السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال أبو القاسم: وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام..."هو ينقل الآن كلام أبي القاسم السهيلي لا كلام ابن القيم، يذكر وجهاً للسهيلي ثم يرد عليه، ويذكر ما يختاره.
"وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف." هذا كلام السهيلي يقول: كررها ثلاث مرات؛ لأن المنكرين للقبلة ثلاثة أصناف.
"اليهود؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم، وأهل الريب، والنفاق اشتد إنكارهم له؛ لأنه كان أول نسخ نزل، وكفار قريش قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم، وإسماعيل، وقد فارق قبلة إبراهيم، وإسماعيل، وآثر عليها قبلة اليهود، فقال الله له حينما أمره بالصلاة إلى الكعبة: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] على الاستثناء المنقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون، ولا يهتدون، وقال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147]."هذا كلام السهيلي قال كُرر قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ [سورة البقرة:149] ثلاث مرات؛ لأن الطوائف المنكرة ثلاث، لكن هذا فيه إشكال، ننظر رد ابن القيم له في (بدائع الفوائد) صفحة ثلاثمائة، وسبعة، وخمسين، يقول: "وقول أبي القاسم أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثاً رداً على الطواف الثلاث ليس بالبين، ولا في اللفظ إشعار بذلك، والذي يظهر فيه أنه أمر به في كل سياق لمعنىً يقتضيه، فذكره أول مرة ابتداء للحكم، ونسخاً للاستقبال.."[1] المرة الأولى وقع به النسخ، وتوجيه أهل الإيمان إلى استقبال الكعبة هذا في المرة الأولى لما قال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة:149] لأنه لأول مرة يطرق أسماعهم، فهذا الذي حصل به إثبات الحكم، ووقوع النسخ، فقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].
"ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم، حيث يجدونه في كتبهم كذلك، ثم أخبر عن عبادتهم، وكفرهم"، والظاهر أن العبارة فيها تحريف، والصواب: "أخبر عن عنادهم، وكفرهم"، "وأنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته، ولا هو أيضاً بتابع قبلتهم، ولا بعضهم بتابع قبلة بعض، ثم حذره من إتباع أهوائهم، ثم كرر معرفة أهل الكتاب به كمعرفتهم بأبنائهم، وأنهم ليكتمون الحق عن علم، ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه فلا يلحقه فيه امتراء، ثم أخبر أن لكلٍّ وجهة هو مستقبلها، وموليها وجهه، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات، ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ". قال: كل ملة لهم وجهة يستقبلونها، فأنتم استقبلوا المسجد الحرام، في هذا السياق لما ذكر أن كل نحلة، وطائفة، وأهل دين يستقبلون وجهة فأنتم أيها المؤمنون استقبلوا بيت الله الحرام. 
"ثم أعاد الأمر به غير مكررٍ له تكراراً محضاً، بل في ضمنه أمْرُهم باستقبالها حيث كانوا، كما أمَرَهم باستقبالها أولاً حيث ما كانوا عند النسخ، وابتداء شرع الحكم، فأمرهم باستقبالها حيث ما كانوا عند شرع الحكم، وابتدائه، وبعد المحاجة، والمخاصمة، والحكم لهم، وبيان عنادهم، ومخالفتهم مع علمهم، فذكر الأمر بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له، فتأمله، والله أعلم".. إلى آخره.
يقول لهم: الآن كل أهل ملة لهم قبلة، فاستقبلوا هذه القبلة، ثم قال لهم: هذه قبلتكم في أي مكان تكونون فيه، في تنقلكم، في مغازيكم، في أسفاركم، إلا ما استثني من صلاة الإنسان النافلة على الراحلة عند جمع من أهل العلم، وعلى قدميه أيضاً على الأرجح فإنه يستقبل الجهة التي هو متوجه إليها، وكذلك في بعض الحالات في الحرب، أو الخوف فإنه يسقط الاستقبال.
هذه ثلاث مرات على كلام ابن القيم، وعلى كل حال ربطها بالسياق هو الأولى، وننظر الآن إلى الحافظ ابن كثير ماذا يقول:
"فقال: أولاً: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] إلى قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبه، وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها، ويرضاها."ذكر في هذا المقام الإجابة إلى طلبه، هل هذا يعارض كلام ابن القيم أنه، وقع به تقرير الحكم، وإثبات النسخ؟ لا يعارضه، إنما كان ذلك بناء على رغبة كانت عند النبي ﷺ، وتطلع إلى هذا، ففي المرة الأولى قرر التوجه إلى بيت الله الحرام إجابة إلى طلبه ﷺ، وكان بذلك نسخ الحكم، وتقرير استقبال القبلة في المرة الأولى.
هذا من أنفع الأشياء في التفسير، والحديث، وسيأتي في الكلام - إن شاء الله - على حديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2] أن هذا ليس من قبيل التكرار.
"وقال في الأمر الثاني: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:149] فذكر أنه الحق من الله، وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقاً لرضا الرسول ﷺ، فبين أنه الحق أيضاً من الله، يحبه، ويرتضيه."يعني الآن في الموضع الثاني يقول: بين له أن هذا هو الحق، وعلى كلام ابن القيم يكون الموضع الثاني لكل أمة وجهة، وهذه وجهتكم، وهو قريب من هذا؛ لأنه ذكر ما يتجه إليه أهل الباطل، ويستقبلونه، وبين لأهل الحق وجهتهم.
