ومنهم من يقول: إن الضمير في قوله: "هو" عائد إلى الله مع أنه لم يرد له ذكر، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] أي: أن الله موليهم إياها، وهذا أيضاً فيه إشكال إلا إذا فسر بما ذكرت آنفاً مع أن فيه بعداً، إذا فسر بأنه هو موليها أي: الله موليهم إياها، بمعنى أن ذلك في المسلمين حيث يقعون في أنحاء شتى عن الكعبة، فكل يستقبل القبلة من ناحيته، أما عن القول الذي ذكره بعض أهل العلم من أن المقصود هو موليها أي: الله هو موليهم إياها، والمقصود به أهل الملل، فهذا فيه إشكال، فكيف تكون قبلة أولئك المختلقة الله هو الذي ولاهم إياها؟! فالأقرب أن الضمير "هو" راجع إلى ما سبق من قوله: "كل"، ولكلٍّ يعني من الملل، والنحل، وأهل الديانات، وجهة - جهة - هم مستقبلوها، هو موليها هؤلاء الناس أهل هذه الديانة هم متجهون إليها، وليس الله هو الذي وجههم إليها.
"وهداكم أنتم أيتها الأمة للقبلة التي هي القبلة، وروي عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع ابن أنس، والسدي نحو ذلك، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [سورة المائدة:48]."لكن على قراءة ابن عامر: "هو مُولاّها" كيف يكون المعنى؟ على ماذا يحمل؟ هل يكون ذلك في أهل الأديان؟ لا، وإنما هو بالنسبة للمسلمين، كما ذكر هذا جمع من أهل العلم، وأحياناً تجدون القول يذكر في التفسير، والواقع أنه منزل على قراءة أخرى، وعلى كل حال ربما فسر بعضهم إحدى القراءتين بالأخرى، يعني مثلاً: "هو موليها" تحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله، الاحتمال موجود، ربما بعضهم يفسر هذا بالقراءة الأخرى: "مَولاّها" لكنه لا يخلو من إشكال؛ لأن الضمير: في "هو مُولاّها" في القراءة الأخرى يرجع إلى (كل)، ما يمكن أن يرجع إلى الله، "هو مُولاّها" الله مولاها، ما يجئ.
فعلى كل حال القاعدة: أن القراءتين إن كان لكل واحدة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فيكون هذه لها معنى، وهذه لها معنى.
هُوَ مُوَلِّيهَا [سورة البقرة:148] أي: صاحب القبلة متوجه إلى قبلته أياً كانت، "هو مُولاها" على هذه القراءة يكون المعنى أن الله موليه إياها، باعتبار أن ذلك في القبلة الحق، ولهذا بعض أهل العلم يقول: إن ذلك في تعدد القبلة حيث كان من أمر الله، فسواء توجهتم إلى بيت المقدس، أو توجهتم إلى الكعبة فهذه قبلة، وهذه قبلة، ولكلٍّ وجهة - قبلة - هو مولاها بمعنى أن الله وجه إلى هذا ووجه إلى هذا، وكله حق حينما وجهكم إليه، وهذا المعنى ليس ببعيد، والآية تحتمل معنى آخر، لكنني لم أقف على أحدٍ ذكره، وهو معنى قريب، - والله تعالى أعلم -.
وفي قوله: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148] ما المناسبة بين ذكر استباق الخيرات، وبين الوجهة؟ يعني يمكن أن يقال: فبادروا إلى امتثال أمر الله ، واستقبال قبلتكم التي وجهكم إليها، والتقرب إلى الله بهذا الامتثال، وبالصلاة نحوها.. إلى غير ذلك.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [سورة المائدة:48]، وقال هاهنا: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:148] أي: هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم، وأبدانكم."فعرفنا وجه الشبه بين هذه الآية، وبين قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48]، وقوله - تبارك، وتعالى -: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148] أي: سارعوا إلى امتثال أمر الله بالتوجه حيث وجهكم إلى هذه القبلة، ويدخل في عمومها المبادرة إلى الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى فعل الطاعات، والتقرب إلى الله بألوان القربات، وقد أخذ منه بعض أهل العلم المبادرة إلى الصلاة في أول الوقت أخذاً من عمومها؛ لأنه قال: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148]، ومن الاستباق إلى الخيرات المسارعة إلى الصلاة، وفعلها في أول الوقت، فيدخل فيه المسارعة إلى كل خير.
وقوله: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:148] أي: يجمعكم من سائر الجهات المتفرقة في نواحي الأرض، وذلك في البعث، كما أنكم تتوجهون إلى بيته الحرام من سائر الجهات، فهذا الربط الذي ذكرته بناءً على المناسبة بين خاتمة هذه الآية، وبين موضوعها، الموضوع يتعلق بالقبلة، فالله قال في آخرها: أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا [سورة البقرة:148] أي: أن الله قادر على حشركم، ونشركم، وجمعكم، وإن تفرقتم في أنحاء الأرض، فهو على جمعكم قدير، فكما تتوجهون من سائر الجهات إلى القبلة التي وجهكم إليها فهو أيضاً يجمعكم من سائر الجهات ليوم البعث، والنشور.