السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا۟ عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:142-143].
روى البخاري عن البراء أن رسول الله ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهراً[1].
قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء: لم يتعرض لها المفسر - رحمه الله - هنا ما تعرض لها، وعلى كل حال كان ينبغي أن يورد تفسيرها هنا كأن يقول مثلاً: السفهاء عامة في اليهود، والنصارى، وأهل الإشراك بعمومهم.
والمقصود بالسفهاء خفاف الأحلام الذين ليس لهم عقل راجح رزين يزِنون به الأمور، ويقدرون به الأشياء على وجه صحيح، فهم الذين أضاعوا حظهم، ونصيبهم من الله باتباع الباطل، والإعراض عن الحق حسداً، واتباعاً لأهواء النفوس، فهم أهل الجهل، والغباء، وخفة العقل حيث إنهم اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالثواب.
والمراد بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا هم اليهود في الدرجة الأولى، وأهل النفاق، ويدخل في هؤلاء أيضاً أهل الإشراك، وهذا التعبير هل هو بصيغة الماضي أم أنه يدل على الاستقبال؟ الجواب هو أن ذلك يكون في المستقبل يعني إذا حولت القبلة سيقول السفهاء: كذا، وكذا.
وبعض أهل العلم يقولون: إن قوله - تبارك، وتعالى - في الآيات التي ستأتي: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] إنها متقدمة، فهو أمرهم بالتوجه إلى البيت الحرام، ثم أخبرهم عن قول السفهاء، ولهذا قال بعض أهل العلم في قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء: إنه عبر بالمستقبل، وهو بمعنى المضي، أي: قال السفهاء، ولكن، وجه التعبير بالمستقبل هو أن ذلك حصل بعد أن حولت القبلة، وتكلم من تكلم. 
قالوا: ووجه التعبير عن الماضي بالمستقبل للدلالة على استدامته، بمعنى أن هذا القول الذي قالوه سيستمرون عليه، ويرددونه، ويكررونه، ويعيدونه مرة بعد مرة في مناسبة، وفي غير مناسبة. 
وعلى كل حال هنا يطمئن الله تعالى نبيه ﷺ، وأتباعه فيقول لهم: لا تبتئسوا، ولا تنزعجوا من مقالة هؤلاء فإنهم سفهاء، والسفيه لا يلتفت إليه، ولا إلى كلامه؛ إذ ليس له، وزن.
فهذا تعليم من الله لعباده المؤمنين كيف يكون تعاملهم مع أهل السفه، فأقوال أهل السفه، والتهم الصادرة منهم، وما يذيعونه، وينشرونه من قالة السوء أمر لا يحتاج إلى التفات، واشتغال، ولا ينبغي أن تنزعج منه النفوس، وتبتئس منه القلوب بحيث يتثبط الإنسان عن الحق الذي هو عليه، أو يجزع، أو يحزن، أو يضعف، أو يتراجع، فهؤلاء سفهاء، والسفيه لا قدر له، ولا وزن لكلامه، ولا يعبأ به، ولهذا وصفهم بالسفهاء، ولم يقل: سيقول اليهود، والنصارى ما ولاهم عن قبلتهم، وإنما قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء، وإذا كانوا سفهاء فالسفيه لا قيمة له، فهو ليس من أهل الحصافة، والرأي، والنظر السديد بحيث يحتاج كلامه إلى نظر، وتأمل، وهكذا الأمر في كل سفيه عليك أن تدعه يتكلم كما يحلو له، فإذا سئلت عنه فقل: كم بلغ سعر الحنطة؟ وإذا مررت به وهو يهذي، ويهذر فكبر عليه أربعاً، وإن شئت فزد واحدة، وكبر عليه خمساً، وإن زدت فلا بأس، لكن لا تقف معه؛ لأنك إن نزلت، وطاولته في الكلام، وراجعته فيه فقد صرت قرناً له؛ فالعاقل لا ينزل بنفسه مع هؤلاء. 
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم.هنا في هذه الرواية التي عند البخاري ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ووجه الجمع بين هذه الروايات ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وتكلم عنها كذلك العلماء في بعض كتب النسخ مثل كتاب النحاس في الناسخ، والمنسوخ حيث ذكر جملة من الروايات.
لقد هاجر النبي ﷺ، وبقي على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، والمشهور أنه بقي ستة عشر شهراً، فالعلماء يتكلمون في توقيت هجرته ﷺ، ومتى حولت القبلة، والشهر الذي حول فيه، وأي يوم كان ذلك من الشهر، ثم يذكرون كم كانت المدة التي بقيها النبي ﷺ، ومعلوم أنها دون العامين قطعاً، وجاء في بعض الروايات ثمانية عشر شهراً، لكن هذا ضعيف، والصواب أنها ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر، وعلى كل حال الجمع بين هذه الروايات توجد في مثل شرح الحافظ ابن حجر على الصحيح في فتح الباري، - والله اعلم -.
وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد، وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي ﷺ قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت.هذه الرواية في الصحيح [2]، وجاء أيضاً أن أول صلاة كانت صلاة الفجر، وعلى كل حال الكلام على هذا، والجمع بين هذه الروايات ليس هذا محله، وإنما محله فتح الباري.
وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] انفرد به البخاري، ورواه مسلم من وجه آخر.يُلاحظ أن رواية البخاري هذه صريحة في أن سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أنهم تساءلوا عن أولئك الذين ماتوا، أو قتلوا - ، وأرضاهم - قبل أن تحوَّل القبلة في غزوة بدر مثلاً التي كانت في السنة الثانية للهجرة في شهر رمضان، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة للهجرة في شهر شوال، حيث قالوا: ما حال أولئك الذين ماتوا، ولم يصلوا إلى الكعبة؟ هل كانت صلاتهم باطلة، وكأنهم لم يصلوا، فقال الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143].
والمقصود أنه حينما يذكر المفسر قضية، ويعبر بعدها بمثل قوله: فأنزل الله قوله كذا فهذا يكون من قبيل الصريح لأسباب النزول، وعندما يقول: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا غير صريح، وعرفنا الفرق بين الصريح، وغير الصريح في درس سابق من تفسير هذه السورة.
قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142]: هؤلاء السفهاء أثاروا بلبلة بسبب القبلة فقالوا: إن كان توجهكم قبلُ إلى بيت المقدس حق فأنتم الآن على باطل، وإن كان توجهكم إلى الكعبة حق فقبلتكم الأولى كانت باطلة، والجواب عن هذه البلبلة أن يقال: قبلتهم الأولى كانت بأمر الله، وتحولهم إلى الكعبة أيضاً بأمر الله، فالله هو الذي يتصرف فيهم كما يشاء، وهو الذي يشرع لهم تشريعاً موافقاً للحكمة، فيأمر بشيء في وقت تكون فيه المصلحة، ثم يحولهم عنه إلى أمر آخر تكون المصلحة فيه في الحال التي تعقبها، فهذا كله بأمر الله ففي الحالة الأولى كانوا على حق؛ لأنهم متبعون لأمر الله، ثم صاروا على الحال الأخرى أيضاً على الحق، لأنهم متبعون لأمر الله، فالمؤمنون يدورون مع أمر الله حيث دار.
ومن سفه هؤلاء اليهود أنهم قالوا في النبي ﷺ: إن هذا التحول يدل على التذبذب، والتردد، وهذا لا يكون من نبي فهو متحير، تارة يتبع هذه الجهة، وتارة يتبع هذه الجهة.
والجواب عن ذلك أنه - عليه الصلاة، والسلام - دائر مع أمر الله ، فهو متبع لأمره  مطيع لربه - تبارك، وتعالى -، فهو ليس من عند نفسه بحيث يتبع تارة هذا، وتارة هذا كما يزعمون.
ومن سفه المشركين أنهم استبشروا خيراً، وقالوا: تحول محمد إلى قبلتنا، وترك قبلة اليهود، وهذا مؤذن برجوعه إلى ديننا، وملتنا، وهكذا رد الله عليهم جميعاً بقوله - تبارك، وتعالى -: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142]، - والله أعلم -.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "روى محمد بن إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله ﷺ يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143][3].فهذه الرواية هي من أحسن ما يُفسر به قوله - تبارك، وتعالى -: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] بمعنى أن النبي ﷺ كان يكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، ويتطلع إلى توجيه الله له أن يستقبل الكعبة بدلاً من بيت المقدس، وكذا قوله في هذه الرواية: "قال رجل من المسلمين..." إلى آخره.
فهذا الرجل الذي يود لو علم حال من مات ممن كان يصلي إلى بيت المقدس، يعني أن يعرف حالهم من جهة قبول الصلاة، هل كانت صلاتهم مقبولة أم لا؟ وذلك - كما سبق - أن اليهود، والمنافقين أثاروا بعض الشبهات في هذا الموضوع، فقالوا لهم: إن كنتم الآن على حق - يعني بعد التحويل إلى الكعبة - فإن هذا يعني أنكم كنتم على باطل، بمعنى أن صلاتكم غير صحيحة، وعملكم مردود، وإن كنتم على حق فأنتم الآن على باطل، فالحاصل أن ذلك أقلقهم فتساءلوا عن حال أولئك الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، قال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، فهم تساءلوا عن حال إخوانهم، وعن حالهم هم أيضاً، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143]، ولذلك يطرح بعض المفسرين سؤالاً - ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فيقول: ما العلة في أن هؤلاء سألوا عن إخوانهم فخاطبهم الله بقوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ؟ [سورة البقرة:143] ثم يجيب عنه فيقول: إنهم سألوا عن إخوانهم، وهذا السؤال أيضاً يعود إليهم؛ لأنهم كانوا يصلون معهم في السابق.
وأقول: ممكن أن يجاب عن هذا بأوضح من هذا الجواب، فيقال كما جاء في هذه الرواية: إنهم سألوا عن إخوانهم، وعن أنفسهم أيضاً صراحة، فكان ذلك سبباً لنزول الآية، فابن جرير أورد سؤالاً، وأجاب عنه باجتهاده - رحمه الله -، وهذه رواية صريحة فيما قلناه، - والله أعلم -.
