"فَوَلِّ وَجْهَكَ الأمر كرر للتأكيد، أو ليناط به ما بعده".
"أو ليناط به ما بعده" يعني الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : ذكر أن ذلك لتعلقه بما قبله، أو بعده من السياق، يعني لو نظرت في المواضع الثلاثة، التي أمر الله بها بالتوجه إلى بيته الحرام، في هذه الآيات، ثلاث مرات:
ففي المرة الأولى:
كان ذلك إجابة لنبيه ﷺ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ إلى أن قال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا في الأولى.
وفي الثانية:
لما ذكر اعتراض المعترضين، ونحو ذلك، بيّن أن هذا هو الحق، وليس مجرد أيضًا الإجابة إلى ما كان يرغبه النبي ﷺ ويرضاه فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا بيّن أن هذا هو الحق أيضًا عند الله - تبارك، وتعالى -.
وفي الموضع الثالث:
ذكر ذلك في سياق قطع حجة اليهود، والرد عليهم، هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه اللله - لكن غيره يذكرون أمورًا أخرى في توجيه هذا التكرار، وكونه ذكره ثلاث مرات.
السهيلي مثلًا يقول: بأن قوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لاحظ هنا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعبّر بلفظ الخروج وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ حمله السهيلي هذا الموضع باعتبار أن النبي ﷺ هو الإمام الذي كان يخرج على أصحابه؛ ليصلي بهم، فخاطبه بهذا، وعُبر بلفظ الخروج وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لكن لما خاطبهم جاء بصيغة الجمع، ولم يأت بلفظ الخروج، قال: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فالسهيلي يرى أن الأول للنبي ﷺ والثاني: للأمة، أي في أي موضع كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وعلل ذلك بإن منهم من لا يُطالب أصلًا بالخروج للصلاة: كالنساء، وأهل الأعذار من المرضى، والزمنى، ونحو ذلك، فهؤلاء حيث صلوا، وكذلك على تباعد النواحي، واختلاف الأقطار، والجهات فـ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ في أي موضع.
لكن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يذكر غير هذا، فهو يرى أن الأول وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لا يختص بالنبي ﷺ وإن جاء بصيغة الخطاب للمفرد، فإن الأمة تخاطب في شخصه - عليه الصلاة، والسلام - فيقول: هذا يشمل المبدأ، في المخرج إذا خرج إلى الصلاة، إذا خرج في غزو، إذا خرج في حج، إذا خرج في عمرة، في أي حال كان مخرجه، فإنه مأمور أن يتوجه إلى بيت الله الحرام، فهذا له، ولأمته، في كل مخرج، ووجهة، يقصدونها فإنهم يتوجهون إلى ذلك.
وأما قوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ قال: هذا في المنتهى، إذا استقروا، واستوطنوا، أو نزلوا، أو أقاموا في مكان، فالأولى في المخرج، والثانية: حيث أقاموا، فهم مأمورون في كل الحالات، في مخرجهم، وحال إقامتهم، ونزولهم، وبلوغهم إلى مقصودهم فهم مأمورون بالتوجه إلى بيت الله الحرام في كل الحالات هذا حاصل كلام ابن القيم - رحمه الله -.
السهيلي في هذا التكرار، وكونه ثلاث مرات، يذكر بأن ذلك باعتبار أن المعترضين ثلاثة أصناف:
اليهود، والمنافقون، والمشركون.
اليهود: باعتبار النسخ - وهم ينكرون النسخ - قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] والمنافقون: كان هذا أول نسخ، فأرجفوا، واضطربوا، والمشركون: باعتبار أنها قبلة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - قالوا: هو ينتسب إلى إبراهيم فكيف لا يتوجه إلى قبلته؟! فلما توجه إليها طمعوا بموافقتهم، فقالوا: وافقنا في القبلة فلماذا لا يوافقنا في ديننا؟ هذا كلام السهيلي.
لكن الحافظ ابن القيم: يرى أن الأول ابتداء الحكم، تشريع النسخ في تحويله إلى الكعبة، هذه الأولى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هذا يكون في الأول، الذي هو لتشريع الحكم، ونسخ الاستقبال الأول، ثم أعاده في سياق أن لكل وجهة هو موليها، فلما ذكر أن كل أهل ملة، وطائفة لهم قبلة، أمره أن يتوجه إلى القبلة الصحيحة، التي شرعها الله - تبارك، وتعالى - له، ثم أعاد ذلك فيما بعد لما في ضمنه من حكم، أو معنى، وهو: أنهم يستقبلونها حيث كانوا وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّول وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أنهم في أي موضع كانوا يستقبلون القبلة، هذا كلام الحافظ ابن القيم في سبب هذا التكرار ثلاث مرات، والعلم عند الله .
لكن من أهل العلم كما قال هنا ابن جزي: أن الأمر كُرر للتوكيد، يعني لأهمية القبلة، ولشأنها، وأنها شعار الملة، ولكثرة ما وقع من الاضطراب، والإرجاف بسبب ذلك جاء هذا التأكيد.
فقوله هنا: "أو ليناط به ما بعده" كما سبق في توجيه كلام ابن القيم، يعني بمعنى أن الأول: للنسخ، تشريع استقبال الكعبة، والثاني: ليناط به ما بعده، لما ذكر أن لكل وجهة، فقال: أنتم توجهوا إلى القبلة الصحيحة، والثالث: باعتبار أنهم حيثما كانوا في أي موضع نزلوا، فإنهم يتوجهون إلى الكعبة، هذا معنى "أو ليناط به ما بعده" أي يعلق به، أو ليربط به ما بعده، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، وقد ذكرنا هذا في بعض المناسبات، حتى في الآيات التي لربما تتكرر بلفظها: فبأي آلاء فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13، 16، 18، 21، 23، 25، 28، 30، 32، 36، 38، 40، 45، 47، 49، 51، 53، 55، 57، 59، 61، 63، 65، 67، 69، 71، 75، 77] يعني مما ذُكر، ترجع إلى ما قبلها، وكذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49] ترجع إلى التي قبلها، فلا يوجد تكرار محض في القرآن، وهكذا في قصص الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فإنه يُذكر منها في كل موضع ما يناسب السياق.