"وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف." هذا كلام السهيلي يقول: كررها ثلاث مرات؛ لأن المنكرين للقبلة ثلاثة أصناف.
"اليهود؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم، وأهل الريب، والنفاق اشتد إنكارهم له؛ لأنه كان أول نسخ نزل، وكفار قريش قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم، وإسماعيل، وقد فارق قبلة إبراهيم، وإسماعيل، وآثر عليها قبلة اليهود، فقال الله له حينما أمره بالصلاة إلى الكعبة: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] على الاستثناء المنقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون، ولا يهتدون، وقال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147]."هذا كلام السهيلي قال كُرر قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ [سورة البقرة:149] ثلاث مرات؛ لأن الطوائف المنكرة ثلاث، لكن هذا فيه إشكال، ننظر رد ابن القيم له في (بدائع الفوائد) صفحة ثلاثمائة، وسبعة، وخمسين، يقول: "وقول أبي القاسم أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثاً رداً على الطواف الثلاث ليس بالبين، ولا في اللفظ إشعار بذلك، والذي يظهر فيه أنه أمر به في كل سياق لمعنىً يقتضيه، فذكره أول مرة ابتداء للحكم، ونسخاً للاستقبال.."[1] المرة الأولى وقع به النسخ، وتوجيه أهل الإيمان إلى استقبال الكعبة هذا في المرة الأولى لما قال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة:149] لأنه لأول مرة يطرق أسماعهم، فهذا الذي حصل به إثبات الحكم، ووقوع النسخ، فقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].
"ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم، حيث يجدونه في كتبهم كذلك، ثم أخبر عن عبادتهم، وكفرهم"، والظاهر أن العبارة فيها تحريف، والصواب: "أخبر عن عنادهم، وكفرهم"، "وأنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته، ولا هو أيضاً بتابع قبلتهم، ولا بعضهم بتابع قبلة بعض، ثم حذره من إتباع أهوائهم، ثم كرر معرفة أهل الكتاب به كمعرفتهم بأبنائهم، وأنهم ليكتمون الحق عن علم، ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه فلا يلحقه فيه امتراء، ثم أخبر أن لكلٍّ وجهة هو مستقبلها، وموليها وجهه، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات، ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ". قال: كل ملة لهم وجهة يستقبلونها، فأنتم استقبلوا المسجد الحرام، في هذا السياق لما ذكر أن كل نحلة، وطائفة، وأهل دين يستقبلون وجهة فأنتم أيها المؤمنون استقبلوا بيت الله الحرام.
"ثم أعاد الأمر به غير مكررٍ له تكراراً محضاً، بل في ضمنه أمْرُهم باستقبالها حيث كانوا، كما أمَرَهم باستقبالها أولاً حيث ما كانوا عند النسخ، وابتداء شرع الحكم، فأمرهم باستقبالها حيث ما كانوا عند شرع الحكم، وابتدائه، وبعد المحاجة، والمخاصمة، والحكم لهم، وبيان عنادهم، ومخالفتهم مع علمهم، فذكر الأمر بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له، فتأمله، والله أعلم".. إلى آخره.
يقول لهم: الآن كل أهل ملة لهم قبلة، فاستقبلوا هذه القبلة، ثم قال لهم: هذه قبلتكم في أي مكان تكونون فيه، في تنقلكم، في مغازيكم، في أسفاركم، إلا ما استثني من صلاة الإنسان النافلة على الراحلة عند جمع من أهل العلم، وعلى قدميه أيضاً على الأرجح فإنه يستقبل الجهة التي هو متوجه إليها، وكذلك في بعض الحالات في الحرب، أو الخوف فإنه يسقط الاستقبال.
هذه ثلاث مرات على كلام ابن القيم، وعلى كل حال ربطها بالسياق هو الأولى، وننظر الآن إلى الحافظ ابن كثير ماذا يقول:
"فقال: أولاً: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] إلى قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبه، وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها، ويرضاها."ذكر في هذا المقام الإجابة إلى طلبه، هل هذا يعارض كلام ابن القيم أنه، وقع به تقرير الحكم، وإثبات النسخ؟ لا يعارضه، إنما كان ذلك بناء على رغبة كانت عند النبي ﷺ، وتطلع إلى هذا، ففي المرة الأولى قرر التوجه إلى بيت الله الحرام إجابة إلى طلبه ﷺ، وكان بذلك نسخ الحكم، وتقرير استقبال القبلة في المرة الأولى.
هذا من أنفع الأشياء في التفسير، والحديث، وسيأتي في الكلام - إن شاء الله - على حديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2] أن هذا ليس من قبيل التكرار.
