحسب الوقوع في الزمان، فتارة يكون كذلك، وتارة يكون على غير هذا المعنى.

وأيضًا فيه إشارة إلى البداءة بالأهم، وإن كان مُتأخرًا وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:136] فقدم ما أُنزل إلى هذه الأمة لأنه الأهم.

وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:136] والذي أوتيه النبيون من ربهم -عليهم الصلاة والسلام- هو الوحي والنبوة والكتاب، فهذا هو المهم والمطلوب، وهذا الذي يجب الإيمان به، والعناية به، ولم يقل: وما أوتي النبيون من ربهم من الرزق والمال والبلاد التي فتحوها، ونحو ذلك، وإنما الوحي والعلم والنبوة، فهذا هو ميراث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإنه لم يورث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أراد ميراث النبوة فعليه أن يشتغل ويُقبل على العلم، وأن يعتني به، ولُباب العلم وخُلاصته ما جاء في هذا الوحي، فيتعلم علوم الوحي من الكتاب والسنة، وما يُطلب لذلك مما يكون مرقاة له، ومما لا بد له منه، من أجل أن يفهم نصوص الكتاب والسنة من العلوم المساعدة وهي علوم الوسائل.

فهنا قال: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:136] وفي سورة آل عمران لم يقل: وما أوتي، وإنما قال: وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة آل عمران:84] فلم يذكر الإيتاء، فيمكن أن يكون ذلك باعتبار أن آية آل عمران قال الله فيها: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [سورة آل عمران:81] ثم بعد ذلك جاء الأمر بالإيمان من غير ذكر الإيتاء، فأغنى ذكره أولاً عن إعادته ثانيًا، والله تعالى أعلم، بينما في سورة البقرة لم يُذكر الإيتاء قبل ذلك.

وفي قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [سورة البقرة:136] في هذا الموضع تنزيل المفرد منزلة الجمع، في تناوله الآحاد مطابقةً، باعتبار أن لفظ (أحد) هو مُفرد في لفظه، لكنه بمعنى الجمع، لا سيما أنه جاء في صيغة النفي، والنكرة في سياق النفي تُحمل على العموم؛ ولذلك صح دخول (بين) لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [سورة البقرة:136].

وفي قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136]... إلى آخره، جاء ذلك بهذه الصيغة أن يقولوا جميعًا، قولوا آمنا بالله، أن يقول ذلك كل أحد، وأن يقوله مجموع الناس، فنزلهم منزلة النفس الواحدة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فأتى بضمير الجمع قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136].

  1.  المنتخب من كتب شيخ الإسلام (ص:62).