"وارتقى عن المقام الأول حيث كان موافقاً لرضا الرسول ﷺ، فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه، ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث: حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صُرف الرسول ﷺ عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة، وأعجبهم استقبال الرسول إليها."يُفهم هذا الكلام؛ لأنه كلام جيد، وكذلك كلام ابن القيم، في فرق بين التوجيهين، والأمر قريب؛ لأن ذلك إنما يلتمس بالنظر، والاجتهاد، فتختلف فيه الأنظار، لكنه كله يجري على قاعدة: التأسيس مقدم على التوكيد، وربط كل آية بموضعها من السياق، فهذه ملاحِظ حسنة جيدة، ومن حيث التوجيه هي في غاية التقارب، وليس هناك دليل صريح بأنها ذكرت هنا من أجل كذا، لكن كل ذلك محتمل.
نعيدها مرة ثانية حتى نضبطها، كلام ابن القيم: أول مرة تقرير الحكم، ونسخ بيت المقدس، والثانية: لكل ملة وجهة، وهذه وجهتكم، والثالثة: حيث ما توجهتم، وفي أي مخرج خرجتم فهذه قبلتكم في الحل، والترحال، وعلى كلام ابن كثير يكون الأمر الأول: لتقرير الحكم إجابةً لرغبة النبي ﷺ، وفي الموضع الثاني: أنه الحق الذي يرتضيه ربكم، ليس فقط مجرد إجابة للنبي ﷺ، بل هو الحق الذي رضيه الله، وأحبه، والأمر الثالث: قطع حجج المعاندين لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150].
"وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين، وغيره، والله أعلم، وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة...."الآن قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] لاحظ التنويع في الخطاب، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [سورة البقرة:150] هذا للنبي ﷺ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] لماذا غاير بينهما؟ بعض أهل العلم يقول: هذا في المخرج، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:150] وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [سورة البقرة:150] في حال استقراركم، في أي ناحية من النواحي، فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] الأول: حيث ما توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام، والثاني: وحيث ما كنتم في أي مكان كنتم نازلين فاستقبلوا هذه القبلة، هذا وجه قريب، وبعض أهل العلم يذكر غير هذا في المفارقة، أو في وجه الفرق بين العبارتين، والعلم عند الله .
"وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس..."الآن لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] الناس هنا الراجح أنهم أهل الكتاب، هذا هو المتبادر، وهو الذي اختاره كثير من المفسرين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ما هي حجتهم؟ يمكن أن تفترض عدداً من الأشياء التي يمكن أن يقولوها، أو يؤخذ ببعض ما نقل عنهم مما قالوه، فربما زعموا أنهم هدوا المسلمين إلى قبلتهم، وهي بيت المقدس، يدعون أنهم هدوهم إلى هذا، ومن ثم أيضاً يحتجون عليهم فيقولون: هديناكم إلى هذه القبلة فاتجهتم إلى قبلتنا، وخالفتمونا في ديننا، كيف هذا؟! فحولوا إلى المسجد الحرام، هذا احتجاج اليهود لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] فهذا هو الأقرب، ومن ثم فإن قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] حمله كثير من المفسرين على أن المقصود به هم المشركون من العرب، فالمشركون من العرب كانوا يحتجون بهذا التحويل على أن محمداً ﷺ قد تحول إلى قبلة أبائه، وذلك مؤذن بتحوله إلى دينهم، فمثل هؤلاء لا سبيل إلى قطع ألسنتهم، فالناس يتكلمون بما يحلو لهم، ولا يستطيع الإنسان أن يضع قفلاً على أفواه الناس حتى لا يتكلموا، فهم يتكلمون، ولكن ما قيمة هذا الكلام، ولهذا فالوقت يضيق الآن عن الكلام على قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هل الاستثناء هنا متصل، أو منفصل؟ بمعنى إذا قلنا: إنه منفصل فيكون معنى الآية: لئلا يكون للناس عليكم حجة لكن الذين ظلموا منهم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150]، أو أن الاستثناء متصل.
"وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي أهل الكتاب، فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس.
وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني مشركي قريش، ووجه بعضهم حجة الظلمة، وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه؟ والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة."
قوله: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] هذا الاستثناء هل هو متصل، أو منقطع؟ أكثر المفسرين على أنه منقطع، بناءً على أي شيء قالوا ذلك، ورجحوه؟ بناءً على أن هؤلاء المكابرين الظالمين لا حجة لهم أصلاً، فالله يقول: حولناكم إلى الكعبة لقطع الحجة عنكم؛ لئلا يقول أهل الكتاب: وافقونا في قبلتنا، هديناهم إلى القبلة، فلماذا لا يوافقوننا في ديننا؟ أو يتوهم متوهم منهم فيقول: إنا نجد من صفة هذا النبي أنه يوجه إلى الكعبة، فهي قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، فلماذا يتوجه إلى بيت المقدس؟ فهم يعلمون أنه سيحول، ويجدون ذلك في كتابهم، فلقطع حجتهم حولناكم إلى الكعبة، لكن الذين ظلموا منهم، وهم المجادلون عناداً، ومكابرةً لا حجة لهم، فالله حول المؤمنين إلى الكعبة لقطع حجة الناس، وهم اليهود، لكن هؤلاء المكابرين الظالمين لا تعبئوا بهم، ولا تلتفوا إليهم، هذا قول من قال: إن الاستثناء منقطع، وهذا هو الملحظ الذي جعلهم يقولون بهذا القول، لماذا قالوا به؟ لهذا السبب، أن الظالمين لا حجة لهم.
