الجمعة 28 / ربيع الآخر / 1446 - 01 / نوفمبر 2024
وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء [سورة البقرة:154] يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأي شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة، فيقول الرب : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون[1].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: نسمة المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه[2]، ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً، وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم، وتكريماً، وتعظيماً."
هنا يرد سؤالان: السؤال الأول: في وجه تخصيص بعض المؤمنين، أو أصحاب بعض الأعمال الصالحة بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون كالشهداء، مع أن الجميع في حال البرزخ إما ينعمون، وإما يعذبون، وحياة الشهداء هي حياة برزخية، فالبرزخ: هو الحاجز، هو تلك المنزلة التي تكون بين الدنيا، وبين الآخرة، ولا شك أن نعيم الشهداء ليس كنعيمهم حينما يدخلون الجنة بعد البعث، والنشور، والحساب، حيث يحاسب الناس، ثم بعد ذلك يدخل الناس الجنة، فالشهداء من جملة من يدخل الجنة آنذاك، فهذا دخول دون دخول في الحياة البرزخية، والحياة البرزخية يحصل فيها النعيم لروح الإنسان، أو العذاب لروحه، ويحصل على سبيل التبع من ذلك للبدن ما يحصل، فكما أن الغالب في هذه الحياة هو نعيم البدن، أو عذاب البدن، والروح تبعاً له، فالحياة البرزخية على العكس، والحياة الآخرة يستوي فيها نعيم البدن، ونعيم الروح.
فالمقصود ما وجه تخصيص بعض المؤمنين مع أن الجميع إما يعذبون، وإما ينعمون؟، وهذا السؤال وارد، وقد أورده بعض أهل العلم كابن جرير الطبري - رحمه الله -، فمنهم من يجيب كابن جرير: بأن أولئك قد خصوا بالذكر تنويهاً بشأنهم، وترغيباً بعملهم، ورفعاً لمقامهم، وإلا فالجميع يُنعم، أو يعذب، على اختلاف درجاتهم في النعيم.
وربما يكون أدق في الجواب أن يقال: إن هؤلاء أحياء حياة تختلف عن حياة غيرهم في البرزخ، وإن كانت كلها حياة برزخية، فهم في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة، كما أخبر الله - تبارك، وتعالى -، فهم أحياء وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران:169] فلما كان الذي يقال عادة لمن قُتل: إنه قد مات، وقضى نحبه، أخبر الله أن هؤلاء أحياء، وإن كانت ماتت أجسادهم، ولهذا عوضهم الله  بهذا، فجعل أرواحهم في جوف طير خضر بعد ما تخرقت أجسادهم حينما قتلوا في سبيل الله ، والحديث على ظاهره أن: أرواحهم في جوف طير خضر فصارت كالمراكب للأرواح، أو كأن الله عوضهم عن أجسادهم بهذه.
بينما الفرق بينه، وبين الحديث الآخر - وهذا هو السؤال الثاني -: ما الفرق إذاً بين الأمرين؟ بين الشهيد، وبين عموم المؤمنين؟ فهنا الحديث ثابت صحيح نسمة المؤمن  يعني روح المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه أرواح الشهداء في جوف طير خضر، وبالتالي لا يصح أن يقال كما قال بعضهم: إن المقصود: على هيئة طير خضر، أي أن الأرواح تصور بهيئة طير خضر؛ لأن الحديث صريح، وواضح أنها في جوف طير خضر، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وتسرح في الجنة، أي تطير في الجنة، بينما أرواح المؤمنين كما قال: نسمة المؤمن طائر فهي ليست في حواصل طير، وإنما تكون طائراًً يطير في الجنة، ولاحظ الفرق بينهما تلك - أرواح الشهداء - تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، تلك الطير التي فيها أرواح الشهداء، بينما أرواح المؤمنين تكون طائراً يَعْلق بشجر الجنة، أيهما أكمل؟ الشهيد أكمل، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، هذه تعلق - تأتي بضم اللام، وفتحها - تَعْلُق، وتَعْلَق بشجر الجنة، وهذا اللفظ (تَعْلُق) يُشعر بمعنى، وهذا المعنى هو ما يحصل به قدر الكفاية من الأكل، أو القوت، أو نحو ذلك، ويعرف هذا من استقراء النصوص التي وردت فيها هذه العبارة: تعلُق في شجر الجنة.
وعلى كل حال مسألة الكلام في الأرواح فيها كلام طويل، والأقوال، والخلاف فيها كثير، والله يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:85]، ولكن الذي ينبغي أن يتفطن له الإنسان، ويحتاج إلى معرفته هو وجه الجمع بين النصوص، لو قال قائل: ما مزية الشهداء إذاً؟ نقول: إنها تطير في الجنة حيث شاءت، وهي في أجواف طير خضر، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، فما يحصل لهم من النعيم أكمل، وأعظم مما يحصل لغيرهم.
والكلام على الروح - كما قلت - قضية غيبية، ولذلك لها اتصال بالأجساد، وجاء في الأحاديث أن المؤمن تفتح له نافذة في قبره، يرى منها مكانه في الجنة، ويأتيه من روْحها، ونعيمها، والكافر يفتح له أيضاً كذلك، إلى قيام الساعة، ولهذا يقول المؤمن: رب أقم الساعة، والكافر يقول: رب لا تقم الساعة، فهذا يأتيه العذاب في القبر، وهذا يأتيه من الرَوْح، ويوسع له في القبر.. إلى آخره.