طالب: يا شيخ الرواية: سألوا عن إخوانهم؟
سألوا عن صلاة إخوانهم، وعن صلاتهم، فالسؤال الذي أوردوه عن صلاة إخوانهم: ما بال الذين ماتوا؟ فقال: إن هذا يرجع إليهم بالضرورة باعتبار أنهم كانوا يصلون معهم أيضاً، وفي هذه الرواية التي قرأناها الآن: وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ السؤال عن صلاتهم هم.
"وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ .. إلى آخر الآية."سيقول السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب؛ لأن السياق فيهم كما سبق، وأيضاً يدخل فيها كل من تعلق بهذه القضية من المنافقين، ومن المشركين، وذلك أن المنافقين تكلموا في هذا الموضوع، وتكلم فيه المشركون، فقال المشركون: إنه قد تحول إلى قبلتكم، وذلك مؤذن بتحوله إلى دينكم، بمعنى أنه رجع إلى قبلتكم ثانية فهذه توطئة إلى رجوعه إلى دينكم، وإلا فما الذي حوله؟
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: إن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً." هذه الرواية: "بضعة عشر شهراً"، والرواية التي مرت بنا في الصحيح: "ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً" على الشك، أو يكون ذلك باعتبار آخر، وهو أن النبي ﷺ كانت هجرته في ربيع,، وحُول إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة في منتصف شهر رجب، هذا هو المشهور، فإذا حُسبت المدة، وحُسب شهر الهجرة مع شهر التحويل كانت سبعة عشر شهراً، وإذا جُبر هذا بهذا باعتبار أن هذا بعض الشهر، وهذا في نصف الشهر لا سيما إذا قلنا: إنه هاجر في الثاني عشر من ربيع الأول، والتحويل في منتصف شهر رجب، فإذا جُمع هذا إلى هذا، وألغي الزائد جبراً للكسر كان ذلك ستة عشر شهراً بهذا الاعتبار.
ولهذا جاء في بعض الروايات كما ذكرت في السابق مجزوماً به: أنه ستة عشر شهراً، وأما ما ورد من أنه ثمانية عشر شهراً فهذا ضعيف، - والله أعلم -.
وورد دون ذلك حيث جاء في بعض الروايات: أنه اثنا عشر شهراً، وجاء في بعضها شهران.. إلى غير ذلك مما ورد، لكن المشهور على كل حال بضعة عشر شهراًَ.
"وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله : فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] أي: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142]."هذه الرواية الآن فيها التصريح بأن الذين قالوا ذلك هم اليهود، سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ [سورة البقرة:142]، ولا شك أن اليهود هم أولى من يدخل في ذلك، ويدخل في عموم "السفهاء من الناس" كل من تكلم في هذه القضية.
"وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله ﷺ أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس - ا -، والجمهور."بهذا يمكن الجمع بين ما ورد من كونه توجه إلى بيت المقدس بعد ما هاجر، وبين ما ورد من أنه كان يستقبل بيت المقدس، وهو في مكة، وهذا ثابت عن ابن عباس - ا -، وجاء فيه بعض الروايات عن غيره، وقال به جماعة مثل الحافظ ابن عبد البر - قالوا: إن النبي ﷺ كان بمكة يستقبل بيت المقدس، وصفة ذلك أنه كان يجعل الكعبة بينه، وبين بيت المقدس، ومعنى ذلك أنه كان يقف بين الركنين اليمانيين، ومن ثمّ فإنه في هذه الحالة لا يتبين أنه كان يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة - وهي تقع في شمال مكة - صار لا يمكنه أن يستقبل بيت المقدس إلا أن يستدبر مكة، ولهذا جاء في بعض الروايات: أنه بعد ما هاجر إلى المدينة حول إلى بيت المقدس بعد ما كان يستقبل الكعبة، فالذين قالوا: إنه حول كما جاء في بعض الروايات بعد هجرته ﷺ، على قولهم تكون قد نُسخت القبلة من استقبال الكعبة التي كانت ثابتة بالسنة إلى بيت المقدس، وهذا التحويل أيضاً بالسنة، فيكون من قبيل نسخ السنة بالسنة، ثم حُول بالقرآن إلى الكعبة، فكان ذلك من قبيل نسخ السنة بالقرآن، فهذا مثال من أوضح الأمثلة على نسخ السنة بالقرآن.
وأما إذا قلنا: إنه كان يجعل الكعبة بين يديه، ويصلي إلى بيت المقدس، وأنه لم يكن هناك نسخ للكعبة إلى بيت المقدس، فإن النسخ يكون قد وقع مرة واحدة، ولعل هذا أقرب، - والله تعالى أعلم -.
وأما قول من قال: إن النبي ﷺ كان يستقبل الكعبة حينما كان بمكة، ثم لما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس باجتهاده، واختياره، وكان يحب موافقة اليهود، ويطمع في دخولهم في الإسلام فهذا في غاية البعد؛ لأن هذه قضية لا تكون بمحض الاجتهاد، والاختيار، إنما هو تشريع، والله يقول: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [سورة النجم:4] فلو كانت المسألة بالاختيار لتوجه النبي ﷺ إلى الكعبة؛ لأن الله وصف حاله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] فكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم ﷺ، لا سيما، وأن المشركين كانوا يحتجون عليه، ويقولون: تزعم أنك على ملة إبراهيم، ولا تستقبل قبلته؟! أضف إلى ذلك أن اليهود كانوا يعلمون أن القبلة التي كانت للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كانت إلى الكعبة، ويعلمون أنها ستحول.
"وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب أن الخبر، وصل قوماً من الأنصار، وهم في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فتوجهوا نحو الكعبة[4].
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر - ا - أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة[5]."
على كل حال بعض أهل العلم يقول: إن التحول الذي حصل في صلاة الفجر كان لأهل قباء، وأن التحول الذي كان في صلاة العصر كان في بني سلمة، وأن النبي ﷺ صلى صلاة الظهر في مسجده حيث حُوّل إلى بيت المقدس، هكذا جمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات، وعلى كل حال من شاء فليراجع ذلك في مظانه، ومن ذلك ما ورد في الفتح في المجلد الأول في كتاب: الإيمان، في أول الصحيح.
"وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، وإبلاغه."هذه مسألة معروفة في الأصول، وتذكر أيضاً في موضع آخر في غير باب الناسخ، والمنسوخ في أصول الفقه، تذكر في أول الأصول عند الكلام على التكليف، وشروط التكليف، فهناك شروط عامة في كل تكليف، وهناك شروط خاصة تضاف إليها في التكليف المعين، فشروط الوجوب مثلاً هناك شرطان أساسيان في كل عبادة: القدرة، وبلوغ الخطاب، وبعضهم يقول:، وفهم الخطاب، إذا لم يبلغه الخطاب فإنه غير مكلف، وهناك شروط خاصة في كل عبادة، مثل ما تقول مثلاً: شرط، وجوب صلاة الصبح: زوال الشمس، وشرط، وجوب صلاة العصر: أن يصير ظل كل شيء مثله، وهكذا في كل عبادة بحسبها، شرط وجوب رمضان: رؤية هلال رمضان، هذا في العبادة الخاصة.
المقصود أن هؤلاء الذين بلغهم التحويل بعد ذلك، أو وهم في أثناء الصلاة، قد صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس، والقبلة حُولت قبل ذلك، فلم يلزموا بإعادة الفرض السابق، ولم يلزموا أيضاً بإعادة الفرض الذي كانوا فيه حينما بلغهم، فصح بناؤهم على هذه الصلاة التي استقبلوا فيها القبلة المنسوخة، وبالتالي فإن التكليف لا يلزم إلا ببلوغ الخطاب، ولذلك مما يدخل في هذه المسألة مسألة معروفة أيضاً عند أهل العلم، وهي فيما إذا كان هذا الخطاب لم يبلغ هذا المكلف المعين فهل يؤمر بالإعادة أم لا؟ وهذا له أمثلة:
فمثلاً المرأة التي كانت تصلي - وهي حمنة - كانت تستحاض، وتدع الصلاة، والصوم، وفي بعض الروايات: تدع الصلاة، والصوم سبع سنين، فالنبي ﷺ ما قال لها: أين أنتِ؟ هذه استحاضة، ويجب عليكِ قضاء سبع سنين حيث كنتِ لا تصلين، ولا تصومين، أو على الأقل ما قال لها: يجب عليكِ قضاء سبع رمضانات، علمها، ولم يأمرها بالقضاء.
وكذلك حديث المسيء صلاته، قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل[6]؛ لأنه كان في الوقت، لكن الرجل طول عمره، وهو يصلي بهذه الطريقة، فما قال له: عليك أن تعيد جميع الصلوات.
وكذلك حديث معاوية السلمي لما عطس، وقال: الحمد لله، ثم قال: واثُكْلَ أُمِّياهْ، وجلس يتلفت، ما قال له النبي ﷺ: أنت الآن صلاتك باطلة، وصلواتك السابقة كلها باطلة؛ لأنك تتكلم، وإنما علمه، وبالتالي فإن الأقرب - والله أعلم - في مثل هذا أن يقال: إن كل من لم يبلغه التكليف فهو معفو عنه، ولا يطالب بقضاء، ولا إعادة.
"لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر، والمغرب، والعشاء، -والله أعلم -."وهذا الكلام الذي ذكرته آنفاً هو الذي يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وإن كان كثير من الفقهاء يطالبون الإنسان بإعادة رمضان، وبإعادة الصوم الذي صامه، والمرأة التي كانت تظن أنها لا يجب عليها في حال الاستحاضة فيقولون: عليكِ أن تقضي هذا اليوم.. إلى آخره.
"ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق، والريب، والكفرة من اليهود ارتياب، وزيغ عن الهدى، وتخبيط، وشك، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142] أي: الحكم، والتصرف، والأمر كله لله، فأينما تولوا فثم وجه الله وَلَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ [سورة البقرة:177] أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا."يعني أن الجهات جميعاً ملك لله ، وأما التعبير بالمشرق، والمغرب فعادة العرب أن تعبر عن الشيء بذكر طرفيه؛ لإفادة الشمول، والعموم، والاستيعاب لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142] يعني جميع الجهات، وليس فقط المشرق، والمغرب، يأتي غبي ويقول: طيب والشمال، والجنوب؟ نقول له: إذا ذكر المشرق، والمغرب في كلام العرب فيقصدون بذلك جميع الجهات، فالعرب تذكر طرفي الشيء، وتريد الاستيعاب، والشمول، والعموم، وهذا كثير، وله أمثلة كثيرة.
"أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده، وفي تصرفه، وخدامه."يعني أن هذا الجهة لا مزية لها على هذه الجهة من حيث الأصل، أصل الجهات، وإنما الشأن هو في امتثال أمر الله  وإن كان الاستقبال للكعبة لا شك أنه أشرف من استقبال بيت المقدس، والشيء يقال فيه على سبيل الرد ما لا يقال فيه على سبيل الابتداء أحياناً، وهذا هو الجواب الذي ذكره الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة في الكلام على قوله - تبارك، وتعالى -: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] فذكر هذه الأشياء الثلاثة مع أن المحرمات أكثر من هذا، وذكرها بأقوى صيغة من صيغ الحصر، وهي النفي، والاستثناء التي جاءت بها كلمة التوحيد.
فالشافعي - رحمه الله - يقول: هذا على سبيل الرد على دعاواهم الكاذبة حيث حرموا أشياء، وأحلوا أشياء كما في سورة الأنعام: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ [سورة الأنعام:138].
"حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده، ورسوله محمد - صلوات الله، وسلامه عليه -، وأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل ؛ ولهذا قال: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142]."وجه الارتباط، واضح لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142] يهديه إلى صراط مستقيم، يهديه إلى الإسلام، ويهديه أيضاً إلى القبلة التي هي أشرف، وأعظم، كما هداكم إلى هذا الدين، وهداكم إلى قبلة إبراهيم ﷺ.
ولهذا سيأتي في قول الله - تبارك، وتعالى -: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] حيث هديتكم هذه الهداية، ووفقتكم هذا التوفيق، بعد ما ضل عن هذه القبلة اليهود، والنصارى، فكما جعلكم الله أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] أي: خياراً عدولاً كذلك أيضاً، وفقكم إلى أعدل قبلة، وأوسط قبلة، وهي قبلة إبراهيم ﷺ، كل ذلك من إفضاله على هذه الأمة، وهدايته، وتوفيقه لها.
"وقد روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: قال رسول الله ﷺ يعني في أهل الكتاب -: إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين[7]".فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، هدانا إلى يوم الجمعة، وإلى القبلة، وهدانا إلى الإسلام قبل ذلك. 
  1. صحيح البخاري كتاب التفسير - باب قول الله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) [سورة البقرة:31] (4222) (ج 4 / ص 1634)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525) (ج 1 / ص 374).
  2. صحيح البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (4216) (ج 4 / ص 1631).
  3. أخرجه البخاري عن البراء في كتاب التفسير باب قول الله (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) [سورة البقرة:31] (ج4/ص1631) بلفظ: أن رسول الله ﷺ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وأنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد، وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قِبَل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [سورة البقرة:143].
  4. سبق تخريجه في حاشية رقم (1).
  5. أخرجه البخاري في أبواب القبلة باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة [جزء1 - صفحة157 - 395:]، وفي كتاب التمني باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام [جزء6 - صفحة 2648 - 6824:]، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة [جزء1 - صفحة375 - 13:].
  6. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة باب، وجوب القراءة للإمام، والمأموم في الصلوات كلها في الحضر، والسفر، وما يجهر فيها، وما يخافت (ج1/ص263 - 724)، وفي باب حد إتمام الركوع، والاعتدال فيه، والطمأنينة (ج1/ص274 - 760)،  وفي كتاب الاستئذان باب من رد فقال: عليك السلام (ج5/ص2307 - 5897)، وفي كتاب الأيمان، والنذور باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (ج6/ص2455 - 6290)، ومسلم في الصلاة باب، وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (ج2/ص10 - 911).
  7. أخرجه أحمد في المسند (ج6/ص134 - 25073)، والبيهقي في السنن الكبرى (ج2/ص56)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب (ج1/ص124).

