ومعنى تقلب وجه النبي ﷺ في السماء أنه كان يرفع بصره يتطلع إلى أمر الله أن يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم ﷺ، فقد كان يحبها، وهذا فيه رد على قول من قال: إن توجه النبي ﷺ إلى بيت المقدس كان من عند نفسه، وهذا من أغرب الأشياء، وإن قال به بعض أهل العلم، فهذا ظاهر، وصريح في أن النبي ﷺ كان يتطلع إلى قبلة إبراهيم، وينتظر أمر الله أن يوجهه إلى القبلة لمحبته لها؛ ولأن المشركين قد شغبوا عليه، قالوا: يدّعي أنه على دين إبراهيم، ويخالفه في القبلة؟! وأهل الكتاب يعلمون أن قبلة النبي الذي سيبعث ستكون قبلة الأنبياء قبله، وهي الكعبة.
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] أي: تطلع النبي ﷺ برفع بصره إلى السماء ينتظر أمر الله .
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] هذه اللفظة (نولينك) تحتمل أن تكون بمعنى التولية، تقول: دعه وما تولى، إنسان بيده أموال لأيتام أو تحت يده رعية، أو أمانة من الأمانات فتقول: دعه وما تولى من الولاية (فلنولينك) تقول: الله أولاك نعمه بمعنى أعطاكها، وملكك إياها.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] يحتمل أن يكون بمعنى نعطينّك قبلة تحبها، وترضاها، وتعجبك، فهذا، وإن كانت تحتمله الآية إلا أنه غير متبادر، والقرآن إنما يحمل على المعنى المتبادر، ولا يحمل على المعنى البعيد إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولذلك كان معنى التولي هنا من التولي الذي هو التوجيه، تقول: ولى وجهه إلى كذا بمعنى وجهه إلى كذا، (فلنولنيك) أي: فلنوجهنك وجهة ترضاها، والقبلة هي الوجهة، وهذا هو المتبادر، وهو الأقرب، - والله تعالى أعلم -."قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: كان أوَّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو إلى الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] إلى قوله: فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142]، وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة:143] ."هذه الآية قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144] ذكرنا سابقاً عند قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] أن بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية متقدمة في النزول على قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِن النّاس [سورة البقرة:142] فهو أعلمهم أن السفهاء سيقولون ذلك ليمهد، ثم بعد ذلك نسخ القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144]، ثم أعلمه ليطمئنه أن السفهاء سيشغبون عليه، ويقولون: كذا، وكذا فلا تلتفت إليهم، فعلى هذا نسخت القبلة، ثم ذكر الله ما يطمئن نفوسهم بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142]، وكذا على قول من قال: إن قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء [سورة البقرة:142] كما سبق عُبر بها بصيغة المستقبل، وهي من الأمر الماضي؛ لأن ذلك قد استمر، مستمر هذا الشغب، والتلبيس بما يتعلق بالقبلة، - والله تعالى أعلم -."روى الحاكم عن علي بن أبي طالب : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] قال: شطره: قِبَله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه."
الشطر بمعنى الناحية والجهة للشيء، ناحية الشيء، وجهته، الجهة شطر المسجد الحرام، وإن كان الشطر يأتي بمعنىً آخر لكن في غير هذا الموضع، وهو شطر الشيء بمعنى النصف."وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم، وقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً، وغرباً، وشمالاً وجنوباً."
بمعنى ولوا وجوهكم في أي مكان تكونون ناحية البيت، وهذا أمر مجمع عليه أنه يجب أن يتولى الإنسان الكعبة، فمن كان في المسجد فإنه يستقبل - كما سبق في درس المقنع - الكعبة، ومن كان في خارج المسجد فإنه يستقبل المسجد، وهذا ليس بإطلاق، فإذا كان جنب المسجد بجواره لا نقول: أستقبل المسعى، هذا الكلام غير صحيح، وأما من يصلون في وسط المسجد إلى جهات أخرى - فهذا أمر في غاية العجب - حيث توجهت سجادته أو قبته التي يصلي على عتباتها، فهذا ما تصح صلاته."ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئاً في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:144] أي: اليهود - الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس - يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت، والصفة لرسول الله ﷺ، وأمته، وما خصه الله تعالى به، وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً، وكفراً، وعناداً؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] ."