فهذا يدل على أن الأرواح تعذب، وتنعم في القبور، وهذه النصوص التي عندنا، والتي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تدل على أن النعيم يحصل في الجنة، وجاء في بعض النصوص، وبعض الآثار عن السلف ما يشعر بغير ذلك، فعلى كل حال يقال - والله تعالى أعلم -: إن الأرواح لها شأن أخر، ولها حركة، وانتقال لا تقاس بحركة، وانتقال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، بل حتى في الرؤى تجد الإنسان نائماً، والله أخبر أنه يتوفى الأنفس حين موتها، فالأرواح تصعد، ولكنه صعود دون صعود، يبقى تعلقها بالبدن، ويبقى الإنسان حياً، لا يقال: مات، فهي وفاة صغرى، لكن هذه الروح تحلق، وربما التقت ببعض الأرواح من الموتى، أو الأحياء، وربما رأى الإنسان نفسه في مقامات رفيعة في الملأ الأعلى، ورأى نفسه ربما في أماكن بعيدة من الأرض، فالأرواح لها تنقلات، ولها أحوال.
والنبي ﷺ رأى الأنبياء كل واحد منهم في مقامه في الملأ الأعلى، مع أنهم ينعمون في الجنة، يعني حال الأنبياء أكمل من حال الشهداء، وعموم المؤمنين، فإذا كان هذا يحصل للشهداء فالأنبياء أعظم، ورآهم النبي ﷺ في السماوات، ما أخبر أنه رآهم في الجنة، ورأى موسى ﷺ، وهو يصلي في قبره، وصلى ﷺ بالأنبياء في بيت المقدس، وهم في الملأ، وقد رآهم في الملأ الأعلى.
فالأرواح لا تقاس على هذا العالم المادي، فلها من التنقل، والحركة ما لا ندركه، وتصل إليه عقولنا، وبالتالي نقول: أرواح المؤمنين تنعم، وتعذب في القبر، وتنعم أيضاً في الجنة، وتنعم أيضاً ربما في غير ذلك، بعض السلف يقول: على أفنية القبور أرواح المؤمنين، ولكن تنعمها في الجنة لا يكون من قبيل دخول الجنة الذي هو دخولها حينما يستفتحونها، فيدخلون منازلهم، ولكنها تطير في شجر، تَعْلق في شجر الجنة، وما إلى ذلك، أما دخول المنازل فإن ذلك يكون بالدخول الأكبر، وهو ما يكون في الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم منهم، فهذا دخول دون دخول.
وكذلك النار فالله أخبرنا: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] لكن قال: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] فهم يعذبون في قبورهم، والنبي ﷺ رأى أناساً في النار، رأى عمرو بن لحي الخزاعي في النار، ورأى رجالاً يعرفهم، فهذا دخول دون دخول، فهم يعذبون في قبورهم، وأرواحهم أيضاً لها تنقلات، وتعذب أيضاً في النار، ولكن هذا دخول دون دخول، فالدخول الأكبر حينما يؤتى بجهنم، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23]، ويرونها فيدعون بالويل، والثبور، ويعطون كتابهم بشمالهم.. إلى آخره، ثم بعد ذلك يكبكبون فيها، وهم مقيدون بالسلاسل، والأغلال، فهذا هو الدخول الأكبر - أعاذنا الله، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها -.
فهذا كلام مختصر في مسألة الأرواح بحيث يُدرك الجمع بين هذه الأحاديث، وأنه لا تخالف بينها.
وابن القيم - رحمه الله - يرى أن ذلك بحسب حال كل إنسان، فكما أنه في العموم تَعْلق في شجر الجنة، لكن منهم من تحبس روحه، كذلك الشهيد، الأصل أنه في جوف طير خضر لكن النبي  ﷺ أخبر عن ذاك الذي غل الشملة حينما ذكر الصحابة بلاءه، وقالوا: هنيئاً له الشهادة، قال: إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا[3] فدل على أنه حبس، لم يكن في جوف طير خضر، وإنما هو في قبره يعذب بتلك الشملة، فابن القيم - رحمه الله - يقول: تختلف أحوال الناس فقد لا يكون في جوف طير خضر، وهو شهيد، فيحبس بسبب عمل عمله، وكذلك أهل الجنة قد تكون روحه على فناء قبره، أو في قبره، أو نحو ذلك، تنعم مثلاً، وقد تكون تطير، وما ذكرته سابقاً لا يعارض هذا على كل حال، - والله أعلم -. 
هذا الحد يكفي في الكلام على هذه المسألة، والاسترسال في هذا، والزيادة عليه أمر لا حاجة إليه؛ لأن هذا من الغيوب. 
  1. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون [جزء3 - ص1502 – 1887).
  2. أخرجه مالك في الموطأ رواية يحيى الليثي [جزء1 - ص240 – 568)، والنسائي في كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين [جزء4 - ص 108 - 2073)، وابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر القبر، والبلى [جزء2 - ص 1428– 4271)، وأحمد في المسند [جزء3 - ص 455 – 15815)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب لم يسمع هذا الحديث من جده كعب بن مالك، وأخرجه أيضاً ابن حبان في كتاب السير باب فضل الشهادة [جزء 10 - ص 513 – 4657)، والطبراني في المعجم الكبير [جزء19 - ص63– 119)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: حديث رقم:2373.
  3. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر [جزء4 - ص1547 – 3993)، وفي كتاب الأيمان، والنذور، باب هل يدخل في الأيمان، والنذور الأرض، والغنم، والزروع، والأمتعة [جزء6 - ص2466 – 6329). 