مرات الإستماع: 0

"سَيَقُولُ ظاهره الإعلام بقولهم قبل، وقوعه، إلا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم".

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ظاهره أن ذلك قبل الوقوع، قال: "إلا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم" فيكون عبّر بالمستقبل للدلالة على استدامته، أي إنهم لا يزالون يرددون مثل هذه، ويلوكونها بألسنتهم.

ابن عباس - ا - روى في سبب نزول سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ أن نفرًا من اليهود جاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا: يا محمد ما، ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، يعني بيت المقدس؟ يعني بعد ما حولت القبلة، يقول: فنزلت الآية، معناها أنها نزلت بعد تحويل القبلة، وبعد قولهم، هذا على قول ابن عباس، لكن هذه الرواية لا تصح عن ابن عباس[1] ولا تصح في سبب النزول أصلًا، وهكذا جاء عن السدي بأن السبب هو اعتراض المنافقين؛ ولهذا فإن بعضهم قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ المراد اليهود، وبعضهم قال: اليهود، والمنافقون، لكن الرواية هنا عن السُّدي بأنها نزلت بسبب قول المنافقين لا يصح، فإذا كان هذا لا يثبت في سبب النزول، فيبقى على ظاهره أن ذلك قبل قولهم، فالله أعلم بذلك قبل وقوعه، وأعلمهم قبل وقوعه ليكون ذلك تخفيفًا لوطأته، ووقعه على نفوس أهل الإيمان، فإذا قيل؛ تكون النفوس قد مهدت لمثل هذا، فلا يحصل بسبب ذلك انزعاج لها، ولا اضطراب.

"السُّفَهاءُ هنا اليهود أو المشركون، أو المنافقون".

جاء عن ابن عباس - ا - أن السفهاء: هم اليهود[2] وكذلك قال مجاهد[3] أو المشركون، وبعض أهل العلم يقولون: بأن مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ما حولهم عن مكة، ولكن هذا بعيد، أو المنافقون بناء على قول السُّدي[4].

وجاء في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود[5].

وفسره ابن جرير: باليهود، والمنافقين[6] لكن إذا قلنا: بأن ذلك لا يصح في سبب النزول بالنسبة للمنافقين، فيبقى أن ذلك في اليهود، وكل من صدر عنه ذلك - إن كان صدر من غيرهم - فهو سفيه؛ لأنه قد قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ قاله في اليهود، وهم أهل كتاب، وأهل علم، ومع ذلك قال: سفهاء، فقد يكون الإنسان مع العلم الذي لا يعمل به، ويخالف مقتضاه يكون بذلك سفيهًا.

"ما وَلَّاهُمْ أي: ما ولى المسلمين".

يعني ما صرفهم، وحوّلهم؟ ومضى الكلام على أصل هذا الفعل، وهو (ولى) إذا عُدي بـ(عن) اقتضى معنى الإعراض، والترك مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وإذا عُدي بنفسه اقتضى معنى الولاية.

"عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى، وهي بيت المقدس إلى الكعبة. لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية رد عليهم بأن الله يحكم ما يريد، ويولي عباده حيث شاء؛ لأن الجهات كلها له." 
  1.  تفسير الطبري (3/132).
  2. المصدر السابق (3/130).
  3.  المصدر السابق.
  4.  المصدر السابق.
  5.  أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان برقم (399)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة برقم: (525)، وليس في مسلم التفسير المذكور.
  6.  تفسير الطبري (3/131).

مرات الإستماع: 0

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186].

وإذا سألك أيها النبي عبادي عني فقل لهم: إني قريب منهم، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليستجيبوا لي بالإيمان والطاعة والانقياد والإذعان؛ وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون، يعني: يهتدون إلى ما فيه نفعهم وصلاحهم في دنيهم ودنياهم.

فمن الهدايات التي تُؤخذ من هذه الآية: أن آية الدعاء جاءت في وسط آيات الصيام، فبعدها حديث عن الصيام، وقبلها حديث عن الصوم، فهذا يدل -والله تعالى أعلم- كما ذكر جمع من أهل العلم بأن الدعاء في رمضان له مزية، وأن الدعاء مع الصيام له مزية؛ ولهذا قال النبي ﷺ: للصائم دعوة مُستجابة[1]، ولاحظ دعوة هنا نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات بمعنى المُطلق، يعني غير مُحددة بوقت معين، فطالما أنه صائم فمنذ أن يُمسك إلى أن يُفطر له دعوة مستجابة.

فالدعاء -كما هو معلوم- له أحوال يُستجاب بها كالصوم، وله أوقات كالأسحار، وبين الأذان والإقامة، وله أيضًا مواضع وأماكن حري أن يُستجاب للدعاء فيها، كما لا يخفى، فهنا دلت هذه الآية على أن رمضان له مزية، فالآيات تتحدث عن رمضان وعن الصيام، وكذلك الصوم ولو كان في غير رمضان ثلاث دعوات لا ترد دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر[2] يعني: في أي وقت دعا في أول النهار، أو في وسطه، أو في آخره، لكن بالحديث: وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه[3]، هذه فرحة وليست دعوة.

وأما ما ورد: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة[4] فإن ذلك لا يصح فيه الحديث عن رسول الله ﷺ، فالرواية ضعيفة، وإنما وقت الصوم هو وقت للدعاء، حري بأن يُجاب دعاء الصائم، والله -تبارك وتعالى- هنا لم يُقيد الدعاء في حال الصيام، بل ذكر أنه قريب، ولم يقل: وإذا دعاك عبادي الصائمون، فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعان، وإنما قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] فقربه -تبارك وتعالى- من الصائمين ومن غير الصائمين في رمضان وفي سائر شهور العام، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [سورة البقرة:186].

