السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر –رحمه الله تعالى -: وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل".
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] يُلاحظ في هذه الآية أن الله غاير فيها تقديماً، وتأخيراً عند ذكر شهادتهم، وشهادة رسول الله ﷺ عليهم، فقال: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143]، ولم يقل: ويكون الرسول شهيداً عليكم، ومعلوم أن تقديم المعمول على عامله لا يكون إلا لمعنىً قصده المتكلم، فيمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - : إنه في الأول لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء [سورة البقرة:143] لإثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] من أجل إثبات اختصاصهم بشهادة رسول الله ﷺ، فقدم الجار، والمجرور (عليكم) على قوله: شهيداً، وتقديم المعمول على عامله يدل على الحصر أحياناً، مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]، ومثل: وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ [سورة المائدة:23] يعني لا تتوكلوا على غيره، وهنا وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:143] يعني: أنهم يختصون بشهادة رسول الله ﷺ.
"إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا: الخيار، والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً، وداراً، أي: خيرها".وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143]، وكذلك الجعل جعلناكم أمة وسطاً يعني: عدولاً خياراً، هذا أشهر ما فُسرت به، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، فكما أن الله اختار لهم القبلة، وهي أعدل الجهات، وكذلك أيضاً اختار لهم الإسلام، وهو أعدل الأديان، كذلك أيضاً جعلهم أمة، وسطاً في كل شيء، جعلهم أمة خياراً عدولاً يصلحون للشهادة على الخلق. 
ولعل أحسن ما يفسر به هذا هو ما ورد عن رسول الله ﷺ، وثبت عنه، حيث بين فيه معنى الوسط، ومعنى شهادة هذه الأمة على الأمم، وشهادة الرسول ﷺ عليهم، وجاء ذلك صريحاً عنه ﷺ، ومن ثم فلسنا بحاجة إلى ذكر الأقوال الأخرى في معنى شهادتهم على الأمم، وشهادة الرسول ﷺ عليهم، أو في بيان معنى الوسط من غير ما ذكرت.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - يفسر الوسط هنا في هذه الآية بمعنىً يدخل في عموم، وسطية هذه الأمة، ما يفسره بمعنى العدول، والخيار، وإنما يقول: وسطاً بين الإفراط، والتفريط، بين الغلو، والجفاء، فالأمة وسط في هذا، فاليهود عندهم غلو، والنصارى عندهم تفريط، فمثلاً في الطهارة اليهود إذا وقعت النجاسة على الثوب قطعوه، والنصارى على العكس لا يتنزهون من النجاسات.
اليهود إذا حاضت المرأة اجتنبوها، واعتزلوها فلا يجالسونها، ولا يؤاكلونها، والنصارى يلعقون دم الحيض - أعزكم الله -، وأما هذه الأمة فقد أباح الله لها الأكل مع الحائض، ومخالتطها، بل ومعاشرتها فيما دون الجماع مخالفة لليهود، وقل مثل ذلك في المطعومات، وغيرها من الأمور.
فالحاصل أن هذا لا شك أنه من، وسطية هذه الأمة، ولكنه لا يوقف عليه في التفسير؛ لأن ما قاله رسول الله ﷺ لا شك أنه عين المعنى المراد، ورسول الله ﷺ أعلم بكلام الله من غيره، وبناءً على هذا يقال: الوسط هم العدول، والعدول هم الخيار، فالوسط من كل شيء هو أفضله، وأعدله، وأقومه، ولهذا فإن ابن جرير - رحمه الله - يرى أن الخيار، والعدول بمعنىً واحد، يرى أن هذا بمعنى هذا، وذلك لأن أعدل الأمور هو خيرها، وخيرها هو أعدلها، فهذا راجع إلى هذا، ولا يكون إلا به، قال تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ [سورة القلم:28] أي: قال أعدلهم، و أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً [سورة طـه:104] يعني: أعدلهم، وخيرهم طريقة.
الأنبياء وسط في قومهم، بمعنى هم أفضل، وأعدل قومهم، فعلى كل حال كون هؤلاء هم الأعدل معنى ذلك أنهم ليسوا في جانب الإفراط، ولا في جانب التفريط، فهم أزكى الناس، وخير الناس، وقد جاء ذلك في نصوص كثيرة في الكتاب، والسنة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110]، وكذلك في قول النبي ﷺ: إن الله اصطفى كنانة [1].. إلى آخره، وكما في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] بفئاتهم الثلاث: الظالم، والمقتصد، والسابق، فهذا كله في هذا المعنى، - والله تعالى أعلم -.
ويكفي هذا القدر في بيانه، فإن الحديث واضح، وصريح في بيان معنى هذه الآية.
"وكان رسول الله ﷺ، وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح، وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة الحـج:78].
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟[2].
هذا الحديث يصرح بتفسير هذه الآية، والتفسير النبوي أنواع: منه: ما ذكر مع الآية، فهذا إذا صح سنده فلا يعدل عنه، وهذا من هذا النوع، ومنه: ما لم يذكر فيه النبي - عليه الصلاة، والسلام - الآية، ولم يتعرض لها، فيأتي المفسر، ويربط بين هذا، وهذا، كقوله: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23] يمكن أن يفسر بحديث: يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام...[3] إلى آخره. 
فأقوى ذلك، وأصرحه ما صح مع التصريح بالآية؛ لأن المفسر قد يخطئ حينما يربط بين الآية، وبين الحديث، ولهذا إذا قيل - كما سبق في أصول التفسير -: بأن التفسير النبوي يدخله الاجتهاد فالمقصود بهذه العبارة النوع الثاني الذي لم يتعرض فيه النبي ﷺ للآية، وإنما الاجتهاد يكون من قبل المفسر حينما يحاول أن يربط بين آية، وبين حديث، وقد يخطئ إذا لم يكن هناك علاقة بين الآية، والحديث، لكن إذا ذكر النبي ﷺ الآية فهذا لا مجال للتوقف فيه. 
"وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد، وأمته" قال: فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] قال: والوسط: العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم[4]، ورواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه".يعني من فسر بغير هذا المعنى فيمكن أن يحمل على أنه لم يبلغه هذا الحديث، أعني التفاسير التي تخالف هذا المعنى، وليست التي تدور حوله، يعني من فسره بأنه الخيار كما سبق فإنه يرجع أنهم وسط بين الإفراط، والتفريط، لكن هناك أقاويل أخرى، فمثل هذه لا يلتفت إليها.
"وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: يجيء النبي يوم القيامة، ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد، وأمته، فيدعى محمد، وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا ﷺ فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] قال: عدلاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143][5].فالنبي ﷺ يشهد على شهادتهم، هم يشهدون للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - بالبلاغ، والرسول ﷺ يشهد على شهادتهم، ولا يصلح لهذه الشهادة العظيمة على الأمم إلا من كان عدلاً.