مرات الإستماع: 0

"وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ قيل: إنها نزلت في الشهداء المقتولين في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلًا؛ لما قُتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية مبينة لمنزلة الشهداء عند الله، ومسلية لأقاربهم، ولا يخصصها نزولها فيهم، بل حكمها على العموم في الشهداء".

 وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ هذا السبب الذي أشار إليه: أنها نزلت في الشهداء المقتولين في بدر، وكانوا أربعة عشر رجلًا؛ لما قُتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية، هو الأثر الوارد في هذا عن ابن عباس - ا - من طريق السُّدي الصغير، عن الكلبي عن أبي صالح[1] وهذا الإسناد معروف أنه تالف.

يقول: هم قتلى بدر، وأحد، وقُتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلًا؛ وذلك أنهم يقولون لقتلى بدر مات فلان، فنزلت وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ هذا الأثر الوارد باعتبار أنه سبب النزول، لا لأنهم وقع لهم الحزن؛ لأن الآية صريحة في هذا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ معنى ذلك أنه قد يكون صدر عنه هذا القول، فالرواية في سبب النزول عن ابن عباس - رضي الله عن عنهما - فيها: أنهم كانوا يقولون: مات فلان، لقتلى بدر، فنزلت، لكن الرواية هذه لا تصح.

وعلى كل حال قوله - تبارك، وتعالى -: بَلْ أَحْيَاءٌ كما جاء في صحيح مسلم: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل[2]

وعند أحمد عن كعب بن مالك يقول النبي ﷺ: نسمة المؤمن إذا مات طائر تعلق بشجر الجنة، حتى يرجعه الله - تبارك، وتعالى - إلى جسده يوم يبعثه الله[3] هذا صحيح ثابت عند أحمد، فهذا ثابت في الشهداء، وثابت في أهل الإيمان أيضًا. 

  1.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 375).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون برقم: (1887).
  3.  أخرجه أحمد ط الرسالة (25/ 57 - 15777)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه".

مرات الإستماع: 0

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154].

ولا تقولوا معاشر المؤمنين لمن يُقتل مجاهدًا في سبيل الله بأنهم أموات، بل هم أحياء حياة خاصة برزخية كما أخبر النبي ﷺ: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل...[1] ولكنكم لا تشعرون بهذه الحياة الخاصة.

يؤخذ من هذه الآية: إثبات نعيم القبر، فهؤلاء في قبورهم وأرواحهم تتنعم في الجنة، فالقبر يكون فيه من النعيم لأهل الإيمان، ويكون فيه من العذاب لأهل الكفر، وقد يُعذب فيه بعض المؤمنين بذنوبهم، كما قال النبي ﷺ حينما أتى على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة[2].