وتأمل هذه النسبة وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي [سورة البقرة:186] فأضافهم إليه، فهذا يقتضي التشريف، فهؤلاء أهل العبودية الخاصة، وهم أهل الإيمان، وأهل الاستجابة والطاعة، فأضافهم إليه، فهذه الإضافة تقتضي تشريفًا وخصيصة لهؤلاء؛ لأن العبودية كما نعلم عبودية خاصة، وهي لأهل الإيمان، وعبودية عامة، وهي لجميع الخلق، فكل من في السماوات والأرض عبد لله -تبارك وتعالى، ومملوك له، والعبودية كما نعلم منها عبودية قهر، فهذه لجميع الخلائق حتى الكفار، والعبودية الثاني هي عبودية اختيار وهذه عبودية أهل الإيمان الذين سلكوا طريق الإيمان والطاعة والعبادة.

ولاحظ هذا التعبير وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فإني قريب، فكان هذا هو الجواب، فالله -تبارك وتعالى- قريب يسمع دعوتك، ولو كنت تُناجيه بحيث لا يسمعك من بجوارك، وهو قريب -تبارك وتعالى- قُربًا خاصًا من الداعين، فقُربه -تبارك وتعالى- من البعد منه ما هو قُرب عام، ومنه ما هو قُرب خاص، فالله -تبارك وتعالى- ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له[5].

وكذلك أيضًا ينزل عشية عرفة، والعشي يكون من بعد زوال الشمس، يعني: من بعد الظهر، هذا وقت العشي، وقربه -تبارك وتعالى- الخاص من الداعين الذين يسألونه، فلا تحتاج المسألة إلى أن تنتظر، أو إلى أن تترقب طويلاً، أو نحو ذلك، وإنما عليك أن ترفع يديك وتدعو فهو قريب من الداعين، فالله -تبارك وتعالى- قريب ممن دعاه، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] وقد جاء عن بعض السلف: "مفتاح البحار السُفن، ومفتاح الأرض الطُرق، ومفتاح السماء الدعاء"[6]، يعني: إذا أراد الإنسان أن يسلك طريقًا في البحر، فالسُفن هي معوله، وإذا أراد أن يسلك طريقًا في البر، فالطُرق توصله إلى مطلوبه، وإذا أراد أن يطرق باب السماء، فإن ذلك لا يتوصل إليه بسفينة ولا بطائرة، ولا يتوصل إليه بمزاولات يعملها العبد ليصعد، وإنما يكون ذلك بدعائه وسؤاله -تبارك وتعالى، فهذا قُربه الخاص، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن.

وقد تكلمنا على هذا الاسم الكريم في الكلام على الأسماء الحسنى، وقلنا: إن مما يدخل في معنى الباطن: القُرب، فهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، فهو أقرب إلى العبد من عُنق راحلته، كما قال النبي ﷺ لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر عندما صعدوا على مُرتفع كبروا بأصوات مرتفعة، وإذا نزلوا سبحوا بأصوات مرتفعة، فأمرهم أن يربأوا على أنفسهم، وعلَّل ذلك بقوله: أيها الناس اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته[7].

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] كما قال الله : فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [سورة هود:61] يُجب من دعاه، وإذا عرف العبد هذا فإنه يُبادر إلى الإقبال على الله ، ويرفع حاجته إلى الله -تبارك وتعالى- مُباشرة، وقد قال بعض السلف: "متى أطلق الله لسانك بالدعاء والطلب، فاعلم أنه يُريد أن يُعطيك" وذلك لصدق الوعد بإجابة من دعاه، ألم يقل الله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فهذا وعد وخبر حق.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أنه في الجواب لم يقل: فقل لهم: إني قريب، وإنما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] فجاء الجواب مُباشرة من الله دون ذكر واسطة، ودون أن يقول: فقل لهم، وهذا كله يدل على شدة قُربه -تبارك وتعالى- من الداعين، فاختصر الكلام في ذلك، فتولى إجابتهم عن سؤالهم بنفسه مُباشرة دون أن يجعل واسطة، كالرسول ﷺ، فيقول له: فقل لهم، أو فقل لعبادي: إني قريب من الداعين، وإنما مُباشرة فَإِنِّي قَرِيبٌ فهذا يدل على أنه ليس بين الله -تبارك وتعالى- وبين خلقه واسطة في الدعاء، مُباشرة يتوجه إليه العبد بالدعاء.

والمشركون كانوا يتوجهون إلى معبوداتهم وأصنامهم، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3] فكانوا يتوجهون إلى هذه الوسائط، ويقولون: إنها تُقربنا إلى الله، وتوصل حاجتنا إلى الله -تبارك وتعالى، وهذا لا شك أنه خلل في الاعتقاد، فالله ليس بينه وبين عباده واسطة، فإذا أذنب العبد مُباشرة يتوجه إلى الله، ويستغفر ويتوب، والله تعالى يتوب على من تاب، فليس هناك وسائط، كما عند النصارى يأتي التائب لدى القسيس، ويجلس على كرسي، يُقال له: كُرسي الاعتراف، وهذا موجود في غُرفة صغيرة يمثُل أمامه، ثم يذكر بالتفاصيل الجنايات والأعمال والمُقارفات والمزاولات التي عملها، ثم بعد ذلك يُعطيه صك الغُفران، فهذا كله من الضلال والانحراف.