"وروى الإمام أحمد عن أبي الأسود أنه قال: أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتاً ذَريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمرّت به جنازة فَأثْنِيَ على صاحبها خير، فقال: وجبت وجَبَت، ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسولُ الله ﷺ: أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة قال: فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان[6]، ثم لم نسأله عن الواحد"، وكذا رواه البخاري، والترمذي، والنسائي".هذا من أحاديث الرجاء، فلا ينبغي للمسلم أن يركن له، وفرق بين شهادة أهل الفضل، والصلاح، والخير، وبين شهادة الأشرار، فرق بين هذا وهذا، وإلا فإنك تجد رأس البدعة، والضلالة، بل والكفر لن يعدم من يشهد له من قومه، وممن هو على شاكلته، ومن المعجبين به، وتجد الفاجر المغني مثلاً، أو الممثل، أو المهرج قد يبكي عليه الملايين من الناس، فالمقصود أن ذلك منوط بأهل الفضل، والصلاح، والخير.
ولذلك ما جاء من الكلام على تعريف المعروف مثلاً، وأنه: ما عرفه أهل الإيمان، واطمأنوا إليه، هذا في وقت استقامة المجتمع، وإلا إذا كان المجتمع منحرفاً فلا عبرة بنظرهم، ففي بعض المجتمعات الإسلامية المتمسك بدينه يلمز بأبشع الأوصاف، فهل ما رآه هؤلاء حقاً، ومعروفاً يكون من قبيل الحق، والمعروف، وما رأوه منكراً يكون من قبيل المنكر؟ لا.
كذلك قول الإمام أحمد - رحمه الله - لأهل البدع: "بيننا، وبينهم يوم الجنائز" معناه: أن جنائز أهل السنة حاشدة، لكن هذا في وقت ظهور السنة، وإلا قد يكون رأس الضلال فهذا الرافضي الهالك الخميني يوم مات مزقوا الكفن، وما استطاعوا أن ينزلوه من أجل تهافت البشر عليه بشكل منقطع النظير، قطعوا كفنه ليأخذوه للتبرك حتى بدت سوءته، فهذا في المجتمعات المنحرفة.
وهذه المرأة التي ماتت، وهي كافرة نصرانية تتكلم بكل وقاحة في قنوات فضائية عن فواحشها، وفجورها لما ماتت بكتها أمم، ولا زالوا يذكرونها أليس كذلك؟! فهل هذه شهادة معتبرة؟ فشهادة الفجرة، وأهل السفه من الناس لا عبرة بها، وهكذا.
وقد يكون العالم في محل غربة، وهو إمام لكنه في أرض بدعة، وضلالة فقد لا يجتمع على جنازته ثلاثة، فينزل كل ما ورد من ذلك من النصوص في محله، وهكذا النصوص الواردة عن السلف في كثير من القضايا حينما يقولون مثلاً: من قال كذا فهو كذا، أو من فعل كذا يهجر، أو من فعل كذا لا يُكلم، هذا متى يقال؟ وفي حق من يقال؟ لا يقال بإطلاق في كل وقت، وإنما يختلف ذلك من حين إلى حين، وفي بعض الأحيان قد يكون قائل هذه المقالة من أفضل أهل زمانه في تلك الناحية، هذا إذا غلب المنكر، والانحراف، والبدعة على ناحية، وأرض، ففرق بين وقت ظهور السنة، أو بين وقت ظهور الضلال، فقد يكون هذا شامة بيضاء في جلد ثور أسود، فكل شيء يوضع في محله، ومن الخطأ أن نتلقف نصاً، أو أثراً ورد في مناسبة، أو في حال من الأحوال ثم ينزل على جميع الحالات، والعصور، والظروف، فهذا غير صحيح، وليس هذا من الفقه في دين الله .
"وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ [سورة البقرة:143] يقول تعالى: إنما شرعنا لك - يا محمد - التوجه أولاً إلى بيت المقدس".يعني معنى ذلك القبلة التي كنت عليها هي بيت المقدس، وهذا هو المتبادر، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، خلافاً لمن قال: بأن المقصود بذلك الكعبة، القبلة التي كنتَ عليها يعني التي حولتَ إليها، يعني ما جعلنا هذه الكعبة قبلة بعد بيت المقدس إلا لنعلم من يثبت، ومن لا يثبت؛ لأنها كانت محنة عظيمة جداً، ارتد بسببها جماعة من الناس، وتضعضع آخرون، وأرجف فيها أهل النفاق، واليهود، وأهل الإشراك، وكلٌ صار يتكلم بما يحلو له كما سبق، أهل الإشراك يقولون: تحول إلى قبلتكم فذلك مؤذن بتحوله إلى دينكم، وأهل النفاق، واليهود لربما قال قائلهم: حن إلى دين أبيه، ورجع إلى دين قومه، وآخر يقول: تحير، وآخر يقول: إن كان ذلك - استقبال بيت المقدس - حق فهم على باطل، وإن كان باطلاً فقد كانوا على باطل، إلى غير ذلك من المقالات القبيحة التي قالوها، ولكنهم يدورون مع أمر الله حيث دار، فهم أهل عبوديته الخاصة، تارة يوجهون إلى هذه الناحية فيتوجهون، وتارة إلى هذه الناحية، وهكذا، كل ذلك بناءً على علمه، وحكمته - تبارك، وتعالى -.
"ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك، ويُطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] أي: مرتداً عن دينه وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [سورة البقرة:143] أي: هذه الفعلة".يعني الآن في قوله: إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] مثل هذا الأسلوب الذي ورد في مواضع من القرآن إِلاَّ لِنَعْلَمَ [سورة البقرة:143] وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [سورة آل عمران:140] حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [سورة محمد:31] فـ"حتى نعلم"، و"ليعلم" معلوم أن الله علمه محيط بكل شيء، فهو يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كل ذلك يعلمه، فما المراد بقوله: حَتَّى نَعْلَمَ [سورة محمد:31]، هل يخفى عليه شيء؟ أبداً.
أهل السنة يفسرون هذا بأن المقصود العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وهو علم المشاهدة، يعني بعد ما كان ذلك من الغيوب التي لم تقع، والله يعلم أنه سيقع، فكان، وقوعه هو المراد، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [سورة محمد:31] إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [سورة البقرة:143] يعني أن يكون ذلك واقعاً معلوماً لله بعد أن كان في علمه من جهة أنه أمر غيبي، يعني علم الوقوع، وهو لم يقع بعد، والله يعلم أنه سيقع.
وعلم الوقوع هذا هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فإن الله لا يحاسب خلقه بناءً على ما علم منهم أنهم سيعملونه قبل أن يعملوه، الله يعلم أن فلان سيفعل المعصية الفلانية، في الوقت الفلاني، في المحل الفلاني، لكنه لم يكتبها عليه سيئة حتى يعملها، فهذا هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء.
"وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً [سورة البقرة:143] أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول".مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] أي: مرتداً عن دينه، وَإِن كَانَتْ [سورة البقرة:143] على قول البصريين (إن) هذه مخففة من الثقيلة، وهذا ظاهر كلام ابن كثير هنا الذي مشى عليه في التفسير بناءً على هذا، وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً [سورة البقرة:143] أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: إن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله، يعني كأنه يقول: وإنها لكبيرة، فهذا التحويل أمر عظيم جداً، زلزل النفوس.
وأما على قول غيرهم فإن (إن) هذه نافية، وإن كانت لكبيرة كأنه يقول: وما هي إلا كبيرة إلا على الذين هدى الله، ما كانت إلا كبيرة، وعظيمة إلا على الذين هدى الله، فيكون ذلك من قبيل النفي، والاستثناء، إن كانت لكبيرة إلا، فما هي إلا كبيرة، وعظيمة إلا على الذين اطمأنت نفوسهم بالإيمان، وثبت في قلوبهم، وهداهم الله ، ووفقهم للثبات، تكون عكس المعنى الأول.
المعنى الأول يقول: وإنها لكبيرة يقرر هذا، فتكون (إن) هذه للتوكيد، وعلى الثاني: تكون نافية، ما هي إلا كبيرة إلا على الذين هدى الله، لكن المعنى العام في النهاية كما ترون هو يقرر أنها عظيمة إلا على من هداهم الله ، سواءً على هذا الاحتمال، أو على ذاك.
"أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول".على كل حال، وإن كانت لكبيرة يعني التحويل، هذا أجود ما قيل في معناه، ما هو الشيء الكبير العظيم؟ هو تحويلهم من بيت المقدس إلى الكعبة، القبلة شعار كما سبق، وليست قضية سهلة، فحينما يتحولون فإن هذا لا شك أنه ليس بالأمر السهل إلا على من هدى الله قلوبهم، واطمأنوا، ولذلك أرجف بهم اليهود، وأهل النفاق، والمشركون، فإذن أحسن ما يفسر به - والله أعلم - أن التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة هو الكبيرة، هو الأمر العظيم على كثير من النفوس، وقد قيل غير ذلك في أقاويل أخرى، لكن لا حاجة إليها، هذا أوضحها، وأعدلها، - والله تعالى أعلم -.
"وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان، وتصديق، كما قال الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:124-125]، وقال تعالى: وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول ﷺ، وإتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره الله من غير شك، ولا ريب من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن ابن عمر - ا - قال: "بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي ﷺ قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة"[7] رواه مسلم، والترمذي".
هذا كما سبق في قباء في صلاة الفجر، وأن النبي ﷺ كان أول صلاة صلاها كانت العصر في مسجده إلى الكعبة، وفي بني سلمة كانت صلاة الظهر، وبني سلمة أرضهم تقع إلى ناحية الشمال من المدينة قليلاً إلى جهة الغرب، وفيها المسجد المعروف اليوم بمسجد القبلتين، فالتحويل وقع لأهل قباء بصلاة الفجر، ولبني سلمة بصلاة الظهر، وفي مسجد النبي ﷺ في صلاة العصر، هذا على قول بعض أهل العلم.
فعلى كل حال لربما يستشكل بعض طلاب العلم مسجد القبلتين، والمشهور، والمعروف أن التحويل كان في قباء، نقول: كان التحويل في مسجد بني سلمة في وقت، وفي قباء في وقت، وفي مسجد الرسول ﷺ في وقت، - والله أعلم -.
"وعند الترمذي: أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوع، وكذا رواه مسلم عن أنس مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله، ولرسوله، وانقيادهم لأوامر الله  - أجمعين -".سبق الكلام على بلوغ الخطاب في التكليف، وأنه شرط، فهؤلاء اعتبروا أول الصلاة مع أنهم صلوا إلى قبلة منسوخة، فكل من لم يبلغه الخطاب فإنه معذور، - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله."فقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] ما المراد بالإيمان في هذه الآية؟ قال: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، لماذا سميت الصلاة إلى بيت المقدس إيماناً؟ بعض أهل العلم قال: لأن الصلاة تشتمل على نية، وهي قضية تتعلق بالقلب، وتشتمل على أقوال، وتشتمل على أفعال، فهي مركبة من هذه الثلاثة كالإيمان قول، واعتقاد، وعمل، هكذا قال بعضهم، ولا يخلو من تكلف، فالعلماء، وإن كان عامتهم يفسرون الإيمان في هذه الآية بأنه الصلاة إلى بيت المقدس، وهو الذي لا ينبغي العدول عنه، لكنهم حينما يتلمسون وجه تسميته بذلك - أي تسمية الصلاة إيماناً - فبعضهم يعلل بهذا التعليل، والأحسن من هذا - والله أعلم - أن يقال: إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، فالصلاة إيمان عند أهل السنة، والصوم إيمان، والزكاة إيمان، وما أشبه ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة.
وإذا قال قائل: لماذا لم نقل: إن الركوع، والقيام، والسجود هذا فعل فهو إيمان من جهة أنه يرجع إلى القسم الثالث مما يتركب منه الإيمان الذي هو العمل، ولماذا لم نقل: إن الأقوال التي تكون في الصلاة ترجع إلى القسم الثاني مما يتركب منه الإيمان، وهوالقول؟ والنية ترجع إلى الأول؟ يقال: ليس ذلك هو المراد حينما نقول: إن الإيمان اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، إذ إن التصديق في الإيمان المقصود به الإقرار الانقيادي، بما يجب الإقرار به، لا قصد التوجه إلى المعبود بالصلاة، ليس هذا بمعنى التصديق الانقيادي، لا، ولذلك فإن التوكل، والمحبة، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والمراقبة، وما إلى ذلك من الأعمال القلبية هذا داخل في عمل القلب مما يزيد على قدر التصديق الانقيادي، يزيد على الإقرار، ولهذا يقال: الإيمان قول، وعمل، قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح، ما الفرق بين قول القلب، وعمل القلب؟ قول القلب هو التصديق، وعمل القلب هو سائر الأعمال القلبية التي يحبها الله ، هذا الفرق.
وقول اللسان، وعمل اللسان: قول اللسان هو قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وعمل اللسان كالتسبيح، والتهليل، والذكر، وما أشبه هذا من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله - تبارك، وتعالى -.
وعمل الجوارح: - ما في قول الجوارح - يدخل في عمل الجوارح الصلاة، والصوم، وما إلى ذلك مما يتقرب به إلى الله ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] يعني الصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن الصلاة إيمان، والصوم إيمان، والحج إيمان، والزكاة إيمان، وبر الوالدين إيمان، وإماطة الأذى عن الطريق إيمان، ولهذا قال النبي ﷺ: الإيمان بضع، وسبعون شعبة[8]، فذكر من أعلاها: شهادة أن لا إلا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ولهذا تجدون في ذلك الكتاب العظيم الجامع لشعب الإيمان للبيهقي - رحمه الله - كلاماً على تفاصيل كثيرة جداً، حاول فيها أن يستقرئ شعب الإيمان، مما يتعلق باللسان، أو القلب، أو الجوارح، والعلم عند الله .