وإذا قيل: إنه متصل، وهذا عليه جماعة من المحققين، منهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري، والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وجماعة، يقولون: هذا الاستثناء متصل، وليس منقطعاً لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] سيحتجون، لن تنقطع دعاواهم الباطلة، بأي اعتبار؟ قلنا: إن الظالمين المكابرين لا حجة صحيحة لهم، إذاً ما المراد؟ المراد: أن الحجة تأتي في القرآن بمعنى ما يحتج به، ويتشبث به، سواء كان صحيحاً، أو باطلاً، فهذا أمر موجود في كتاب الله حيث يذكر دعاوى المبطلين في عدد من المواضع.
وربما سماها حجة مع بطلانها، يقول الله في نظائر هذا: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16] فسماها حجة، ووصفها بالبطلان، داحضة: بمعنى باطلة ذاهبة، وأيضاً: لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [سورة آل عمران:65]، وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258]، وقوله: قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139]، وقوله: وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ [سورة الأنعام:80]، وقوله: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ [سورة آل عمران:20]، والشواهد على هذا كثيرة جداً.
فهذه الدعاوى الباطلة التي يقولها الكفار سماها الله حجة، فدل ذلك على أن الحجة تطلق على ما يُحتج به بصرف النظر عن كونه صحيحاً، أو باطلاً، يعني: ما يُستدل به، وهو الدليل، والحجة، وهنا ما يمكن أن نسميه قاعدة، وهي: أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع، وهذا له أمثلة كثيرة متنوعة، مثل: تسمية دعاوى المبطلين حجة، ومثل تسمية المعبودات التي يعبدونها آلهة، وهي ليست آلهة، ويسميها أرباباً، ويُجري عليها ما يجري على العقلاء فيقول: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] فهي أصنام غير عاقلة فالأصل أن يقال: تمشي بها، تبطش بها، ما يقال: يمشون بها، يبطشون بها، تقول مثلاً: لا تسقط عليك هذه الثريات، وإذا كانت للعقلاء تقول: لا يسقطون عليك، ولكنه يجري عليها أحياناً ما يجريه على العقلاء، يبطشون، يمشون، يسمعون، يبصرون، ينظرون، وما أشبه ذلك.
وكذلك حينما يعبر بالترجي مثل (لعلّ) في أحد الوجهين في تفسيرها، إذا صدرت من الله : فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] يعني على رجائكما، هذا إذا ما فسرت بالوجه الآخر الذي هو التعليل، يعني على رجائكما بنظر المخلوقين، فاحتمال أن يهتدي إذا قلتما له كلاماً ليناً، وإلا فالله يعلم أنه لن يهتدي.
كذلك أيضاً حينما تأتي (أو) التي قد تفيد الشك على أحد وجوه التفسير، في مثل قوله تبارك تعالى عن يونس ﷺ: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147] إذا قلنا: (أو) هنا بمعنى (بل) فلا إشكال، لكن إذا قلنا: إنها تدل على الشك، والاحتمال فهذا لا يكون من الله ، لكن بحسب الناظر إليهم من المخلوقين، يقدرهم فيقول: مائة ألف، أو يزيدون، وهناك أمثلة أخرى في مثل هذه، وغيرها.
فهنا يمكن أن يكون الاستثناء متصلاً إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني ستبقى لهم حجة باطلة؛ لأن قصدهم العناد، والمكابرة، سيحتجون، ويشغبون عليكم.
ومن هم هؤلاء الذين ظلموا؟ بعض أهل العلم يقول: هم اليهود، وكثير منهم يقول: هم أهل الإشراك، وهذا اختاره ابن جرير، وهو الذي مشى عليه ابن كثير كما هنا، فهؤلاء من أهل الإشراك إذا حولت القبلة ماذا سيقولون؟ يقولون: وافَقَنا، وعاد إلى قبلتنا، حنّ إلى دين أبيه، فهذا يؤذن بتحوله إلى ديننا، فلن يسكتوا فلا تعبئوا بهم، واشتغلوا بما أنتم بصدده، فهذا على القول بأن الاستثناء متصل، فالحجة تأتي بمعنى ما يحتج به، بناءً على الأصل الذي ذكرته آنفاً، وهو أن القرآن يعبر أحياناً باعتبار حال السامع، ونظره.
يقول: يعني مشركي قريش، إذاً هذا اتفق عليه ابن جرير، وابن كثير، وكثير من المفسرين إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] يعني: المشركين، ووجه بعضهم حجة الظلمة، وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنها؟، والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً لما له تعالى من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في هذا، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة فامتثل، وهذا الكلام سبق الإشارة إليه.
"وقوله: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] أي: لا تخشوا شبه الظالمين المتعنتين، وأفردوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يُخشى منه."وهذا أصل كبير لأهل الإيمان لا بد أن يدركوا أن ما يثيره أعداؤهم، ويشغبون به لا ينبغي أن يكون مثار قلق بالنسبة إليهم، فضلاً عن أن يغيروا دينهم من أجل كسب، ودهم، ورضاهم، فإن هذا أمر لن يتحقق، إنما هي الهزيمة الحقيقية العظيمة التي لا تقف عند حد، وهذا التقهقر الذي لا يمكن الثبات معه في أرض المعركة، فإن من هزم في مبادئه، وتضعضع، كان ذلك سبباً لتتابع الهزائم عليه، فلا تثبت له قدم، ولا يكون مؤهلاً بحال من الأحوال للثبات أمام عدوه عند المواجهة، فاثبتوا على ما أنتم عليه من حقائق هذا الدين الذي سنه الله لكم.
وأما هؤلاء فلن يفتئوا، ولن ينقطعوا من الشغب على دينكم، ولا يكون ذلك سبباً لقلقكم، وخوفكم فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] فالخشية تكون من الله وحده، قد لا تقدرون على مواجهتهم، ولكن يجب عليكم أن تثبتوا على دينكم، وهذا لا خيار فيه.
أما التراجع، وتغيير المبادئ، وتبديل دين الله من أجل كسب رضاء المخلوقين فإن هذا أمر لا يحل بحال من الأحوال.
