السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] ."قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع ماذا تفيد؟ قد يجود البخيل، وقد يكبو الجواد هنا (قد) للتقليل؛ لأن ذلك يقع قليلاً منه، (قد يسافر زيد) احتمال، (قد سافر زيد) هذه للتأكيد، والتحقيق أن هذا الأمر متحقق، فهنا دخلت على الفعل المضارع قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144]، والله قطعاً يرى وجهه يتقلب في السماء فهذا له نظائر في كتاب الله ، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ [سورة النــور:63]، وما إلى ذلك، فماذا يقال فيها؟ إذا رأيتها منسوبة مضافة إلى الله فإن ذلك يعني المبالغة في التحقيق، تدل على التحقيق إذا دخلت على الفعل المضارع منسوباً إلى الله ، ولها أمثلة في القرآن، كلما جاءت مضافة إلى الله فهي للتحقيق، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة: 144] أي قد رأينا ذلك.
ومعنى تقلب وجه النبي ﷺ في السماء أنه كان يرفع بصره يتطلع إلى أمر الله   أن يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم ﷺ، فقد كان يحبها، وهذا فيه رد على قول من قال: إن توجه النبي ﷺ إلى بيت المقدس كان من عند نفسه، وهذا من أغرب الأشياء، وإن قال به بعض أهل العلم، فهذا ظاهر، وصريح في أن النبي ﷺ كان يتطلع إلى قبلة إبراهيم، وينتظر أمر الله أن يوجهه إلى القبلة لمحبته لها؛ ولأن المشركين قد شغبوا عليه، قالوا: يدّعي أنه على دين إبراهيم، ويخالفه في القبلة؟! وأهل الكتاب يعلمون أن قبلة النبي الذي سيبعث ستكون قبلة الأنبياء قبله، وهي الكعبة.
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] أي: تطلع النبي ﷺ برفع بصره إلى السماء ينتظر أمر الله .
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] هذه اللفظة (نولينك) تحتمل أن تكون بمعنى التولية، تقول: دعه وما تولى، إنسان بيده أموال لأيتام أو تحت يده رعية، أو أمانة من الأمانات فتقول: دعه وما تولى من الولاية (فلنولينك) تقول: الله أولاك نعمه بمعنى أعطاكها، وملكك إياها.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] يحتمل أن يكون بمعنى نعطينّك قبلة تحبها، وترضاها، وتعجبك، فهذا، وإن كانت تحتمله الآية إلا أنه غير متبادر، والقرآن إنما يحمل على المعنى المتبادر، ولا يحمل على المعنى البعيد إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولذلك كان معنى التولي هنا من التولي الذي هو التوجيه، تقول: ولى وجهه إلى كذا بمعنى وجهه إلى كذا، (فلنولنيك) أي: فلنوجهنك وجهة ترضاها، والقبلة هي الوجهة، وهذا هو المتبادر، وهو الأقرب، - والله تعالى أعلم -."قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: كان أوَّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو إلى الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] إلى قوله: فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142]، وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] ."هذه الآية قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144] ذكرنا سابقاً عند قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] أن بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية متقدمة في النزول على قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِن النّاس [سورة البقرة:142] فهو أعلمهم أن السفهاء سيقولون ذلك ليمهد، ثم بعد ذلك نسخ القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144]، ثم أعلمه ليطمئنه أن السفهاء سيشغبون عليه، ويقولون: كذا، وكذا فلا تلتفت إليهم، فعلى هذا نسخت القبلة، ثم ذكر الله   ما يطمئن نفوسهم بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142]، وكذا على قول من قال: إن قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] كما سبق عُبر بها بصيغة المستقبل، وهي من الأمر الماضي؛ لأن ذلك قد استمر، مستمر هذا الشغب، والتلبيس بما يتعلق بالقبلة، - والله تعالى أعلم -."روى الحاكم عن علي بن أبي طالب : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] قال: شطره: قِبَله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه."
الشطر بمعنى الناحية والجهة للشيء، ناحية الشيء، وجهته، الجهة شطر المسجد الحرام، وإن كان الشطر يأتي بمعنىً آخر لكن في غير هذا الموضع، وهو شطر الشيء بمعنى النصف."وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم، وقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً، وغرباً، وشمالاً وجنوباً."
بمعنى ولوا وجوهكم في أي مكان تكونون ناحية البيت، وهذا أمر مجمع عليه أنه يجب أن يتولى الإنسان الكعبة، فمن كان في المسجد فإنه يستقبل - كما سبق في درس المقنع - الكعبة، ومن كان في خارج المسجد فإنه يستقبل المسجد، وهذا ليس بإطلاق، فإذا كان جنب المسجد بجواره لا نقول: أستقبل المسعى، هذا الكلام غير صحيح، وأما من يصلون في وسط المسجد إلى جهات أخرى - فهذا أمر في غاية العجب - حيث توجهت سجادته أو قبته التي يصلي على عتباتها، فهذا ما تصح صلاته."ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئاً في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. 
وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:144] أي: اليهود - الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس - يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت، والصفة لرسول الله ﷺ، وأمته، وما خصه الله تعالى به، وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً، وكفراً، وعناداً؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] ."