فهؤلاء كانوا من المسلمين، وحديث البراء الطويل مرفوعًا إلى النبي ﷺ فيه وصف ذلك[3] المقصود أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون موضعًا للعذاب.

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [سورة البقرة:154] هنا جاء بالخبر مُباشرة، وإلا فتقدير الكلام: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، ولكن لما كان المعني هو يعني المُعتنى به هو الخبر جاء به مُباشرة، فأوجز وحذف المُبتدأ؛ لأن المُهم في هذه الجملة هو الخبر، لم يكونوا يتصورون أنهم أحياء، فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [سورة البقرة:154].

ثم أيضًا هذه الآية تدل على عناية الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله؛ فإن معية الله -تبارك وتعالى- لهم لا تُنافي أن يتخذ منهم شهداء، بل إن ذلك من ثمرات معيته لهم، فإن من حصلت له هذه الشهادة حصلت له السعادة الأبدية، وحصل له الفلاح الكامل.

ويؤخذ من هذه الآية: أن هؤلاء حينما بذلوا مُهجهم رخيصة في سبيل الله -تبارك وتعالى- عوضهم الله بحياة أكمل، حيث جعل أرواحهم بهذه المثابة بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [سورة البقرة:154] في البرزخ الحياة النعيم والعذاب يقع على الأرواح وقوعًا أوليًا، ويلحق الأبدان من ذلك ومن جراءه ما يكون على سبيل التبع، كما أنه في هذه الحياة الدنيا يقع النعيم والألم على الأجسام والأرواح تبع لها، فالبرزخ عكسه، فالبدن يناله ما يناله لكن على سبيل التبع، وفي الآخرة بعد البعث والنشور يقع الألم والعذاب والنعيم على الأبدان والأرواح على حد سواء كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم، وهذا كمال النعيم.

يعني: لو نظرت في هذه الدار في الحياة الدنيا أكثر ما يعتني به الناس هو نعيم الأبدان بالأكل والشرب والنكاح والاستجمام، وما إلى ذلك من النظر إلى الأماكن الجميلة، ونحو ذلك، فهذا كله نعيم للأبدان، وإنما يكون نعيم الأرواح على سبيل التبع للأبدان.

في الآخرة يكون الكمال في النعيم أو العذاب حينما يقع على الأبدان والأرواح على حد سواء، ولما كان العاقل لا يترك محبوبًا إلا لتحصيل محبوب أعظم منه ذكر الله -تبارك وتعالى- أن من قتل في سبيله أنه يكون بهذه المثابة، تكون له الحياة البرزخية، حياة أفضل من هذه الحياة التي يعيشها في هذه الدنيا، بدليل ما جاء عن النبي ﷺ في ذكر الشهداء حيث إنهم بحالهم التي وصف ﷺ: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: "هل تشتهون شيئا؟" قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا[4]. هذا لما رأوا وشاهدوا من النعيم والجزاء الأوفى، فذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الجزاء من أجل حث النفوس وحظها على البذل في سبيله.

إذًا هذا يدل على أن معيار الربح والخسارة في هذه الحياة الدنيا عند الناس ليس كالمعيار الذي عند الله -تبارك وتعالى- الله يقول لتعزيتهم في يوم أحد: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [سورة آل عمران:140] اتخاذ شهداء بحد ذاته هذا مقصود لله -تبارك وتعالى- فيرفعهم بذلك ويحصل لهم من الأجور العظيمة المذكورة لمن قُتل في سبيل الله، فهذا في ميزان الله -تبارك وتعالى- ربح ومغنم.

ولذلك فإن أصحاب النبي ﷺ في يوم أُحد قتل سبعون، في المقاييس الدنيوية هذه خسارة فادحة، لكن الله ذكر من مقاصد ذلك الذي وقع في يوم أحد قال: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [سورة آل عمران:140].

فهذه الأجسام أيها الأحبة، وهذه النفوس إنما هي مطايا يسير بها السالكون إلى الآخرة، بالعمل في مرضاة الله ولكن هذا حينما يكون العمل على وجه صحيح؛ لأنه قال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:154].

فالقتل في سبيل الله لابد أن يكون مستوفيًا للشروط الصحيحة، فمن ذلك أن يكون خالصًا في جهاده مُخلصًا لا يكون جهاده رياءً وسمعة أو حمية جاهلية أو نحو ذلك.