"وقوله: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:150] عطف على لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة؛ لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150]."يعني ذكر لهم ثلاثة أشياء من حكمة هذا التحويل، وهي: قطع حجة الظالمين عنهم، وإتمام النعمة عليهم بتحويلهم إلى القبلة التي هي قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وهي القبلة الوسط التي ضل عنها اليهود، والنصارى، فهدى الله لها هذه الأمة وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150]، وهذه هي القضية الثالثة أي: من أجل هدايتكم.
" وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] أي: إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه، وخصصناكم به؛ ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم، وأفضلها."الآيات التي مضت في تحويل القبلة مما يوطئ لقضية النسخ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، وهذه الآية رقمها مائة، وستة، والآيات التي جاءت بعدها مقررة لها، يعني أن الله - تبارك، وتعالى - ذكر قضية النسخ، وقررها، وبيّن أنه ما ينسخ من آية إلا ويأتي بمثلها، أو أفضل منها، وبيّن عموم قدرته أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106]، وأن الملك ملكه، والخلق خلقه، يفعل فيهم، ويتصرف كما يشاء من غير منازع، ثم علمهم كيف تكون حالهم مع نبيهم ﷺ من الانقياد، والقبول، والتسليم، ثم ذكر حال أهل الكتاب معهم، وأمانيهم حيث يتمنون إضلال هذه الأمة، ورجوعها عن دينها، فهو يبيّن لهم حال عدوهم، وأن بغيتهم هو ردتكم عن دينكم، فلا تعبئوا بهم، ولا تكترثوا بكلامهم، وأقوالهم، ومطالبهم، وإنما أعرضِوا عنهم، وأَمَرَهم بما يكون به صلاحهم، وصلاح معاشهم، ومعادهم، ومجتمعاتهم، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وبعد ذلك ذكر جملة من مخازي هؤلاء من أهل الكتاب، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، وقول اليهود: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ [سورة البقرة:113].. إلى آخر ما ذكر عنهم، ورد عليهم.
ثم بيّن بعض فظائعهم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114]، وبيّن أن الجهات جميعاً لله ، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، ثم ذكر أيضاً فظائع أخرى من نسبتهم الولد إلى ، والأماني، أو المطالب التي يتعنت فيها المتعنتون لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [سورة البقرة:118].
ثم بيّن حال النبي ﷺ، وأنه ما أرسل لهذا إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سورة البقرة:119]، وإنما يأتي بالآيات الله ، فهو إنما مهمته البلاغ، والإنذار، ثم قطع أمله من اليهود، والنصارى في تحصيل رضاهم وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وبيّن أن هدى الله هو الهدى الذي يجب أن يتمسك به، وبيّن حال طائفة من أهل الكتاب الذين اتبعوا الحق، وآمنوا به، ثم ذكّر بني إسرائيل بما ذكّرهم به من إفضاله عليهم، وخوّفهم.
ثم ذكر إبراهيم ﷺ، وما جرى له من الابتلاء العظيم، والامتحان، وما جعل الله لبيته الحرام، حيث جله مثابة للناس، وأمناً، وذكر بناء إبراهيم ﷺ لهذا البيت، ودعاءه له، وأن يبعث الله فيهم رسولاًً منهم، ثم بعد ذلك بيّن أن من يرغب عن ملة إبراهيم ﷺ فقد أضاع حظ نفسه، واشتغل بما يضره، وأن دين إبراهيم هو الإسلام، وأن إبراهيم ﷺ وصى بذلك أبناءه، ويعقوب وصى بذلك أبناءه أيضاً، فهذا هو دين الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وبيّن لهؤلاء اليهود، والنصارى الذين ينازعون في إبراهيم ﷺ، وإسحاق، ويعقوب، أن هؤلاء لهم أعمالهم، وقد مضوا بأعمالهم، وآمالهم، وأن الله يتولاهم، ويجازيهم، فأين عملكم أنتم؟ وأين ما فيه نجاتكم؟
ثم ذكر حجة، وكلاماً باطلاً لهم، وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [سورة البقرة:135] ثم بيّن لهم المنهج الصحيح، وهو الإيمان بالله ، والملائكة، والكتب، والرسل.. إلى آخره، وبيّن أن هذا هو مهيع الهدى إن فعلوه، وآمنوا به فقد صاروا على الطريق، وإلا فهم في ضلال، وشقاق.
ورد عليهم في المحاجة في إبراهيم، قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [سورة البقرة:139] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [سورة البقرة:140]، ورد عليهم في هذا، ثم قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:142] بهذه التوطئة من قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [سورة البقرة:106] الآية مائة، وستة، كل ذلك توطئة لما ذكره هنا من تحويل القبلة سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [سورة البقرة:142] قطع حجتهم عن هؤلاء، وبيّن أنهم ضُلال، وأن الحق هو ما أنتم عليه، وأنه من عند الله فالتزموه، وبيّن عظم هذا النبي الكبير إبراهيم ﷺ، وعظّم بيته الحرام، ثم بعد ذلك بيّن لهم حال هؤلاء اليهود، وأنهم سيقولون كذا، وكذا، وقال بعده: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144].. إلى آخر الآيات، وأن أهل الكتاب لن يقتنعوا مهما أتيتهم؛ لأنهم يكابرون، وهم يعرفون هذا الحق، وأن جميع الملل، والطوائف كلٌّ له وجهة.. إلى آخر ما ذكر.
هذا وجه الترابط، أو ما يسمى بالمناسبات بين الآيات في هذا المقطع الطويل، من مائة، وستة إلى مائة، وأربعة، وخمسين، بل إن شئت أن تقول بأكثر من هذا، إلى مائة، وسبعة، وخمسين.
 