وبعضهم يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] بمعنى أن ما كان منهم من التوجه إلى بيت المقدس، ثم التحول، هذا كله عائد إلى الإذعان، والانقياد لأمر الله ، فهذا إيمان بهذا الاعتبار، فهذا مما يدخل فيه.
وبعضهم يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: ثوابكم على الإيمان الذي حصل منكم، والتصديق بخبر رسول الله ﷺ، حيث حصلت منكم الثقة بذلك، والاطمئنان إليه، ولم يحصل منكم تردد، ولا انتكاس.
وعلى كل حال هذا مما يدخل فيه مثل هذا التصديق، والانقياد، فيكفي أن نقول: إيمانكم أي الصلاة إلى بيت المقدس، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، - والله تعالى أعلم -، وسبب النزول يدل على ذلك، الثبات داخل في هذا الإيمان، ما في إشكال، السلف يعبرون ببعض المعنى لا إشكال، إنما أردت أن أوضح توجيهاً لقولهم هذا بحيث يُعرف كيف يتصل بهذا الموضوع، وكيف يرتبط به؟ باعتبار أن الإيمان على هذه الأنواع، أو الأجزاء، أو الأقسام الثلاثة، فمن قال: إنه ثباتكم. نقول: هو داخل فيه، هذا جزء من المعنى، الثبات على أمر الله ، وهذا القول - الصلاة إلى بيت المقدس - مستلزم لقول من قال مثلاً: إنه الثبات، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فإن ذلك لا يكون إلا بأنهم ثبتوا، وانقادوا، واستقبلوا القبلة الأخرى التي أمرهم الله بها.
"وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143]، ورواه الترمذي عن ابن عباس، وصححه."وهذا نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق أن الآية نزلت بسبب استشكالهم، وسؤالهم، وسبقت الرواية أنهم سألوا أيضاً عن حال أنفسهم، عن صلاتهم السابقة.
"روى ابن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى."لاحظ الآن إيمانكم بماذا قيده؟ إيمانكم بالقبلة السابقة، فصارت المسألة منوطة بالإقرار، والإذعان، والتصديق، إقراركم بالقبلة الأولى، وتصديق النبي ﷺ في ذلك، واتباعه إلى القبلة الأخرى، فصار الإيمان هنا هو الانقياد لأمر الله ، وفي المعنى الذي قبله الإيمان هو الصلاة إلى بيت المقدس السابقة، وذلك القول أيضاً يستلزم هذا القول، وذلك - كما سبق - فإن صلاتهم إلى بيت المقدس لا يضيعها الله حيث قبلوا عنه ، وأتمروا بأمره، وانقادوا طواعيةً من غير اعتراض، فبهذا كان ذلك من قبيل الإيمان بالنسبة لهم، بل هو إيمان عظيم جداً؛ لأنه أمر تتزلزل بسببه النفوس، ومعلوم أن القولين إذا كان بينهما ملازمة، والآية تحتملهما فإنهما مما يدخلان فيها إن لم يوجد ما يمنع من ذلك، وهنا ليس هناك ما يمنع من هذا.
"أي: لَيُعْطيكم أجرهما جميعاً، إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143].ما فسرها هنا.
"إن الله" هذا تعليل لما سبق، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً لكمال رأفته، ورحمته بخلقه - جل، وعلا -، فلا يضيع أجورهم، وأعمالهم، بل يحتسبها لهم، ويجازيهم عليها، ومن أسمائه الشكور، وهو الذي يجازي بالحسنات إحساناً، بل يزيد بالجزاء فيجازيه الجزاء الأوفى، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، هذا معنى الشكور، وهذا معنى شكر الرب لعبده، شكر الله له بمعنى أثابه على عمله، وضاعف له أيضاً المثوبة، والأجر.
إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فإنّ –هنا - تدل على التوكيد، وفي نفس الوقت تشعر بالتعليل، والرأفة إذا فسرناها بشيء من التوسع في التعبير قلنا: هي الرحمة، وإذا أردنا أن نفرق، ونذكر ما تفترق به الرأفة عن الرحمة، نقول: الرأفة نوع من الرحمة، بعض أهل العلم يقول: أكبر، وأشد من الرحمة، وبعضهم يقول: الرأفة، والرآفة بمعنى الرحمة الرقيقة، يقال: يرأف بكذا، والرأفة بكذا، بمعنى الرحمة، لكنها رحمة رقيقة، إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فلا يضيع أعمالهم الصغيرة، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7] فكيف يضيع صلاتهم التي هي من أعظم أعمالهم، لا سيما مع هذا الثبات العظيم؟! فإن مقتضى رحمته خلاف ذلك.
"وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد فرق بينها، وبين ولدها، فجعلت كُلَّما، وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها، وألقمته ثديها، فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ألا تطرحه؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها[9]
  1. أخرجه مسلم في الفضائل باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (ج7/ص58 - 6077).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (ج4/ص1632 - 4217).، وأحمد في المسند [جزء 3 ص 32 – 11301)
  3. أخرجه مسلم في الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها باب في شدة حر نار جهنم، وبعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين (ج8/ص149 - 7343).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة نوح:1] [جزء3 -   1215– 3161:] ، وفي كتاب التفسير باب قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31][جزء4 - ص1632: ]، وأحمد في المسند [جزء3 - ص 58 - 11575)، والنسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير سورة البقرة [جزء 6 - ص 292 – 11007:]، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة البقرة [جزء5 - ص207 – 2961:]، وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ [جزء2 - ص1432 - 4284).
  5. المسند (ج3/ص58 - 11575)، وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ  (ج2/ص1432 - 4284)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة(ج2/ص 425).
  6. في المسند (ج1/ص30 - 204)، وهو في البخاري في كتاب الجنائز باب ثناء الناس على الميت (ج1/ص460 - 1302)، وفي كتاب الشهادات باب تعديل كم يجوز؟ (ج2/ص935 – 2500)، وفي سنن النسائي الكبرى (ج1/ص629 - 2061)، وفي سنن الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في الثناء الحسن على الميت (ج3/ص373 – 1059).
  7. البخاري في كتاب التفسير باب قول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (ج4/ص1632 - 4218)، ومسلم في المساجد باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (ج2/ص66 – 1206).
  8. أخرجه مسلم في الإيمان باب شعب الإيمان (ج1/ص46 - 161).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب رحمة الولد، وتقبيله، ومعانقته (ج5/ص2235 - 5653)، ومسلم في التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (ج8/ص97 - 7154). 