يعني أن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق بمعنى: يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما يجدونه في كتبهم، وهذا هو المتبادر، وبعض أهل العلم يعبر عن هذا فيقول: يعلمون أنه الحق أنها قبلة إبراهيم، والأنبياء من بعده، فقبلتهم جميعاً هي الكعبة، وبعضهم يقول: يعلمون أنه الحق من ربهم أي هذا التحويل، يعلمون من صفته أنه سيحول من هذه القبلة إلى هذه القبلة، وكل ذلك لا إشكال فيه، فهم يعرفون، وصف النبي ﷺ، ومهاجره، ويعرفون قبلته، وما سيكون من أمره، فهم يعلمون أن هذه القبلة التي هم يشغبون عليها أنها حق من الله ، وهي قبلة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -، وقبلة الأنبياء من بعده.
وعلى هذا الاعتبار تكون قبلة جميع الأنبياء إلى الكعبة، والأنبياء حجوا البيت، كما هو معروف، وتعرفون الأحاديث الواردة في هذا، ومسجد الخيف صلى فيه سبعون نبياً، وقال النبي ﷺ لما مر بوادي الأزرق: كأني أنظر إلى موسى[1].. إلى آخره.
فالمقصود أن قبلة الأنبياء إلى الكعبة، وبعض أهل العلم يُفهم من كلامه خلاف هذا، ومن الناحية الواقعية اليهود يستقبلون بيت المقدس، وإن أردت أن تحدد أكثر قل: يستقبلون الصخرة، فالمسلمون لا يعظمون هذه الصخرة، فاليهود يستقبلونها حيث كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق مطلقاً حيث كانوا، لماذا اليهود يستقبلون الصخرة؟ يقول بعض أهل العلم: إن اليهود كانوا يحملون معهم التابوت، كما قال تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا حيثما انتقلوا، وحلوا أو ذهبت جيوشهم، أو نحو هذا وضعوا التابوت، وصلوا إليه، يحملونه في أسفارهم، ومغازيهم، وإذا كانوا ببيت المقدس وضعوه على الصخرة، واستقبلوه.
التابوت هذا يقولون: فيه بقايا - هكذا يقال -، جاء هذا في بعض الروايات، في رواية حسنها الشيخ الألباني: "عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت[2]، وجاء في تلك الرواية: "أنه رفع ستة أسباعها، وبقي السبع" هذه الرواية حسنها الألباني، وبعض أهل العلم يضعفها.
يقولون: إنها كانت مكتوبة على ألواح من زبرجد فتحطمت، فهذا الذي ترضرض منها، هذا الفتات جمع، وهو المراد بقوله: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا يحملونه معهم.. إلى آخره.
فالمقصود أنهم كانوا يستقبلون التابوت، ويضعونه على الصخرة إذا نزلوا في بيت المقدس، فرفع التابوت فصاروا يستقبلون المحل الذي يضعونه عليه دون أن يُوجهوا إلى ذلك، وأما النصارى فهم لشدة عداوتهم لليهود خالفوهم فاستقبلوا المشرق، وإلا فقبلة الجميع هي الكعبة على قول طائفة من أهل العلم، وهو صريح كلام ابن جرير في فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] .
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة البقرة:144] أي: قبلة إبراهيم، والأنبياء من بعده.
وابن القيم - رحمه الله - في كلامه في عدد من كتبه تكلم على هذه المسألة، وكلامه فيها فيه شيء من الاختلاف، ففي موضع يقرر أن قبلة جميع الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم - صلى الله عليه، وعلى سائر الأنبياء، والمرسلين، وسلم - هي الكعبة، وفي بعضها يقرر أن قبلتهم بيت المقدس، أو الصخرة.
ونقل عن السهيلي في بدائع الفوائد ما هو صريح في تقرير هذا المعنى، وعلى كل حال لعل الأقرب - والله أعلم - أن قبلة جميع الأنبياء هي الكعبة، وأن التاريخ الذي كانوا يتعاملون به ليس التاريخ الشمسي، وإنما هو التاريخ القمري أيضاً، وعلى هذا أدلة، ويكفيك منها ما نحن بصدد استقباله قريباً - إن شاء الله -، وهو يوم عاشوراء فهو بالتاريخ القمري بهذا الاعتبار، وهو اليوم الذي نجا الله فيه موسى لما هاجر النبي ﷺ، وسألهم عن سبب صيامه.
  1. أخرجه مسلم في الإيمان باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات (ج1/ص105 - 438).
  2. أخرجه أحمد في المسند (ج1/ص271 – 2447)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير سريج بن النعمان فمن رجال البخاري.، وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 5374. 