  1. بدائع الفوائد [جزء 4 - ص979]. 
  2. أخرجه  البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1 - ص 3 - 1]، وفي كتاب الأيمان، والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6 - ص 2461 - 6311]، وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان، وغيرها  [جزء 6 - ص2551 - 6553 ]، ومسلم بلفظ الإفراد: ((إنما الأعمال بالنية)) في كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: ( إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].

مرات الإستماع: 0

"لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ الآية، معناها: أن الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، فإن أريد بـ(الناس) اليهود، فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أن النبي ﷺ يتحول إلى الكعبة، فلما صلى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين، وإن أريد قريش؛ فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به".

قوله: "أن الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين" وفي نسخة: (ترفع) بدل (تدفع) وكأن تدفع أوضح.

ابن جرير - رحمه الله - حمله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على أهل الكتاب، وأن المراد ادعاء أهل الكتاب هؤلاء الذين هم اليهود أنهم هدوا المسلمين إلى القبلة باعتبار أنهم سبقوهم إلى هذه القبلة، يعني يكون لهم حجة عليه، كيف توافقنا على قبلتنا، وتخالفنا في الدين؟ يعني، وافقتنا على القبلة، وهي شعار الملة، ثم خالفتنا في الدين!

"فما صلى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين" يعني يتحقق الوصف الذي يجدونه في كتابهم، فلا يكون لهم حجة.

قال: "وإن أريد قريش، فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به" لكن لم يصح شيء في أن قريشًا نزل فيهم شيء من آيات القبلة، بسبب أنهم اعترضوا، وكذلك لا يصح أنها نزلت بسبب اعتراض المنافقين، فأقوال المفسرين أن ذلك في قريش، أو في المنافقين لا يصح، وبعض المفسرين يبني مثل هذه الأقوال على روايات لا تصح - والله أعلم -.

لكن لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ ظاهره العموم، فالمشركون أنهم تسألوا كيف يكون على دين إبراهيم، وملة إبراهيم، ويترك قبلته؟! واليهود يقولون: وافقنا في القبلة فلماذا يخالفنا في الدين؟ أو يقول بعضهم: بأن قبلته هي الكعبة، في صفته التي يجدونها في كتابهم، فأيًا كان، فأخبر الله أن ذلك التحويل من أجل ألا يكون للناس على المؤمنين حجة - والله أعلم -.

 "إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: من يتكلم بغير حجة، ويعترض التحوّل إلى الكعبة، والاستثناء متصل لأنه استثناء من عموم الناس. ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الَّذِينَ ظَلَمُوا هم الذين ليس لهم حجة".

 إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي من يتكلم بغير حجة، ويقيد بمن يتكلم بغير حجة صحيحة، ومن يتكلمون في هذا، وتضطرب أقوالهم، وتختلف أنهم يتصورون أن الحجة لا تقال إلا للبرهان، والدليل الصحيح، والواقع أن الحجة في كتاب الله - تبارك، وتعالى - كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: تقال: للدليل، والبرهان الصحيح، وتقال أيضًا: للباطل، وهذا كثير: كما قال الله : حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16] فذكر وصرح ببطلانها، وسماها حجة؛ لأنهم يحتجون بها، الذين يمنعون من هذا يقولون: إنما سماها حجة باعتبار التنزل، مراعاة لنظر المخاطب، هو يعتبرها حجة فسماها حجة، وإلا هي ليست بحجة، والواقع أن كلمة الحجة هي: ما يحتج به الإنسان، سواء كانت صحيحة أم باطلة، فإذا فُهم هذا انحل الإشكال، وتبين ما في كثير من الأقوال من الضعف، والاضطراب.