مرات الإستماع: 0

"وَكَذلِكَ بعد ما هديناكم".

يعني، وكذلك كما هديناكم يعني إلى أفضل قبلة.

"جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: خيارًا".

في حديث أبي سعيد فسره رسول الله ﷺ: عدلًا[1] هذا في البخاري، فهذا هو التفسير النبوي: أُمَّةً وَسَطًا أي عدلًا.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن المراد بالوسط توسطهم بين الغلو، والتفريط[2] واعتبر تفسير ذلك بالعدل، والخيار أنه يرجع إلى معنى واحد، فمن قال: خيارًا، أو قال: عدولًا، فالمعنى واحد.

والعلماء يقولون - بعبارة كثيرًا ما يذكرونها - عدولًا خيارًا، والمعنى واحد، كما قال الله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] هذا معنى خيارًا تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 110)، وفي حديث معاوية بن حيدة مرفوعًا: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله[3].

"شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم".

كما في حديث أبي سعيد مرفوعًا إلى النبي ﷺ: يجيء النبي يوم القيامة، ومعه الرجل، والنبي، ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد، وأمته، فيُدعى، وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[4] فهذا تفسير نبوي لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: يعني تشهدون يوم القيامة أن الأنبياء قد بلغوا قومهم.

"عَلَيْكُمْ شَهِيدًا أي: بأعمالكم".

وقيل: على صدق شهادتهم على تبليغ الرسل.

وقيل: بأنه بلغهم.

وقيل: بأنهم آمنوا به، وبما جاء به، يشهد عليهم بهذا.

"قال رسول الله ﷺ: أقول كما قال أخي عيسى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] الآية، فإن قيل: لم قدّم المجرور في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وأخره في قوله: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ؟ فالجواب: أن تقديم المعمولات يفيد الحصر، فقدّم المجرور في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا لاختصاص شهادة النبي ﷺ بأمته، ولم يقدّمه في قوله: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ لأنه لم يقصد الحصر".

هذا المعنى الذي ذكره هو في الفروقات اللفظية لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وفي شهادة النبي ﷺ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فقصد الحصر في هذا الموضع، وأما شهادتهم على الناس، فهي عامة لا يقصد بها الحصر، وبعضهم يقول: لأن الغرض في الأول هو إثبات شهادة هذه الأمة على الأمم، وفي الثاني: لإفادة اختصاصهم بشهادة النبي ﷺ عليهم، فيكون من باب تقديم الأهم وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ما قال: ويكون الرسول شهيدًا عليكم.

فالمقصود هنا في هذا المقام الذي يتعلق بشهادتهم على الأمم لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ جعل الجار، والمجرور مؤخر، لإثبات هذه المزية، والمنقبة لهم بالشهادة، فقدمها، فجاء الكلام على هذا النسق لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ فهذه منقبة لهذه الأمة بشهادتهم على الأمم.

وفي شهادة النبي ﷺ عليهم، قال: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فقدمهم لاختصاصهم بشهادته - عليه الصلاة، والسلام -؛ ولتشريفهم بذلك، قدمهم هم على الشهادة فقال: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ولم يقل: ويكون الرسول شهيدًا عليكم؛ لأن المهم هنا هو المشهود عليهم، وهم هذه الأمة، فهم يختصون بشهادة النبي ﷺ يريد هذا. 

وكما قلت: مثل هذه الفروقات هي أمور ظنية، وهي غاية من هنالك أنها من المُلح، ولا يتوقف عليها فهم المعنى، فلو تُركت فالمعنى قد يُفهم بعيدًا عنها. 

فالمقصود أن المنة حاصلة من الجهتين، والجانبين: بشهادتهم على الناس، فقدمها لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ وبشهادة الرسول ﷺ عليهم، فقدم عليكم، فذلك يختص بهم، فهذه المنة حاصلة في هذا، وهذا - والله أعلم -.

"الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فيها قولان: أحدهما: أنها الكعبة، وهو قول ابن عباس[5] والآخر: هو بيت المقدس، وهو قول قتادة، وعطاء، والسدّي[6]."

وهذا اختيار ابن كثير[7] والامتحان حصل لما حولوا من بيت المقدس إلى الكعبة وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا التي هي بيت المقدس، هذا الذي عليه الأكثر، ويدل عليه ظاهر السياق - والله أعلم -.

"وهذا مع ظاهر قوله: كُنْتَ عَلَيْها لأن النبي ﷺ كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم انصرف عنه إلى الكعبة، وأما قول ابن عباس: فتأويله بوجهين".

يعني هنا يوجه قول ابن عباس - ا -: أن المقصود بـوَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا يعني الكعبة.

"الأول: أن (كنت) بمعنى أنت".

يعني (وما جعلنا القبلة التي أنت عليها) يعني الآن، وهي بعد النسخ، وبعد التحويل إلى الكعبة إِلَّا لِنَعْلَمَ الذي كنت عليها الآن، فهي الكعبة هذا توجيه.

"والثاني: قيل: إن النبي ﷺ صلى إلى الكعبة قبل بيت المقدس.

وإعراب الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مفعول بـ(جعلنا) أو صفة للقبلة، ومعنى الآية على القولين: اختبار، وفتنة للناس بأمر القبلة، وأما على قول قتادة: فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب؛ لأنهم كانوا يعظمون الكعبة، أو فتنة لمن أنكر تحويلها، وتقديره على هذا: ما جعلنا صرف القبلة [التي كنت عليها، وهذا أظهر؛ لأن الفتنة إنما، وقعت عند صرف القبلة]، وأما على قول ابن عباس: فإن الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود؛ لأنهم يعظمون بيت المقدس، وهم مع ذلك ينكرون النسخ، فأنكروا صرف القبلة، أو فتنة لضعفاء المسلمين، حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة".

يعني وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إذا قلنا بأن المقصود بيت المقدس، فهي فتنة بهذا الاعتبار لليهود؛ لكونهم يعظمون بيت المقدس، فما الذي حوله عنه مثلًا؟ وهذا في الواقع لا يخلو من بُعد.

وإنما كانت فتنة لمن فُتن بذلك من ضعفاء المسلمين، شق عليهم تحويل القبلة، كما قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.

فما جعلنا القبلة التي هي بيت المقدس، وإذا قيل: بأن ذلك هو الكعبة، على قول ابن عباس - ا - التي أنت عليها الآن، يعني هذا يقتضي التحويل إِلَّا لِنَعْلَمَ يعني بعد أن حُوّلت من بيت المقدس، وكذلك أيضًا إذا حُمل ذلك على كون النبي ﷺ بمكة، كان يصلي إلى الكعبة، والواقع الذي عليه الجمهور أن النبي ﷺ كان يصلي إلى الكعبة، ويجعلها بينه، وبين بيت المقدس، حينما كان بمكة، فلما هاجر إلى المدينة لم يتأتى ذلك؛ لأن الكعبة تكون جنوبًا، وبيت المقدس شمالًا، فوجه إلى بيت المقدس، فكان ذلك فتنة للعرب، أو للمشركين، حيث كانوا يعظمون الكعبة، فتسألوا لماذا ترك التوجه إليها، وهو يقول: إنه على ملة إبراهيم؟

لكن الأقرب - والله أعلم - وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وهي بيت المقدس فما حصل من النسخ، والتحويل إلى الكعبة كان ذلك فتنة؛ لأن القبلة شعار، والله يقول: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وحصل اضطراب لدى الكثيرين، وأرجف اليهود بهذه القضية، مع علمهم أن هذا التحويل - كما سيأتي - حق، وأنه من عند الله - تبارك، وتعالى - وأن هذه قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -.