مرات الإستماع: 0

"تَقَلُّبَ وَجْهِكَ كان النبي ﷺ يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة".

فقد ثبت في الصحيحين في سبب نزول هذه الآية من حديث البراء بن عازب وفيه:

وكان رسول الله ﷺ يُحب أن يُوجَه إلى الكعبة، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [1] فهذا الذي أشار إليه المؤلف - رحمه الله - وهو أنه ﷺ كان يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة.

 "شَطْرَ الْمَسْجِدِ جهته".

الشطر الجهة.

 "وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ خبر يتضمن النهي، ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين لاستوائهما في البطلان".

خبر يتضمن النهي، بمعنى أنه جاء بصيغة خبرية، ومعناه النهي، يعني لا تتبع قبلتهم، وقد يجيء الإنشاء كالنهي؛ لأن الكلام خبر، وإنشاء، فالإنشاء مثل: الأمر، والنهي، فمجيء الإنشاء بصيغة الخبر يكون أقوى، وأثبت، يعني كأنه قد تقرر، فصار ثابتًا، مُخبَرًا عنه، هكذا يقولون.

فيكون قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إخبار من الله - تبارك، وتعالى - عن نبيه ﷺ أنه متبع لأمر الله، ملتزم بطاعته، وشرعه، وإخبارٌ عن حاله، وعن ثباته على أمر ربه - تبارك، وتعالى - وهذا حاصل ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[2].

قال: "ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين" يعني للنصارى قبلة، ولليهود قبلة "لاستوائهما في البطلان" فهما في حكم واحد، هذا مراده، لكن يحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن يكون غير ذلك، ومثل هذه الفروقات، والجوانب البلاغية المتعلقة بالألفاظ هي قضايا ظنية، فما ظهر وجهه لا بأس أن يُذكر، لكن لا يُقطع به.

