السبت 29 / ربيع الآخر / 1446 - 02 / نوفمبر 2024
ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:146 - 147] يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول ﷺ، كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا." الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146] "يعرفونه" يعرفون ماذا؟ يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى النبي ﷺ، يعرفون نبوته كما يعرفون أبناءهم، كما جاء ذلك عن عبد الله بن سلام أنه يعرف نبوة النبي ﷺ أكثر من معرفته لولده؛ لأن ولده لا يدري لعل امرأته قد قرفت، فأما نبوة النبي ﷺ فهي أثبت عنده، وآكد، وأقوى، وأبين من معرفته لولده الذي من صلبه.
وبعض أهل العلم يقول الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146]: إن الضمير يعود إلى القبلة، وليس إلى النبي ﷺ، ولهذا فابن جرير - رحمه الله - يقول: يعرفون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم ﷺ، وقبلة الرسل من بعده، وأما القبلة التي هم عليها فهي قبلة محدثة، وكذلك قبلة النصارى في التوجه إلى المشرق، يعرفون هذا فهو ثابت عندهم في كتبهم، أو من خبر الأنبياء الذين بعثهم الله  فيهم.
وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] الحق هنا بحسب ما يقال في الضمير في قوله: "يعرفونه"، فإذا قلنا: إن الضمير في "يعرفونه" يعني محمداً ﷺ فيكون: "ليكتمون الحق" يعني في نبوته، فيغيرون صفته، فبدلاً مما يجدون أنه ربعة بين الرجال، يقولون: إنه طويل بائن الطول.. إلى غير ذلك، وإذا قيل: إن قوله: "يعرفونه" الضمير يعود إلى أمر الكعبة، وأنها قبلة إبراهيم، والأنبياء بعده، فيكون: "ليكتمون الحق" يعني: أمر القبلة.
فعلى كل حال هم يكتمون الحق كما وصفهم الله في آيات كثيرة، ومن كتمهم الحق ما يتعلق بأمر القبلة، وما يتعلق ببعث محمد ﷺ، إذ إنهم قد عرفوا صفته، ومع ذلك، وقع الإنكار منهم.
ثم قال: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة البقرة:147] نفس القضية في المراد بالحق من ربك، ونفس الاحتمالات السابقة، ويمكن أن يكون الحق من ربك المقصود به جنس الحق، يعني لا يختص بنبوة محمد ﷺ، ولا بأمر القبلة، الحق من ربك فالزمه، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة البقرة:147].
"كما جاء في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال لرجل معه صغير: ابنك هذا؟ قال: نعم يا رسول الله، أشهد به، قال: أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه[1]، قال القرطبي:، ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً ﷺ كما تعرف، ولدك؟ قال: نعم، وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه.
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق، والإتقان العلمي لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ [سورة البقرة:146] أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي ﷺ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146]."
يعني يعلمون أمر القبلة، أو يعلمون أمر محمد ﷺ، أو يعلمون الأمرين معاً، وهذا كله حق، فهم يكتمون الحق في أمر القبلة، فالآيات نازلة فيها، وهم كتموا الحق أيضاً في أمر محمد ﷺ، ولهذا فإن قوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] يحمله بعض المفسرين على هذه المعاني جميعاً، في أمر القبلة، وفي أمر محمد - عليه الصلاة، والسلام -، ومنهم ابن جرير - رحمه الله - .
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الديات باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه [جزء 2 - ص575 - 4495), ، وأحمد في المسند [جزء 2 - ص 226 - 7109) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع  انظر حديث رقم: 1317.

مرات الإستماع: 0

"يَعْرِفُونَهُ أي: يعرفون النبي ﷺ، أو القرآن، أو أمر القبلة".

يعرفون النبي ﷺ يعني يعرفون نبوته، أو أمر القبلة، يعني إما تحويلها، أنها ستحول، أن ذلك عندهم مقرر في كتبهم، وهذا قال به كثير أهل العلم من السلف: كالسُّدي[1] وقتادة[2] والربيع[3] والضحاك[4].

وأبو جعفر بن جرير - رحمه الله - يقول: بأن القبلة (الكعبة)[5] هي قبلة إبراهيم ﷺ وقبلة الأنبياء من بعده، وأهل الكتاب يعرفون هذا، ومع هذا أحدثوا قبلة أخرى، كما سبق.

فقوله هنا: يَعْرِفُونَهُ يعني يعرفون أن هذه القبلة التي وُجهت إليها - وهي الكعبة - أنها هي الحق، وأنها قبلة الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - أو يعرفون أنك ستُحول إلى هذه القبلة، والمقصود يعرفون أن ذلك حق، وأنه من عند الله - تبارك، وتعالى - ويحتمل أن يكون معنى قوله: يَعْرِفُونَهُ أي النبي ﷺ يعرفون نبوته، فالذين قالوا: بأن المراد القبلة، قالوا: لأن السياق في القبلة.