"لِنَعْلَمَ أي: العلم الذي تقوم به الحجة على العبد، وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه الله".

بنحو هذا قال أهل العلم: كابن كثير، وغيره، وعبارة ابن القيم: شاء أن يُعلم معلومه الغيبي عيانًا، مشاهدًا، يعني علم الظهور، والانكشاف لِنَعْلَمَ العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وإلا فالله يعلم ما كان، وما يكون.

"يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن الارتداد عن الإسلام، وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء. وَإِنْ كانَتْ إن مخففة من الثقيلة، واسم (كان) ضمير الفعلة، وهي التحول عن القبلة". 

على قول البصريين أنها مخففة من الثقيلة، واسم (كان) ضمير الفعلة، وهي التحول عن القبلة، لكن على قول الفرّاء تكون نافية، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً يعني، وما كانت كبيرة على الذين هدى، لكن قول البصريين أظهر- والله أعلم -.

"إِيمانَكُمْ هنا قيل: صلاتكم إلى بيت المقدس، واستدل به من قال إن الأعمال من الإيمان، وقيل: معناه: ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة".

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا مروي عن ابن عباس - ا - والبراء بن عازب وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، وابن زيد[8] وهو قول أكثر أهل العلم من السلف، فمن بعدهم.

وبعض أهل العلم يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني ثواب أعمالكم، وصلاتكم، فإذا قيل: بأن معنى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا يستلزم قول من قال: بأن المراد الثواب وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني ثوابها، إذا كان فُسر بصلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنها هي المعني بالسياق، فالثواب من لوازمه.

وجاء عن ابن عباس - ا - وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني بالقبلة الأولى[9] وقيل غير هذا، لكن المشهور وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فالعمل إيمان، الصلاة إيمان، ولا إشكال. قال: "واستدل به من قال: إن الأعمال من الإيمان"، وهذا قول أهل السنة "وقيل: معناه: ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة"، وسبب النزول كما في حديث البراء بن عازب في تحويل القبلة، وفيه: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال قُتلوا، فلم ندري ما نقول فيهم؟ فأنزل الله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وهذا مخرج في الصحيحين[10] فكان سبب النزول هو هذا التساؤل عن أولئك الذين قضوا، وماتوا قبل تحويل القبلة، وعن صلاتهم إلى بيت المقدس هل كانت محتسبة لهم؟ أو أن ذلك قد ذهب، ولا تحتسب هذه الصلاة؟ فيكون سبب النزول قطعي الدخول في العام، وإخراجه بالاجتهاد ممنوع، هذه قاعدة بأسباب النزول.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة: 143]، وما أمر النبي ﷺ بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم برقم (7349).
  2.  تفسير الطبري (3/145).
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة آل عمران برقم: (3001)، وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ برقم: (4288)، وحسنه الألباني.
  4.  أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم [نوح: 1] إلى آخر السورة برقم: (3339).
  5. تفسير الطبري (3/155- 156)
  6. المصدر السابق
  7.  تفسير ابن كثير (1/457).
  8.  تفسير الطبري (3/169).
  9.  تفسير ابن كثير (1/458).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40)، ومسلم في الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة رقم (525).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- لما ذكر القبلة وتحويلها، وما يكون من قالة السوء التي تصدر عن السفهاء من الناس: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فرد عليهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142].

وهؤلاء الذين قالوا ذلك واعترضوا على تحويل القبلة هم اليهود كما هو معلوم، وما ذكره بعض أهل العلم من أن ذلك يُراد به أهل الإشراك، أو أهل النفاق يمكن أن يكون قد صدر عنهم فهم مظنة ذلك، والمقصود أن كل معارض لأحكام الله -تبارك وتعالى- وشرائعه فهو سفيه، فهؤلاء اعترضوا على تحويل القبلة فسماهم سفهاء، وإذا كان من اعترض على قضية واحدة استحق هذا الوصف فكيف بمن اعترض على الشرع كله؟! فكيف بمن بدله وغيره بقوانين وضعية! ونُظم أرضية صنعتها حُثالة عقول البشر!!.

قال الله بعد أن ذكر هؤلاء السفهاء وما سيقولون، ذكر أهل العدالة وهم من يقابلون هؤلاء من أهل السفه وخِفة العقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143].

وَكَذَلِكَ أي: وكما هديناكم إلى الطريق الصحيح إلى الدين الحق إلى الحنيفية جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا خيارًا عدولاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ تشهدوا على الأمم في الآخرة أن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل لهم الرسل وأنهم بلغوهم البلاغ المبين وَيَكُونَ الرَّسُولُ في الآخرة، كذلك شَهِيدًا عَلَيْكُمْ [سورة الحج:78] أنه بلغكم رسالته ربه -تبارك وتعالى.

أما القبلة فقال الله -تبارك وتعالى- في هذه القبلة: وَمَا جَعَلْنَا يعني: القبلة الأولى التي كنت عليها وهي التوجه إلى بيت المقدس ثم حولناك إلى الكعبة إلا ليظهر ما علمناه في الأزل إِلَّا لِنَعْلَمَ يعني: علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فنظائر هذا في كتاب الله إذا قال الله لنعلم كذا وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [سورة محمد:31] الله يعلم من يكون من المجاهدين والصابرين، ولكن المقصود العلم الذي ترتب عليه الجزاء؛ لأن الله لا يُجازي العباد ولا يُحاسبهم بمقتضى هذا العلم حتى يظهر ذلك في الخارج، يعني: حتى يظهر منهم الفعل الذي يترتب عليه الجزاء حَتَّى نَعْلَمَ فهنا العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب وهو العلم المُتعلق بما صدر عنهم، متعلق بالوقوع لنُميز من يتبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ومن هو مُزعزع الإيمان ضعيف اليقين فينقلب مرتدًا على عقبيه، وهذه القضية وهي تحويل القبلة لا شك أنها أمر شاق على النفوس إلا على الذين هداهم الله ومن عليهم بالإيمان والتقوى.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وذلك الصلاة إلى البيت المقدس قبل تحويل القبلة فإن تحويلها لا يكون إلغاءً للصلوات التي كانت إليها قبل هذه النسخ، فهذا من رأفته ورحمته -تبارك وتعالى- بعباده.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة وهي الآية الوسط التي في المنتصف منتصف سورة البقرة، حتى هذه الكلمة وَسَطًا جاءت في منتصف هذه السورة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [سورة البقرة:143] وهذه الآية وصف هذه الأمة بالوسطية ولتكون شهيدة شاهدة على الأمم، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يكون عليها شهيدا هذا يدل على تشريف هذه الأمة، وعلى منزلتها ومكانتها الرفيعة التي جعلها الله بها، فوصف الأمة بالعدول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: عدولاً خيارًا فهذا وصف من الله -تبارك وتعالى- تعديل لهذه الأمة، فهذا لا شك أنه شرف لها، عدولاً خيارًا، الوصف بالخيرية.