"وقال في الأمر الثاني: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:149] فذكر أنه الحق من الله، وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقاً لرضا الرسول ﷺ، فبين أنه الحق أيضاً من الله، يحبه، ويرتضيه."يعني الآن في الموضع الثاني يقول: بين له أن هذا هو الحق، وعلى كلام ابن القيم يكون الموضع الثاني لكل أمة وجهة، وهذه وجهتكم، وهو قريب من هذا؛ لأنه ذكر ما يتجه إليه أهل الباطل، ويستقبلونه، وبين لأهل الحق وجهتهم.
"وارتقى عن المقام الأول حيث كان موافقاً لرضا الرسول ﷺ، فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه، ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث: حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صُرف الرسول ﷺ عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة، وأعجبهم استقبال الرسول إليها."يُفهم هذا الكلام؛ لأنه كلام جيد، وكذلك كلام ابن القيم، في فرق بين التوجيهين، والأمر قريب؛ لأن ذلك إنما يلتمس بالنظر، والاجتهاد، فتختلف فيه الأنظار، لكنه كله يجري على قاعدة: التأسيس مقدم على التوكيد، وربط كل آية بموضعها من السياق، فهذه ملاحِظ حسنة جيدة، ومن حيث التوجيه هي في غاية التقارب، وليس هناك دليل صريح بأنها ذكرت هنا من أجل كذا، لكن كل ذلك محتمل.
نعيدها مرة ثانية حتى نضبطها، كلام ابن القيم: أول مرة تقرير الحكم، ونسخ بيت المقدس، والثانية: لكل ملة وجهة، وهذه وجهتكم، والثالثة: حيث ما توجهتم، وفي أي مخرج خرجتم فهذه قبلتكم في الحل، والترحال، وعلى كلام ابن كثير يكون الأمر الأول: لتقرير الحكم إجابةً لرغبة النبي ﷺ، وفي الموضع الثاني: أنه الحق الذي يرتضيه ربكم، ليس فقط مجرد إجابة للنبي ﷺ، بل هو الحق الذي رضيه الله، وأحبه، والأمر الثالث: قطع حجج المعاندين لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150].
"وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين، وغيره، والله أعلم، وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة...."الآن قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] لاحظ التنويع في الخطاب، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة:150] هذا للنبي ﷺ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] لماذا غاير بينهما؟ بعض أهل العلم يقول: هذا في المخرج، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:150] وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [سورة البقرة:150] في حال استقراركم، في أي ناحية من النواحي، فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] الأول: حيث ما توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام، والثاني: وحيث ما كنتم في أي مكان كنتم نازلين فاستقبلوا هذه القبلة، هذا وجه قريب، وبعض أهل العلم يذكر غير هذا في المفارقة، أو في وجه الفرق بين العبارتين، والعلم عند الله .
"وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس..."الآن لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] الناس هنا الراجح أنهم أهل الكتاب، هذا هو المتبادر، وهو الذي اختاره كثير من المفسرين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ما هي حجتهم؟ يمكن أن تفترض عدداً من الأشياء التي يمكن أن يقولوها، أو يؤخذ ببعض ما نقل عنهم مما قالوه، فربما زعموا أنهم هدوا المسلمين إلى قبلتهم، وهي بيت المقدس، يدعون أنهم هدوهم إلى هذا، ومن ثم أيضاً يحتجون عليهم فيقولون: هديناكم إلى هذه القبلة فاتجهتم إلى قبلتنا، وخالفتمونا في ديننا، كيف هذا؟! فحولوا إلى المسجد الحرام، هذا احتجاج اليهود لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] فهذا هو الأقرب، ومن ثم فإن قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] حمله كثير من المفسرين على أن المقصود به هم المشركون من العرب، فالمشركون من العرب كانوا يحتجون بهذا التحويل على أن محمداً ﷺ قد تحول إلى قبلة أبائه، وذلك مؤذن بتحوله إلى دينهم، فمثل هؤلاء لا سبيل إلى قطع ألسنتهم، فالناس يتكلمون بما يحلو لهم، ولا يستطيع الإنسان أن يضع قفلاً على أفواه الناس حتى لا يتكلموا، فهم يتكلمون، ولكن ما قيمة هذا الكلام، ولهذا فالوقت يضيق الآن عن الكلام على قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هل الاستثناء هنا متصل، أو منفصل؟ بمعنى إذا قلنا: إنه منفصل فيكون معنى الآية: لئلا يكون للناس عليكم حجة لكن الذين ظلموا منهم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150]، أو أن الاستثناء متصل.
"وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي أهل الكتاب، فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس.
وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني مشركي قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة، وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة."قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هذا الاستثناء هل هو متصل، أو منقطع؟ أكثر المفسرين على أنه منقطع، بناءً على أي شيء قالوا ذلك، ورجحوه؟ بناءً على أن هؤلاء المكابرين الظالمين لا حجة لهم أصلاً، فالله يقول: حولناكم إلى الكعبة لقطع الحجة عنكم؛ لئلا يقول أهل الكتاب: وافقونا في قبلتنا، هديناهم إلى القبلة، فلماذا لا يوافقوننا في ديننا؟ أو يتوهم متوهم منهم فيقول: إنا نجد من صفة هذا النبي أنه يوجه إلى الكعبة، فهي قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، فلماذا يتوجه إلى بيت المقدس؟ فهم يعلمون أنه سيحول، ويجدون ذلك في كتابهم، فلقطع حجتهم حولناكم إلى الكعبة، لكن الذين ظلموا منهم، وهم المجادلون عناداً، ومكابرةً لا حجة لهم، فالله حول المؤمنين إلى الكعبة لقطع حجة الناس، وهم اليهود، لكن هؤلاء المكابرين الظالمين لا تعبئوا بهم، ولا تلتفوا إليهم، هذا قول من قال: إن الاستثناء منقطع، وهذا هو الملحظ الذي جعلهم يقولون بهذا القول، لماذا قالوا به؟ لهذا السبب، أن الظالمين لا حجة لهم.
وإذا قيل: إنه متصل، وهذا عليه جماعة من المحققين، منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري، والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وجماعة، يقولون: هذا الاستثناء متصل، وليس منقطعاً لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] سيحتجون، لن تنقطع دعاواهم الباطلة، بأي اعتبار؟ قلنا: إن الظالمين المكابرين لا حجة صحيحة لهم، إذاً ما المراد؟ المراد: أن الحجة تأتي في القرآن بمعنى ما يحتج به، ويتشبث به، سواء كان صحيحاً، أو باطلاً، فهذا أمر موجود في كتاب الله حيث يذكر دعاوى المبطلين في عدد من المواضع.
وربما سماها حجة مع بطلانها، يقول الله في نظائر هذا: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16] فسماها حجة، ووصفها بالبطلان، داحضة: بمعنى باطلة ذاهبة، وأيضاً: لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [سورة آل عمران:65]، وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258]، وقوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139]، وقوله: وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ [سورة الأنعام:80]، وقوله: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ [سورة آل عمران:20]، والشواهد على هذا كثيرة جداً.
فهذه الدعاوى الباطلة التي يقولها الكفار سماها الله حجة، فدل ذلك على أن الحجة تطلق على ما يُحتج به بصرف النظر عن كونه صحيحاً، أو باطلاً، يعني: ما يُستدل به، وهو الدليل، والحجة، وهنا ما يمكن أن نسميه قاعدة، وهي: أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع، وهذا له أمثلة كثيرة متنوعة، مثل: تسمية دعاوى المبطلين حجة، ومثل تسمية المعبودات التي يعبدونها آلهة، وهي ليست آلهة، ويسميها أرباباً، ويُجري عليها ما يجري على العقلاء فيقول: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] فهي أصنام غير عاقلة فالأصل أن يقال: تمشي بها، تبطش بها، ما يقال: يمشون بها، يبطشون بها، تقول مثلاً: لا تسقط عليك هذه الثريات، وإذا كانت للعقلاء تقول: لا يسقطون عليك، ولكنه يجري عليها أحياناً ما يجريه على العقلاء، يبطشون، يمشون، يسمعون، يبصرون، ينظرون، وما أشبه ذلك.
وكذلك حينما يعبر بالترجي مثل (لعلّ) في أحد الوجهين في تفسيرها، إذا صدرت من الله : فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] يعني على رجائكما، هذا إذا ما فسرت بالوجه الآخر الذي هو التعليل، يعني على رجائكما بنظر المخلوقين، فاحتمال أن يهتدي إذا قلتما له كلاماً ليناً، وإلا فالله يعلم أنه لن يهتدي.
كذلك أيضاً حينما تأتي (أو) التي قد تفيد الشك على أحد وجوه التفسير، في مثل قوله تبارك تعالى عن يونس ﷺ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147] إذا قلنا: (أو) هنا بمعنى (بل) فلا إشكال، لكن إذا قلنا: إنها تدل على الشك، والاحتمال فهذا لا يكون من الله ، لكن بحسب الناظر إليهم من المخلوقين، يقدرهم فيقول: مائة ألف، أو يزيدون، وهناك أمثلة أخرى في مثل هذه، وغيرها.
