السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم ثبّت تعالى نبيه ﷺ، والمؤمنين، وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول ﷺ هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، فقال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147]."ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، فقال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147]، والامتراء المقصود به الشك، وهل كان رسول الله ﷺ شاكاً؟ الجواب طبعاً: لا، حاشا، وكلا، فهو أوثق الأمة إيماناً، وأعلمهم بالله -، والنهي عن الشيء لا يقتضي وقوعه من هذا المنهي عنه، وإنما هو للتحذير من ذلك.
وما يتعلق بالنبي ﷺ، ففي مواضع كثيرة من القرآن يُؤمر ﷺ، ويُنهى، ويكون المقصود بذلك أمته، إذ إن الأمة تخاطب في شخص قدوتها - عليه الصلاة، والسلام -، ولهذا فإن الخطاب الموجه للنبي ﷺ تارة يكون مختصاً به، وتارة تراد به الأمة، وتارة يكون للنبي ﷺ، وللأمة.
فالله يقول للنبي ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:1]، وهو أتقى الأمة لله، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب:1]، وحاشا النبي ﷺ أن يطيع الكافرين، والمنافقين، وهنا: فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] أي: لا تكن من الشاكين.
فعلى كل حال بعض أهل العلم يحمل مثل هذا على أن المراد به الأمة، ابن جرير - رحمه الله - يقول: هذا خطاب للأمة، نهيٌ لها عن الامتراء، والشك، وإلا فإن هذا لا يتطرق إلى رسول الله ﷺ ، وليس ذلك بمستغرب أن يخاطب النبي - عليه الصلاة، والسلام -، وتراد أمته، وعلى كل حال - كما قلت - مخاطبة النبي ﷺ، أو نهيه عن شيء لا يعني إمكان وقوعه منه، وهذا له أمثلة كثيرة في القرآن، وكذلك بعض الأساليب الأخرى، مثل ما يكون على سبيل الشرط مثلاً فإن ذلك لا يعني إمكان الوقوع، مثل: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81] فهذا لا يمكن أن يكون، ولكن هذا يؤتى به لتقرير معنىً، أو لبيان باطل، أو لدفع شبهة، ونحو ذلك.

مرات الإستماع: 0

ويؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] الآية التي بعدها، يعني: الحق الذي أُنزل إليك من ربك، هذا هو الحق فالزمه واثبت عليه، ولا يقع لديك شك وامتراء فيه بحال من الأحوال، فإن كان ذلك موجهًا للنبي ﷺ وحاشاه أن يكون من المُمترين الشاكين، فهو خطاب إليه يتوجه إلى أمته كما ذكرنا في مُناسبات سابقة أن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها -عليه الصلاة والسلام.

وفي قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] لا يخلو هذا من مُبالغة وتأكيد بالنهي عن كونه منهم، يعني: حينما يقول: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] يعني: لا تكون في جملتهم أبلغ مما لو قال: فلا تمتري فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] فهذا نهي عن الكون معهم بهذه الصفة، وهو أبلغ من النهي عن الصفة نفسها.

ويؤخذ من قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] عناية الله -تبارك وتعالى- بنبيه ﷺ في تثبيته وتقوية عزمه وقلبه على لزوم الحق الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] يعني: فاثبت عليه لا تتضعضع فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] يقتضي الثبات على هذا الأمر والبُعد الامتراء، فهذا تأييد للنبي ﷺ من ربه -تبارك وتعالى.

ويؤخذ من قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147] أن كل شيء خالف ما جاء عن الله -تبارك وتعالى- فهو باطل، وأهله من أهل الامتراء.

وكذلك أيضًا إضافة النبي ﷺ إلى اسم الرب: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [سورة البقرة:147] هذا يدل على مزيد عناية برسول الله -عليه الصلاة والسلام- وحاشاه أن يكون من الممترين، فهو أثبت الناس، وأهداهم، وأعلمهم بربه -تبارك وتعالى- فمثل هذا النهي لا يقتضي كونه معهم بحال من الأحوال، ولكن يمكن أن يُقال ذلك من باب المبالغة في الزجر والنهي، أو أن ذلك من باب خطاب النبي ﷺ والمقصود الأمة من بعده -والله تعالى أعلم.