والذكر: يكون باللسان، والقلب، والجوارح، ولهذا أورد الحديث هنا: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.. إلى آخره، فهذا داخل تحت عموم قوله تبارك، وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] اذكروني بألسنتكم أذكركم في الملأ الأعلى، ويدخل فيه أيضاً ذكره - تبارك، وتعالى - بالعمل بالجوارح، ويدخل أيضاً فيه ذكره بالقلب، فإن هذا الذكر تارة يكون بالإقرار بالنعمة باللسان، واستحضارها، وقيام ذلك في القلب مع العمل بالجوارح اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سورة سبأ:13].
ويكون أيضاً باللسان، بذكر الله بألوان الذكر، ويكون أيضاً بالقلب بقيام القلب بوظائفه التعبدية من محبة، وشكر، ورضاً، وصبر، وما إلى ذلك من أعمال القلوب، وكذلك بأعمال الجوارح من صلاة، وحج.. إلى غير ذلك، فهذا كله داخل تحت قوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152]، ولهذا يقول بعضهم كسعيد بن جبير: اذكروني بالطاعة؛ أذكركم بالثواب، فالذكر يكون بالطاعة بجميع أنواعها منقسمة على اللسان، والقلب، والجوارح، اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، وكذلك أيضاً بذكره باللسان من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وهكذا.
"وروى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال: في ملأ خير منه -، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاًَ، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة[2] صحيح الإسناد، أخرجه البخاري."على كل حال هذا مما يدخل في الذكر كما سبق، وقول سعيد بن جبير هو من أوضح ما عبّر به عن معناها: "اذكروني بالطاعة؛ أذكركم بالثواب، والمغفرة"، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، فالآية تشمل هذه الأمور جميعاً.
"وقوله: وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152] أمر الله تعالى بشكره، ووعد على شكره بمزيد الخير، فقال: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [سورة إبراهيم:7]."الآن في قوله: وَاشْكُرُواْ لِي [سورة البقرة:152] هناك قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] فالذكر يكون باللسان ابتداءً، ويكون بالقلب، والجوارح، وأما الشكر فهو كما يقولون: يكون في مقابل النعمة، اشكروا لي على هذا الإنعام، والإفضال تزدادوا عبودية لله ، وإتباعاً لنبيه ﷺ.
والشكر - كما مر في بعض المناسبات - أصله: من الظهور، أو الزيادة، ولهذا يقال للعُسْلوج الذي يخرج من الشجرة - وهو الغصن الصغير الأخضر بعدما تقطع -: شكير، ويقال للدابة إذا ظهر عليها أثر السمن: شكرت الدابة، بمعنى ظهر عليها أثر السمن، فهذا الشكر هو ظهور أثر النعمة على المنعم عليه باللسان، والقلب، والجوارح، ولهذا قال الشاعر[3]:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي، ولساني، والضمير المحجبا |
"وروى الإمام أحمد عن أبي رجاء العطاردي قال: خرج علينا عمران بن الحصين ، وعليه مُطْرَف [4] من خَزٍّ[5] لم نره عليه قبل ذلك، ولا بعده، فقال: إن رسول الله ﷺ قال: من أنعم الله عليه نعمةً فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه وقال روح مرة: على عبده[6]"من شكر النعمة أن يقر الإنسان بها، ولا يجحدها، لا يقول: هذا من عندي، أو إنما أخذته بعلمي، وحذقي بألوان المكاسب مثلاً، أو يجحد، ويقول: أنا لم أحصّل شيئاً، ولم أربح شيئاً، وهو لم يصدق في هذا الكلام، و مثله الطالب الذي يدخل في الاختبار، ويقول للناس بعدما يخرج: أنا لم أعرف الجواب، ولم أحسن الإجابة، وهو غير صادق بهذا، فهذا من كفر النعمة.
وكذلك أيضاً ظهور أثر هذه النعمة باستعمالها فيما أباحه الله من غير سرف، ولا افتخار، ولذلك فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فإذا كان الإنسان قد أغناه الله فلا يلبس ثوباً مخرقاً فيظهر أثر ذلك عليه، وهذا لا يعارض: من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها [7]، وكذلك في قوله: البذاذة من الإيمان [8] ليس المقصود بالبذاذة: ترك النظافة، وإنما المقصود ترك رفيع الثياب، أي: يلبس أشياء قد تكون وسطاً.
وقوله: وَاشْكُرُواْ لِي [سورة البقرة:152] عدّيت باللام، وهو الذي جاء في القرآن، وهو الأشهر، والأفصح، تقول: شكرت لك، اشكروا لله، وقد تتعدى بنفسها، ولم يرد في القرآن فيما يحضرني، لكنه ورد في كلام العرب.
إنكما إن أنظرتماني ساعةً | شكرتكما حتى أُغيّب في قبري[9] |
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى | وما كل من أوليته نعمةً يقضي |
- أخرجه مسلم في الذكر، والدعاء، والتوبة، باب فضل الذكر، والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى (ج 8/ص67 – 7008).
- في المسند (ج3/ص138– 12428)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وذكره البخاري عن أنس بن مالك عن أبي هريرة مختصراً في كتاب التوحيد باب ذكر النبي ﷺ وروايته عن ربه (ج6/ص2741 – 7099).
- ذُكر البيت غير منسوب لقائل في: ربيع الأبرار (ج1/ص472)، وفي (نهاية الأرب في فنون الأدب) (ج1/ص332)، وفي (نفح الطيب) (ج6/ص274)، وغيرها.