يعني أن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق بمعنى: يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما يجدونه في كتبهم، وهذا هو المتبادر، وبعض أهل العلم يعبر عن هذا فيقول: يعلمون أنه الحق أنها قبلة إبراهيم، والأنبياء من بعده، فقبلتهم جميعاً هي الكعبة، وبعضهم يقول: يعلمون أنه الحق من ربهم أي هذا التحويل، يعلمون من صفته أنه سيحول من هذه القبلة إلى هذه القبلة، وكل ذلك لا إشكال فيه، فهم يعرفون، وصف النبي ﷺ، ومهاجره، ويعرفون قبلته، وما سيكون من أمره، فهم يعلمون أن هذه القبلة التي هم يشغبون عليها أنها حق من الله ، وهي قبلة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -، وقبلة الأنبياء من بعده.
وعلى هذا الاعتبار تكون قبلة جميع الأنبياء إلى الكعبة، والأنبياء حجوا البيت، كما هو معروف، وتعرفون الأحاديث الواردة في هذا، ومسجد الخيف صلى فيه سبعون نبياً، وقال النبي ﷺ لما مر بوادي الأزرق: كأني أنظر إلى موسى[1].. إلى آخره.
فالمقصود أن قبلة الأنبياء إلى الكعبة، وبعض أهل العلم يُفهم من كلامه خلاف هذا، ومن الناحية الواقعية اليهود يستقبلون بيت المقدس، وإن أردت أن تحدد أكثر قل: يستقبلون الصخرة، فالمسلمون لا يعظمون هذه الصخرة، فاليهود يستقبلونها حيث كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق مطلقاً حيث كانوا، لماذا اليهود يستقبلون الصخرة؟ يقول بعض أهل العلم: إن اليهود كانوا يحملون معهم التابوت، كما قال تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا حيثما انتقلوا، وحلوا أو ذهبت جيوشهم، أو نحو هذا وضعوا التابوت، وصلوا إليه، يحملونه في أسفارهم، ومغازيهم، وإذا كانوا ببيت المقدس وضعوه على الصخرة، واستقبلوه.
التابوت هذا يقولون: فيه بقايا - هكذا يقال -، جاء هذا في بعض الروايات، في رواية حسنها الشيخ الألباني: "عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت[2]، وجاء في تلك الرواية: "أنه رفع ستة أسباعها، وبقي السبع" هذه الرواية حسنها الألباني، وبعض أهل العلم يضعفها.
يقولون: إنها كانت مكتوبة على ألواح من زبرجد فتحطمت، فهذا الذي ترضرض منها، هذا الفتات جمع، وهو المراد بقوله: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] فكانوا يحملونه معهم.. إلى آخره.
فالمقصود أنهم كانوا يستقبلون التابوت، ويضعونه على الصخرة إذا نزلوا في بيت المقدس، فرفع التابوت فصاروا يستقبلون المحل الذي يضعونه عليه دون أن يُوجهوا إلى ذلك، وأما النصارى فهم لشدة عداوتهم لليهود خالفوهم فاستقبلوا المشرق، وإلا فقبلة الجميع هي الكعبة على قول طائفة من أهل العلم، وهو صريح كلام ابن جرير في فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] .
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة البقرة:144] أي: قبلة إبراهيم، والأنبياء من بعده.
وابن القيم - رحمه الله - في كلامه في عدد من كتبه تكلم على هذه المسألة، وكلامه فيها فيه شيء من الاختلاف، ففي موضع يقرر أن قبلة جميع الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم - صلى الله عليه، وعلى سائر الأنبياء، والمرسلين، وسلم - هي الكعبة، وفي بعضها يقرر أن قبلتهم بيت المقدس، أو الصخرة.
ونقل عن السهيلي في بدائع الفوائد ما هو صريح في تقرير هذا المعنى، وعلى كل حال لعل الأقرب - والله أعلم - أن قبلة جميع الأنبياء هي الكعبة، وأن التاريخ الذي كانوا يتعاملون به ليس التاريخ الشمسي، وإنما هو التاريخ القمري أيضاً، وعلى هذا أدلة، ويكفيك منها ما نحن بصدد استقباله قريباً - إن شاء الله -، وهو يوم عاشوراء فهو بالتاريخ القمري بهذا الاعتبار، وهو اليوم الذي نجا الله فيه موسى لما هاجر النبي ﷺ، وسألهم عن سبب صيامه.
- أخرجه مسلم في الإيمان باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات (ج1/ص105 - 438).
- أخرجه أحمد في المسند (ج1/ص271 – 2447)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير سريج بن النعمان فمن رجال البخاري.، وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 5374.