فهنا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء الذين ظلموا؟ ابن جرير[1] وابن كثير[2] يحملون هذا على مشركي العرب، يعني أهل الكتاب يعلمون أنها قبلة الأنبياء، أو أنها القبلة التي سيوجه إليها، أنه حق، فمعرفتهم تامة في هذا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من هم إذن؟ المشركون من العرب، يحتجون، ويتكلمون بلا علم، هذا على قول ابن جرير، وابن كثير.

هنا يقول: "أي من يتكلم بغير حجة، ويعترض التحول إلى الكعبة، والاستثناء متصل" يعني إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فالذين ظلموا من جملة الناس، والاستثناء المتصل: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فهذا الاستثناء متصل، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير، والحافظ ابن القيم، والحافظ ابن كثير، قالوا: إن الاستثناء هنا متصل من عموم الناس.

ويحتمل الانقطاع، وهذا قال به كثير من أهل العلم، وكأنه قول الأكثر: أن الاستثناء منقطع. بأي اعتبار قالوه؟ باعتبار أن الظالم لا حجة له، تصورهم للحجة هو الذي حملهم على هذا، أن الحجة لا تكون إلا صحيحة، فإذا كان منقطعاً يكون بمعنى لكن لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ لكن الذين ظلموا، لا تلتفوا إليهم، ولا تخشوهم، ولا تعبؤوا بهم، ولا يقلقكم، ولا يزعجكم شغبهم، ومعارضتهم، هكذا قالوا.

يقول: "على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة" ويحتمل أن يكون المعنى حولنا قبلتكم كي لا يحتج عليكم اليهود مطالبين بالموافقة في الدين، كما حصلت الموافقة في القبلة، ولكن على أن الاستثناء منقطع سيبقى حجة للظالمين من المشركين، فسيقولون: ما دمتم تحولتم إلى قبلتنا فاتبعوا ديننا، يعني على القبلة الأولى اليهود يقولون: وافقتمونا في القبلة فوافقونا في الدين، فإذا حُولتم لا يحتج عليكم اليهود بالموافقة، خالفتموهم في القبلة، سيبقى الذين ظلموا - على قول ابن كثير، وابن جرير - أن المشركين سيقولون: حولتم إلى قبلتنا إذن وافقونا في ديننا، قبلتنا حق، والقبلة شعار الملة، فوافقونا في الدين، فـ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا سواء قيل: الاستثناء متصل، أو الاستثناء منقطع بهذا التوجيه يكون محمله على المشركين، يعني قُطعت حجة اليهود بالمخالفة في القبلة، لكن سيقول المشركون: إذن وافقتمونا في القبلة، فهلا وافقتمونا في الدين - والله أعلم -.

على كل حال كل من يعرف الحق ليس له حجة صحيحة على أهل الإيمان، لكن المبطل سواء كان من اليهود، أم كان من المشركين لن يكون عادمًا لشيء يجادل به، ويشغب به، يعني حتى اليهود في حال التحويل قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] ولبسوا، وشككوا، يعني المعنى: إن كنتم على حق في قبلتكم في استقبال بيت المقدس، فأنتم الآن على باطل، وإذا كانت القبلة الأولى بيت المقدس باطلة، وأنتم الآن على حق، فكان عملكم، وسيعكم في ضلال؛ ولهذا الله - تبارك، وتعالى - قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] كل هذا في سياق الرد عليهم، فالجهات كلها لله يوجه عباده، فالقبلة الأولى هو الذي وجه إليها، والقبلة الثانية هو الذي وجه إليها، فالقبلة الأولى حق حينما وجه إليها، والقبلة الثانية حق حينما وجه إليها، هذا جواب أهل الإيمان، لكن هؤلاء من المبطلين باختلاف طوائفهم لن يعدم الواحد منهم شيئًا يشغب به، لكن مثل هؤلاء لا يُلتفت إليهم، وإنما يُنظر إلى أمر الله، وتشريعه، ورضاه.

 "وَلِأُتِمَّ متعلق بمحذوف، أي: فعلت ذلك لأتم، أو معطوف على لِئَلَّا يَكُونَ ".

يعني، والمعنى: شرّعت لكم استقبال الكعبة لأكمل لكم شرائع ملتكم الحنيفية، ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - فإن استقبال الكعبة من ملته، بل هو شعار ملته.

يقول: "ولأتم متعلق بمحذوف" يعني فعلت ذلك لأتم، قال: "أو معطوف على لِئَلَّا يَكُونَ " يعني: أني شرّعت لكم، وجهتكم إلى الكعبة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فيكون هذا التحويل لسببين، هذا تعليل، وأفعال الله مبناها على الحكمة، والتعليل، هذا كثير في القرآن، تجد التعليل يأتي مصرحًا به. 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 200).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 463).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] ومن أي مكان خرجت والخطاب موجه إلى النبي ﷺ وهو متوجه للأمة من بعده فتوجه إلى المسجد الحرام، وحيث ما كنتم معاشر المسلمين في أي ناحية فولوا وجوهكم نحو المسجد الحرام، من أجل أن لا يكون على أحد من الناس من أجل أن لا يكون لأحد من الناس عليكم حجة يحتج عليكم بالمخاصمة والمجادلة بعد هذا التوجه إليه، لكن أهل الظلم والعناد سيظلون يشغبون على هذا الأمر، فلا تخافونهم وخافوني بامتثال أمري واجتناب نهيي، ولكي أتم نعمتي عليكم باختيار أكمل الشرائع، ولعلكم تهتدون من أجل أن تهتدوا إلى الحق والهدى والصواب.