أما الله -تبارك وتعالى- فيكفي أن تتوجه إليه بالاستغفار والتوبة، أو السؤال والدعاء، ولا تحتاج إلى عمل كثير، حتى تحصل على وقت لتُناجيه فيه، وإنما تستطيع أن تُناجيه في أي وقت، وفي أي مكان في المسجد، أو في بيتك، أو في مكان عملك، أو في الصحراء والخلاء، أو بين الناس.

ثم تأمل قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي [سورة البقرة:186] جاء كله بضمير المُتكلم، وقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] جاء بطريق الالتفات؛ لأن قبله: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [سورة البقرة:185] فلم يقل: ولتكبروني؛ ثم قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [سورة البقرة:186] فهنا في مقام الدعاء ناسب أن يكون بضمير المتكلم فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] ولا شك أيضًا هناك أنه أظهر في مقام يصح فيه الإضمار، فناسب مع التكبير ذكر اسم الله مُظهرًا، والله تعالى أعلم.

وأيضًا لم يقل: إني مجيب، أو فإني أُجيب دعوة الداعي لكوني قريب، وإنما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فإذا سألك عبادي عني في توجههم ودعائهم وسؤالهم، ونحو ذلك، فالعبد لا شك أنه يغتبط بقُرب ربه -تبارك وتعالى- منه أعظم من غِبطته بإجابة دعائه، فحينما يُقال لك: أيهما أعظم في نظرك أن يكون الله قريب منك، أو تُستجاب لك هذه الدعوة والمسألة؟ لا شك أن قُرب الله -تبارك وتعالى- من العبد أشرف وأعظم، وما حال عبد ربه قريب منه؟! وكيف تكون ألطافه به وحفظه ورعايته وكلاءته، وما إلى ذلك، فما أرحمه من رب! وما أعظمه وأكرمه!

فهذا الذي نعبده -أيها الأحبة- يتعرف إلينا بهذه الأوصاف فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فقد يسعى العبد لمُقابلة إنسان آخر له شأن، وربما يحتاج إلى مُدة حتى يُحدد معه موعدًا لكثرة أشغاله وأعباءه، ونحو ذلك، ولكثرة الطالبين لمُقابلته، ربما ينتظر أسبوعًا أو شهورًا حتى يُحدد له هذا الموعد، لكن الله -تبارك وتعالى- مُباشرة.. ارفع يديك، وقل: يا رب بقلب حاضر، ولا تحتاج إلى وسائط من المخلوقين، ولا تحتاج إلى أن تنتظر حتى يؤذن لك بالمُناجاة والدعاء.

وأيضًا هنا قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ فهو أقرب إليك مما تطلب، وتسأل وتحتاج، وهذا القُرب لم يُحدده مثلاً من قوم عند بيته الحرام، فيحتاج الناس إلى أن يسافروا إلى هناك من أجل الدعاء، وإنما في كل مكان في البر والبحر، وليس من الضرورة أن يذهب الإنسان إلى البيت الحرام من أجل أن يدعو إن كانت له حاجة، وإنما من مكانه وموضعه، لكن يحتاج العبد إلى صحة الاعتقاد بأن الله يُجيب دعوة الداعي، ويحتاج إلى إحضار قلب، وأن يدعو وهو موُقن بالإجابة، ولا يدعو كالمُختبر لربه، المُجرب أو اليائس، أو الذي يقول كما قال النبي ﷺ: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي[8]، فهذا استعجال.

وبعضهم يقول: ما رأينا شيء من هذا الدعاء -نسأل الله العافية، وهذا سوء ظن بالله -تبارك وتعالى، ومن ظن أن الله لا يُجيب دعاء الداعين، وسؤال السؤالين، فقد أساء الظن بربه وخالقه ومليكه ، وتقدست أسماؤه، فيحتاج إلى أن يُحسن الظن، وأخبر النبي ﷺ بقوله: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل[9]، فهذا الإنسان المُصاب، والمريض، الذي تدعو له، أو يدعو لنفسه، قد تقول: ما برأ، فالله ادخرها له في الآخرة، أو دُفع عنه من الشر مثل ذلك، وقد تتضاعف عليه علته وبليته، ونحو ذلك. 

  1. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (6392) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3032).
  2. سبق تخريجه.
  3. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] برقم (7492) ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام برقم (1151).
  4. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (3624) وأبو داود الطيالسي في مسنده برقم: (2376) وضعفه الألباني ضعيف الجامع (4747).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم (1145) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم (758).
  6. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 470).
  7. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (19599) إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  8. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل برقم: (6340) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل برقم: (2735).
  9. أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات برقم: (3604) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5714).