ويمكن أن يقال: بأن القبلة جنس، ويمكن أن يقال: بأن القبلة هنا مفرد مضاف إلى معرفة؛ وذلك للعموم، فيشمل قبلة اليهود، ويشمل قبلة النصارى، ويمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة غير ما ذكر.

 "وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأن اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب، والنصارى المشرق".

المعروف أن اليهود يستقبلون الصخرة، وذكرت في بعض المناسبات: أن اليهود كان يستقبلون التابوت، فكانوا يحملونه معهم في مغازيهم، وأسفارهم، ويتوجهون إليه، فإذا كانوا قارين ببيت المقدس وضعوه على الصخرة، فاستقبلوه، فلما رُفع التابوت صاروا يستقبلون ذلك الموضع، وهو الصخرة، فالصخرة معظمة عند اليهود يستقبلونها، ولم تكن هذه القبلة مما شرعه الله لهم، وإنما هي قبلة محدثة.

وقد ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في بعض المواضع من كتبه: أن قبلة الأنبياء هي البيت الحرام.

وذكر في موضع آخر أن قبلة الأنبياء قبل النبي ﷺ كانت بيت المقدس - والله أعلم -. 

وأما النصارى فكانوا يستقبلون المشرق، وهي قبلة محدثة، خالفوا اليهود لشدة العداوة بينهم، فأحدثوا هذه القبلة، وكان وضعها عن مشورة منهم، وكذلك اليهود كان ذلك عن مشورة منهم، يقولون: لما رُفع التابوت وقع بينهم مشورة، فاتفقوا على أن يستقبلوا الصخرة، هكذا يقولون - والله تعالى أعلم -.

لكن كل هذا محدث، وسيأتي في قوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا وعلى القراءة الأخرى أيضًا: هل ولاهم الله هذا، أو كان من قِبَل أنفسهم؟ 

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان برقم (399) ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة برقم (525).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 461).

مرات الإستماع: 0

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] قد نرى تحول وجهك أيها الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في جهة السماء مرة بعد مرة، وذلك أنه ينتظر نزول الوحي في شأن القبلة، فلنصرفك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها وهي المسجد الحرام الكعبة المشرفة، فولي وجهك إليها، وفي أي مكان كنتم وأردتم الصلاة فتوجهوا نحوها، وإن الذين أوتوا الكتاب الذي أعطاهم الله الكتاب من اليهود والنصارى ليعلمون أن ذلك وهو التحول إلى الكعبة أن الحق الثابت من الله بما يجدونه في كتبهم.

وما الله بغافل عن هؤلاء من المعترضين المُشككين، وسيُجازيهم على ذلك.

يؤخذ من هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] إثبات صفة العلو لله فقد كان النبي ﷺ ينتظر الوحي فيرفع رأسه إلى السماء، وعلو الله -تبارك وتعالى- على عرشه صفة ثابتة في الكتاب والسنة وهي مما تواتر، والأدلة الدالة على ثبوتها تزيد على عشرين نوعًا في الكتاب والسنة، وكل نوع تحته من أفراد الأدلة ما هو معلوم، كما يدل على ذلك أيضًا الفطرة، فإن الإنسان يجد في نفسه نزوعًا إلى العلو حينما يقول: يا الله، فيجد ذلك بفطرته، كما يدل على هذه الصفة أيضًا العقل.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] "قد" هنا دخلت على الفعل المضارع، قد نرى، وبعض أهل اللغة كما هو مشهور يقولون: إن "قد" إذا دخلت على الفعل الماضي فهي للتحقيق، قد جاء زيد، وإذا دخلت على الفعل المضارع فهي للتقليل قد يجود البخيل، وقد يكبوا الجواد، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين أهل اللغة، وبصرف النظر هل هي للتقليل أم لا، فالأمر الذين ينبغي أن نُدركه وأن نعلمه ويكون فيه جواب لإشكال وسؤال يرد في مثل هذه المواضع: هو مضمون القاعدة من قواعد التفسير وهو أن قد إذا دخلت على الفعل المضارع هذه المُسند إلى الله -تبارك وتعالى- كما في هذه الآية فذلك للتحقيق، "قد إذا دخلت على الفعل المضارع المُسند إلى الله فهي للتحقيق دائمًا" فإذا قال الله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] يعني: قد علم، وإذا قال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ أي: قد رأينا، فليس ذلك للتقليل ولا للتكثير وإنما هي للتحقيق، هذا دائمًا، حينما يُضاف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وبهذا ينحل إشكال قد يرد في مثل هذه المواضع، فيكون المعنى قد رأينا، والقرآن جاء على نهج العرب في مُخاطباتها وكلامها، والعظيم منهم يُخرج الكلام هذا المخرج ويقصد به التحقيق.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ هذا يدل على ترقب مستمر من قِبل النبي ﷺ حيث كان -عليه الصلاة والسلام- يُرجي أن تحول القبلة، فإن توجهه إلى بيت الله الحرام أحب إليه من التوجه إلى بيت المقدس قَدْ نَرَى وهذا يدل على إثبات صفة الرؤية والبصر لله .

