وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: نسمة المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه[2]، ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً، وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم، وتكريماً، وتعظيماً."هنا يرد سؤالان: السؤال الأول: في وجه تخصيص بعض المؤمنين، أو أصحاب بعض الأعمال الصالحة بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون كالشهداء، مع أن الجميع في حال البرزخ إما ينعمون، وإما يعذبون، وحياة الشهداء هي حياة برزخية، فالبرزخ: هو الحاجز، هو تلك المنزلة التي تكون بين الدنيا، وبين الآخرة، ولا شك أن نعيم الشهداء ليس كنعيمهم حينما يدخلون الجنة بعد البعث، والنشور، والحساب، حيث يحاسب الناس، ثم بعد ذلك يدخل الناس الجنة، فالشهداء من جملة من يدخل الجنة آنذاك، فهذا دخول دون دخول في الحياة البرزخية، والحياة البرزخية يحصل فيها النعيم لروح الإنسان، أو العذاب لروحه، ويحصل على سبيل التبع من ذلك للبدن ما يحصل، فكما أن الغالب في هذه الحياة هو نعيم البدن، أو عذاب البدن، والروح تبعاً له، فالحياة البرزخية على العكس، والحياة الآخرة يستوي فيها نعيم البدن، ونعيم الروح.
فالمقصود ما وجه تخصيص بعض المؤمنين مع أن الجميع إما يعذبون، وإما ينعمون؟، وهذا السؤال وارد، وقد أورده بعض أهل العلم كابن جرير الطبري - رحمه الله -، فمنهم من يجيب كابن جرير: بأن أولئك قد خصوا بالذكر تنويهاً بشأنهم، وترغيباً بعملهم، ورفعاً لمقامهم، وإلا فالجميع يُنعم، أو يعذب، على اختلاف درجاتهم في النعيم.
وربما يكون أدق في الجواب أن يقال: إن هؤلاء أحياء حياة تختلف عن حياة غيرهم في البرزخ، وإن كانت كلها حياة برزخية، فهم في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة، كما أخبر الله - تبارك، وتعالى -، فهم أحياء وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران:169] فلما كان الذي يقال عادة لمن قُتل: إنه قد مات، وقضى نحبه، أخبر الله أن هؤلاء أحياء، وإن كانت ماتت أجسادهم، ولهذا عوضهم الله بهذا، فجعل أرواحهم في جوف طير خضر بعد ما تخرقت أجسادهم حينما قتلوا في سبيل الله ، والحديث على ظاهره أن: أرواحهم في جوف طير خضر فصارت كالمراكب للأرواح، أو كأن الله عوضهم عن أجسادهم بهذه.
بينما الفرق بينه، وبين الحديث الآخر - وهذا هو السؤال الثاني -: ما الفرق إذاً بين الأمرين؟ بين الشهيد، وبين عموم المؤمنين؟ فهنا الحديث ثابت صحيح نسمة المؤمن يعني روح المؤمن طائر تَعْلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه أرواح الشهداء في جوف طير خضر، وبالتالي لا يصح أن يقال كما قال بعضهم: إن المقصود: على هيئة طير خضر، أي أن الأرواح تصور بهيئة طير خضر؛ لأن الحديث صريح، وواضح أنها في جوف طير خضر، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وتسرح في الجنة، أي تطير في الجنة، بينما أرواح المؤمنين كما قال: نسمة المؤمن طائر فهي ليست في حواصل طير، وإنما تكون طائراًً يطير في الجنة، ولاحظ الفرق بينهما تلك - أرواح الشهداء - تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، تلك الطير التي فيها أرواح الشهداء، بينما أرواح المؤمنين تكون طائراً يَعْلق بشجر الجنة، أيهما أكمل؟ الشهيد أكمل، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، هذه تعلق - تأتي بضم اللام، وفتحها - تَعْلُق، وتَعْلَق بشجر الجنة، وهذا اللفظ (تَعْلُق) يُشعر بمعنى، وهذا المعنى هو ما يحصل به قدر الكفاية من الأكل، أو القوت، أو نحو ذلك، ويعرف هذا من استقراء النصوص التي وردت فيها هذه العبارة: تعلُق في شجر الجنة.
وعلى كل حال مسألة الكلام في الأرواح فيها كلام طويل، والأقوال، والخلاف فيها كثير، والله يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:85]، ولكن الذي ينبغي أن يتفطن له الإنسان، ويحتاج إلى معرفته هو وجه الجمع بين النصوص، لو قال قائل: ما مزية الشهداء إذاً؟ نقول: إنها تطير في الجنة حيث شاءت، وهي في أجواف طير خضر، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، فما يحصل لهم من النعيم أكمل، وأعظم مما يحصل لغيرهم.
والكلام على الروح - كما قلت - قضية غيبية، ولذلك لها اتصال بالأجساد، وجاء في الأحاديث أن المؤمن تفتح له نافذة في قبره، يرى منها مكانه في الجنة، ويأتيه من روْحها، ونعيمها، والكافر يفتح له أيضاً كذلك، إلى قيام الساعة، ولهذا يقول المؤمن: رب أقم الساعة، والكافر يقول: رب لا تقم الساعة، فهذا يأتيه العذاب في القبر، وهذا يأتيه من الرَوْح، ويوسع له في القبر.. إلى آخره.