قوله -تبارك وتعالى- كما في هذه الآية: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:150] مع قوله -تبارك وتعالى- في موضعين سابقين: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:149] وفي الموضع الثالث: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:149].

فهذه ثلاثة مواضع يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها هذا المعنى، فهذا ليس من التكرار المحض، ومعلوم أنه لا يوجد في القرآن تكرار محض، فهذا مع ما فيه من إفادة التوكيد بشأن القبلة وذلك أن هذه القضية صارت محل جدل وشغب وإثارة شبهات على أهل الإيمان واستغلها اليهود فكان هذا التأكيد مرة بعد مرة؛ لئلا يتسلل الشيطان إلى النفوس فيحصل شيء من التردد ويُزعزع الإيمان، ويحصل شيء من الريب، أو الشك، فهذا كان بحاجة إلى تأكيد وإلى تجذير وتعميق في النفوس؛ من أجل أن يحصل الثبات على الحق، وعلى هذه القبلة، هذا بالإضافة إلى كل موضع من هذه المواضع يتعلق بما قبله مباشرة: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:150] فيكون متصلاً بما قبله، ومتعلقًا به وليس بتكرار مجرد.

ويمكن أن يُقال في كل موضع من هذه المواضع مزيد إبطال لشبهات هؤلاء الذين ما زالوا يشغبون، وأن هذا أمر من عند الله -تبارك وتعالى- ولهذا قال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] في هذا الموضع، كان هذا البيان وهذا هو الموضع الذي يذكر فيه هذه القضية هذا البيان الذي أكده وأصله وأعاد فيه وأبدا من أجل قطع احتجاج هؤلاء المُلبسين المُضللين، وهذا يدل على أنها كانت قضية كبيرة وهي كما قال الله : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [سورة البقرة:143] فكان ذلك تطمينًا للنفوس، وقطعًا لدابر الشبهات، ودفعًا لأهلها فذكر للتحويل ثلاث عِلل:

تعظيم الرسول ﷺ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] فهذا في الموضع الأول، فذكر ما كان يترقبه النبي ﷺ من تحويل القبلة ونزول الوحي بذلك، وأن الله -تبارك وتعالى- قد حقق له ما كان يُرجيه هذا في الموضع الأول.

والموضع الآخر: جاء في سياق ذكر أهل الملل والديانات حيث يتوجه أهل كل ملة إلى وجهة ولابد: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [سورة البقرة:148] فهنا كذلك أيضًا دفع احتجاج المحتجين وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ثم قال: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150] فصارت هذه ثلاث عِلل، قد جمعت في هذه الآيات فجاء ذلك مُكررًا في ثلاثة مواضع -والله تعالى أعلم- أيضًا هذا التكرار فيه تذكير بأن ذلك في كل مرة من عند الله -تبارك وتعالى.

ويؤخذ من هذه الآية: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] الحجة تُقال لما يحتج به المُحتج أيًا كانت سواء كانت من قبيل الحق أو من قبيل الباطل، فقد تكون هذه الحجج هي مجرد شبهات وأباطيل فتسمى حجة، وبعض أهل العلم يقولون إن ذلك من قبيل التعبير الذي روعي فيه نظر المخاطب، يعني: هم يعتبرونها حجج فسماها حجة بهذا الاعتبار وإلا فهي ليست بحجة.

ومن أهل العلم من يقول: إن إطلاق الحجة أصلاً يُقال لكل ما يُحتج به سواء كان من الحق أو من الباطل فهي حجة بهذا الاعتبار كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه "الصفدية"[1] وهذا أوضح فيما يتعلق بالحجة، لكن إذا كان ذلك من قبيل الحق فيُقال له: البُرهان، والدليل؛ ولهذا يُطالبهم بالبرهان: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [سورة البقرة:111] فما هم عليه ليس ببراهين، وإنما هي أباطيل يحتجون بها: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165].

وكذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] قطع حجة هؤلاء هذا أمر قرره الشارع في القرآن، فدفع احتجاج المبطلين وملامة اللائمين مطلوب ما أمكن إذا كان المقام يقتضيه والحال تحتمله، فيُدفع ذلك لقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة:150].

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] فإنه يدل على أن الظالم يعني الذي لا يريد الحق أصلاً ليست المسألة عنده موضع لبس وإنما ذلك من أجل إبطال الحق وتشويهه ودفعه وإقرار الباطل، فمثل هؤلاء لن ينقطعوا ولن ينتهوا: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة البقرة:150] فهؤلاء لن يتوقفوا، فشغبهم دائم وتلبيسهم دائم وهم ينتهزون الفُرص سواء كان ذلك في مقام تحويل القبلة أو في غيره، وهذا في طوائف المشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين على حد سواء.

اليهود يقولون: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] في غزوة النضير لما قُطع بعض النخيل، قالوا: ما بال قطع النخيل وأنت تدعوا إلى الصلاح والإصلاح، فأنزل الله : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5][2].