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ يدل على أن النظر لا إشكال فيه، وليس فيه سوء أدب مع الله تعالى لكن الداعي إذا دعا هنا كان يترقب نزول الوحي وليس معناه أنه يرفع رأسه من أجل الدعاء -والله أعلم- فالداعي إذا دعا فإنه ينظر إلى بطون كفيه هذا في الدعاء، وأما في الصلاة فإنه ينظر إلى موضع سجوده كما هو معلوم، وإذا كان في التشهد فإنه ينظر إلى المُسبحة يُحركها يدعوا بها ويُلقي ببصره إليها، هذا هو المشروع.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] فهنا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فدخول هذه الفاء للتعقيب لتأكيد الوعد فَلَنُوَلِّيَنَّكَ يعني هنا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ هذا تمهيد، ثم بعد ذلك جاء الوعد فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] ثم جاء الأمر: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] وقوله -تبارك وتعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا دخلت عليه هنا اللام الموطأة للقسم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا وهذا فيه مزيد من التوكيد في تحققه ووقوعه فهو أمر لابد من حصوله؛ لأن القسم كما هو معلوم يؤكد مضمون الجملة المُقسم عليها.

فهنا جاء بهذا التدريج: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فالنفس هنا تتشوف إلى ما يكون بعده، قال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فجاء الوعد، فيحصل للنفس من الانبساط والسرور والانشراح، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالتوجه إلى بيت الله الحرام فيكون ذلك إنجازًا لهذا الوعد فيتوالى الفرح والسرور والاستبشار على نفسه ﷺ ويكون ذلك التدريج آنس للنفس قبل أن يقع المطلوب فجأة، يعني: حينما يقع المطلوب فجأة حينما يقول: ولي وجهك شطر المسجد الحرام هكذا بدون مقدمات فإن ذلك أمر قد يفجأ النفس، ولكن حينما يُمهد له بمثل هذه المُمهدات يصل إلى النفس وهي في حال استبشار وفرح، ويكون ذلك مُتدرجًا معها، وهكذا أيضًا: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً جاءت مُنكرة، وهذا التنكير قد يُفيد التعظيم يُشعر بالتعظيم قبلة.

وكذلك أيضًا نُكرت؛ لأنه لم يسبق ما يُعرف بها أو يدل عليها فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا لكن في بيت المقدس: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] لأنها كانت قبلة يستقبلها ويعهدها ويعلمها ويصلي إليها: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [سورة البقرة:143] وهنا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً [سورة البقرة:144] هي قبلة جديدة، وهنا أنه قال: تَرْضَاهَا ولم يقل: تهواها فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144].