فهنا يمكن أن يكون الاستثناء متصلاً إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني ستبقى لهم حجة باطلة؛ لأن قصدهم العناد، والمكابرة، سيحتجون، ويشغبون عليكم.
ومن هم هؤلاء الذين ظلموا؟ بعض أهل العلم يقول: هم اليهود، وكثير منهم يقول: هم أهل الإشراك، وهذا اختاره ابن جرير، وهو الذي مشى عليه ابن كثير كما هنا، فهؤلاء من أهل الإشراك إذا حولت القبلة ماذا سيقولون؟ يقولون: وافَقَنا، وعاد إلى قبلتنا، حنّ إلى دين أبيه، فهذا يؤذن بتحوله إلى ديننا، فلن يسكتوا فلا تعبئوا بهم، واشتغلوا بما أنتم بصدده، فهذا على القول بأن الاستثناء متصل، فالحجة تأتي بمعنى ما يحتج به، بناءً على الأصل الذي ذكرته آنفاً، وهو أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع، ونظره.
يقول: يعني مشركي قريش، إذاً هذا اتفق عليه ابن جرير، وابن كثير، وكثير من المفسرين إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني: المشركين، ووجه بعضهم حجة الظلمة، وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنها؟، والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في هذا، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة فامتثل، وهذا الكلام سبق الإشارة إليه.
"وقوله: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] أي: لا تخشوا شبه الظالمين المتعنتين، وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يُخشى منه."وهذا أصل كبير لأهل الإيمان لا بد أن يدركوا أن ما يثيره أعداؤهم، ويشغبون به لا ينبغي أن يكون مثار قلق بالنسبة إليهم، فضلاً عن أن يغيروا دينهم من أجل كسب، ودهم، ورضاهم، فإن هذا أمر لن يتحقق، إنما هي الهزيمة الحقيقية العظيمة التي لا تقف عند حد، وهذا التقهقر الذي لا يمكن الثبات معه في أرض المعركة، فإن من هزم في مبادئه، وتضعضع، كان ذلك سبباً لتتابع الهزائم عليه، فلا تثبت له قدم، ولا يكون مؤهلاً بحال من الأحوال للثبات أمام عدوه عند المواجهة، فاثبتوا على ما أنتم عليه من حقائق هذا الدين الذي سنه الله لكم.
وأما هؤلاء فلن يفتئوا، ولن ينقطعوا من الشغب على دينكم، ولا يكون ذلك سبباً لقلقكم، وخوفكم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] فالخشية تكون من الله وحده، قد لا تقدرون على مواجهتهم، ولكن يجب عليكم أن تثبتوا على دينكم، وهذا لا خيار فيه.
أما التراجع، وتغيير المبادئ، وتبديل دين الله من أجل كسب رضاء المخلوقين فإن هذا أمر لا يحل بحال من الأحوال.
"وقوله: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:150] عطف على لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة؛ لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150]."يعني ذكر لهم ثلاثة أشياء من حكمة هذا التحويل، وهي: قطع حجة الظالمين عنهم، وإتمام النعمة عليهم بتحويلهم إلى القبلة التي هي قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وهي القبلة الوسط التي ضل عنها اليهود، والنصارى، فهدى الله لها هذه الأمة وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150]، وهذه هي القضية الثالثة أي: من أجل هدايتكم.
" وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] أي: إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه، وخصصناكم به؛ ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم، وأفضلها."الآيات التي مضت في تحويل القبلة مما يوطئ لقضية النسخ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، وهذه الآية رقمها مائة، وستة، والآيات التي جاءت بعدها مقررة لها، يعني أن الله - تبارك، وتعالى - ذكر قضية النسخ، وقررها، وبيّن أنه ما ينسخ من آية إلا ويأتي بمثلها، أو أفضل منها، وبيّن عموم قدرته أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106]، وأن الملك ملكه، والخلق خلقه، يفعل فيهم، ويتصرف كما يشاء من غير منازع، ثم علمهم كيف تكون حالهم مع نبيهم ﷺ من الانقياد، والقبول، والتسليم، ثم ذكر حال أهل الكتاب معهم، وأمانيهم حيث يتمنون إضلال هذه الأمة، ورجوعها عن دينها، فهو يبيّن لهم حال عدوهم، وأن بغيتهم هو ردتكم عن دينكم، فلا تعبئوا بهم، ولا تكترثوا بكلامهم، وأقوالهم، ومطالبهم، وإنما أعرضِوا عنهم، وأَمَرَهم بما يكون به صلاحهم، وصلاح معاشهم، ومعادهم، ومجتمعاتهم، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وبعد ذلك ذكر جملة من مخازي هؤلاء من أهل الكتاب، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، وقول اليهود: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ [سورة البقرة:113].. إلى آخر ما ذكر عنهم، ورد عليهم.
