ولذلك تكلم أهل العلم كثيراً في المفاضلة بين الغني الشاكر، والفقير الصابر، قالوا: الفقير ليس أمامه إلا الصبر، أو الجدار، بينما الغني مباهج الدنيا أمام عينه، ويستطيع أن يصل إلى ما شاء من مطلوباته التي تهواها نفسه، ولذلك كان الغنى مظنة الطغيان، فإذا صبر، وحبس نفسه عن الاسترسال مع داعية الهوى فإن ذلك يكون أعظم مما يقع للفقير من الصبر، فهذا لون من الصبر في الواقع ممزوج بالشكر، ولا يتأتى الشكر إلا بهذا الصبر أصلاً.
وكذلك أيضاً النقمة، هل يشكر على النقمة؟ سيأتي في الكلام على الأعمال القلبية - إن شاء الله - أن الشكر له محل في هذا المقام، إذ إن الإنسان في مقابل النقم مطالب بالصبر، وجوباً، فإن ارتقى درجة فالرضا، فإن ارتقى درجة فالشكر لله ، وسيأتي بيان وجه الشكر على هذه المصيبة، ونماذج من كلام السلف، وأحوال السلف في شكرهم إزاء النقم؛ لأن المتبادر أن الشكر يكون في محل النعمة، أو بسبب النعمة، والصبر يكون بإزاء النقمة، ولكن فيه ما ذكرت أن هذا يأتي فيه هذا، وهذا يأتي فيه الآخر أيضاً.
"كما جاء في الحديث: عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له[1]، وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر، والصلاة، كما تقدم في قوله: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45]."يعني استعينوا بالصبر بمعنى حبس النفس بالنسبة للمصائب عن الجزع، والتسخط، وفي حال النعمة حبس النفس عن البطر، يحبس الإنسان نفسه فيحملها على طاعة الله شكراًً على هذا الإنعام، والإفضال، فالطاعة، والعبادة، والعمل الصالح يحتاج إلى صبر، وإلا لصار الناس في أعلى درجات العبودية، ولكن لماذا هذا التفريط في حق الله ؟ بسبب قلة الصبر على الطاعة، وكذلك المعصية فإن النفس قد جبلت على محبة الشهوات زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [سورة آل عمران:14] فيحتاج الإنسان من أجل فطامها عن محبوباتها إلى صبر، وهذا أمر مشاهد لا يحتاج إلى تقرير، وبالتالي فالإنسان بحاجة إلى الصبر على الثلاثة.
فقوله: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45] لأنهما من أعظم ما يقوي الإنسان على لزوم طاعة الله ، وتحمل الأكباد، والآلام، والأتعاب فيسهُل على السالك سلوك الطريق الشاقة التي حفت بها طريق الجنة حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[2]، فهذا كله يحتاج الإنسان معه إلى استعانة بالصبر، والصلاة.
فالصلاة تقوي قلبه، وعزمه فيخف عليه السير إلى الله ، ويسهل عليه، فهذه المناجاة تؤثر فيه من ألوان صلاح القلب، والحال، والعمل، والإنكفاف عما لا يليق، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء، وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45].. إلى غير ذلك من آثارها، فيستعين بها، فيحصل له راحة القلب، وإلا فإن قلبه قد يتفلت عليه، يحتاج هذا القلب إلى ضبط، وترويض، فالصلاة من أعظم ما يحصل به ذلك.
ولهذا لما نُعي إلى ابن عباس أخوه، نزل من راحلته - وهو بين مكة، والمدينة - فصلى، وقال: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45].
ونقل ذلك عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي زوج عبد الرحمن بن عوف ، لما مرض فأغمي عليه، فظنوا أنه قد مات، فخرجت إلى المسجد، وجعلت تصلي عملاً بهذه الآية: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [سورة البقرة:45].
"والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم، والمآثم، وصبر على فعل الطاعات، والقربات، والثاني أكثر ثواباًَ لأنه المقصود، وأما الصبر الثالث، وهو الصبر على المصائب، والنوائب، فذلك أيضاً واجب، كالاستغفار من المعايب، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "الصبر في بابين: الصبر لله فيما أحَب، وإن ثقل على الأنفس، والأبدان، والصبر لله عما كَرِه، وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يُسلم عليهم - إن شاء الله -."يعني: يسلم عليهم الملائكة وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد:23-24] بما صبرتم على طاعة الله في الدنيا، وصبرتم عن معصيته، وصبرتم على أقداره المؤلمة، وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: إن الثاني أفضل، وهو الصبر على الطاعة، قال: لأنه المقصود، بمعنى أن الإنسان إنما خلق للقيام بوظائف العبودية بالعمل الصالح، وأما الترك فإنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصود لغيره، فإذا ترك السرقة، والقتل، وما إلى ذلك فإن هذا ليس مقصوداً لذاته؛ لأن النفس ما خلقت للترك، فلو تُصور إنسان ما عنده شيء من الأعمال التي يقوم بها، وإنما هو الترك فقط، هو ما يفعل كذا، ولا يفعل كذا، ولا يفعل كذا، وبعدُ ماذا يفعل؟ ماذا عن صلاته، عن صيامه، عن ذكره لله ؟ هذه التي خُلق الإنسان للقيام بها، هذه وظائف العبودية، هذه التي يكون فيها بناء القلب، ويكون فيها الرقي في الدرجات عند الله ، ولهذا كان الترك لا يؤجر الإنسان عليه إلا إذا كان بنية، كما سيأتي - إن شاء الله - في الكلام على حديث: (الأعمال بالنيات) في أول عمدة الأحكام، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "فإن الترك ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصوداً لغيره" قاله في الكلام على مسألة إنكار المنكرات.
فمن الخطأ أن تربي الناس دائماً: احذروا، هذا بدعة، هذا ما يجوز، هذا فيه كذا، هذا لا تقرب منه، لا تفعل كذا، لا تقارف كذا، وبعد هذا؟ ماذا عمل هذا الإنسان؟ أعطه عملاً إيجابياً يقوم به، يشتغل به، بقلبه، ولسانه، وجوارحه، ما يعرف إلا فقط التحذير، هذا ينتهي، ويتلاشى، يموت قلبه، فهو بحاجة إلى عمارة هذا القلب بالعمل الصالح، فهو المقصود، ولهذا كان الصبر على الطاعة أعظم من هذه الحيثية.
- الحديث من زيادات عبد الله على المسند [جزء 5 - ص 24 - 20298] بلفظ: لا يقضي الله له شيئاً قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل ثعلبة بن عاصم، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [جزء1 - ص277 - 148)، وأصله في مسلم في كتاب الزهد، والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير [جزء4 - ص2295 - 2999).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها [جزء4 - ص2174– 2822).