والمشركون لما حصل ما حصل من قتل بتأويل في أول ليلة من الشهر الحرام في القصة المعروفة في السرية التي بعثها النبي ﷺ إلى نخلة، وكان ذلك قبل غزوة بدر، فقُتل، كانوا يظنون أن الشهر الحرام لم يدخل فقُتل هذا الرجل من المشركين في تلك القافلة فشنع المشركون على رسول الله ﷺ وعلى أهل الإيمان، كيف تدعي أنك على ملة إبراهيم وتنتهك الشهر الحرام، فأين الذين يزعم أنه يدعوا إلى ملة إبراهيم فأنزل الله أنزل الرد الحاسم عليهم فقال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [سورة البقرة:217][3] هنا انتهى، ثم حول عليهم الرد: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة:217] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [سورة البقرة:217] هذا كله في المشركين.

والذي في المسلمين قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ لكن ما هي أفعالكم معاشر المشركين في البيت الحرام الصد عن سبيل الله، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتل، والفتنة أكبر من القتل، الفتنة يعني الكفر، وحمل الناس على الكفر، هذا أكبر من القتل، فكان القرآن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم فرصة ليستغلوها من أجل الوقيعة بأهل الإيمان بسبب خطأ وقع -والله المستعان.

فهؤلاء الذين ظلموا لا يزال حالهم على ذلك إلى يومنا هذا بطوائفهم الثلاث أهل الكتاب، وأهل الإشراك، وأهل النفاق، والمنافقون يستغلون الفُرص أيضًا لما حصل ما حصل من لطم رجل هو مولى لعبد الله بن أُبي لطمه مولى لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- حينما استبقوا إلى الماء في غزوة المصطلق، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أُبي قال: "أوقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك" ثم ذكر نصيحته البائسة: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [سورة المنافقون:7] وجاء الرد القرآني: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة المنافقون:7].

وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [سورة المنافقون:8] يعني: نفسه الأعز، وأن النبي ﷺ هو الأذل فنزلت الآيات في هذا، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين[4] هكذا كان يأتي القرآن في الرد على هؤلاء من المنافقين وغيرهم من الطوائف، فهذه قضية لا تتوقف ولا تنقطع فبعض هؤلاء الذين يُثيرون الشبهات ويطعنون في الدين وحملته هؤلاء لن يتوقفوا في عصر من العصور، إذا كان قائلهم قال ذلك وهو مع رسول الله ﷺ في نفس الغزوة، والنبي ﷺ معه أصحابه ويجترئ ويقول مثل هذا الكلام، أترون أن هؤلاء ينكفون في آخر الزمان؟

أبدًا، لكن وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [سورة المائدة:41].

ويؤخذ من هذه الآية قوله -تبارك وتعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [سورة البقرة:150] النهي عن خشية الظالم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[5] وأمر بخشيته، فالذين يُبلغون رسالات الله حملة الرسالة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء من الدعاة إلى الله لا يخشون هؤلاء إنما يخشون الله فَلا تَخْشَوْهُمْ هذا نهي والنهي للتحريم، فلا يجوز خشية هؤلاء وأن يتعاظم هؤلاء في نفوس أهل الإيمان.

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [سورة آل عمران:175] معنى الآية يخوف، يعني: يخوف أهل الإيمان من أولياءه، يخوف أولياءه، يخوفكم أولياءه، يعني: يجعل هؤلاء في حال من الانتفاشة، ويُضخمهم فيخافهم أهل الإيمان ويحسبون لهم ألف حساب، الله يقول: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [سورة آل عمران:175] يخوفكم منهم، يُعظمهم في النفوس، من أجل أن تخافوهم فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:175].

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية أن العمل على وفق شرع الله -تبارك وتعالى- وامتثال أمره وطاعته كل ذلك مع خشيته يكون سببًا للهداية، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] إتمام النعمة بتكميل شرائع الإيمان؛ لأنه قال في نهاية المطاف: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [سورة المائدة:3] ومن إتمام النعمة إقرار المؤمنين في بيت الله الحرام لا يُشاركهم فيه أحد، كما حج النبي ﷺ وفي ذلك العام لم يحج مشرك، فهذا من تمام النعمة.

ومن تمام النعمة ظهور دين الإسلام، وحصول الظهور والغلبة، وفتح البلاد، وكبت الأعداء.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:150] إثبات حكمة الله -تبارك وتعالى- يعني: اللام هنا للتعليل، فأفعال الله -تبارك وتعالى- هي لحِكم بالغة، خلافًا لمن يقوله أولئك الذين يظنون بالله غير الحق، يظنون به الظنون السيئة، يقولون:

ما ثَم غير مشيئة قد رجحت مثلاً على مثلٍ بلا رُجحانِ[6]

يقولون: هي خبط عشواء من تُصب تمته ومن لا تُصب من الناس يسلم، هذا كلام غير صحيح، هذا من أبطل الباطل بل أفعال الله مبناها على الحكمة، له الحكمة البالغة، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا وفق علمه المحيط، وإرادته الشاملة وحكمته البالغة. 

  1.  انظر: الصفدية (1/ 54). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ برقم (4031)، وبرقم (4884)، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [سورة الحشر:5] ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746)، والطبري في تفسيره (22/ 510). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 574). 
  4.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1] إِلَى لَكَاذِبُونَ برقم (4900)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2772). 
  5.  انظر: مجموع الفتاوى (1/ 57)، و(14/ 206). 
  6. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص:8).