فالنبي ﷺ إنما يكون هواه تبعًا لمحاب الله وليس مجرد ما تهوى النفس فإن نفسه ﷺ أشرف وأكمل من ذلك، والنفس إذا صار لها ارتياض بالطاعة وارتقت في درجات العبودية، وحصلت لها ألوان الكمالات صار هواها تبعًا لما يرضاه الله -تبارك وتعالى- فقال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا باعتبار أنها قبلة إبراهيم والنبي ﷺ ينتسب إليه: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فلم يكن ذلك لهوى في نفسه ﷺ باعتبار أن مكة هي أرض الآباء والأجداد، ومنها مُهاجره، وإنما كان ذلك لاعتبارات شرعية.

ثم أيضًا هنا مسألة القبلة وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبلة إبراهيم هذا يحصل به التميز لهذه الأمة، ويحصل به مُباينة هؤلاء الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض، منهم من يستقبل المشرق كالنصارى، واليهود كانوا كما قيل: يستقبلون التابوت الذي كانوا ينقلونه معهم في مغازيهم وأسفارهم، وإذا كانوا في بيت المقدس وضعوه على الصخرة فكانت الصخرة بهذا الاعتبار يستقبلونها؛ لأنهم كانوا يضعون عليها التابوت، فصارت هذه الصخرة بهذا الاعتبار رمزًا لليهود وقبلة لهم لما يوضع عليها من التابوت، ولا أعلم لها أي مكانة عند المسلمين ولا قُدسية ولا يصح أن يوضع عليها قُبة، ولا أن تُجعل شعارًا يرمز لبيت المقدس، فيتبادر إلى الأذهان إذا ذُكر بيت المقدس أن بيت المقدس هو هذه القبة التي على هذه الصخرة، وهذا ليس بصحيح، فهنا هذه القبلة هي شعار ورمز، فلما حولوا إلى الكعبة كان ذلك تمييزًا لهم عن غيرهم.

ثم يظهر مراعاة الشريعة للاجتماع فإن الله -تبارك وتعالى- قال: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في كل أصقاع الدنيا وفي كل زمان يستقبلون بيت المقدس وهذا أمر والأمر يدل على الوجوب، فيجب استقبال القبلة اللهم إلا إذا اجتهد المجتهد فأخطأ فإن ذلك يكون من المعفو عنه، أو كان ذلك في النافلة فإنه يُرخص كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنها: "أنه رأى النبي ﷺ وهو جاء من المدينة إلى مكة يصلي على راحلته حيث توجهت به"[1] لكن في الفريضة يجب استقبال القبلة إذا كان ذلك مقدورًا، لكن لو كان مأسورًا لا يستطيع استقبال القبلة كالمريض الذي لا يستطيع الاستقبال، أو المحبوس في مكان لا يستطيع أن يستقبل، أو نحو ذلك، فهذا معذور، وكذلك من خفيت عليه القبلة.

وهكذا أيضًا: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] هذا فيه تهديد مُبطن، هؤلاء يعلمون أنه الحق إذًا كان الواجب عليهم أن ينقادوا له، فالواجب على المرء أن ينقاد إلى الحق إذا علمه وظهرت له دلائله وأماراته ولا يبقى في حال من المُكابرة، فهؤلاء كانوا يقولون: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] وهم يعلمون أنها حق وأنها من الله -تبارك وتعالى.

وجاء بالتوكيد بهذا: وَإِنَّ الَّذِينَ [سورة البقرة:144] فإن هذه مؤكدة بمنزلة إعادة الجملة مرتين وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:144] ولاحظ الالتفات في الآية: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [سورة البقرة:144] يتحدث عن غائب: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] فهذا خبر مُضمن معنى الوعيد والتهديد، فالله -تبارك وتعالى- ليس بغافل معنى ذلك أنه سيُجازيهم ويُحاسبهم ويؤاخذهم على ذلك، هذا ما يتعلق بهذه الآية، - والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت به، برقم (1095)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700).