وكذلك أيضًا أن هذه الأمة تكون شاهدة على الأمم جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولاً خيارًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأخرى يدل على أن هذه الأمة أفضل من سائر الأمم حيث جُعلت شاهدة عليها، وهذا المُزكي لغيره أو الشاهد هو بمنزلة من العدالة لا يحتاج معها إلى تزكية.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن هذه الأمة أفضل الأمم على الإطلاق؛ لأنها أمة بشهادة الله هي الوسط جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فهي خير أمة أخرجت للناس كما قال الله صراحة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] وهذه الخيرية تكون بماذا؟

قال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فهنا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وصف هذه الأمة، وأخر الإيمان بالله مع أن الإيمان بالله هو الأصل، ولما ذكر أهل الكتاب قال: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:113، 114] فبدأ بالإيمان في وصفهم وأخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال بعض أهل العلم في وجه هذا: إنه قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق هذه الأمة لأنه أبرز أوصافها، أما الإيمان فتشترك مع سائر الأمم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند سائر الأمم؛ ولذلك قال الله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

وقال: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] فدل هذا على أنهم مُطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه في هذه الأمة أعظم وأشمل وآكد فقدمه، فهو مزية تميزت به هذه الأمة، فهذه الأمة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر استحقت الخيرية تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] تفسير لقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولاً خيارًا فيأخذون على يد السفيه، ويُعلمون الجاهل، وتستقيم بذلك الأحوال، ويُعرف الحق من الباطل فلا يندرس الحق ويضيع بسبب سكوت العالم ومُقارفات الجاهل، فينشأ الصغير على المنكر ويألفه، ويظن أنه من المعروف.

ومن هنا ليس لأحد أن يعتقد أو يقول أو يتفوه بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في خصوصيات الآخرين، أو أنه افتئات عليهم، أو أنه لربما اشتغال بما لا يعني، اشتغال بأمر الناس، هذا الكلام غير صحيح، بل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصح الجاهل وتعليم الناس الخير والحق، وبهذا يحصل الكمال فإذا وجد النقص سُدد لكن بالطريق الصحيح، وتؤتى البيوت من أبوابها.

أما تعطيل هذا الباب فهذا لا يمكن، وذلك من الواجبات بالإجماع على خلاف بين أهل العلم هل هو من فرض الكفاية أو من فرض العين بناء على معنى "من" في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:104] علق الفلاح بهؤلاء.

فبعض أهل العلم قال: الفلاح هو مطلوب أهل الإيمان، وإذا كان لا يتحقق الفلاح إلا بهذا فهذا واجب، فتكون "من" بيانية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [سورة آل عمران:104] كما يقول الإنسان لأولاده أريد منكم أولادًا بررة، يقصد الجميع.

وبعض أهل العلم يقول: "من" تبعيضية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [سورة آل عمران:104] يعني: أن يكون بعض الأمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فهذا على كل حال أقول استحقت به الأمة الخيرية صارت أمة وسطًا تشهد على سائر الأمم يوم القيامة، إما إذا ترهلت الأمة وضيعت أمر الله -تبارك وتعالى- وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظهر فيها المنكر والفاحشة وتشبهت بأعدائها وأضاعت هويتها، فإنها بذلك تكون قد تركت من الأوصاف التي تميزها والتي ترفعها والتي استحقت بها التفضيل والخيرية بقدر ما حصل لها من التضييع، هذه الآية يؤخذ منها عدالة هذه الأمة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ والشهيد قوله مقبول الشاهد شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وإنما يُقبل قول العدول.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] اللام هذه يمكن أن تكون للتعليل، ويمكن أن تكون للعاقبة لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فجاء بحرف "على" الدال على الاستعلاء وذلك أن الشهيد كالرقيب والمُهيمن فهو بمنزلة أعلى من المشهود له أو عليه.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا لاحظ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] وفي حق الرسول ﷺ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] لاحظ حرف "على" المتعلق لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لم يقل لتكونوا على الناس شهداء لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143] فأخر الجار والمجرور "على الناس" وفي شهادة النبي ﷺ على هذه الأمة: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ لم يقل: ويكون عليكم الرسول شهيدا، فلاحظ التقديم والتأخير في الموضعين.

فيمكن أن يؤخذ من هذا -والله تعالى أعلم- أن الغرض في الأول: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [سورة الحج: 78] إثبات شهادة هذه الأمة على الأمم.

وفي الثاني: اختصاص هذه الأمة بشهادة النبي ﷺ وهذا شرف ليس بعده شرف، النبي ﷺ هو الذي يشهد عليهم، أما الأمم الأخرى فتشهد عليهم هذه الأمة لا تشهد عليهم أمة، هذه الأمة لا تشهد عليها أمة أخرى إنما الذي يشهد عليها هو رسولها ﷺ.

أما الأمم الأخرى فإن هذه الأمة هي التي تشهد عليهم: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ فهذا قدم ما يتعلق بهم؛ لأنهم يتشرفون بهذا على الناس، وأما فيما يتعلق بشهادة النبي ﷺ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] فشهادته ﷺ تشريف لهم، وذلك أن المِنة تحصل من الجهتين كما ظهر -والله تعالى أعلم.

ويؤخذ من هذه الآية أن الله -تبارك وتعالى- يمتحن عباده بالأحكام الشرعية كما يمتحنهم -تبارك وتعالى- بالأحكام القدرية الكونية، بالأحكام الشرعية الإيجاب والتحريم والنسخ وما إلى ذلك، كما قال الله : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] فامتحنهم بتحويل القبلة، فالله يبتلي عباده ويمتحنهم بالأحكام التي يُشرعها لهم فما على العبد إلا أن يُذعن ويُسلم ويستسلم لأحكام الله لا يعترض ويقول: هذا الحكم أنا غير مُقتنع به، هذا الحكم ما استوعبته ولا استطاع عقلي أن يتقبله، وما عقلك! وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] هنا لا مجال لئن يقول الإنسان: أعرض على عقلي كما يقول بعض الناس، أعرض النصوص على عقلي فما قبله عقلي قبلته.

إذن صار العقل هو المتبوع، صار العقل إله من دون الله صار معبودًا، الله يقول: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [سورة الفرقان:43] إذا كان الهوى يصير إلهًا يُعبد؛ لأنه متبوع، فالعقل كذلك قد يكون صنمًا، هذا الذي يقول: لا أقبل من الوحي ولا غير الوحي إلا ما أعرضه على عقلي، فما دخل عقلي وقبله عقلي قبلته.