ولا يبعُد - والله تعالى أعلم - أن يكون بين بعض هذه الأقوال ملازمة، فإذا كانوا يعرفون أن هذه قبلة الأنبياء قبل النبي ﷺ وقد عرفوا من صفته ﷺ أنه النبي الموعود به، فهم يعرفون ذلك، كما يعرفون أبناءهم، وهذا قد جاء أيضًا في بعض الآثار، كما سيأتي، باعتبار أنهم يعرفون رسول الله ﷺ معرفة محققة، لا يتطرق إليها الخطأ.

فالضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ إذا قلنا: للنبي ﷺ عائد إلى غير مذكور، يكون معلومًا من السياق.

والذي حمل بعض أهل العلم على القول: إن المقصود النبي ﷺ هو أن الضمير جاء مذكرًا، والقبلة مؤنثة، فلو كان المقصود القبلة لقال: يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، لكن هذا ليس بلازم، يَعْرِفُونَهُ يعني هذا الأمر: وهو القبلة، أو تحويل القبلة، وتوجيه النبي ﷺ إلى الكعبة، واستقبالها، فالآية تحتمل هذا، وهذا، ولا شك أنهم يعرفون النبي ﷺ بصفته الكاشفة، معرفة تامة، ويعرفون تحويل القبلة باعتبار أنها قبلة النبي ﷺ أو قبلة الأنبياء، فيجدون ذلك في كتابهم.

حتى اليهود بينهم اختلافات في القبلة، فليسوا على اتفاق، بعض طوائف اليهود يستقبلون جبلًا في الشام، ويقولون: هذه القبلة التي في التوراة، وعندهم في نسختهم في التوراة المحرفة، مكتوب فيها هذا، ولكن في النسخ المنتشرة بين اليهود، والشائعة بينهم، ليس فيها هذا النص.

فقوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ يدخل فيه اليهود، والنصارى، واختلاف اليهود فيما بينهم، هؤلاء لهم قبلة، ويخطؤون هؤلاء، وهؤلاء لهم قبلة، ويخطؤون هؤلاء، وهم طوائف يكفر بعضها بعضًا افترقت اليهود على إحدى، وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين، وسبعين فرقة[6].

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام: معرفتي بالنبي ﷺ أشدّ من معرفتي بابني؛ لأن ابني قد يمكن فيه الشك".

هنا نقل عن البغوي أثر عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : إن الله قد أنزل على نبيه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ فكيف هذه المعرفة؟

قال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته، كما عرفت ابني، ومعرفتي بمحمد ﷺ أشد من معرفتي بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حق من الله تعالى، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما تصنع النساء، يعني بالنسبة للولد كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ هو يعرفه أكثر من ولده، بأن امرأته قد تكون قارفت، فالولد ليس له "فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام، فقد صدقت"[7].

لكن هذا لا يصح من جهة الإسناد، بل قد حكم على هذا الأثر بالوضع.

وقال: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ولم يقل: كما يعرفون أنفسهم، قال بعض أهل العلم: إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد مدة من الولادة، ولكن يعرف ابنه مباشرة، منذ خرج إلى الدنيا - والله أعلم -.

ولم يذكر البنات، وإنما ذكر الأبناء، قال بعض أهل العلم: ذلك من باب التغليب، فذكر الأشرف، فيدخل فيه البنات، وبعضهم يقول: إنه ذكر الأبناء لشدة حفاوتهم بالأبناء.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 188).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 187).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 187).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 462).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 188).
  6.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3992)، وصححه الألباني.
  7. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 357).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- حينما قرر معنى في غاية الوضوح: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [سورة البقرة:145] فهم باقون على ضلالهم وكفرهم لا يتحولون عنه مهما جاءهم من الآيات، والمسألة ليست بسبب عدم علمهم بحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ أو أن ذلك بلغهم مشوهًا وإنما كما سيأتي الأمر أكبر من ذلك.

فهنا يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن قرر تلك الحقيقة بين مرتبة علمهم بما جاء به الرسول ﷺ أولئك مهما أتاهم من الآيات لن يؤمنوا، إذًا القضية ليست بسبب نقص في المعلومات، وإنما: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل أحبار اليهود وعلماء النصارى، يعرفون أن محمدًا ﷺ رسول الله بأوصافه المحددة الواضحة في كتبهم، معرفة تامة لا يلتبس معها بغيره: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] فأبناءهم لا يلتبسون عليهم بحال من الأحوال، وإن فريقًا من هؤلاء ليكتمون الحق وهم يعلمون صدقه وما جاء في كتبهم من الشهادة له بالنبوة والرسالة -عليه الصلاة والسلام.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يحتمل أن يكون الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ أي: تحويل القبلة التي جاءت في هذه الآيات وكان الحديث عنها، واعترضوا عليها: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يعرفون هذا الأمر وهو تحويل القبلة وأنه حق ثابت من الله.

ويحتمل أن يكون ذلك: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] أي: دين الإسلام كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.

ويحتمل أن يكون المراد أمر النبي ﷺ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأنه مُرسل من الله.