فعن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله ﷺ التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال رسول الله ﷺ إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله ﷺ رجل، لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله ﷺ: أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه...[5]. يعني: قتل نفسه

ولهذا سُأل النبي ﷺ الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: من قاتل، لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله[6].

إذًا هذا هو الضابط في القصد وفي النية، هذا بالإضافة إلى استقامة العمل، أن يكون العمل في أصله مشروعًا فكم من إنسان يظن أنه يُجاهد في سبيل الله وهو يُفسد، ويكون عبدًا للشيطان مُنقادًا له فيما يُزينه له ويُمليه عليه، فيكون قتله وقتاله كل ذلك في سبيل الشيطان، في سبيل الطاغوت، وهذا لابد له من أن يكون العمل مشروعًا، أن يكون العمل على وجه صحيح.

يعني: إذا كان الرجل الذي غلّ شملة وكان على رحل رسول الله ﷺ يعني: يشتغل بالخدمة، يضع رحل النبي ﷺ ويحمله ونحو ذلك على الدابة، فقُتل، فقال الصحابة : هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، قال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم[7].

إذا كان هذا في شملة، فكيف بالذي يخبط خبط عشواء؟ ويكون فعله فسادًا في الأرض يعود ضرره وأثره على أهل الإسلام، بل لربما كان قتله موجهًا إليهم، فهذا من أعظم الفساد في الأرض، وليس من الجهاد في سبيل الله.

إذًا: القضية ليست مجرد نية، أو حُسن قصد، أو دعوى يدعيها الإنسان، أو اعتقاد يعتقده، بل لابد من تصحيح العمل، فإذا صح العمل فلا شك أن القتل في سبيل الله يُعتبر من الربح والغنيمة والمكاسب العظيمة، بخلاف المقاييس والمعايير الدنيوية.

يعني: إذا كان أيوب بقي مدة طويلة وهو في المرض وهو يُعاني ويُكابد ابتلاء من الله، قد يقول إنسان في المعايير الدنيوية: نبي الناس أحوج ما يكونون إليه معافى يُخالطهم ويدعوهم إلى الله لكن المعايير عند الله تختلف، يبتلي أحب الناس إليه ويرفعهم، يوسف أُخذ وألقي في البئر قبل نبوته، ثم بعد ذلك بيع بثمن بخس، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يُباع بثمن بخس! المعايير عند أهل الدنيا تختلف، هؤلاء لا شأن له عندهم وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [سورة يوسف:20] لكن هل هذا يُنقص منزلته عند الله -تبارك وتعالى؟ الجواب: لا، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يُباع بثمن بخس! لم يعرفوا قدره، ثم يُسترق هذه المدة الطويلة، ثم يُسجن هذه المدة الطويلة، والناس أحوج ما يكونون إليه، ومع ذلك يبقى على هذه الحال.

بعضهم يقول: كان بين لقاءه بأبيه وإلقاءه بالبئر مدة تبلغ الأربعين سنة، هذا لا يوجد دليل يُثبته، لكنك إذا حسبت المُدد التي تقضت في أقل التقادير هي لا تقل عن عشرين سنة في أقل التقادير.

موسى يذهب قبل نبوته إلى مدين خائفًا يترقب، ويبقى في أرض مدين يرعى الغنم عشر سنين في مهر امرأة، قد يقول قائل: الناس أحوج ما يكونون إلى دعوته ومخالطته وتربيته، ونحو ذلك، لا أن يبقى هذه المدة الطويلة في صحراء مدين يرعى غنمًا على بُضع امرأة، يعني: مهرًا لها، لكن المعايير عند الله تختلف، قد لا يعرف الناس قدره، ولكن قدره عند الله وافر.

وهذا يحمل أيها الأحبة أن الإنسان لا حاجة لأن يتزين للناس بعمله، ولا أن يُظهر عمله، ولا أن يتجمل به، وإنما يعمر ما بينه وبين الله -تبارك وتعالى- وإن لم يعرفه الناس، وإن لم يُعظم، وإن لم يكن بذي منزلة عندهم، قد لا يأتي الحشود لجنازته، لا يأتي المعزون الكثر لتعزية من أُصيب به من أهله، ولكنه عند الله -تبارك وتعالى- له شأن عظيم. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون (1887). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريد على القبر، رقم: (1361)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم: (292). 
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم: (4753)، وأحمد، رقم: (18534). 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، رقم: (1887). 
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول فلان شهيد، رقم: (2898)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، رقم: (112).    
  6.  أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من قاتل للمغنم، هل ينقص من أجره؟ رقم: (3126)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله رقم: (1904).   
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (115).