ثم بيّن بعض فظائعهم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114]، وبيّن أن الجهات جميعاً لله ، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، ثم ذكر أيضاً فظائع أخرى من نسبتهم الولد إلى ، والأماني، أو المطالب التي يتعنت فيها المتعنتون لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118].
ثم بيّن حال النبي ﷺ، وأنه ما أرسل لهذا إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سورة البقرة:119]، وإنما يأتي بالآيات الله ، فهو إنما مهمته البلاغ، والإنذار، ثم قطع أمله من اليهود، والنصارى في تحصيل رضاهم وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وبيّن أن هدى الله هو الهدى الذي يجب أن يتمسك به، وبيّن حال طائفة من أهل الكتاب الذين اتبعوا الحق، وآمنوا به، ثم ذكّر بني إسرائيل بما ذكّرهم به من إفضاله عليهم، وخوّفهم.
ثم ذكر إبراهيم ﷺ، وما جرى له من الابتلاء العظيم، والامتحان، وما جعل الله لبيته الحرام، حيث جله مثابة للناس، وأمناً، وذكر بناء إبراهيم ﷺ لهذا البيت، ودعاءه له، وأن يبعث الله فيهم رسولاًً منهم، ثم بعد ذلك بيّن أن من يرغب عن ملة إبراهيم ﷺ فقد أضاع حظ نفسه، واشتغل بما يضره، وأن دين إبراهيم هو الإسلام، وأن إبراهيم ﷺ وصى بذلك أبناءه، ويعقوب وصى بذلك أبناءه أيضاً، فهذا هو دين الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وبيّن لهؤلاء اليهود، والنصارى الذين ينازعون في إبراهيم ﷺ، وإسحاق، ويعقوب، أن هؤلاء لهم أعمالهم، وقد مضوا بأعمالهم، وآمالهم، وأن الله يتولاهم، ويجازيهم، فأين عملكم أنتم؟ وأين ما فيه نجاتكم؟
ثم ذكر حجة، وكلاماً باطلاً لهم، وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [سورة البقرة:135] ثم بيّن لهم المنهج الصحيح، وهو الإيمان بالله ، والملائكة، والكتب، والرسل.. إلى آخره، وبيّن أن هذا هو مهيع الهدى إن فعلوه، وآمنوا به فقد صاروا على الطريق، وإلا فهم في ضلال، وشقاق.
ورد عليهم في المحاجة في إبراهيم، قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [سورة البقرة:140]، ورد عليهم في هذا، ثم قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:142] بهذه التوطئة من قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [سورة البقرة:106] الآية مائة، وستة، كل ذلك توطئة لما ذكره هنا من تحويل القبلة سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [سورة البقرة:142] قطع حجتهم عن هؤلاء، وبيّن أنهم ضُلال، وأن الحق هو ما أنتم عليه، وأنه من عند الله فالتزموه، وبيّن عظم هذا النبي الكبير إبراهيم ﷺ، وعظّم بيته الحرام، ثم بعد ذلك بيّن لهم حال هؤلاء اليهود، وأنهم سيقولون كذا، وكذا، وقال بعده: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].. إلى آخر الآيات، وأن أهل الكتاب لن يقتنعوا مهما أتيتهم؛ لأنهم يكابرون، وهم يعرفون هذا الحق، وأن جميع الملل، والطوائف كلٌّ له وجهة.. إلى آخر ما ذكر.
هذا وجه الترابط، أو ما يسمى بالمناسبات بين الآيات في هذا المقطع الطويل، من مائة، وستة إلى مائة، وأربعة، وخمسين، بل إن شئت أن تقول بأكثر من هذا، إلى مائة، وسبعة، وخمسين.
- بدائع الفوائد [جزء 4 - ص979].
- أخرجه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1 - ص 3 - 1]، وفي كتاب الأيمان، والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6 - ص 2461 - 6311]، وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان، وغيرها [جزء 6 - ص2551 - 6553 ]، ومسلم بلفظ الإفراد: ((إنما الأعمال بالنية)) في كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: ( إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].