- المُطْرَف: كمُكرم، بكسر الميم، وضمّها مع سكون الطاء، وفتح الراء فيهما، تقول تميم: مُطْرَف، ومُصحَف، وأهل الحجاز يقولون: مِطْرَف، ومِصْحَف، وهو، واحد المطارف، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام، وقيل: ثوب من خز مربع له أعلام، قال الفراء: المطرف من الثياب: ما جعل في طرفيه علمان، والأصل مُطرف بالضم؛ ليكون أخف كما قالوا: مِغزل كمنبر، وأصله مُغزل بالضم من أغزل أي: أدير، والميم زائدة. ينظر: لسان العرب، والقاموس المحيط مادة (طرف)، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير(ج2/ص371)، وجمهرة اللغة (ج1/ص414)، وغيرها.
- الخز: هو ضرب من ثياب الإِبْرَيْسَم معروف، وفي هذا الحديث ما يدل على جواز لبسه، قال ابن حجر في فتح الباري (ج10/ص55) عند حديث: ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر، والحرير: "ووقع عند الداودي بالمعجمتين –الخز - ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ؛ لأن كثيراً من الصحابة لبسوه، وقال ابن الأثير: المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام - لأنه متناسب مع ذكر الحرير -، وهو ضرب من الأبريسم كذا قال، وقد عُرف أن المشهور في رواية البخاري بالمهملتين - لأنه إذا حرم الحرير فالخز نوع منه فيكون تكراراً فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر -، وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين، والتشديد مختلف فيه، والأقوى حله، وليس فيه، وعيد، ولا عقوبة بإجماع". لكن كونه بالمهملتين أرجح، وهو ما رجحه شراح البخاري منهم ابن حجر، وإن قال الصنعاني: إن إدخال الحديث في باب اللباس يرجح المعجمتين؛ لأن الخز من اللباس، لكن نقول: إنه، وإن أدخله في باب اللباس فالراجح أنه بالمهملتين، وإدخاله في باب اللباس إنما هو من أجل ما عُطِف عليه، وهو الحرير.، وقد أورد مالك، وابن أبي شيبة، وغيرهما ما يدل على الترخص في لبس الخز.
- في المسند (ج4/ص438 – 19948)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير فضيل بن فضالة القيسي فقد روى له النسائي، وهو ثقة، وصحح الألباني لفظ: (على عبده) في صحيح الجامع انظر حديث رقم: 1712.
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع (ج4/ص650 – 2481)، وأحمد في المسند (ج3/ص439 – 15669)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج2/ص 337 - 718).
- أخرجه أبو داود في الترجل، باب النهى عن كثير من الإرفاه (ج4/ص125 – 4163)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له (ج2/ص1379 – 4118)، والطبراني في المعجم الكبير (ج1/ص271 – 788) معجم إياس بن ثعلبة أبو أمامة البلوي، والبيهقي في الشعب، الشعبة الأربعون من شعب الإيمان، وهو باب في الملابس، والزي، والأواني، وما يكره منها، فصل فيمن اختار التواضع في اللباس (ج5/ص155 - 6173)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 2879.
- البيت نسبه صاحب (تزيين الأسواق في أخبار العشاق)، وصاحب (مصارع العشاق) (ج1/ص84) لجميل بن معمر من رائيته المشهورة (ج1/ص29) التي يقول فيها:خليليّ عوجا اليوم حتى تسلما *** على عذبة الأنياب طيبة النشرِفإنكما إن عجتما لي ساعة *** شكرتكما حتى أُغيّب في قبريوإنكما إن لم تعوجا فإنني *** سأصرف، وجدي فأذنا اليوم بالهجرِ
- هو أبو نُخيلة الراجز، واسمه: يعمر بن حزن بن زائدة بن لقيط بن أبزى بن ظالم بن مخاشن بن حمان، وحمان هو عبد العزى بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل له: حمان لأنه كان يحمم شفتيه، وهو شاعر راجز محسن متقدم في القصيد، والرجز، والبيت من الطويل يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك يقول فيها:أمسلمةٌ يا نَجْلَ خير خليفةٍ ***، ويا فارس الهَيْجَا، ويا جبلَ الأرضِشكرتك إن الشكر حَبْلٌ من التقى ***، وما كلُّ من أَوليته نعمةً يقضِيوألقيتَ لما أن أتيتك زائراً *** عليَّ لحافاً سابغَ الطولِ، والعرضِونبهْتَ من ذكرى، وما كان خاملاً ***، ولكن بعض الذكر أنبَهُ من بعضِ.... إلى أخرهاوسمعه الرشيد فقال: "هكذا يكون شعر الأشراف! مدح صاحبه، ولم يضع من نفسه" ينظر: (أمالي القالي (ج1/ص15)، والتذكرة الحمدونية (ج1/ص448)، و(المحكم، والمحيط الأعظم) (ج3/ص 133)، و(المؤتلف، والمختلف) لابن القيسراني (ج1/ص87)، و(الحيوان) (ج1/ص134)، و(نهاية الأرب في فنون الأدب) (ج1/ص333)، و(الجليس الصالح، والأنيس الناصح) (ج1/ص42)، و(بهجة المجالس، وأنس المجالس) (ج1/ص66)، و(زهر الآداب، وثمر الألباب) (ج1/ص391).