فهذا يدل على أن الأرواح تعذب، وتنعم في القبور، وهذه النصوص التي عندنا، والتي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تدل على أن النعيم يحصل في الجنة، وجاء في بعض النصوص، وبعض الآثار عن السلف ما يشعر بغير ذلك، فعلى كل حال يقال - والله تعالى أعلم -: إن الأرواح لها شأن أخر، ولها حركة، وانتقال لا تقاس بحركة، وانتقال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، بل حتى في الرؤى تجد الإنسان نائماً، والله أخبر أنه يتوفى الأنفس حين موتها، فالأرواح تصعد، ولكنه صعود دون صعود، يبقى تعلقها بالبدن، ويبقى الإنسان حياً، لا يقال: مات، فهي وفاة صغرى، لكن هذه الروح تحلق، وربما التقت ببعض الأرواح من الموتى، أو الأحياء، وربما رأى الإنسان نفسه في مقامات رفيعة في الملأ الأعلى، ورأى نفسه ربما في أماكن بعيدة من الأرض، فالأرواح لها تنقلات، ولها أحوال.
والنبي ﷺ رأى الأنبياء كل واحد منهم في مقامه في الملأ الأعلى، مع أنهم ينعمون في الجنة، يعني حال الأنبياء أكمل من حال الشهداء، وعموم المؤمنين، فإذا كان هذا يحصل للشهداء فالأنبياء أعظم، ورآهم النبي ﷺ في السماوات، ما أخبر أنه رآهم في الجنة، ورأى موسى ﷺ، وهو يصلي في قبره، وصلى ﷺ بالأنبياء في بيت المقدس، وهم في الملأ، وقد رآهم في الملأ الأعلى.
فالأرواح لا تقاس على هذا العالم المادي، فلها من التنقل، والحركة ما لا ندركه، وتصل إليه عقولنا، وبالتالي نقول: أرواح المؤمنين تنعم، وتعذب في القبر، وتنعم أيضاً في الجنة، وتنعم أيضاً ربما في غير ذلك، بعض السلف يقول: على أفنية القبور أرواح المؤمنين، ولكن تنعمها في الجنة لا يكون من قبيل دخول الجنة الذي هو دخولها حينما يستفتحونها، فيدخلون منازلهم، ولكنها تطير في شجر، تَعْلق في شجر الجنة، وما إلى ذلك، أما دخول المنازل فإن ذلك يكون بالدخول الأكبر، وهو ما يكون في الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم منهم، فهذا دخول دون دخول.
وكذلك النار فالله أخبرنا: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] لكن قال: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] فهم يعذبون في قبورهم، والنبي ﷺ رأى أناساً في النار، رأى عمرو بن لحي الخزاعي في النار، ورأى رجالاً يعرفهم، فهذا دخول دون دخول، فهم يعذبون في قبورهم، وأرواحهم أيضاً لها تنقلات، وتعذب أيضاً في النار، ولكن هذا دخول دون دخول، فالدخول الأكبر حينما يؤتى بجهنم، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [سورة الفجر:23]، ويرونها فيدعون بالويل، والثبور، ويعطون كتابهم بشمالهم.. إلى آخره، ثم بعد ذلك يكبكبون فيها، وهم مقيدون بالسلاسل، والأغلال، فهذا هو الدخول الأكبر - أعاذنا الله، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها -.
فهذا كلام مختصر في مسألة الأرواح بحيث يُدرك الجمع بين هذه الأحاديث، وأنه لا تخالف بينها.
وابن القيم - رحمه الله - يرى أن ذلك بحسب حال كل إنسان، فكما أنه في العموم تَعْلق في شجر الجنة، لكن منهم من تحبس روحه، كذلك الشهيد، الأصل أنه في جوف طير خضر لكن النبي ﷺ أخبر عن ذاك الذي غل الشملة حينما ذكر الصحابة بلاءه، وقالوا: هنيئاً له الشهادة، قال: إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا[3] فدل على أنه حبس، لم يكن في جوف طير خضر، وإنما هو في قبره يعذب بتلك الشملة، فابن القيم - رحمه الله - يقول: تختلف أحوال الناس فقد لا يكون في جوف طير خضر، وهو شهيد، فيحبس بسبب عمل عمله، وكذلك أهل الجنة قد تكون روحه على فناء قبره، أو في قبره، أو نحو ذلك، تنعم مثلاً، وقد تكون تطير، وما ذكرته سابقاً لا يعارض هذا على كل حال، - والله أعلم -.
هذا الحد يكفي في الكلام على هذه المسألة، والاسترسال في هذا، والزيادة عليه أمر لا حاجة إليه؛ لأن هذا من الغيوب.
- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون [جزء3 - ص1502 – 1887).
- أخرجه مالك في الموطأ رواية يحيى الليثي [جزء1 - ص240 – 568)، والنسائي في كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين [جزء4 - ص 108 - 2073)، وابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر القبر، والبلى [جزء2 - ص 1428– 4271)، وأحمد في المسند [جزء3 - ص 455 – 15815)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب لم يسمع هذا الحديث من جده كعب بن مالك، وأخرجه أيضاً ابن حبان في كتاب السير باب فضل الشهادة [جزء 10 - ص 513 – 4657)، والطبراني في المعجم الكبير [جزء19 - ص63– 119)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: حديث رقم:2373.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر [جزء4 - ص1547 – 3993)، وفي كتاب الأيمان، والنذور، باب هل يدخل في الأيمان، والنذور الأرض، والغنم، والزروع، والأمتعة [جزء6 - ص2466 – 6329).