إذًا صار الأصل والمعبود والمُتبع هو العقل وليس الوحي، والله يقول لنبيه ﷺ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سورة سبأ:50] هنا قدم الجار والمجرور "فبما" للحصر، لا يوجد اهتداء إلا بما يوحي، لم يقل: إلا بما يُملي عليّ عقلي، ما هو العقل؟ ما قيمة العقل الذي يُعارض النقل والوحي؟ وكم يضيع بسبب هذه من خلق، ولربما يتلقون هذا بدورات لا تؤجر عقلك، لا تُلغي عقلك، أعرض كل شيء على عقلك، مساكين فيتلقفون ذلك ويتبنون مثل هذه الأفكار المنحرفة التي قد تذهب بآخرتهم -والله المستعان.

فالله -تبارك وتعالى- يبتلي العباد بالأحكام، المرأة قد تقول: لماذا نحمل حجابًا؟! لماذا لنا نصف الميراث؟! لماذا نؤخر؟! لماذا نُصلي خلف الصفوف؟! لماذا نُمنع من مخالطة الرجال؟! لماذا نؤمر بالقرار في البيوت؟! لماذا دية المرأة نصف دية الرجل؟!

يُقال: الله يبتلي عباده وهو عليم حكيم، حكم عدل، أحكامه في غاية العدالة، ومبناها على العلم والحكمة، يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك:14] سواء أدركنا هذا أو لم نُدرك حكمته نحن نُدرك أن الذي شرعه حكيم، وهذا الكون في تسييره حينما يخطف الله من بين أيدينا من نُحب، أو حينما يبتلينا بما نكره، أو نحو ذلك، لا يعترض الإنسان ويقول: يا رب أنا مُطيع وتقي والبلاء يُساق إليّ سوقًا، وآخرون لا يعرفون الله ويعيشون في بحبوحة من العيش، هذا لا يقوله من عرف ربه معرفة صحيحة، إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل[1] وقال سبحانه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة آل عمران:196، 197] فالابتلاء يُساق لأهل الإيمان في أنفسهم وفي أموالهم، ونسأل الله أن لا يجعل مصيبتنا في ديننا.

إذًا أحكام الله القدرية وأحكامه الشرعية يجب التسليم والرضا بذلك كله، هذا هو حال المؤمن لا اعتراض ولا امتعاض، إنما يثق، والإنسان حينما يركب في الطائرة بين السماء والأرض يأكل ويمرح ويأنس وهو مُطمئن وقرير العين، وليس بمشغول بسير هذه الطائرة، وما عسى أن يصنع هذا القائد لهذه الطائرة مع أنه لا يعرفه لكن هو عنده ثقة أنه ما وضع في هذا المكان إلا من هو أهل له، فيركب وينام أو يقرأ صحيفة، ويأكل ويشرب وهو قرير العين؛ لأنه مطمئن أن هذا الذي يقود الطائرة أنه أعلم بعمله، لا يحتاج أن يأتي إليه ويقول له: انتبه احذر، أمامك كذا.

إذا كان هذا في قائد طائرة لا تعرفه ويُخطأ ويُصيب بشر ويُصيبه الذهول، ويمكن أن ينام، أو يموت، أو يُغمى عليه تصيبه نوبة صرع أي شيء إغماء ومع ذلك أنت قرير العين، فكيف بالله الذي يُدبر أمر هذا الكون لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [سورة طه: 52] لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] اطمئن تمامًا، اطمئن تمامًا هذه الأقدار التي يسوقها لك يسوقها عليم حكيم على كل شيء قدير، هو أعلم بخلقه هو الذي خلقهم وأوجدهم فلا تشغل بالك في هذه الأمور، عليك بطاعة الله، والتسليم، والإذعان، والرضا، أما لماذا وكيف ولماذا لا يفعل كذا ولماذا يفعل كذا، هذا ليس لك، ليس من عملك هذا اطمئن، الذي يُدبر هذا الكون حكيم وعليم فلا تقلق، لا تنزعج، اختار لك مرض، اختار لك ابتلاء، اختار لك كذا، لا تقلق، أهم شيء أن يكون الذي بينك وبينه عامر هذا أهم شيء وما وراء ذلك لا شأن لك به -والله المستعان.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] اختار الله مدة للتوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا تمحيصًا للنفوس، يُمحصها من كل رواسب الجاهلية ومن علائقها التي كانت تتعلق بها، ليُمحص النفوس لتكون مُتبعة لأمر الله كانوا في الجاهلية يُعظمون البيت فتحويلهم إلى بيت المقدس هذا بحد ذاته امتحان للنفوس وتنقية لها من مألوفاتها وعاداتها؛ لتكون تابعة لأمر الله .

كان النبي ﷺ في مكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ويُصلي، في المدينة يستقبل بيت المقدس والكعبة خلفه، ثم يظهر بعد هذا كله بعد النسخ والتحويل من هو المُرتاض بالإيمان الذي ارتاضت نفسه ومن هو المُضعضع المُزعزع الذي يذهب هنا وهناك ويتشكك لأدنى امتحان إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143].

وهذا يدل أيضًا: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] أن بعض الأوامر الشرعية أو النواهي شاقة على النفوس لكن ما الذي يهونها؟ الإيمان والهداية وترويض النفس على الطاعة وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً هي أمر شاق تحويل القبلة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] فدل على أنه بقدر هداية الإنسان بقدر ما يحصل له من الهداية بقدر ما يحصل له من الرسوخ والثبات فلا يتضعضع ولا يتزعزع فتذهب عنه هذه المشقة.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] صلاتكم إلى بيت المقدس، لا يضيع، فدل على أن العمل من جملة الإيمان، وأهل السنة يستدلون بهذه الآية على هذا المعنى.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا تذييل يؤكد هذا المعنى أن الله لا يُضيع عمل المؤمن ولا يذهب هباءً، وفيه أيضًا إظهار للمنة والرأفة هي رحمة رقيقة أرق الرحمة يُقال لها: رأفة، فالحكم المنسوخ يُلغي العمل بالحكم في المستقبل وليس مُلغيًا لما مضى من أعمال العاملين على وفق ما أمر الله -تبارك وتعالى.

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ [سورة البقرة:143] فجاء بالاسم مُظهرًا لم يختصر وجاء بالضمير، لم يقل: وما كان الله ليضيع إيمانكم إنه بالناس لرؤوف رحيم، فالإظهار في موضع يصح فيه الإضمار يكون لنُكتة، يكون لمعنى لملحظ، فهنا إظهار في هذا الموضوع للتعظيم: وَمَا كَانَ اللَّهُ فهذا أعظم وأفخم مما لو قال: إنه بالناس لرؤوف رحيم.

وتقديم الناس: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ قُدم على متعلقة وهو لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ لم يقل: إن الله لرؤوف رحيم بالناس، وإنما قال: بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ يدل على عناية بهؤلاء الناس إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ فقدمهم فهذا يدل على شدة تعلق رحمته بهم ولصوقها وعلوقها بهم، فالله أرحم بعباده من الوالدة بولدها لاحظ هذا التقديم، وما أفاده. 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2398)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4023)، وأحمد في المسند، برقم (1481)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين" وبوَّب الإمام البخاري في صحيحه (7/ 115) "باب أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" وجود إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (143)، وصححه في صحيح الجامع، برقم (992).