وهذه المعاني بينها مُلازمة فإن دين الإسلام إنما جاء به رسول الله ﷺ وموضوع تحويل القبلة إنما هو جاء بوحي من الله إلى رسوله ﷺ فهم يعرفون ذلك جميعًا: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ فعلى القول بأن الضمير يرجع إلى الرسول ﷺ ولم يسبق له ذكر يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] فيمكن أن يؤخذ من هذا تفخيم أمر النبي ﷺ وأنه بمنزلة من الشهرة ينصرف الضمير مُباشرة إليه ولو لم يكن له ذكر قبله يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول الله ﷺ.

وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] هنا يوجد التفات، والالتفات أنه تحويل الكلام من المخاطب إلى الغائب أو العكس، أو من المفرد إلى الجمع أو العكس، أو غير ذلك من صور تحويل الكلام من صيغة إلى صيغة أخرى، فهنا: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [سورة البقرة:144] خطاب للنبي ﷺ مُباشرة، وجهك، بكاف الخطاب فَلَنُوَلِّيَنَّكَ بكاف الخطاب فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] كل ذلك جاء بصيغة الخطاب، ثم قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة البقرة:146] بالغائب إذا كان المراد بذلك النبي ﷺ على هذا المعنى يَعْرِفُونَهُ فحول الخطاب حول الكلام من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب وهذا فيه تنشيط للسامع، وتفنن في الصياغة، وهو من ضروب البلاغة يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] وهذا أفخم على كل حال أيضًا كما هو مُلاحظ.

وكأنه -والله تعالى أعلم- لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب أقبل على الناس فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:146] واخترناهم لتحمل العلم والوحي يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآية السابقة، وأمرناه ونهيناه لا يشكون في معرفته، يعني: كأنه ينوه به عند الناس فجاء بضمير الغائب، يعني: هو تحويل الكلام هذه التي يُقال لها الالتفات أو هذا الذي يُقال له الالتفات هو في كل مقام تُتلمس حكمته في ذلك المقام، لكن مثل هذه الأشياء بطبيعة الحال، واللطائف البلاغية في الالتفات والمناسبات ونحو هذا هي أمور ظنية لا نقطع بها، ولكن يُعرض منها ما كان قريب المأخذ، أما المُتكلف فلا يصح الاشتغال به، كما أنه لا يصح إشغال الناس بمثل هذه اللطائف على حساب المعنى الأساس الذي نزلت الآية من أجله، ولذلك في كل مرة نذكر المعنى العام للآية؛ لئلا يضيع المقصود الأول من نزولها، ثم ندخل في هذه الجوانب التي قد يدق بعضها.

ويؤخذ من قوله: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] كما قال بعض أهل العلم ما قال: كما يعرفون أنفسهم، يعرفونه كما يعرفون أنفسهم، لماذا قال: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146]؟ قالوا: بأن الإنسان إذا ولد فإنه لا يعرف نفسه فيحتاج إلى مدة بعد ذلك يُدرك ما حوله، ويتعرف على الأشياء ويعرف نفسه، بينما الولد يعرفه أبوه منذ أن تقع عينه عليه، فقال: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] والبنات الابن هو الذكر، فما وجه ذكر الأبناء؟

يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أنهم أكثر حفاوة بالأبناء فيعرفه معرفة أدق لشدة حفاوته به، وكذلك أيضًا لربما كان ذلك لكثرة مُلازمتهم للأبناء ومُخالطتهم ومُلابستهم لهم.

وقد قال بعض أهل العلم وإن كان هذا المعنى فيه نظر لكن من باب أن الشيء بالشيء يُذكر في الفقه في التعليل للنضح من بول الغُلام، يعني الذي ما أكل الطعام في مدة الرضاع يُنضح من بوله يعني نجاسته مُخففة، ويُغسل من بول الجارية كما قال النبي ﷺ[1] الفقهاء -رحمهم الله- تكلموا عن هذا بتعليلات مُتعددة، الذي يُذكر هنا في هذا المقام يعني من باب أن الشيء بالشيء يُذكر بصرف النظر هل هذا المعنى صحيح أو لا، لا أقصد هذا، قالوا: أن الولد يكثر الاحتفاء به فالكل يحمله، لا يكاد يوضع على الأرض فيصعب التحرز فيقع بوله على أهله، فخُفف لكثرة الملابسة، ولذلك قالوا: "المشقة تجلب التيسير" هكذا قال بعضهم مع أن هذا التعليل يوجد تعليلات أخرى غير هذا معروفة عند أهل العلم.

أيضًا يمكن أن يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- كما يعرفون أبناءهم أن ذلك من باب يمكن أن يوجه هذا ذكر الأبناء خاصة أنه من باب التغليب، غلب الأبناء على البنات والمقصود الجميع، يعني: ذكر أحد القسمين ليدل على الآخر، يعني: كما يعرفون الأبناء والبنات، هذا يحتمل. 

  1.  أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، برقم (376)، وبرقم (377)، والترمذي، أبواب السفر، باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، برقم (610)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب بول الجارية، برقم (304)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (402)، وفي صحيح الجامع، برقم (8117).