وبعض أهل العلم يقول الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146]: إن الضمير يعود إلى القبلة، وليس إلى النبي ﷺ، ولهذا فابن جرير - رحمه الله - يقول: يعرفون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم ﷺ، وقبلة الرسل من بعده، وأما القبلة التي هم عليها فهي قبلة محدثة، وكذلك قبلة النصارى في التوجه إلى المشرق، يعرفون هذا فهو ثابت عندهم في كتبهم، أو من خبر الأنبياء الذين بعثهم الله فيهم.
وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] الحق هنا بحسب ما يقال في الضمير في قوله: "يعرفونه"، فإذا قلنا: إن الضمير في "يعرفونه" يعني محمداً ﷺ فيكون: "ليكتمون الحق" يعني في نبوته، فيغيرون صفته، فبدلاً مما يجدون أنه ربعة بين الرجال، يقولون: إنه طويل بائن الطول.. إلى غير ذلك، وإذا قيل: إن قوله: "يعرفونه" الضمير يعود إلى أمر الكعبة، وأنها قبلة إبراهيم، والأنبياء بعده، فيكون: "ليكتمون الحق" يعني: أمر القبلة.
فعلى كل حال هم يكتمون الحق كما وصفهم الله في آيات كثيرة، ومن كتمهم الحق ما يتعلق بأمر القبلة، وما يتعلق ببعث محمد ﷺ، إذ إنهم قد عرفوا صفته، ومع ذلك، وقع الإنكار منهم.
ثم قال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة البقرة:147] نفس القضية في المراد بالحق من ربك، ونفس الاحتمالات السابقة، ويمكن أن يكون الحق من ربك المقصود به جنس الحق، يعني لا يختص بنبوة محمد ﷺ، ولا بأمر القبلة، الحق من ربك فالزمه، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147].
"كما جاء في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال لرجل معه صغير: ابنك هذا؟ قال: نعم يا رسول الله، أشهد به، قال: أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه[1]، قال القرطبي:، ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً ﷺ كما تعرف، ولدك؟ قال: نعم، وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه.
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق، والإتقان العلمي لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي ﷺ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146]."يعني يعلمون أمر القبلة، أو يعلمون أمر محمد ﷺ، أو يعلمون الأمرين معاً، وهذا كله حق، فهم يكتمون الحق في أمر القبلة، فالآيات نازلة فيها، وهم كتموا الحق أيضاً في أمر محمد ﷺ، ولهذا فإن قوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] يحمله بعض المفسرين على هذه المعاني جميعاً، في أمر القبلة، وفي أمر محمد - عليه الصلاة، والسلام -، ومنهم ابن جرير - رحمه الله - .
- أخرجه أبو داود في كتاب الديات باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه [جزء 2 - ص575 - 4495), ، وأحمد في المسند [جزء 2 - ص 226 - 7109) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 1317.